تقديم الطبعة الثالثة1
لا تختلف هذه الطبعة الثالثة عن الطبعة الثانية في شيء اللهم إلا في بعض ألفاظ غيرت أو نقحت لمزيد من الدقة في الضبط العربي، أو شدة في الحرص على وضوح المقصود منها. وما حدث من ذلك قليل لا يكاد يحسه إلا من أراد الموازنة اللفظية بين الطبعتين. ولن يجد من يكلف نفسه هذه المئونة أي غناء فيها. ولم يكن الشعور بكمال الكتاب بعد طبعته الثانية هو الذي عدل بي عن تناول ما فيه بالتنقيح أو بالزيادة في هذه الطبعة الثالثة، فأنا لا أفتأ أكرر ما قلته، في مقدمة الطبعة الأولى، من أن هذا الكتاب لا يخرج عن أنه بداءة البحث من ناحية علمية إسلامية في موضوعه الجليل. ولكنني فصلت كثيرا مما يتصل بهذا الموضوع في كتابي «في منزل الوحي» على أثر أدائي فريضة الحج، وسيري في أثر الرسول بالحجاز وتهامة؛ فلم يكن لي أن أعود لأجمل ها هنا ما فصلته هناك. ثم إنني شغلت بعد ظهور «في منزل الوحي» عن متابعة البحث في سيرة الرسول وتعاليمه وسيرة أصحابه وخلفائه، مما كنت قد شغلت به في السنوات الثماني الأخيرة، فلم تتح لي الفرصة ولم يتح لي من فسحة الوقت ما أفصل به ما أجملت في خاتمة الطبعة الثانية. ولعل الله يوقفني فأعود من بعد إلى هذا التفصيل في كتاب مستقل. وأحسب القارئ يشاركني في هذا الدعاء بعد أن يتم تلاوة المبحثين اللذين يكونان هذه الخاتمة.
وإني ليسعدني أن أختم هذا التقديم للطبعة الثالثة بشكر الله على ما لقي هذا الكتاب من تقدير الذين اطلعوا عليه من المسلمين وغير المسلمين، ومن تنويه طائفة من الكتاب والمؤلفين في الشرق والغرب به في تقديم كتبهم وفي تضاعيف هذه الكتب. وأكبر أملي في وجهه الكريم أن ييسر لمتابعة هذا البحث من يصل به إلى غايته، ومن يخدم الحق بذلك خدمة كبرى.
الفصل الأول
بلاد العرب قبل الإسلام
(مهد الحضارة الأولى - اليهودية والمسيحية - الفرق المسيحية وتناحرها - مجوسية فارس - شبه جزيرة العرب - طريقا القوافل فيها - اليمن وحضارتها - بقاء شبه الجزيرة على الوثنية) ***
ما يزال البحث في تاريخ الحضارة الإنسانية وأين كان منشؤها متصلا إلى عصرنا الحاضر. وكان هذا البحث قد استقر زمانا طويلا عند القول بأن مصر كانت مهد هذه الحضارة منذ أكثر من ستة آلاف سنة مضت، وأن ما قبل هذا الزمن يرجع إلى عصور ما قبل التاريخ؛ ولذلك يتعذر الكشف عنه بطريقة علمية صحيحة. أما اليوم فقد عاد علماء الآثار ينقبون في العراق وفي سوريا يريدون الوقوف على أصل الحضارة الآشورية والحضارة الفينيقية، وتحقيق العصر الذي ترجع هاتان الحضارتان إليه: أهو سابق عصر الحضارة المصرية الفرعونية مؤثر فيها، أم هو لاحق عصر هذه الحضارة متأثر بها؟
ومهما يسفر تنقيب علماء الآثار عنه، في هذه الناحية من نواحي التاريخ، فهو لا يغير شيئا من حقيقة لم يكشف التنقيب في آثار الصين والشرق الأقصى عما يخالفها؛ هذه الحقيقة هي أن مهد حضارة الإنسان الأولى، في مصر كان أو في فينيقيا أو في آشور، كان متصلا بالبحر الأبيض المتوسط ؛ وأن مصر كانت أقوى المراكز التي أصدرت الحضارة الأولى إلى اليونان وإلى رومية؛ وأن حضارة عالمنا، في هذا العصر الذي نعيش فيه، ما تزال وثيقة الصلة بتلك الحضارة الأولى؛ وأن ما قد يكشف البحث عنه في الشرق الأقصى من تاريخ الحضارة في تلك الأقطار لم يكن له في عصر ما أثر بين في توجيه الحضارات الفرعونية والآشورية والإغريقية، ولم يغير من اتجاه تلك الحضارات وتطورها إلى أن اتصلت بها حضارة الإسلام، فأثرت فيها وتأثرت بها وتفاعلت وإياها تفاعلا كانت الحضارة العالمية التي تخضع الإنسانية اليوم لسلطانها بعض أثره.
وقد ازدهرت تلك الحضارات، التي انتشرت على شواطئ البحر الأبيض أو على مقربة منه في مصر وآشور واليونان منذ ألوف السنين، ازدهارا ما يزال حتى اليوم موضع دهشة العالم وإعجابه. ازدهرت في العلم والصناعة والزراعة والتجارة وفي الحرب وفي كل نواحي النشاط الإنساني. على أن الأصل الذي كانت تصدر تلك الحضارات عنه وكانت تستمد قوتها منه كان أصلا دينيا دائما. حقا إن هذا الأصل اختلف ما بين التثليث المصري القديم مصورا في أوزوريس وإيزيس وهورس مشيرا إلى وحدة الحياة في بلاها وتجددها وإلى اتصال خلد الحياة من الآباء إلى الأبناء، وما بين الوثنية اليونانية في تصويرها للحق والخير والجمال تصويرا مستمدا من مظاهر الكون الخاضعة للحس، كما اختلف من بعد ذلك اختلافا هوى بهذا التصوير في عصور الانحلال المختلفة إلى دنيا المراتب؛ لكنه بقي دائما أصل هذه الحضارات التي شكلت مصاير العالم، كما أنه قوي الأثر في حضارة هذا العصر الحاضر، وإن حاولت هذه الحضارة أن تتخلص منه وتقف في وجهه وقوفا ما يزال الحين بعد الحين يستدرجها إليه. ومن يدري؟! لعله سيدمجها فيه في مستقبل قريب أو بعيد مرة أخرى.
في هذه البيئة التي استندت حضارتها منذ ألوف السنين إلى أصل ديني، نشأ أصحاب الرسالة بالأديان المعروفة حتى اليوم. في مصر نشأ موسى، وفي حجر فرعون تربي وهذب وعلى يد كهنته ورجال الدين من أهل دولته عرف الوحدة الإلهية وعرف أسرار الكون. فلما أذن الله له في هداية قومه ببلد كان فرعون يقول لأهله: «أنا ربكم الأعلى.» وقف يجادل فرعون وسحرته، حتى اضطر آخر الأمر فهاجر ومعه بنو إسرائيل إلى فلسطين. وفي فلسطين نشأ عيسى روح الله وكلمته التي ألقاها إلى مريم. فلما رفع الله عيسى ابن مريم إليه. قام الحواريون من بعده يدعون إلى المسيحية التي دعا إليها. ولقي الحواريون ومن اتبعهم أشد العنت؛ حتى إذا أذن الله للمسيحية أن تنتشر حمل علمها عاهل الروم صاحبة السيادة على العالم يومئذ، فدانت الإمبراطورية الرومانية بدين عيسى؛ وانتشرت المسيحية في مصر والشام واليونان، وامتدت من مصر إلى الحبشة، وظلت من بعد قرونا يزداد سلطانها توطدا، ويستظل بلوائها كل من استظل بلواء الروم وكل من طمع في مودتها وفي حسن العلاقة بها.
Shafi da ba'a sani ba