وأرسلت النقود والرسالة كما كتبت.
وفي يوم التالي وافت أمي إلي، وقالت: لماذا فعلت هكذا يا ابنتي؟ إنك سخيفة العقل أتردين عطية أخيك؟ ليس متصدقا عليك، إنما هو يفعل الواجب عليه.
وبختني كثيرا على هذه الأنفة وقبلتني مرارا وأرغمتني على قبول النقود، وكانت كل مدة بعد أخرى تزورني، وأحيانا تدفع لي نقودا فكنت أعيش بها عيشة بسيطة.
اقتنيت آلة للخياطة وكنت ألتمس من خياطة مجاورة لي أن تعطيني بعض قطع قطنية، فأخيطها بأجرة زهيدة حين تكون طفلتي نائمة، أو على يدي خادمتي، على أن الخياطة لم تتكل علي أن أخيط القطع الحريرية وغيرها مما هو ثمين؛ لأني لم أكن أحسن الخياطة جيدا.
وبعد بضعة أشهر قالت لي أمي إذ كانت زائرتي - ولم يحو بيتي زائرة سواها: إن أخاك راحل إلى باريس؛ لكي يطلب عروسا ولعله يقيم هناك، والآن صار يمكنك أن تفطمي ابنتك وتطرحيها عن يديك، وتتفرغي لشغلك، فدعيني آخذها معنا فنربيها ونعدها لمستقبل حسن؛ لأنها إن بقيت عندك ظلت غلا ليديك، وكان مستقبلها مظلما وتعسا بلا إثم منها ولا حرج.
فشق علي جدا أن أفارق ابنتي؛ لأنها كانت تعزيتي الوحيدة، ولكني عدت إلى عقلي وتأملت الأمر جيدا، فرأيت أن من الحكمة أن أطاوع أمي وأقاوم قلبي فأفك يدي من أغلال تلك الطفلة، وأتفرغ للعمل لكي أعد لنفسي مستقبلا حسنا وأجدد حياة شريفة، سرني هذا الفكر بقدر ما آلمني تصور فراق ابنتي، وأخيرا قلت: «من لي مثل أمي مربية لطفلتي؟ وماذا لي مثل بيت أخي منزل لها؟» فقبلتها مرارا بدموع غزيرة وسلمتها لأمي وقلبي يتقطع.
آه يا موريس، ندمت جدا على تسليم ابنتي فلذة كبدي؛ لأنه بعد برهة ورد إلي كتاب من أمي تنعيها إلي وتعزيني بها؛ فلطمت خدي وقرعت أسناني ندما على تركها؛ لأني تصورت أنها ماتت من جراء الإهمال، وأنها لو بقيت معي لظلت حية، وكانت تعزية عظمى لي وحارسا على حياتي الأدبية، ولكن الشقاء كالمال يجر بعضه بعضا حسب قول المسيح: «من له يعطى ويزاد»، فأنا كان لي الشقاء فأعطيت منه وزيد لي.
كتبت كثيرا اليوم وأنا أشعر بلذة فائقة في كتابة هذه الرسالة، الآن تعبت وقارب المساء وصرت أتوقع قدوم زائرين، وأهيئ نفسي لتحمل فظاظة البعض منهم؛ لأنهم سافلو المبادئ، بعض زائري حانتي لطفاء أشعر أنهم يجلونني، فهؤلاء أحادثهم بمواضيع اجتماعية وأصرف نظرهم عن الغايات السافلة، مع ذلك أشعر بسآمة من هذا العمل الشاق على النفس، أحب أن أعدل عنه؛ لأني لا أقدر أن أكسب منه كسواي، ولكن كيف أسترزق؟
الفصل الثالث عشر
الولادة الثانية
Shafi da ba'a sani ba