ولم يكن تعلق محمد بإبراهيم لغاية في نفسه لها اتصال برسالته أو بمن يخلفه؛ فقد كان - عليه السلام - في إيمانه بالله وبرسالته لا يفكر في ولده ولا فيمن يرثه؛ بل كان يقول: «نحن معاشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة.» إنما هي العاطفة الإنسانية في أسمى معانيها؛ العاطفة الإنسانية التي بلغت من السمو في نفس محمد ما لم تبلغه في نفس أحد غيره؛ العاطفة الإنسانية التي جعلت العربي يرى فيمن يخلفه من الذكران صورة من صور الخلود - هذه العاطفة التي جعلت محمدا يخلع على إبراهيم كل هذا الحب؛ ويرمقه من العطف بما لا عطف بعده. ولقد زاد هذه العاطفة رقة وقوة في نفسه أن فقد ولديه القاسم والطاهر وهما ما يزالان طفلين في حجر أمهما خديجة، وأنه فقد بناته بعد خديجة واحدة بعد الأخرى بعد أن كبرن وصرن أزواجا وأمهات؛ فلم تبق له منهن غير فاطمة. هؤلاء الأبناء والبنات الذين تساقطوا من حوله فدفنهم بيده تحت صفائح الثرى، تركوا في نفسه قرحة ألم اندملت بمولد إبراهيم وأثمرت مكانها رجاء وأملا؛ وكان حلا له أن يمتلئ بهذا الأمل غبطة واستبشارا.
لكن هذا الأمل لم يكن ليطول إلا تلك الأشهر التي ذكرنا. فقد مرض إبراهيم بعدها مرضا خيف منه على حياته ، فنقل إلى نخل بجوار مشربة أم إبراهيم، وقامت من حوله مارية وأختها سيرين تمرضانه. ولم يطل بالطفل المرض. فلما كان في الاحتضار وأخبر النبي بأمره، أخذ بيد عبد الرحمن بن عوف يعتمد عليه لشدة ألمه، حتى أتيا إلى النخل بجوار العالية التي تقوم المشربة اليوم مكانها. فوجد إبراهيم في حجر أمه يجود بنفسه، فأخذه فوضعه وقلبه يجف ويده تضطرب وقد ملك الحزن عليه فؤاده، وبدت صورة الألم على قسمات وجهه، وضعه في حجره وقال: «إنا يا إبراهيم لا نغني عنك من الله شيئا.» ثم وجم وذرفت عيناه، والغلام يجود بنفسه، وأمه وأختها تصيحان فلا ينهاهما رسول الله! فلما استوى إبراهيم جثمانا لا حراك به ولا حياة فيه، وانطفأ بموته ذلك الأمل الذي تفتحت له نفس النبي زمنا، زادت عينا محمد تهتانا وهو يقول: «يا إبراهيم لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق بأولنا، لحزنا عليك أشد من هذا.» وبعد أن وجم هنيهة قال: «تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا يا إبراهيم عليك لمحزونون.»
ورأى المسلمون ما بمحمد من حزن، وحاول حكماؤهم أن يردوه عن الإمعان فيه، فذكروه بما نهى عنه؛ فقال: «ما عن الحزن نهيت وإنما نهيت عن رفع الصوت بالبكاء. وإن ما ترون بي أثر ما في القلب من محبة ورحمة. ومن لم يبد الرحمة لم يبد غيره عليه الرحمة.» أو كما قال. ثم إنه حاول كظم حزنه وتبريد لوعته، ونظر إلى مارية وإلى سيرين نظرة عطف، وطلب إليهما أن تهونا عليهما قائلا: «إن له لمرضعا في الجنة.» ثم إن أم بردة غسلته - أو غسله الفضل بن عباس، في رواية - وحمل من بيتها على سرير صغير، وشيعه النبي وعمه العباس وطائفة من المسلمين إلى البقيع حيث دفن بعد أن صلى النبي عليه. فلما تم دفنه أمر محمد بسد القبر ثم سوى عليه بيده ورش الماء وأعلم عليه بعلامة وقال: «إنها لا تضر ولا تنفع، ولكنها تقر عين الحي. وإن العبد إذا عمل عملا أحب الله أن يتقنه.»
ووافق موت إبراهيم كسوف الشمس؛ فرأى المسلمون في ذلك معجزة وقالوا إنها انكسفت لموته. وسمعهم النبي: أترى فرط حبه لإبراهيم وشديد جزعه لموته قد جعله يتعزى بسماع مثل هذه الكلمة، أو يسكت على الأقل عنها، أو يعذر الناس إذ يراهم مأخوذين بما يحسبونه المعجزة؟ كلا! فمثل هذا الموقف إن لاق بالذين يستغلون في الناس جهالتهم، أو لاق بالذين يخرجهم الحزن عن رشادهم، فهو لا يليق بالنزيه الحكيم، فما بالك بالرسول العظيم؟! لذلك نظر محمد إلى الذين ذكروا أن الشمس انكسفت لموت إبراهيم فخطبهم فقال: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا تخسفان لموت أحد ولا لحياته. فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله بالصلاة.» أية عظمة أكبر من ألا ينسى الرسول رسالته في أشد المواقف التي تملأ نفسه بالفجيعة والهول؟! لقد وقف من تناول من المستشرقين هذا الحديث لمحمد موقف الإجلال والإعظام، ولم يستطيعوا كتم إعجابهم وإكبارهم وإعلان عرفانهم بصدق رجل لا يرضى في أدق المواقف إلا الصدق والحق.
ترى ماذا كان شعور أزواج النبي بفجيعته في إبراهيم وحزنه الشديد عليه؟ أما هو فتعزى بفضل الله، وبمتابعته أداء رسالته، وبازدياد الإسلام انتشارا في هذه الوفود التي كانت ما تفتأ تتوارد إليه من كل صوب؛ حتى لقد دعيت هذه السنة العاشرة من الهجرة سنة الوفود، وهي السنة التي حج أبو بكر فيها كذلك بالناس.
الفصل الثامن والعشرون
عام الوفود وحج أبي بكر بالناس
(دخول العرب أفواجا في دين الله - إسلام عروة بن مسعود الثقفي وقتل أهل الطائف له - أخذ القبائل المجاورة الطريق على ثقيف - وفدها إلى النبي وشروطه - إسلام الوفد وإسلام الطائف وهدم صنمها اللات - حج أبي بكر بالناس - لحاق علي بن أبي طالب به - سورة براءة - أساس الدولة الإسلامية المعنوي - الجهاد في الإسلام وتسويغه) ***
بغزوة تبوك تمت كلمة ربك في شبه جزيرة العرب كلها، وأمن محمد كل عادية عليها . والحق أنه لم يكد يستقر بعد أن عاد من هذه الغزوة إلى المدينة حتى بدأ كل من أقام على شركه من أهل شبه الجزيرة يفكر. ولئن كان المسلمون، الذين صحبوا محمدا في مسيره إلى الشام كابدوا من صنوف المشاق واحتملوا من القيظ والظمأ أهوالا، قد عادوا وفي نفوسهم شيء من السخط أن لم يقاتلوا ولم يغنموا بسبب انسحاب الروم إلى داخل الشام ليتحصنوا بمعاقلهم فيها. لقد ترك هذا الانسحاب في نفوس قبائل العرب المحتفظة بكيانها وبدينها أثرا عميقا، وترك في نفوس قبائل الجنوب باليمن وحضرموت وعمان أثرا أشد عمقا. أليس الروم هؤلاء هم الذين غلبوا الفرس واستردوا منهم الصليب وجاءوا به إلى بيت المقدس في حفل عظيم، وفارس كانت صاحبة السلطان على اليمن وعلى البلاد المجاورة لها أزمانا طويلة؟!
فإذا كان المسلمون على مقربة من اليمن ومن غيرها من البلاد العربية جمعاء، فما أجدر هذه البلاد بأن تتضام كلها في تلك الوحدة التي تستظل بعلم محمد، علم الإسلام، لتكون بمنجاة من تحكم الروم والفرس جميعا! وماذا يضر أمراء القبائل والبلاد أن يفعلوا وهم يرون محمدا يثبت من جاءه معلنا الإسلام والطاعة في إمارته وعلى قبيلته؟! فلتكن السنة العاشرة للهجرة إذن سنة الوفود، وليدخل الناس في دين الله أفواجا، وليكن لغزوة تبوك ولانسحاب الروم أمام المسلمين من الأثر أكثر مما كان لفتح مكة والانتصار في حنين وحصار الطائف.
Shafi da ba'a sani ba