اجتهدت أن أرد نظري عن مقصورتها مدة الفصل الثالث حرصا على عزة نفسي وتجاهلا لمعرفتها، لماذا؟ لا أدري، ولما انتهى الفصل خرجت إلى رحبة الملعب الخارجية أنتظر أوغستو، لم يأت إلا بعد دقيقة تراءت لي ربع ساعة فسألته: ماذا قالت؟
فضحك قائلا: «مرحبا به.» - ماذا قلت لها؟ - «أود أن أقدم لك أحد أصدقائي، وهو شاب ظريف مهذب يدعى المسيو موريس كاسيه.» - هل دللتها علي؟ - لم تسألني ذلك. - إني لممتن لك جدا يا مسيو سلا.
صعدنا في الدرج المؤدي إلى رواق المقاصير، وأنا أكاد أتعثر بالدرجات، وأتوهم أن الأرض مرنة جدا تحت قدمي فلم أعلم كيف أمشي، ولما دخلنا شعرت أن لهيبا يتوهج من وجهي، فاستقبلتني إيفون بابتسامة كانت نسمة حياة لقلبي ، لا أنسى تلك الابتسامة السماوية ولكني لاحظت أنها بوغتت بمقابلتي، كأنها لم تكن تنتظر أن أكون أنا المقدم لها، قدمني أوغستو لها فمدت إلي يدها مصافحة، ثم قعدت على الكرسي المقابل لها، شعرت حينئذ أني لدى ملكة جليلة، وما أمهلتني أن أخاطبها بموضوع الرواية حسب عادة المتخاطبين في مثل ذلك المقام فبادأتني سائلة: أظن حضرتك الذي رأيته في حانة الجيزة منذ مدة. - ربما.
وحينئذ اتضح لون الحياء في وجهي فتفرست في وقالت: لا أظنني غلطانة، أما أنت الذي أنب يومئذ ذلك البذيء لمضاحكته أولئك السكارى؟ - أتأسف لما حصل يا سيدتي. - إني أشكر مروءتك جدا يا مسيو كاسيه، وأعترف أني قصرت عن أداء الشكر لك إذ لم يتسن لي في حينه.
فقال أوغستو: ما المسألة؟
فراوغت من سبيل سؤاله قائلا: ليس الأمر ذا أهمية. كيف رأيت الرواية يا مدموازيل مونار؟ - استحسنتها جدا؛ لأنها كلها عواطف، كدت أبكي في هذا الفصل، فابتسمت قائلا: إذن تميلين إلى الروايات الإحساسية. - جدا، وأنت؟ - لا أقرأ سواها تقريبا. - تفعل حسنا؛ لأن الروايات التي اقتصر فيها على ذكر الحيل والدسائس تعجب القارئ إعجابا فقط لأنها تدل على قدرة واضعها في اختلاق حوادثها الغريبة، ولكنها لا تفيده فائدة أدبية، وأما الروايات الإحساسية فتؤثر على نفسه التأثير المقصود منها، فإن كان مغزاها أدبيا مفيدا هذبت خلقه ودمثت طبعه، وأنا أشعر أن أخلاقي ربيبة الروايات. - ولكن مزاجك يا سيدتي لا توافقه مطالعة الروايات الإحساسية؛ لأن حوادثها المؤثرة تفعل في نفسك ما يؤثر على صحتك أحيانا.
فنظرت إلي نظرة حادة كأنها لم تعهد قبلا مثل هذا الإحساس نحوها من أحد معارفها وقالت: نعم أعلم ذلك، ولكني أشعر بلذة فائقة حتى حين أبكي متأثرة.
وعند ذلك التفتت إلى جهات الملعب وتناولت منظارها، وقدمته لي باسمة فتقبلته شاكرا، ونظرت فيه نظرة قصيرة ورددته إليها، أما هي فكانت ناظرة إلى صحن الملعب من غير اكتراث، أجلت نظري في المقاصير المقابلة لمقصورتها، فوجدت بضعة عشر منظارا متجهة إلينا، ولاحظت بعد ذلك أنه ما من منظار في الملعب إلا صوب إليها مرارا، أما هي فندر أنها نظرت في منظارها، بقينا بعد ذلك هنيهة ساكتين فاغتنمت فرصة استرسال نظرها في فضاء الملعب، وتأملت ذلك الجمال السماوي.
لو اجتمع مهرة المصورين وصانعي التماثيل، وأفرغوا كل جهدهم في أن يجمعوا في تمثال واحد صفوة المحاسن، وخلاصة الجمال نقلا عن مخيلاتهم لكان ما يصطنعونه تمثال إيفون بعينه.
هيكل متناسب الأعضاء كأنه صب في قالب مصوغ من الأذواق السليمة، لم أقدر حينئذ أن أتمثل قامتها؛ لأنها كانت جالسة، على أني ذكرت إذ رأيتها في الجيزة أنها أميل إلى الطول بالنسبة إلى جسمها، ولكنها معتدلة بالنسبة إلى سائر النساء؛ ذلك لأنها كانت أرق جسما من معدل الأجسام النسائية، ومع رقة جسمها لم تتراء لي نحيلة فكان وجهها ممتلئا، ونظرت إلى كفها العارية من القفاز (الجوانتي) فوجدتها مكسوة السطوح كالبطحاء لا منخفضات فيها ولا مرتفعات، وأناملها مستطيلة قليلا تكاد تظهر منتفخة عند عقدها الأولى، وهذا من دلائل عصبية مزاجها، وأظافرها لا تتميز عن اللؤلؤ النقي الشفاف إلا بكونها ضاربة إلى الحمرة الوردية قليلا.
Shafi da ba'a sani ba