191

الفصل السابع والعشرون

تبوك وموت إبراهيم

(الخراج وجبايته - أنباء تهيؤ الروم - نفير محمد في المسلمين ليتهيئوا للقتال بالشام - الخوالف المنافقون - شدة محمد معهم - الجيش العرم - في لظى الطريق إلى الشام - انسحاب الروم خوفا من محمد - عهده ليوحنا والأمراء الحدود - العود إلى المدينة - مرض إبراهيم ووفاته وبكاء محمد إياه) ***

لم يغير هذا الحادث المنزلي وهذا الإضراب والاضطراب بين النبي وأزواجه من سير الشئون العامة شيئا. وكانت الشئون العامة بعد فتح مكة وإسلام أهلها قد بدأ يتضاعف خطرها، وقد بدأت العرب جميعا تحس جلال هذا الخطر. فالبيت الحرام كان بيت العرب المقدس يحجون إليه منذ أجيال طويلة. وهذا البيت الحرام وما يتصل به من سدانة ورفادة وسقاية وما يتصل بالحج من مختلف الشعائر، قد أصبح في حكم محمد وفي حكم الدين الجديد. فلا جرم إذن أن تزداد شئون المسلمين العامة لفتح مكة، وأن يزداد المسلمون إحساسا بسلطانهم في كل ناحية من شبه الجزيرة. وازدياد الشئون العامة يحتاج بطبعه إلى مزيد في النفقات العامة. لذلك لم يكن بد من أن يدفع المسلمون زكاة العشر، وأن يدفع العرب الذين أصروا على جاهليتهم ما يفرض عليهم من خراج. قد يحرجهم ذلك، وقد يدعوهم إلى التذمر وإلى أكثر من التذمر؛ لكن ما اتصل بالدين الجديد من نظام في شبه الجزيرة جديد لم يجعل من جمع العشر والخراج مخرجا.

ولهذه الغاية أوفد محمد عاشريه بعد قليل من عوده من مكة ليجمعوا له عشر إيراد القبائل التي دانت للإسلام من غير أن يتعرضوا لأصول أموالها. وذهب كل واحد من هؤلاء وجهته، فتلقتهم القبائل بالترحاب ودفعت لهم زكاة العشر طيبة بدفعها نفوسهم؛ لم يند عن ذلك غير فرع من بني تميم وغير بني المصطلق ... فبينما كان العاشر يقتضي قبائل في جوار بني تميم زكاة العشر وهم يدفعونها من إبلهم وأموالهم، سارعت إليه بنو العنبر (فخذ من بني تميم) قبل أن يطالبها بزكاتها تحمل نبالها وسيوفها وطردته من أرضها. فلما بلغ الخبر محمدا بعث إليهم عيينة بن حصن على رأس خمسين فارسا انقضوا عليهم في سر منهم ففروا، وأصاب المسلمون الأسرى والسبايا وهم يزيدون على خمسين رجلا وامرأة وطفلا وعادوا موفورين إلى المدينة، وحبس النبي هؤلاء الأسرى.

وكان من بني تميم جماعة أسلموا وقاتلوا إلى جانب النبي عند فتح مكة وفي حنين. وكان منهم من لا يزال على جاهليته. فلما عرفوا ما أصاب أصحابهم من بني العنبر أرسلوا إلى النبي وفدا من أشرافهم نزلوا إلى المدينة ودخلوا المسجد ونادوا النبي من وراء حجراته أن اخرج إلينا يا محمد. وآذى نداؤهم النبي، فما كان ليخرج إليهم لولا أن أذن لصلاة الظهر. فلما رأوه ذكروا ما صنع عيينة بأهلهم، كما ذكروا ما كان لمن أسلم منهم من جهاد إلى جانبه، وما لقومهم من مكانة بين العرب. ثم قالوا له: إنا جئناك نفاخرك. فأذن لشاعرنا وخطيبنا، فقام خطيبهم عطارد بن حاجب؛ فلما فرغ دعا رسول الله ثابت بن قيس ليرد عليه. ثم قام شاعرهم الزبرقان بن بدر فأنشد، وأجابه حسان بن ثابت. فلما انتهت المفاخرة، قال الأقرع بن حابس: وأبي إن هذا الرجل لمؤتى له، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعره أشعر من شاعرنا، ولأصواتهم أعلى من أصواتنا. وأسلم القوم؛ فأعتق النبي الأسرى وردهم إلى قومهم.

فأما بنو المصطلق فإنهم لما رأوا الصيرف فر هاربا خافوا عاقبة أمرهم، وأوفدوا إلى النبي من ذكر له أن الخوف في غير محل له هو الذي أدى إلى ما وقع من سوء الفهم.

ولم تكن ناحية من نواحي شبه الجزيرة إلا بدأت تحس سلطان محمد. ولم تحاول طائفة أو قبيلة أن تقاوم هذا السلطان إلا بعث النبي إليها قوة تحملها على الإذعان بدفع الخراج والبقاء على دينها، أو الإسلام ودفع الزكاة.

وفيما كانت عينه على بلاد العرب جميعا حتى لا ينتقض فيها منتقض، وحتى يستتب الأمن في ربوعها من أقصاها إلى أقصاها، إذ اتصل به نبأ من بلاد الروم أنها تهيئ جيوشا لغزو حدود العرب الشمالية غزوا ينسي الناس انسحاب العرب الماهر في مؤتة، وينسي الناس ذكر العرب وسلطان المسلمين الزاحف في كل ناحية ليتاخم سلطان الروم في الشام وسلطان فارس في الحيرة. واتصل به هذا النبأ مجسما أيما تجسيم. فلم يتردد هنيهة في تقرير مواجهة هذه القوى بنفسه، والقضاء عليها قضاء يقضي في نفوس سادتها على كل أمل في غزو العرب أو في التعرض لهم. وكان الصيف لما ينته والقيظ في أوائل الخريف يصل إلى درجات تجعله أشد من قيظ الصيف في هذه الصحاري إرهاقا وقتلا. ثم إن الشقة من المدينة إلى بلاد الشام طويلة شاقة تحتاج إلى الجلد وتحتاج إلى المئونة وإلى الماء.

إذن لا مفر من أن يطالع محمد الناس بعزمه السير إلى الروم وقتالهم، حتى يأخذوا لذلك عدتهم. ولا مفر من أن يخالف بذلك تقاليده في سابق غزواته، حين كان يتوجه في كثير من الأحيان بجيشه إلى غير الناحية التي إليها يقصد، تضليلا للعدو حتى لا يفشو خبر مسيرته. وأرسل محمد في القبائل جميعا يدعوها للتهيؤ كيما تعد أكبر جيش يمكن إعداده، وأرسل إلى أثرياء المسلمين ليشاركوا في تجهيز هذا الجيش بما آتاهم الله من فضله، وليحرضوا الناس على الانضمام إليه حتى يكون من الأهبة بما يدخل الروع في نفوس الروم الذين عرفوا بوفرة عدتهم وكثرة عديدهم.

Shafi da ba'a sani ba