161

لكن محمدا لم يتردد في دعوة هؤلاء الملوك جميعا إلى دين الحق. بل خرج يوما على أصحابه فقال: «أيها الناس، إن الله قد بعثني رحمة للناس كافة فلا تختلفوا علي كما اختلف الحواريون على عيسى ابن مريم.» قال أصحابه: «وكيف اختلف الحواريون يا رسول الله؟» قال: «دعاهم إلى الذي دعوتكم إليه، فأما من بعثه مبعثا قريبا فرضي وسلم، وأما من بعثه مبعثا بعيدا فكره وجهه وتثاقل.» ثم ذكر لهم أنه مرسل إلى هرقل، وكسرى، والمقوقس، والحارث الغساني - ملك الحيرة - والحارث الحميري - ملك اليمن - وإلى نجاشي الحبشة يدعوهم إلى الإسلام، وأجابه أصحابه إلى ما أراد. فصنع له خاتما من فضة نقش عليه: «محمد رسول الله.» وبعث بكتبه يقول فيها ما نضع منه مثلا أمام القارئ كتابه إلى هرقل إذ جاء فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله إلى هرقل عظيم الروم. سلام على من اتبع الهدى. أما بعد، فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين. فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين.

5

قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا لله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون لله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .

ودفع بكتاب هرقل إلى دحية بن خليفة الكلبي، وبكتاب كسرى إلى عبد الله بن حذافة السهمي. وبكتاب النجاشي إلى عمرو بن أمية الضمري، وبكتاب المقوقس إلى حاطب بن أبي بلتعة، وبكتاب ملكي عمان إلى عمرو بن العاص السهمي، وبكتاب ملكي اليمامة إلى سليط بن عمرو، وبكتاب ملك البحرين إلى العلاء الحضرمي، وبكتاب الحارث الغساني - ملك تخوم الشام - إلى شجاع بن وهب الأسدي، وبكتاب الحارث الحميري - ملك اليمن - إلى المهاجر بن أمية المخزومي. وانطلق هؤلاء جميعا كل إلى حيث أرسله النبي. انطلقوا في وقت واحد على قول أكثر المؤرخين، وانطلقوا في أوقات مختلفة على قول بعضهم.

أليس إرسال محمد هؤلاء الرسل عجبا يثير الدهشة؟! أوليس أشد إثارة للدهشة ألا تمضي ثلاثون عاما بعد ذلك حتى تصبح هذه البلاد التي أرسل محمد إليها رسله وقد فتحها المسلمون ودان أكثرها بالإسلام؟! لكن هذه الدهشة ما تلبث أن تزول حين تذكر أن الإمبراطوريتين العظيمتين اللتين كانتا تزعمان تحضير عالم ذلك العصر، وكانت حضارتهما هي الغالبة على العالم كله، إنما كانتا تتنازعان الغلب المادي، على حين كانت القوة الروحية فيهما جميعا قد انحلت واضمحلت؛ فقد كانت فارس مقسمة بين الوثنية والمجوسية. وكانت مسيحية بزنطية قد اضطربت بين مختلف المذاهب والفرق فلم تظل عقيدة سليمة تحرك القلوب وتقويها، بل انقلبت رسوما وتقاليد يهيمن بها رجال الدين على عقول السواد لحكمه واستغلاله. أما الدعوة الجديدة التي يدعو محمد إليها فكانت روحية صرفة وكانت ترتفع بالإنسان إلى أسمى مراتب الإنسانية، وحيثما التقت المادة والروح، وحيثما تعارض هم الحاضر وأمل الخلود، انهزمت المادة وعنا وجه الحاضر.

ثم إن فارس وبزنطية كانتا - على عظم سلطانهما - قد فقدتا قوة الابتكار وملكة الإنشاء، ونزلنا في عالم التفكير وفي عالم الشعور وفي عالم العمل إلى درك التقليد واحتذاء السلف، واعتبار كل جديد بدعة، وكل بدعة ضلالة. والجماعة الإنسانية كالفرد الإنساني وككل كائن حي، تتجدد كل يوم؛ فإما كانت ما تزال فتية شابة فكان تجددها خلقا وإنشاء ومزيدا في الحياة، وإما كانت قد بلغت الذروة ولم تعد قادرة على الإنشاء والخلق، فهي تنفق من رأس مال حياتها؛ فحياتها لذلك في نقص مستمر، وفي انحدار إلى درك النهاية. والجماعة الإنسانية التي تنحدر إلى درك النهاية مصيرها أن يخلقها عنصر خارجي، فيه فتوة الحياة، خلقا جديدا. العنصر الخارجي المليء بقوة الحياة الفتية إلى جانب فارس وبزنطية لم يكن في ناحية الصين أو الهند، ولا كان في ناحية أواسط أوروبا؛ إنما كان هذا العنصر محمدا.

كانت دعوته في شباب فتوتها جديرة بأن تعيد إلى هذه النفوس، المنهدم داخلها بحكم التقاليد الدينية والخرافات القائمة منها مقام الإيمان والعقيدة، حياة فتية تجددها وتردها إلى الحياة. وشعلة الإيمان الجديد التي كانت تضيء نفس الرسول، وقوة نفسه التي سمت فوق كل قوة، هي التي هدت إلهامه إلى أن يبعث هؤلاء الرسل يدعون عظماء الأرض بدعاية الإسلام دين الحق، دين الكمال، دين الله جل شأنه؛ يدعوهم إلى الدين الذي يحرر العقول لترى، والقلوب لتبصر، والذي يضع للإنسان في حياة العقيدة، كما يضع له في نظام الجماعة، قواعد عامة توازي بين سلطان الروح وقوة المادة التي تنطوي على الروح، لتبلغ بالإنسان من طريق هذه الموازاة إلى غاية ما يستطيع بلوغه من قوة على الحياة، قوة لا يشوبها وهن ولا غرور، ولتبلغ بالجماعة الإنسانية بفضل ذلك النظام إلى خير مكان أعد لها بعد أن تسلك ما قدر لها من ضروب التطور بين كائنات الوجود جميعا.

أفيرسل محمد رسله إلى هؤلاء الملوك وهو ما يزال يخشى غدر اليهود الذين لا يزالون مقيمين شمال المدينة؟ صحيح أنه قد عهد عهد الحديبية، فأمن قريشا وأمن الجنوب كله؛ لكنه لن يأمن من ناحية الشمال أن يستعين هرقل أو يستعين كسرى بيهود خيبر، وأن يحرك في نفوسهم ثاراتهم القديمة، وأن يذكرهم إخوانهم في الدين من بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع، وقد أجلاهم محمد عن ديارهم بعد أن حصرهم بها وقاتلهم فيها وقتل منهم وسفك دماءهم. واليهود أشد من قريش عداوة له؛ لأنهم أحرص منهم على دينهم، ولأن فيهم ذكاء وعلما أكثر مما في قريش. وليس من اليسير أن يوادعهم بصلح كصلح الحديبية، ولا أن يطمئن لهم وقد سبقت بينه وبينهم خصومات لم ينتصروا في إحداها. فما أجدرهم أن يثأروا لأنفسهم إذا هم وجدوا من ناحية هرقل مددا. لا بد إذن من القضاء على شوكة هؤلاء اليهود قضاء أخيرا؛ حتى لا تقوم لهم من بعد ببلاد العرب قائمة أبدا. ولا بد من المسارعة إلى ذلك حتى لا يكون لديهم من الوقت متسع للاستعانة بغطفان أو بغيرها من القبائل المعادية لمحمد والموالية لها.

وكذلك فعل؛ فإنه لم يقم بالمدينة بعد عوده من الحديبية إلا خمس عشرة ليلة على قول، وشهرا على قول آخر، ثم أمر الناس بالتجهيز لغزو خيبر على ألا يغزو معه إلا من شهد الحديبية، إلا أن يكون غازيا متطوعا ليس له من الغنيمة شيء. وانطلق المسلمون في ألف وستمائة ومعهم مائة فارس، وكلهم واثق بنصر الله، ذاكر قوله تعالى في سورة الفتح التي نزلت في عهد الحديبية:

سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم يريدون أن يبدلوا كلام الله قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل فسيقولون بل تحسدوننا بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا .

Shafi da ba'a sani ba