الطريقة الصحيحة في البحث
ويجمل بنا في هذا المقام أن نذكر أن واجب الباحث ألا يثبت مسألة من المسائل وألا ينفيها، قبل أن يصل من تمحيصه وبحثه إلى الاقتناع الذاتي الصحيح بأنه اطمأن كل الطمأنينة إلى الوقوف فيها على الحقيقة كاملة غير مشوبة بشائبة. وشأن المؤرخ في ذلك شأن العالم في الأمور الطبيعية وفي غيرها من العلوم جميعا. وهذا واجبه، تناول كتب المستشرقين أو تناول كتب العلماء المسلمين. وإذا أوجب قصد الحق والمعرفة علينا أن ننقد وأن نمحص ما خلف كتاب العرب والكتاب المسلمون في الطب والفلك والكيمياء وغيرها من العلوم، فننفي منها ما لا يثبت أمام النقد العلمي ونثبت ما تقره قواعد هذا النقد، فقصد الحق والمعرفة يوجب علينا مثل هذه الدقة في أمر التاريخ وإن تعلق بسيرة النبي عليه الصلاة والسلام. فالمؤرخ ليس ناقلا فحسب. بل هو أيضا ناقد لما ينقل، ممحص إياه لمعرفة ما ينطوي عليه من الحق. والنقد سبيل التمحيص. والعلم والمعرفة أساس هذا النقد والتمحيص.
أحسبنا، بعد هذا التمحيص الذي نقلناه في شأن القرآن ودقته، في حل من إغفال ما جاء في رسالة ذلك المصري المسلم، المؤمن بكل ما يكتب المستشرقون، عن آيات يزعمون أنها أضيفت إلى القرآن أو عن اسم النبي وأنه لم يكن قثم أو قثامة، فهذا كلام لم يمله الحق بل أملاه الهوى الذي أملى دعوى تحريف القرآن.
ونعود إلى تفنيد النقطة الأخيرة من رسالة ذلك المصري المسلم. فهو يذكر أن مباحث المستشرقين دلتهم على أن النبي كان يصاب بالصرع وأن أعراضه كانت تبدو عليه؛ إذ كان يغيب عن صوابه، ويسل منه العرق، وتعتريه التشنجات وتخرج من فمه الرغوة، حتى إذا أفاق من نوبته تلا على المؤمنين به ما يقول إنه وحي الله إليه، حين لم يكن هذا الوحي إلا أثرا من نوبات الصرع.
فرية الصرع
وتصوير ما كان يبدو على محمد في ساعات الوحي على هذا النحو خاطئ من الناحية العلمية أفحش الخطأ. فنوبة الصرع لا تذر عند من تصيبه أي ذكر لما مر به أثناءها؛ ولا يذكر شيئا مما صنع أو حل به خلالها؛ ذلك لأن حركة الشعور والتفكير تتعطل فيه تمام التعطل. وهذه أعراض الصرع. كما يثبتها العلم، ولم يكن ذلك ما يصيب النبي العربي أثناء الوحي، بل كانت تتنبه حواسه المدركة في تلك الأثناء تنبها لا عهد للناس به، وكان يذكر بدقة غاية الدقة ما يتلقاه وما يتلوه بعد ذلك على أصحابه. هذا، ثم إن نزول الوحي لم يكن يقترن حتما بالغيبوبة الجسمية مع تنبه الإدراك الروحي غاية التنبه، بل كان كثيرا ما يحدث والنبي في تمام يقظته العادية، وحسبنا أن نشير إلى ما أوردنا في هذا الكتاب عن نزول سورة الفتح عند قفول المسلمين من مكة إلى يثرب بعد عهد الحديبية.
ينفي العلم إذن أن الصرع كان يعتري محمدا؛ ولذلك لم يقل به إلا الأقلون من المستشرقين الذين افتروا على القرآن أنه حرف. وهم لم يقولوا به حرصا على حقيقة يتلمسونها، وإنما قالوا به ظنا منهم أنهم يحطون من قدر النبي العربي في نظر طائفة من المسلمين. أم حسبوا أنهم يلقون بأقوالهم هذه ظلا من الريبة على الوحي الذي نزل عليه، لأنه نزل عليه فيما يزعمون أثناء هذه النوبات؟ إن يكن ذلك فهو الخطأ البين، كما قدمنا، وهو ما ينكره العلم عليهم أشد الإنكار.
الرجوع إلى العلم
ولو أن نزاهة القصد كانت رائد هؤلاء المستشرقين لما حملوا العلم ما ينكره. وهم إنما فعلوا ذلك ليخدعوا به أولئك الذين لا يهديهم علمهم إلى معرفة أعراض الصرع، والذين تمسكهم طمأنينتهم الساذجة إلى أقوال هؤلاء المستشرقين عن سؤال أهل العلم من رجال الطب وعن الرجوع إلى كتبه. ولو أنهم فعلوا لما تعذر عليهم أن يكشفوا عن خطأ هؤلاء المستشرقين خطأ مقصودا أو غير مقصود، ولتبينوا أن النشاط الروحي والعقلي للإنسان يختفي تمام الاختفاء أثناء نوبات الصرع، ويذر صاحبه في حالة آلية محضة يتحرك مثل حركته قبل نوبته، أو يثور إذا اشتدت به النوبة فيصيب غيره بالأذى، وهو أثناء ذلك غائب عن صوابه، لا يدرك ما يصدر عنه ولا ما يحل به، شأنه شأن النائم الذي لا يشعر بحركاته أثناء نومه؛ فإذا انقضى ما به لم يذكر منه شيئا. وشتان ما بين هذا وبين نشاط روحي قوي قاهر يصل صاحبه بالملأ الأعلى عن شعور تام وإدراك يقيني، ليبلغ من بعد ما أوحي إليه. فالصرع يعطل الإدراك الإنساني وينزل بالإنسان إلى مرتبة آلية يفقد أثناءها الشعور والحس. أما الوحي فسمو روحي اختص الله به أنبياءه ليلقي إليهم بحقائق الكون اليقينية العليا كي يبلغوها للناس. وقد يصل العلم إلى إدراك بعض الحقائق ومعرفة سننها وأسرارها بعد أجيال وقرون، وقد يظل بعضها لا يتناوله العلم حتى يرث الله الأرض ومن عليها، وهي مع ذلك حقائق يقينية تهتدي قلوب المؤمنين الصادقين إلى حقيقتها، على حين تظل قلوب عليها أقفالها جاهلة إياها لغفلتها عنها.
قصور العلم أحيانا
Shafi da ba'a sani ba