Rayuwar Tunani a Duniyar Sabuwa
حياة الفكر في العالم الجديد
Nau'ikan
فهو في مقدمة الكتاب يفرق في الدين بين وجهين، فالدين من جهة يشرع تشريعا خلقيا؛ أي إنه يضع نظرية للفعل والسلوك، وهو من جهة أخرى يعين حدود الإيمان؛ أي إنه يضع نظرية للمعرفة، فكأنما هو بهذين الوجهين يجيب عن سؤالين: كيف ينبغي أن أسلك؟ وماذا أعرف؟ وقد اختار «رويس» أن يبحث في كتابه هذين الموضوعين على التوالي بحثا يقيمه على ضوء مثاليته التي شرحنا أساسها.
أما كيف ينبغي أن يسلك الإنسان، فجوابه هو أن المثل الأعلى في الأخلاق أن يقوم بين مختلف الإرادات اتساق وتناغم وانسجام، هذا المبدأ صواب بالنسبة للفرد الواحد، وبالنسبة للمجتمع، وبالنسبة للكون كله جملة واحدة، ففي الفرد الواحد إرادات متضاربة - هي رغباته - فقد تريد إرادة منها شيئا تنفر منه إرادة أخرى، والأخلاق المثلى في هذه الحالة هي أن ينسق الإنسان بين هذه الإرادات المتضاربة في وحدة واحدة تجعل منها أجزاء متعاونة على تحقيق هدف منشود، وقل ذلك نفسه بين أفراد المجتمع الواحد، فلكل من هؤلاء الأفراد إرادته، والأخلاق الاجتماعية العليا هي أن يتصرف الإنسان بحيث تتسق إرادات الأعضاء جميعا في تيار واحد ينتهي إلى هدف واحد، وهذه بعينها هي الأخلاقية الإلهية؛ إذ ينسق الله بين أجزاء الكون كلها على نحو يجعل كل ما فيه متعاونا على تحقيق هدف واحد، وقد صاغ «رويس» مبدأه الأخلاقي على غرار ما فعل «كانت» في العبارة الآتية: «اعمل بقدر مستطاعك كما لو كنت أنت هو أنت وجارك في آن واحد، فانظر إلى حياتيكما كأنما هي حياة واحدة.»
6
وهو مبدأ - كما ترى - يعبر بصورة أخرى عما عبر عنه المبدأ الديني بقوله: «أحب لجارك ما تحب لنفسك.» ومعنى مبدئه في ضوء مثاليته هو أن يسلك الإنسان إزاء جاره سلوكا يقوم على افتراض أنه هو وجاره لم يعودا شخصين جزئيين منفصل كل منهما عن الآخر، بل اندمجا في وحدة تنسق بينهما مع الإبقاء على كل منهما، أليس ذلك هو نفسه ما تعمله ذات الفرد إزاء كل جزءين من أجزاء خبرتها؟ أليست تنسق هذين الجزءين على نحو يجعلهما داخلين في وحدة أعم منهما وأشمل، مع الاحتفاظ بهما معا؟ فهكذا أيضا يكون الأمر بين الفردين من الناس، بل بين كل أفراد الناس، أن يعمل الإنسان إزاء سائر الناس كما لو كان هؤلاء الناس أجزاء من ذات واحدة، فيزيل ما بينهم من تضارب لينخرط الكل في وحدة ذاتية واحدة.
وقد كان هذا الاتساق بين إرادات الأفراد ليستحيل لولا أن بينها أصلا مشتركا ووحدة تجمعها، وإذن فلا بد لك من «بصيرة أخلاقية» تنفذ بها إلى صميم الإرادة لترى ما طبيعتها التي تجعل مختلف الإرادات أشباها، وعلى ذلك فالحياة الأخلاقية لا تكتمل إلا بهذه «البصيرة الأخلاقية» جنبا إلى جنب مع المبدأ الذي أسلفنا ذكره، إنه محال علي أن أنفذ هذا المبدأ الذي يقتضيني أن أوفق بين إرادتي وإرادة جاري بحيث أجعل منهما إرادة واحدة، إلا إذا كانت لدي القدرة على إدراك العنصر المشترك بين الإرادتين لأستبقيه وأحذف عناصر الاختلاف، وإدراك العنصر المشترك بين الإرادات إنما يكون بما يسميه «رويس» بالبصيرة الأخلاقية، والبصيرة الأخلاقية عند الناس تتفاوت قوة وضعفا، فإذا ما بلغت درجة الكمال في نفاذها وقوة إدراكها كانت هي البصيرة الأخلاقية التي يتصف بها الله، والتي بواسطتها ينسق مختلف الإرادات في العالم كله دفعة واحدة ليكون منه عالم واحد ذو هدف واحد، فما قد يراه الإنسان المحدود تضاربا في اتجاهات أجزاء العالم، هو في الحقيقة اتساق من وجهة نظر الله الذي يرى كل شيء بلمحة من بصيرته الأخلاقية، فيجعل من كل شيء وجودا واحدا وحياة واحدة.
ولا بأس - بناء على هذه الوجهة للنظر - في أن تختلف جماعات البشر في قواعدها الأخلاقية ما دمنا في النهاية نستطيع أن نضع تلك المختلفات في نسق واحد، كما تساق الألحان المختلفة في نغم واحد، وهكذا يقف «رويس» في «الأخلاق» موقفا وسطا بين مذهبين كانا دائما على طرفي نقيض؛ فقد كان الفلاسفة ينقسمون فريقين إزاء «الأخلاق» ماذا يكون أساسها؟ أتكون مطلقة؛ بحيث تصلح لكل إنسان في كل مكان وزمان، أم تكون نسبية؛ بحيث يصلح لفريق ما لا يصلح لفريق آخر؟ ويمكن وضع هذا الاختلاف نفسه في صورة أخرى فنقول: أيكون مدار الأخلاق على أداء الواجب الذي يقتضيه المبدأ الثابت الذي لا يتغير، مهما تكن الظروف، ومهما تكن النتائج، أم يكون مدارها على النتائج المترتبة على الفعل، فما تترتب عليه السعادة يكون فضيلة، وما يترتب عليه الشقاء يكون رذيلة؟ هاتان هما وجهتا النظر الأساسيتان في فلسفة الأخلاق، فاستطاع «رويس» أن يوفق بينهما، فالأخلاق مطلقة ونسبية في آن واحد؛ لأن الفرد أو الجماعة قد تتصرف وفق ما تقتضيه ظروفها - وهذه هي النسبية - كل على شرط أن يتكون من مختلف الإرادات ومتضارب الاتجاهات والرغبات كل متسق تتكون منه حياة كونية واحدة - وهذه هي الناحية المطلقة - كذلك استطاع «رويس» أن يوفق بين أن يكون أساس الأخلاق هو طاعة المبدأ، وأن يكون أساسها هو النظر إلى النتائج، بأن جعل الفرد الواحد أو الجماعة الواحدة تتصرف على مبدأ أخلاقي تصرفا يجعل نتائج ذلك التصرف عند الأفراد المختلفين أو الجماعات المختلفة متسقة غير متضاربة، كأنما الكل كائن واحد.
هكذا ينظر «رويس» إلى الأخلاق نظرة اجتماعية لا فردية، إذا طالبت جاري بحقوق وطالبني بحقوق، فما ذاك إلا لأننا معا قطرتان من محيط واحد، وإذا ما حقق كل منا للآخر حقوقه، فما ذاك إلا لأن هناك كلا نريد أن نتسق فيه، فليست الغاية من الحياة الأخلاقية أن يخدم بعضنا بعضا باعتبارنا أفرادا، بل غايتها هي توحيد الكثرة في واحد، وتنسيق التضارب في كل متعاون، قد ينصرف أحدنا إلى تقديم العلم، وينصرف الآخر إلى عالم الفن، وينصرف ثالث إلى الخدمة السياسية، وكل هؤلاء وغير هؤلاء إنما يفعلون ما يفعلونه لا من أجل أنفسهم كأفراد، بل من أجل الوحدة الكلية العليا التي تحتويهم جميعا وتستخدمهم جميعا لتحقيق إرادتها الكلية الواحدة، إن الإرادة الواحدة المطلقة لا تضيق بكثرة الإرادات الفردية؛ لأنها تضمها جميعا تحت لوائها، ولا تضيق بتنوع الأهداف وتباين الغايات بين الأفراد؛ لأنها تجعل من هذه الغايات والأهداف كلها نهيرات تصب في مجرى واحد عظيم، هو مجراها نحو الغاية الكونية الواحدة، إنها لترحب بكل اختلاف وتنوع بين الناس ليتحقق كل ضرب من ضروب الحياة الممكنة، وبهذه الإمكانيات كلها يقوم بناء واحد لكون واحد متسق منسجم متناغم.
7
ومن البحث في «الأخلاق» وكيف ينبغي للإنسان أن يسلك، ينتقل «رويس» إلى الجزء الثاني من بحثه، وهو «المعرفة» ها هنا يهتدي الفيلسوف بمبدأ في وجوب الشك؛ لكي يبلغ اليقين، فعلى الرغم من أن الدين هو موضوع بحثه، فهو لا يرى مانعا، لا بل يراه واجبا أن يلجأ إلى منهج الشك، فنحن بالشك لا ننقض الحق في ذاته، وإن كنا ننقد ما يعتقد الناس أنه الحق، أعني أننا ننقد أفكارنا نقدا يميز صحيحها من باطلها، ولعل أهم طابع يميز التفكير الفلسفي هو أن تشك حتى يدفعك الشك إلى آخر مداه، وإذا بهذا الشك نفسه يلد لك اليقين المنشود.
ذلك أن مجرد اعتراف الإنسان بإمكان الخطأ هو في ذاته دليل على ضرورة الصواب، فلأن يشك الإنسان في صواب أفكاره التي يحملها في رأسه عن العالم الخارجي، يتضمن الاحتمال بأن تكون تلك الأفكار خاطئة، ثم يتضمن بالتالي أنه لا بد أن يكون هنالك فرق بين الفكرة الصائبة والفكرة الخاطئة، ولو لم يكن هنالك هذا الفرق لما كان لشك الإنسان معنى، فإذا ما تبين فيما بعد أن أفكارنا عن العالم صحيحة، كان ذلك برهانا قاطعا على أن هنالك هذا الفرق الذي أشرنا إليه بين ما هو صواب وما هو خطأ، وإلا لما عرفنا كيف نثق بعد البحث أن فكرة من أفكارنا صواب، وكذلك يقوم نفس البرهان القاطع على وجود الفرق بين الفكرة الصائبة والفكرة الخاطئة لو أننا انتهينا من بحث أفكارنا إلى أنها خاطئة، أريد أن أقول: إننا إذا شككنا في صحة أفكارنا، ثم إذا علمنا بعد البحث أن أفكارنا صواب أو أنها خطأ، ففي كلتا الحالتين برهان على أن هنالك ما يميز الخطأ من الصواب، وإذن فهذه في ذاتها بين أيدينا حقيقية ضرورية مطلقة لا يتطرق إليها الشك؛ لأنها نتيجة تنتج لنا من كلا الطريقين معا: من طريق إثباتنا لما نعرف، ومن طريق إنكارنا لما نعرف، فليس صوابا - إذن - ما يزعمه الزاعمون بأن المعرفة البشرية كلها نسبية، وأنه ليس هنالك من الحق ما هو مطلق لا يتغير صوابه بتغير الظروف؛ لأنه لو كان الحق يتغير من إنسان إلى إنسان آخر، لما وجدنا عبارة يتفق كل إنسان على صدقها الضروري، لكن ها نحن أولاء قد استولدنا عبارة من عملية الشك نفسها وهي: «أن هنالك فرقا بين حالتي الصواب والخطأ»، إن أشد منكر للحق المطلق لا بد أن يثبت ذلك الحق المطلق من إنكاره نفسه؛ لأنه سيقول عبارة كهذه: «ليس هنالك حق مطلق.» وستكون هذه العبارة عنده حقا مطلقا، فكأنما هو يقول - إذن: «أن ليس هنالك حق مطلق إلا عبارة واحدة هي قولنا بأنه ليس هنالك حق مطلق.»
Shafi da ba'a sani ba