107

آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون .

24

وكان ينكر عليهم أشد الإنكار كل ما يلقى أية شبهة على وحدة الله، ويذكر لهم أنهم حرفوا الكلم مما في كتبهم عن مواضعه، وأنهم يذهبون إلى غير ما ذهب إليه النبيون والرسل الذين يقرون لهم بالنبوة، وأن ما جاء به عيسى وموسى ومن سبقهم لا يختلف في شيء عما جاء هو به؛ لأن ما جاءوا به إنما هو الحقيقة الأزلية الخالدة التي تتكشف في جلال وضوحها وعظمة بساطتها لكل من نزه نفسه عن الخضوع لغير الله في عظمة وحدته، ونظر في الكون على أنه وحدة متصلة نظرة سامية فوق أهواء الساعة ومطامع العاجلة وشهوات المادة، مجردة من الخضوع الأعمى لأوهام العامة ولما وجد عليه آباءه وأجداده.

أي مؤتمر أعظم من هذا المؤتمر الذي شهدت يثرب، تلتقي فيه الأديان الثلاثة التي تتجاذب حتى اليوم مصاير العالم، وتلتقي فيه لأسمى فكرة وأجل غاية؟! لم يكن مؤتمرا اقتصاديا، ولا كان مرماه أي غرض من هذه الأغراض المادية التي ينطح عالمنا اليوم عبثا صخرتها؛ إنما كان مرماه غاية روحية تقف من ورائها في أمر النصرانية واليهودية مطامع السياسة ومآرب أرباب المال وذوي الملك والسلطان، ويقف فيه محمد لغاية روحية إنسانية بحتة يملي عليه الله في سبيلها الصيغة التي يلقي بها إلى اليهود والنصارى وإلى الناس كافة، يقول لهم فيها:

قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون .

25

ماذا يستطيع اليهود أو النصارى أو يستطيع غيرهم أن يقولوا في هذه الدعوة: ألا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابا من دون الله؟! فأما الروح المخلصة الصادقة، فأما النفس الإنسانية التي كرمت بالعقل والعاطفة فلا تستطيع إلا أن تؤمن بهذا دون غيرها. لكن في الحياة الإنسانية إلى الجانب النفساني جانبها المادي. فيها هذا الضعف الذي يجعلنا نقبل لغيرنا علينا سلطانا بثمن يشتري به أنفسنا وأرواحنا وقلوبنا. فيها هذا الغرور القتال للكرامة وللعاطفة ولنور النفس العاقلة. هذا الجانب المادي المصور في المال وفي الجاه وفي كاذب الألقاب والرتب، هو الذي جعل أبا حارثة أكثر نصارى نجران علما ومعرفة يدلي إلى رفيق له باقتناعه بما يقول محمد، فلما سأله رفيقه: فما يمنعك منه وأنت تعلم هذا؟ كان جوابه: يمنعني ما صنع بنا هؤلاء القوم؛ شرفونا ومولونا وأكرمونا وقد أبوا إلا خلافه، فلو فعلت نزعوا منا كل ما ترى.

دعا محمد اليهود والنصارى إلى هذه الدعوة أو يلاعن النصارى؛ فأما اليهود فكان بينه وبينهم عهد الموادعة. إذ ذاك تشاور النصارى ثم أعلنوا إليه أنهم رأوا ألا يلاعنوه وأن يتركوه على دينه ويرجعوا على دينهم. ولكنهم رأوا حرص محمد على العدل حرصا احتذى أصحابه فيه مثاله، فطلبوا إليه أن يبعث معهم رجلا يحكم بينهم في أشياء اختلفوا عليها من أقوالهم. وبعث محمد معهم أبا عبيدة بن الجراح ليقضي بينهم فيما اختلفوا فيه.

وجعل محمد يمكن للحضارة التي وضع حجر الأساس فيها بتعاليمه ومثله؛ وجعل يفكر هو وأصحابه من المهاجرين فيما لم يفتهم التفكير لحظة فيه منذ هجرتهم من مكة: فيما يجب أن يكون موقفهم من قريش وأمرهم معهم. ولقد كان يدفعهم إلى هذا التفكير دوافع عدة؛ ففي مكة كانت الكعبة بيت إبراهيم ومكان حجهم وحج العرب جميعا. أفتراهم ينقطعون عن هذا الواجب المقدس الذي كانوا يقومون به إلى يوم أخرجوا من مكة؟! وفيها ما يزال لهم أهل تهوي إليهم نفوسهم وتشفق من بقائهم على الشرك أفئدتهم وقلوبهم. وفيها بقيت أموالهم ومتاعهم وتجارتهم مما منعتهم قريش منه حين هجرتهم. ثم إنهم إذ حضروا المدينة كانت موبوءة بالحمى فأصابهم منها عنت شديد، وبلغت منهم حتى جهدوا مرضا وكانوا يصلون قعودا؛ فزاد ذلك في تحنانهم إلى مكة. وهم قد أخرجوا من مكة، كارهين فكأنهم خرجوا مغلوبين على أمرهم. وليس في طبع هؤلاء القرشيين أن يصبروا على الضيم أو أن يذعنوا للغلب دون تفكير في الثأر لأنفسهم منه.

وإلى جانب هذه الدوافع جميعا كان يحركهم الدافع الطبيعي دافع الحنين إلى الوطن، إلى هذا المكان الذي منه نبتنا وفيه نشأنا ولأرضه وسهله وجبله ومائه كان أول حديثنا وأول صداقتنا وأول ودنا. هذه البقعة من الأرض نمتنا صغارا فإليها مثوانا كبارا، بها تتعلق قلوبنا وعواطفنا، وعنها نذود بقوتنا وبمالنا، ونضحي بمجهودنا وبحياتنا، وفيها نود أن ندفن بعد موتنا لنعود إلى ترابها الذي خرجنا منه. هذا الدافع الطبيعي أذكي في أنفس المهاجرين سائر الدوافع، وجعلهم لا ينفكون يفكرون في قريش وفيما يجب أن يكون موقفهم منها. لن يكون هذا الموقف موقف استسلام أو استخذاء وقد صبروا فيها على الأذى ثلاثة عشر عاما سويا. والدين الذي احتملوا فيه هذا الأذى والذي هاجروا في سبيله لا يقر الضعف ولا اليأس ولا الاستكانة. وإذا كان يمقت الاعتداء وينكره، ويقرر الإخاء ويدعو إليه، فإنه يفرض الدفاع عن النفس وعن الكرامة وعن حرية العقيدة وعن الوطن. ولهذا الدفاع أتم محمد مع أهل يثرب بيعة العقبة الكبرى. فكيف يؤدي المهاجرون هذا الفرض عليهم لله ولبيته الحرام ولوطنهم مكة المحبب إلى قلوبهم؟ هذا ما ستتجه إليه سياسة محمد والمسلمين معه، حتى يتم له فتح مكة، وحتى يعلو دين الله وتعلو كلمة الحق فيها.

Shafi da ba'a sani ba