اختلف المؤرخون في انتقاد أعمال نابوليون وقدرها، وكثيرون من أعجب بحملة 1796 وحملة 1814، ورأى مواطن الضعف في سواها كحملة 1805 و6 و7 و8، وعلى رأي هؤلاء أن الإمبراطور لم يعرف أن يستفيد من انتصاره في واكرام، وكان دون المنتظر منه في روسيا إلى أن سقط آخر الأمر سقوطا لا نهوض بعده.
الكيماوي برنوليه.
ماذا أصاب هذا النبوغ الحربي الذي شهد به الأعداء حتى كانت تغشى بلورته الصافية من وقت إلى آخر غمامة سوداء تحجب بريقه وتستر نوره؟! يقال إن هناك داء كامنا كان يحاول نابوليون بكل قواه أن يبقيه خفيا على من حوله، وقد شبهوه بنوع من الغيبوبة أو نوبة فجائية تنتاب العقل والبدن فيصيبهما الضعف والخمول وألم حاد، قد يأتي في أهم ساعات العمل وأشد محتدم الجلاد، فيذهب برشد نابوليون ويظلم ذهنه فيترك المقادير تجري في أعنتها دون أن يملك لها زماما، هكذا يفسر المارشال ولسلي فشل نابوليون في روسيا. نعم، إن الدوسنطاريا كانت تفتك بالألوف من جنوده، وإن كثيرا من خيله ضاع بين البرد والمطر، حتى إنه قبل وصوله إلى فلنا اضطر أن يترك وراءه مائة مدفع وخمسين عربة نقل، ولكن علام التردد في أول الحملة وتضييع الوقت بالتباطؤ وهو المتعود الإقدام والسرعة؟! وما معنى هذه الراحة الطويلة في فلنا ثم في فستبسك لولا حدوث انحطاط في قواه العقلية والبدنية ونزول الإرادة عن مستواها العالي نزولا لم يخف على الكثيرين حوله؟!
قد يكون العامل الأكبر إجهاده العقل إجهادا هائلا بين عمل متصل وقلق متعب، ولكن هذا القول يحتاج إلى دليل؛ فإن شهادة من رافقوه في هذه الحملة المشئومة لا تؤيده أقل تأييد، بل تثبت أن الإمبراطور لم يعره تغير في عزيمته ونشاطه ولا في حدة ذكائه عما كان عليه في حروبه السابقة، قال الجراح لاداي: «إن الإمبراطور كان يهتم بكل شيء ولا تخفى عليه خافية». ولكن من يقرأ متمعنا يلمح خلال السطور شيئا جديدا، فقد جاء في كلام لاداي ما يأتي: «إن الذي كان يحتمل حر مصر ويجوب قفارها المحرقة وهو ضاحك ويترك عربته فارغة تسير على الرمل في خدمة برتوله ومونج دون أن يركبها البتة، والذي كان في إسبانيا يدهش الإسبانيين بسرعة تنقله ومقاومته للتعب كان يشكو حينئذ من الظواهر الجوية ويعيش في مركبته أو يقضي الساعات في السرير وهو غير لابس.»
الجنرال كونت دي سيجور.
الجنرال كوركو.
أما قواده المخلصون فلا يريدون أن يصدقوا أنه قصر لحظة في القيام بمهمته الخارقة قدرة البشر، قال الجنرال راب: كانت همة الإمبراطور فوق التصور، فكان يحيط بكل شيء، ويسهر على كل شيء، ويكفي لكل شيء، وقال ياوره الجنرال كوركو: «إن صحة الإمبراطور في ذلك الحين كانت على غاية ما يرام، وكان على الرغم من كثرة الأشغال يجد متسعا لركوب الخيل والصيد ساعات متتابعة، ولقد أظهر في حملة روسيا من العزيمة والنشاط والمقدرة مثل ما أظهر قبل وبعد.»
وقال أيضا: «يصورون لنا الإمبراطور في فلنا خلوا من الحماسة والإرادة وصدق الرأي، كيف يكون ذلك، وقد رأيناه منذ الساعة الأولى يهدم خطط الروس، ويقطع جيشهم شطرين، ويقهرهم على ترك مواقفهم ومخازنهم، فيتسلم منهم ليتانيا بدون حرب، وكذلك في فستبسك فقد ادعى الكونت سيكور أن الخمول كان مستوليا على الإمبراطور، ولكن أين هذا من الحقيقة؟! لقد أقبل الروس لمحاربته وهذا ما كان يريد، ظنوه آتيا بالجيش عن يمينهم فجاز بأسرع من البرق دنيبر وحمل على ميسرتهم.»
أما كلام سيكور الذي أشار إليه الجنرال كوركو فهو: «لم تعد البنية القوية تساعد هذا النابغة كسابق عهدها، وقد تعود منذ صباه الاستحمام لمغالبته ألما خفيا لا يريد أن يعرفه أحد، وقد أصابه عسر في البول منذ ليلة المعركة «موسكو»، فلم يخلص منه إلا ثاني يوم دخوله كرملين، وقد أنبأني أبي والجراح وكاتم سره أن هذا الداء يلازمه منذ صباه.»
وروى الدكتور إيفان أن هذا الألم كان يحس به نابوليون منذ سنة 1796، وكان يعالجه بالماء الساخن، فإذا لم يجد مغطسا أمامه أنزل في برميل، والمظنون أن هذا الألم ناتج عن التهاب في عنق المثانة أو عن حصوة كلوية، وقد ذهب بعضهم إلى أن نابوليون وهو في سنت هيلانة اعترف في إحدى نوبه بأصل الداء، وأن الأطباء نسبوه يومئذ إلى جهل الشبيبة على أنه كان متزوجا وعلى ثقة من نفسه.
Shafi da ba'a sani ba