150

أما عائشة فلم يجرؤ أحد على أن يبلغها من كل هذا الذي يقول الناس شيئا، وإن أنكرت من زوجها جفاء لم تعرفه منه ولم يتفق في شيء مع لطفه بها وحبه إياها. ثم إنها مرضت من بعد ذلك مرضا شديدا، فكان إذا دخل عليها وأمها تمرضها لم يزد على قوله: «كيف تيكم؟» ووجدت عائشة في نفسها لما رأت من جفاء النبي إياها، وجعلت تحدث نفسها: ألا تكون جويرية قد حلت من قلبه محلها؟! وبلغ من ضيق ذرعها بجفاء النبي محمد إياها أن قالت له يوما: لو أذنت لي فانتقلت إلى أمي فمرضتني! وانتقلت إلى أمها وفي نفسها من الدهشة لهذا التفريط في أمرها ما آذاها وآلمها. وظلت في مرضها بضعة وعشرين يوما حتى نقهت، وهي لا تعرف من كل ما يدور حول اسمها من حديث شيئا. أما محمد فقد بلغ من تأذيه بترامي هذه الأخبار إليه أن قام يوما في الناس يخطبهم فقال: «أيها الناس! ما بال رجال يؤذونني في أهلي ويقولون عني غير الحق! والله ما علمت منهم إلا خيرا. ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت منه إلا خيرا، وما يدخل بيتا من بيوتي إلا معي.» فقام أسيد بن حضير فقال: يا رسول الله، إن يكونوا من إخواننا الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك. فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. ورد عليه سعد بن عبادة بأنه إنما تقدم بهذه المقالة لأنه يعرف أنهم من الخزرج، ولو كانوا من الأوس ما قالها. وتشاور الناس وكادت تقوم الفتنة لولا حكمة الرسول وحسن مداخلته.

وانتهى الخبر آخر الأمر إلى عائشة، حدثتها به امرأة من المهاجرين، فلما عرفته كاد يغشى عليها من هوله. وانطلقت تبكي لا يحبس دمعها حابس حتى شعرت كأن كبدها تتصدع. وذهبت إلى أمها وقد أثقل الهم كاهلها حتى كاد ينوء بها، وقالت لها والعبرة تخنقها: يغفر الله لك يا أماه! تحدث الناس بما تحدثوا به ولا تذكرين لي من ذلك شيئا! ورأت أمها الهم الذي بها، فحاولت تخفيف أثره في نفسها فقالت: أي بنية، خففي عليك الشأن فوالله لقلما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن وكثر الناس عليها. ولكن عائشة لم تتعز بهذا القول، وزادها ألما أن ذكرت جفاء النبي إياها بعد الذي كان من لطفه بها، وأن شعرت بأنه قد وقع في نفسه من هذا الحديث أثر وقامت بنفسه منه ريبة. لكن ماذا عساها تستطيع أن تفعل؟! أتفاتحه في القول وتذكر له الخبر وتقسم له أنها بريئة؟! هي إذن تتهم نفسها ثم تدفع التهمة بالأيمان والتوسلات. أفتعرض عنه كما أعرض عنها وتجفوه كما جفاها؟ لكنه رسول الله وهو قد اصطفاها على نسائه، وليس من ذنبه أن تحدث الناس عنها بسبب تأخرها عن العسكر وعودها مع صفوان. رباه؟ ألهمهما في هذا الموقف الدقيق مخرجا يتضح لمحمد معه الحق في أمرها ليعود إلى مثل ما كان من حبها والعطف عليها واللطف بها.

ولم يكن محمد خيرا منها مكانا؛ فقد آذاه ما يتحدث به الناس، حتى اضطر آخر الأمر إلى أن يتشاور مع خلصائه ماذا يصنع. فذهب إلى بيت أبي بكر ودعا إليه عليا وأسامة بن زيد فاستشارهما، فأما أسامة فنفى كل ما نسب إلى عائشة على أنه الكذب والباطل، وأن الناس لا يعرفون كما لا يعرف النبي عنها إلا خيرا. وأما علي فقال: يا رسول الله، إن النساء لكثير. ثم أشار باستجواب جارية عائشة لعلها تصدقه. ودعيت الجارية وقام لها علي فضربها ضربا موجعا وهو يقول: اصدقي رسول الله، والجارية تقول: والله ما أعلم إلا خيرا، وتنفي عن عائشة قالة السوء. أخيرا لم يبق أمام محمد إلا أن يواجه زوجه وأن يطلب إليها أن تعترف.

ودخل عليها وعندها أبواها وامرأة من الأنصار، وهي تبكي والمرأة تبكي معها. وقد هوى الأسى بنفسها إلى أعمق قرارات الحزن من هول ما ترى من ريبة محمد بها، من ريبة هذا الرجل الذي تحب وتقدس؛ والذي به تؤمن وفيه تفنى. فلما رأته كفكفت دمعها وسمعت إليه وهو يقول: «يا عائشة، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس، فاتقي الله إن كنت قد قارفت سوءا مما يقولون، فتوبي إلى الله يقبل التوبة عن عباده.»

فما إن أتم حديثه حتى ثار في عروقها دمها، وجف من عينيها دمعها، وتلفتت إلى ناحية أمها وإلى ناحية أبيها تنظر بما يجيبان. لكنهما سكتا فلم ينبسا بكلمة. فازدادت ثورة نفسها وصاحت بهما: ألا تجيبان؟! وقالا: ما ندري بم نجيب. وعادا إلى وجومهما. وهنالك لم تملك نفسها دون النشيج بالبكاء؛ وساعفتها دموعها لتهدئ من الثورة المضطرمة بين ضلوعها تكاد تحرقها. ثم وجهت الكلام إلى النبي وهي تبكي فقالت: والله لا أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا! إني لأعلم لئن أقررت بما يقول الناس والله يعلم أني بريئة لأقولن ما لم يكن، ولئن أنا أنكرت لا تصدقوني. ثم سكتت هنيهة وعادت تقول: إنما أقول كما قال أبو يوسف: «صبر جميل والله المستعان على ما تصفون.»

فترة سكوت تلت هذه الثورة لم يعرف حاضروها أطالت أم قصرت، على أن محمدا لم يبرح مجلسه حتى تغشاه من الوحي ما كان يتغشاه، فسجي بثوبه ووضعت وسادة من أدم تحت رأسه. قالت عائشة: أما أنا فوالله ما فزعت ولا باليت حين رأيت من ذلك ما رأيت، فقد عرفت أني بريئة وأن الله غير ظالمي. وأما أبواي فما سري عن رسول الله

صلى الله عليه وسلم

حتى ظننت لتخرجن نفساهما فرقا من أن يأتي من الله تحقيق ما قال الناس. فلما سري عن محمد جلس يتصبب عرقا، فجعل يمسحه عن جبينه ويقول: أبشري يا عائشة! قد أنزل الله براءتك. قالت عائشة: الحمد لله! وخرج محمد إلى لمسجد فألقى على المسلمين هذه الآيات التي نزلت:

إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبره منهم له عذاب عظيم .

7

Shafi da ba'a sani ba