إذ فتح الله عليه أرضه وبلده يقيم بها؟ ولعلهم كانوا على حق في مخاوفهم. فهذا رسول الله، وبمكة البيت الحرام بيت الله، وبمكة المسجد الحرام. لكن محمدا ما لبث حين أتم دعاءه أن سألهم ما قالوا؟ فلما عرف بعد تردد منهم مخافتهم قال: «معاذ الله! المحيا محياكم والممات مماتكم.» فضرب بذلك للناس مثلا في البر بعهده في بيعة العقبة، وفي الوفاء لأنصاره الذين وقفوا ساعة الشدة إلى جانبه، برا ووفاء لا ينسيهما وطن ولا أهل ولا تنسيهما مكة البلد الحرام.
ولما أن طهرت الكعبة من أصنامها، أمر النبي بلالا فأذن فوقها، وصلى الناس بإمامة محمد. ومن يومئذ إلى يومنا الحاضر، مدى أربعة عشر قرنا مضت لا تنقطع، وبلال وخلفاء بلال من بعده ينادون بالأذان، كل يوم خمس مرات من فوق مسجد مكة، ومدى أربعة عشر قرنا مضت من يومئذ يؤدي المسلمون فرض الصلاة لله والصلاة على رسوله، متوجهين إلى الله بقلوبهم وعقولهم، مستقبلين هذا البيت الحرام الذي طهره محمد يوم الفتح من أوثانه وأصنامه.
وأذعنت قريش لما حل بها، واطمأنت لعفو محمد عنها، وأقامت تنظر إليه وإلى المسلمين من حوله بعيون كلها دهش وإعجاب يمازجها الخوف والحذر. لكن طائفة منها عدتها سبعة عشر رجلا، كان محمد قد استثناها من رحمته وأمر ساعة دخول مكة أن يقتل رجالها ولو وجدوا متعلقين بأستار الكعبة، كان قد آثر بعضها الاختفاء ولاذ بعضها بالفرار. ولم يكن قرار محمد قتلهم لحقد منه أو غضب عليهم؛ فهو لم يكن يعرف الحقد، ولكن لجرائم كبيرة ارتكبوها. فأحدهم عبد الله بن أبي السرح كان قد أسلم وكان يكتب لمحمد الوحي، فارتد مشركا إلى قريش زاعما أنه كان يزيف الوحي حين يكتبه. وعبد الله بن خطل كان قد أسلم ثم قتل مولى له وارتد مشركا وأمر جاريتيه فرتنى وصاحبتها فكانتا تغنيان بهجاء محمد، فأمر بقتلهما معه. وعكرمة بن أبي جهل، وكان من أشد الناس لددا في خصومة محمد والمسلمين خصومة لم تهدأ حتى بعد فتح مكة ودخول خالد بن الوليد من أسفلها.
أمر محمد بعد دخول مكة ألا يسفك بها دم أو يقتل فيها أحد غير هذه الطائفة. لذلك اختفى رجالها ونساؤها وفر منهم من فر. فلما استقر الأمر وهدأت الحال ورأى الناس من فسحة صدر الرسول ومن عفوه الشامل ما رأوا، طمع بعض أصحابه في أن يعفو حتى عن هؤلاء الذين أمر أن يقتلوا. فقام عثمان بن عفان، وكان أخا ابن أبي السرح للرضاعة، حتى أتى به النبي فاستأمن له. فصمت محمد طويلا، ثم قال: نعم، وأمته. وأسلمت أم حكيم بنت الحارث بن هشام زوج عكرمة بن أبي جهل الذي فر إلى اليمن واستأمنت له محمدا فأمنه، فخرجت في طلبه وجاءت به. وعفا محمد كذلك عن صفوان بن أمية وكان قد صحب عكرمة في فراره إلى ناحية البحر يستقلانه إلى اليمن، فجيء بهما والسفينة التي تحملهما على أهبة إقلاعها. وعفا محمد كذلك عن هند زوج أبي سفيان التي مضغت كبد حمزة عم الرسول بعد استشهاده في أحد، كما عفا عن أكثر من أمر بقتلهم. ولم يقتل منهم إلا أربعة، منهم الحويرث الذي أغرى بزينب بنت النبي حين رجوعها من مكة إلى المدينة، ورجلان أسلما ثم ارتكبا بالمدينة جريمة القتل وفرا راجعين إلى مكة مرتدين إلى الشرك، وإحدى قينتي ابن خطل اللتين كانتا تؤذيان النبي بغنائهما، وفرت الأخرى، ثم استؤمن لها.
وفي غداة يوم الفتح عثرت خزاعة على رجل من هذيل وهو مشرك فقتلوه فغضب النبي وقام في الناس خطيبا فقال: «أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض، فهي حرام من حرام من حرام إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دما، أو يعضد
10
فيها شجرا، لم تحلل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحلل لي إلا هذه الساعة غضبا على أهلها، ثم رجعت كحرمتها بالأمس فليبلغ الشاهد منكم الغائب. فمن قال لكم إن رسول الله قد قاتل فيها فقولوا إن الله أحلها لرسوله ولم يحللها لكم يا معشر خزاعة. ارفعوا أيديكم عن القتل فلقد كثر إن نفع. لقد قتلتم قتيلا لأدينه. فمن قتل بعد مقالي هذا فأهله بخير النظرين: إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله.»
11
ثم ودى بعد ذلك الرجل الذي قتلت خزاعة، وبهذا الخطاب وبتصرفه الذي زاد على السماحة والعفو أمس، كسب محمد قلوب أهل مكة بما لم يكونوا يقدرون، فأقبلوا على الإسلام، ونادى مناد فيهم: «من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يترك في داره صنما إلا حطمه.» ثم بعث جماعة من خزاعة ليصلحوا من العمد المحيطة بالبلد الحرام، مما دل أهل مكة على ما لها في نفسه من التقديس وما زادهم له حبا. فلما أخبرهم أنهم خير أمة يحب، وأنه ما كان ليتركهم أو يعدل بهن ناسا لولا أنهم أخرجوه، بلغ تعلقهم به غاية حدوده. وجاء أبو بكر بأبيه، الذي ارتقى أبا قبيس يوم الزحف، يقوده حتى وقف بين يدي النبي. فلما رآه محمد قال: هلا تركت الشيخ بمكانه حتى أكون أنا آتيه فيه! قال أبو بكر: يا رسول الله هو أحق أن يمشي إليك من أن تمشي إليه أنت. فأجلس النبي الشيخ بين يديه ومسح صدره ثم قال له: أسلم. فأسلم وحسن إسلامه. وكذلك أسرت أخلاق النبوة السامية هذا الشعب الذي كان ثائرا على محمد أشد الثورة، والذي أصبح اليوم يجله ويقدسه. وكذلك أسلمت قريش رجالا ونساء وبايعت.
وأقام محمد بمكة خمسة عشر يوما ينظم خلالها شئون مكة ويفقه أهلها في الدين. وفي هذه الأثناء بعث السرايا للدعوة إلى الإسلام لا للقتال، ولتحطيم الأصنام من غير سفك للدماء. وكان خالد بن الوليد قد خرج إلى نخلة ليهدم العزى - وكانت لبني شيبان - فلما هدمها خرج إلى جذيمة، فلما رآه القوم أخذوا السلاح؛ فطلب إليهم خالد أن يضعوه فإن الناس قد أسلموا. قال رجل من جذيمة لقومه: ويلكم يا بني جذيمة! إنه خالد. والله ما بعد وضع السلاح إلا الإسار، وما بعد الإسار إلا ضرب الأعناق. قال له قومه: أتريد أن تسفك دماءنا؟! إن الناس قد أسلموا ووضعت الحرب وأمن الناس . وما زالوا به حتى وضع سلاحه. عند ذلك أمر بهم خالد فغلوا، ثم عرضهم على السيف فقتل من قتل منهم. فلما انتهى الخبر إلى النبي رفع يديه إلى السماء وقال: «اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد بن الوليد.» ثم بعث إليهم علي بن أبي طالب وقال له: اخرج إلى هؤلاء القوم فانظر في أمرهم، واجعل أمر الجاهلية تحت قدميك. وخرج علي ومعه مال أعطاه النبي إياه. فلما بلغ القوم دفع الدية عن الدماء وعما أصيب من الأموال، حتى إذا لم يبق شيء من دم أو مال إلا وداه، أعطاهم بقية المال الذي بعث به رسول الله احتياطا لرسول الله مما لا يعلم.
Shafi da ba'a sani ba