229

والربا هو بعض ما جر على العالم مصائب الاستعمار، وما أدى الاستعمار إليه من شقاء. فالاستعمار يبدأ أكثر أمره بطائفة من المرابين أفرادا أو شركات ينزلون بلدا من البلاد يقرضون أهله أموالهم، ثم يتغلغلون حتى يصلوا إلى وضع أيديهم على منابع الثروة فيه، فإذا أفاق أهله وأرادوا الذود عن أنفسهم وأموالهم، استعدى هؤلاء الأجانب عليهم دولهم، فدخلت باسم حماية رعاياها، ثم تغلغلت هي كذلك، ثم وضعت يدها مستعمرة، وفرضت إرادتها حاكمة، وحرمت الناس حريتهم، واستولت على الكثير مما رزقهم الله في بلادهم. لذلك تضيع سعادتهم، ويخيم الشقاء على ربوعهم، ويمد البؤس يده إلى قلوبهم، ويرين الضلال على عقولهم، فتضعف أخلاقهم، ويتضعضع إيمانهم، وينزلون عن مرتبة الإنسانية الصحيحة إلى مكان من الضعة لا يرضاه لنفسه من يؤمن بالله، وبأن الله وحده هو الذي تجب له العبادة.

والاستعمار مصدر الحروب، ومصدر الشقاء الذي ينيخ بكلكله على الإنسانية كلها في هذا العصر الحاضر. وما دام الربا، وما دام الاستعمار، فلا أمل في العود إلى عهد إخاء ومحبة بين الناس؛ ولا أمل في العود إلى مثل هذا العهد إلا أن تقوم الحضارة على الأساس الذي جاء به الإسلام، ونزل به الوحي في القرآن.

وفي القرآن اشتراكية لم تبحث بعد. وهي اشتراكية لا تقوم على أساس من حرب رأس المال ونضال الطوائف، شأن الاشتراكية اليوم في الحضارة الغربية، وإنما تقوم على أساس خلقي سام يكفل إخاء الطوائف وتكافلها وتعاونها على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان. ومن اليسير أن يرى الإنسان قيام هذه الاشتراكية على الإخاء فيما فرضه القرآن من زكاة ومن صدقة، وأن يقدر أنها ليست اشتراكية تسود فيها طائفة طائفة أو تتحكم بها جماعة في جماعة.

فالحضارة التي صور القرآن لا تعرف سيادة ولا تحكما، بل أساسها الإخاء الصادق عن إيمان ثابت بهذا الإخاء؛ إيمان يجعل من التحدث بنعمة الله إعطاء الفقير والبائس والمحروم ما يحتاجون إليه من غذاء ومأوى ودواء وتعليم وتهذيب، وإعطاءهم ذلك من غير من ولا أذى. بذلك يزول الشقاء ويتم الله نعمته على الناس وتسودهم السعادة.

والاشتراكية الإسلامية لا تقتضي إلغاء التملك إطلاقا، كما تقتضيه الاشتراكية الغربية. وقد أثبت الواقع في روسيا البلشفية وفي كل بلاد سادتها الاشتراكية، أن إلغاء التملك أمر غير ممكن. لكن المرافق العامة يجب أن تكون ملكا عاما مشاعا بين الناس جميعا. وتحديد المرافق العامة متروك أمره للدولة.

ولذلك وقع الخلاف على هذا التحديد منذ الصدر الأول للإسلام؛ فكان من بين أصحاب النبي غلاة في الاشتراكية يجعلون كل ما خلق الله ملكا مشاعا ومرفقا عاما؛ ولذلك يجعلون شأن الأرض وما تحتويه شأن الماء والهواء، لا يجوز تملك شيء منه. وإنما يقع التملك على الثمرات ينال منها كل على قدر سعيه ومجهوده. وكان منهم من لا يرون هذا الرأي، ويقولون بجواز تملك الأرض، ويعتبرونها من العروض التي يقع عليها التبادل.

على أن الاتفاق منعقد بينهم على قاعدة اشتراكية مقررة اليوم في أوروبا، تقضي بأنه يجب على كل إنسان أن يبذل للجماعة كل كفاياته، ويجب على الجماعة أن تبذل لكل فرد منها ما يسد حاجاته. فلكل مسلم حق في أن ينال من بيت مال المسلمين ما يكفل حاجاته وحاجات من يعول ما دام لا يجد عملا يرتزق منه، أو ما دام العمل الذي يزاوله غير كاف لرزقه ورزق عياله. وما دامت قواعد الخلق التي قرر القرآن هي ما قدمنا فلن يكذب أحد، ولن يزعم أحد أنه متعطل على حين هو في الحقيقة لا يريد أن يعمل، ولن يزعم أحد أنه لا يجد من عمله ما يكفيه على حين يدر عليه الكفاية. وقد كان أمراء المؤمنين في الصدر الأول يفرضون على أنفسهم أن يتفقدوا أمور المؤمنين ليبذلوا للمحتاج منهم حقه، وليدفعوا عنه عادية الحاجة.

ومن ثم نرى الاشتراكية في الإسلام ليست اشتراكية المال وتوزيعه، وإنما هي اشتراكية عامة أساسها الإخاء في الحياة الروحية، وفي الحياة الخلقية، وفي الحياة الاقتصادية. وإذا كان المرء لا يكمل إيمانه حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، فالمرء لا يكمل إيمانه إذا لم يحض على طعام المسكين ولم ينفق للخير العام مما رزقه الله سرا وعلانية. وكلما ازداد المرء إيثارا على نفسه كان أقرب إلى الله وأدنى إلى رضاه، وكانت نفسه أكثر طمأنينة وقلبه أشد غبطة. وإذا كان الله قد جعل الناس بعضهم فوق بعض درجات، وكان يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر فإن الناس لا صلاح لهم إلا إذا وقر صغيرهم كبيرهم، ورحم كبيرهم صغيرهم، وأعطى غنيهم فقيرهم، ابتغاء وجه الله وشكرا لله وتحدثا بنعمته.

ما أحسبنا في حاجة إلى ذكر ما جاء في القرآن من تفاصيل النظام الاقتصادي في المواريث والوصية والعقود والتجارة وما إليها؛ فمحاولة الإشارة أوجز الإشارة إلى ما جاء فيه من هذه الشئون الفقهية ومن الشئون الاجتماعية، تقتضي عدة فصول كهذا الفصل. وحسبنا أن نذكر أن ما ورد فيه من ذلك لم يرد إلى اليوم ما هو خير منه في أية شريعة من الشرائع. بل إن الإنسان لتأخذ منه الدهشة كل مأخذ حين يجد بعض تفاصيل، كالكتابة في الدين إلى أجل مسمى إلا أن تكون تجارة، وكإرسال الحكمين إذا وقع الشقاق بين الزوجين خيفة الفرقة، وكالقيام بالإصلاح بين طائفتين اقتتلوا، ومقاتلة الطائفة التي تبغي ولا ترضى الصلح حتى تفيء إلى أمر الله - تأخذ الإنسان الدهشة إذ يرى هذه الأمور، ويوازن بينها وبين ما ورد في الشرائع المختلفة، فإذا أحسن التشريع ما وافق هذه القواعد التي وضعها القرآن. فلا عجب إذن - وما ذكرنا عن الربا وعن الاشتراكية الإسلامية هو أساس النظام الاقتصادي المصور في القرآن، وهذه التفاصيل التشريعية هي خير ما وصل التشريع إليه في مختلف العصور - أن تكون الحضارة الإسلامية هي الحضارة الجديرة بالإنسانية الكفيلة حقا بإسعادها.

ربما ذهب بعض كتاب الغرب - بعد اطلاعهم على ما قدمنا من تصوير القرآن للحضارة وأساسها - إلى أن طبيعة الإنسان لا تألف هذا النظام الذي يكلفها من السمو إلى ما فوق فطرتها ما لا تطيق، وأن نظاما ذلك شأنه ليس مقدورا له أن يحيا أو أن يطول بقاؤه. فالإنسان في رأيهم إنما يحركه الخوف والرجاء، وتحركه الأهواء والشهوات، شأنه في ذلك شأن الحيوان، وهو بعد حيوان ناطق، فحمل الإنسانية على الأخذ بنظام كالذي صوره الإسلام للحضارة أمر غير مستطاع، أو هو على الأقل غير ميسور. وغاية ما نطيق في نظم هذه الحياة للجماعة الإنسانية أن نهذب الشهوات، وأن نحسن توجيه فكرة الخوف والرجاء من الناحية الاقتصادية المادية البحتة. فأما ما وراء ذلك فأمر لا قبل للجماعة به. ولعل الدليل عندهم على ذلك أن النظام الإسلامي - على النحو الذي صوره القرآن وحاولت إيجازه هنا - لم يستقر في الجماعة الإسلامية نفسها إلا أيام النبي وفي الصدر الأول، ولو أن النظام كان صالحا للحياة لاستقر في تلك الجماعات الإسلامية الأولى ولانتشر منها في أنحاء العالم. أما وذلك لم يحدث، بل حدث نقيضه، فالزعم بأن هذا النظام أجدر بالإنسانية وأكفل بسعادتها زعم لا يصدقه الواقع.

Shafi da ba'a sani ba