Rayuwar Tunani a Duniyar Sabuwa
حياة الفكر في العالم الجديد
Nau'ikan
وقد حان الحين لنا أن نسأل: ما هذه «الكائنات الفعلية» أو «العوابر الفعلية» التي يرى «وايتهد» أنها قوام العالم، وأنه لا فرق بين واحدة منها وواحدة من حيث تمثيلها للمبادئ العامة التي على سننها تجري الطبيعة، حتى لقد أسرف في ذلك وقال: «ألا فرق بين الله - وهو أيضا «كائن فعلي» - وبين أتفه نفثة من نفثات الوجود في أرجاء المكان الخالي القصي البعيد»؟
32
وجواب «وايتهد» عن هذا السؤال هو: الكائنات الفعلية التي هي قوام الوجود هي حالات من خبرة، انظر إلى نفسك وأنت على وعي بما يحيط بك تجد في نفسك سيالا من «الخبرة» - أعني وعيك بما تدرك - بما يقع تحت إدراكك، فهذه «الخبرة» التي تتتابع في نفسك «قطرات»،
33
قطرة في إثر قطرة، هي قوام العالم، ليس قوام العالم ذرات من مادة، ولا وحدات من روح، ولا مجموعة من عناصر، بل قوامه «قطرات من خبرة»، كل «كائن فعلي» هو نبضة خبرية يدرك بها النابض بخبرته وجود ذلك الكائن الفعلي إدراكا مباشرا.
وإذ تتتابع «نبضات» الخبرة أو «قطراتها»، يشعر الكائن صاحب تلك الخبرة بشعورين في وقت واحد: يشعر بفرديته التي يتفرد بها في تلك الخبرة الخاصة، ثم يشعر بأنه رغم فرديته إن هو إلا جزء تجاوره أجزاء أخرى، بحيث يدخل معها في نسيج واحد هو الوجود، وهنا يستعمل «وايتهد» اصطلاحا آخر من اصطلاحاته الكثيرة، وهو لفظة «التشرب»
34
أو «الهضم» أو «الامتصاص» أو ما يكون له معنى شبيه بهذا، ليعبر به عن احتواء الفرد للكل الذي حوله وإدخاله معه في عملية تطورية واحدة، في هذه الوحدة التي تدمج الفرد بغيره من الكائنات، يكون الفرد «ذاتا» شاعرة بما حولها، وتكون تلك الكائنات بمثابة الموضوعات التي تتناولها تلك الذات بخبرتها، وإذن فالموقف الذي نسميه «خبرة» يتألف من مركز ذاتي فردي خاص من جهة، وأشياء خارجية موضوعية عينية علنية من جهة أخرى، الأول يكون هو الذات الخابرة، والثاني يكون هو الجانب المخبور، والجانبان معا يكونان وحدة لا تقبل الانقسام، هي التي تمثل قطعة من الحياة وهي في حالة التجاوب مع سواها من حقائق الوجود، وفي هذا التجاوب بين الذات ومحيطها تكون العلاقة أشبه شيء بانسياب تيار من الخارج إلى الداخل، من الموضوع إلى الذات، وكذلك من الماضي إلى الحاضر؛ لأن كل ما هو «هناك» مما ينساب تياره إلى «هنا» إنما هو سابق في الزمن - مهما كانت فترة الأسبقية بالغة القصر - أي إنه ماض بالنسبة إلى حالة الخبرة به، وبهذه النقلة من الماضي إلى الحاضر من حيث الزمن، ومن الخارج إلى الداخل من حيث المكان، تتم عملية الخبرة التي تدمج الفرد بمحيطه، وهكذا ترى «وايتهد» في تحليله للوقف الشعوري أو الموقف الخبري، بدل أن يذهب إلى ما ذهب إليه «كانت» من حيث خلع الإنسان لذاته على ظواهر الأشياء التي يدركها فيصوغها على قوالب تلك الذات ووسائلها، يجعل خبرة الذات وليدة العالم الخارجي وصنيعته، إن الذات في حالة خبرتها بمحيطها الخارجي لتخلق نفسها بنفسها أثناء عملية الخبرة نفسها، فلا هي كانت هناك قائمة قبل ممارستها لخبرتها، ولا هي من خلق عامل خارجي عنها، وما يحدث هو هذا: هنالك كثرة من أشياء تحيط بمن سيتناولها بخبرته، فإذا ما تناولها خابر بخبرته جعل من كثرتها تلك وحدة؛ لأنه سينظر إليها من وجهة نظر واحدة، ويلاحظ أن توحيدها على هذا النحو في خبرته هو تكوين فريد، لا تكرار له أبدا في أي خبرة أخرى، ويلاحظ كذلك أن صاحب هذه الخبرة هو الذي يقرر ما الأجزاء التي سيضم بعضها إلى بعض في خبرة واحدة متماسكة، بحيث تصبح وإياه جزءا من كل عضوي، وبحيث تحقق له غاية منشودة.
إننا في العادة نتصور الثبات في أنفسنا حتى إن تصورنا التغير الدائب في الأشياء التي ندركها، لكن «وايتهد» - كما رأيت - يجعل الداخل والخارج معا في تغير لا ينقطع فلا ينفك ما حولنا يتغير، وكذلك ما تنفك الذات المدركة تتغير، فإذا كانت الأشياء الخارجية لا تظل لحظتين متتابعتين على حالة واحدة، فكذلك الذات المدركة لا تثبت على حالة إدراكية واحدة لحظتين متتابعتين، كان هرقليطس - وهو من فلاسفة اليونان السابقين على سقراط - يذهب مذهب التغير في الأشياء، وقد صور ذلك في عبارته المشهورة: «إنك لا تعبر النهر الواحد مرتين.» ومعناها أنك حين تعبر النهر للمرة الثانية يكون نهرا آخر، فليس الماء هو نفسه الماء الذي كان، وجاء «وايتهد» فوسع من المبدأ نفسه، بحيث شمل الذات أيضا، حتى ليصح أن يقال عنها عبارة شبيهة بتلك، فنقول: «إنك لا تفكر الفكرة الواحدة مرتين.» أو «إنك لا تمارس الخبرة الواحدة مرتين.»
35
Shafi da ba'a sani ba