60

Rayuwar Almasihu

حياة المسيح: في التاريخ وكشوف العصر الحديث

Nau'ikan

وبقيت المرأة المسكينة واقفة وحدها أمامه، فسألها سؤال العارف: أين المشتكون منك؟ أما دانك أحد؟ فقالت: لا أحد أيها السيد. فأرسلها وهو يقول: ولا أنا أدينك، فاذهبي ولا تخطئي.

نعم، لا يدينها، ولا يحسب عليه أنه لا يدينها في تلك القضية، ولو كان هو قاضيها؛ لأن القاضي لا يدين بغير شكوى، وبغير شهود وبغير بينة!

وتناول مسألة الزواج والطلاق، وقد بلغ من سهولتهما في ذلك العصر أن تتصدع الأسرة، وأن تصبح الزوجة أضيع من الخليلة في عرف قومها، فقال إن الزوج والزوجة جسد واحد لا يفصلهما الإنسان، وقد جمعهما الله، «ومن طلق امرأته إلا لعلة الزنا دفعها إلى الزنا، ومن تزوج مطلقة فإنه زان.»

ولم تحدث مناوشة قط من هذا القبيل بينه وبين المتفيقهين من متخذي العلم صناعة وأحبولة إلا ارتدوا منها مفحمين، وخرج منها مجيبا أحسن جواب بل أكرم جواب.

فلم يصعب عليه أن يحطم «الشرك السياسي» الذي نصبوه له ليسمعوا منه إشارة بإعطاء الجزية، أو بعصيان الدولة، وأراهم أنهم يتعاملون بنقود قيصر، ويكنزون منها الثروة والمال، فلماذا لا يعطون ما لقيصر لقيصر، وما لله لله؟

ولم يصعب عليه أن يسكت الصدوقيين والفريسيين معا، والأولون ينكرون البعث، والآخرون يؤمنون به جسديا وروحيا على السواء، فلما قيل له إن شريعة موسى توصي الأخ أن يبني بزوجة أخيه المتوفى حفظا للأسرة، وسألوه: لمن تئول في يوم القيامة زوجة تعاقبها سبعة إخوة؟ خيل إليهم أنه لن يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال جوابا يرضي الصدوقيين، أو يرضي الفريسيين، فكان جوابه مفحما لهؤلاء وهؤلاء؛ لأن الأحياء في العالم الآخر لا يتزاوجون زواج هذا العالم، ولا يتناسلون!

والحق أن الأناجيل لا تروي لنا من هذه المساجلات إلا ما نشهد أمثاله اليوم في كل درس من الدروس العامة يتصدى فيه المتعالمون المتفيقهون لتعجيز المعلمين والوعاظ، وإن اختلفت المقاصد من أسئلة السائلين في كل حلقة على حسب الموضع والموضوع.

والحق أن قدرة السيح المسيح على الردود السريعة والأجوبة المسكتة لهي دليل آخر إلى جانب أدلة كثيرة على «الشخصية» التاريخية، والدعوة المتناسقة؛ لأنها قدرة من وراء طاقة التلاميذ والمستمعين، بل هم يروونها، ولا يفطنون إلى أهم البواعث عليها في سياسة الرسالة المسيحية، فإن هذه الرسالة قائمة على اجتناب التشريع، واجتناب التعريض له بالإبطال أو الإبدال، ووجهتها على الدوام أنها لا تدعي سلطة من سلطات الدنيا والدين، وأن مملكة المسيح من غير هذا العالم، وليست من ممالك الدول والحكومات، كذلك قال لكهان الهيكل، وكذلك قال لبيلاطس حاكم الرومان، وعلى ذلك جرى أسلوبه في كل أمر وفي كل موعظة، فهو أسلوب الآداب والمثل العليا، وليس بأسلوب النصوص والقوانين، وكلامه عن زنى المطلق، وعن زنى العين التي تقلع إذا نظرت نظرة اشتهاء، وعن خطيئة اليد التي تقطع إذا وقعت في العثرات؛ لا يحمله أحد على محمل التشريع، وليس في مسلك المسيح كله في رسالته ما يجريه مجرى الإلزام، ومع هذا غلب على الرواة من يحسبه تشريعا مقصودا بحروفه، وقل من الرواة من فرق في فهمه بين أسلوب الشريعة المقصودة بحرفها وأسلوب الآداب الإنسانية التي ترتفع إلى الأكمل فالأكمل، وتنفذ إلى المعاني من وراء الألفاظ، ويرجع الأمر فيها إلى ضمير يحاسب صاحبه، ولا يرجع إلى قاض يسمل عينا، أو يدخل في الصدور ليتتبع فيها بواعث الاشتهاء، ولو خلصت هذه المعاني إلى سامعيها جميعا كما عناها السيد المسيح، لما ثبتت له كما ثبتت من اختلاف الفهم والتأويل.

شريعة الحب

الجمود والرياء كلاهما موكل بالظواهر؛ فالجمود يقف بصاحبه عند الكلمات والنصوص، يخيل إليه أنها مقصودة لذاتها، فتصبح شغلا شاغلا له يمعن في تأويلها وتوجيهها واستخراج العقد والألغاز منها، وينتهي الأمر به إلى اعتبارها مسألة براعة وفطنة، واعتبار الأحكام والعقوبات فرصة للشارع لا يجوز أن تفلت من بين يديه، وإلا كان ذلك مطعنا في براعته وفطنته، وهزيمة له أمام غرمائه المقصودين بتلك الأحكام والعقوبات.

Shafi da ba'a sani ba