وبعض الأمم التي تتسامح مع الرجل تتسامح مع المرأة أيضا كما ترى في بعض أمم أوروبا وأميركا الآن، وقد لا يختص الرجل بالتسامح دون المرأة، إلا في الأمم التي ابتدأت في التمدن ولا تزال تستهين بالمرأة وتستضعفها، والتي يغلب فيها أن تكون قيمة الرجل في ماله ونفوذه لا في سمو آدابه، وعندي أن أصح دليل على رقي الأمة الأدبي هو محاسبة الرجل على آدابه كمحاسبة المرأة، وتجافي الجماعة له عند إتيانه أي موبقة، وإلا فلا بدع أن يجرأ الرجل على إغواء المرأة، وهو آمن عواقب الحساب. (4)
حسب أحد الناقدين المتحذلقين أن الرجل الذي خان إيفون قد عوقب على خيانته لها بخيانة زوجته له بعدئذ، وعد هذا العقاب إنصافا لإيفون، وكأن الذي يحسب هذا الحساب يسوغ لزوجة الخائن أن تخون زوجها، ولا يخفى ما في هذا التسويغ من الخطل والخطر، ناهيك عما فيه من التناقض؛ لأنه وهو يذنب امرأة بذنب يبرر نفس الذنب لأخرى.
والصواب أن خيانة زوجة ذلك الخائن إثم تستنكره الهيئة الاجتماعية استنكارها لإثم إيفون، ولا يعد قط عقابا لذلك الرجل الذي أثم مع إيفون وخانها، وإنما العقاب الحقيقي هو أن تنبذ الهيئة الاجتماعية ذلك الرجل، كما نبذت إيفون لا أن تسامحه، وتأذن له أن ينال فتاة أخرى صالحة وهو أثيم، هذا ما تطالب به إيفون الهيئة الاجتماعية.
توبة ولا مغفرة (1)
أكثر الناقدين لوموا إيفون على جنوحها إلى البطالة والفساد، بعد تمسكها بالعفاف والطهارة برهة طويلة في مقرها الأول، واحتمالها مشقات العمل لعهد تنكرها آملة أن يتناسى الناس زلتها، ويغتفروها لها وتسترد منزلتها المعتبرة في الهيئة الاجتماعية، لوموها على ذلك؛ لأنهم يريدون منها أن تبقى تائبة متعففة حتى الممات، وإن كان الناس لا يقبلون توبتها، ولا يغتفرون لها إثمها بل يستمرون على مجافاتها، واحتقارها في حين اغتفارهم نفس الإثم لمن خان عهده لها وأغواها، فكأنهم يريدون منها أن تكون يسوع المسيح، ويريدون مع ذلك أن يصلبوها.
ولا أفهم لماذا يجب على إيفون أن تفعل ذلك؛ ألكي يسامحها الناس؟ لقد فعلت ذلك برهة فما سامحوها. ألكي يغفر لها الله؟ فما شأنهم؟ ولماذا يدينونها هم؟ أتفعل كذلك تحاميا للمزيد من رذل الناس لها؟ لم يبق عندهم من مزيد، فماذا تخاف بعد؟
إن إيفون لم تستسلم إلى شهواتها عن فاقة وحاجة إلى سد الرمق وإنما استسلمت؛ لأنها لم تجد لعفافها قيمة، فقالت: «أنا الغريقة فما خوفي من البلل»؛ بل فعلت لأنهم لم يساووها بمن أغواها، إذن الناس دفعوها إلى حمأة الفساد بإصرارهم على رذلها، وتسامحهم مع من أغواها.
والظاهر أن هؤلاء الناقدين يبتغون أن يكون المراد من رواية «حواء الجديدة» تصور الكمال في المرأة، وهو غير المقصود الذي ألمعت إليه في المقدمة، وهو تصوير ما هو واقع لا ما يجب أن يكون، إن مثيلات إيفون اللواتي دفعهن إلى مهاوي الفساد إصرار الناس على خزيهن كثيرات، ويستحيل على إيفون ومثيلاتها أن يثبتن على توبتهن إذا ثبت الناس على رذلهن.
وفانتين «البؤساء» التي باعت شعرها وأضراسها؛ لكي تعول ابنتها ليس لها، ولا لأمثالها وجود إلا في مخيلة هوغو، وجميع أشخاص البؤساء من هذا القبيل، والغرض من البؤساء تصوير الكمال غير الموجود لا الخلل الحادث الذي هو المقصود من حواء. (2)
زعم بعضهم أن التسامح مع الفتاة في الزلة الأولى يسهل السبيل للزلة الثانية، ويجرئ أترابها على ارتكاب إثمها، زعم وجيه، ولكن لماذا نجعل الفتاة الزالة وحدها عبرة لأترابها، ولا نجعل الذي أزلها وأفسدها عبرة لأقرانه أيضا حتى يكف الرجال عن إغواء النساء.
Shafi da ba'a sani ba