ونحن هنا إزاء رجل نجح في الأدب وأخرج الكتب العظيمة، ولكنه قبل أن يخرج كتابا من مطبعة أخرج لنا حياته التي نجح في تأليفها، وحياته هذه هي خير مؤلفاته، وهي التي تلهمنا أكثر من أي كتاب من كتبه، ولكن ما هو الحافز في هذه الحياة؟ •••
أعتقد أن أعظم نعمة أنعمت بها الأقدار على مكسيم جوركي أنه منذ بداية شبابه، كما يخبرنا هو عن ذلك في ترجمة حياته، عرف المذهب الاشتراكي، وكان هذا المذهب جديرا بأن يلصق بقلبه أكثر مما يلصق بقلب أي إنسان آخر؛ لأنه رأى بعينيه، واختبر بأسلوب عيشه في الفقر والتشريد والصعلكة، أكثر مما كان يرى ويختبر غيره، فكان للاشتراكية الوقع العميق في نفسه، وهذا الوقع هو الذي نقله من الواقعية إلى الرومانسية.
لقد اكتسب الواقعية مما رأى واختبر، فصار ينقل إلينا في أدبه صورا من الفقر والحرمان، وما يجران على الفقير المحروم من الانهيار النفسي والتفكك الأخلاقي في بعض الأحيان، كما يبعثان في أحيان أخرى قوة جديدة للتغلب والسيطرة على الوسط. ولكن هذه الواقعية التي اكتسبها من واقع حياته الأولى استحالت عنده بالمذهب الاشتراكي إلى رومانسية علمية، فصار يرسم لنا الأهداف الجديدة للارتقاء الشخصي، وأيضا للارتقاء الشعبي عن طريق العلم الذي خدم الإنسان، ويسخر الطبيعة ويغيرها لتوفير الرفاهية للجميع.
إن بعض الناس يؤمنون بالاشتراكية لأنها عدل ورحمة، ولكن المفكر العلمي يؤمن بها لأنها علم تتفتح لنا أبوابه في النظام الاشتراكي فقط حين تنطلق الطاقات لجميع أبناء الشعب للإنتاج والاختراع والاكتشاف والثراء والرخاء، وهذه هي اشتراكية جوركي، وهذا الأمل في تحقيقها هو الذي يجعله يحلم بالسعادة، ويعود رومانسيا يرسم لنا ما سوف نستمتع به بعد تعميم هذا النظام للعالم. •••
قبل ثورة عام 1905 الفاشلة كان جوركي يؤلف القصص القصيرة التي يعالج فيها أعماق الفقر والبؤس ويبعث فيها بخمائر الثورة، وكان موقفه الاجتماعي من مؤلفاته الفنية هو أن الفقر ساحق عام، ولكننا نستطيع أن نلغيه بالعلم والاشتراكية، وأن الفقير زري في معظم أحواله؛ لأنه يحيا في وسط سيء يحمله على الإجرام والرذيلة، بل يحمله على أن يفر من الجوع والبؤس بالخمر. ثم رأى بعد الثورة الفاشلة في عام 1905 أن هنا يأسا عاما، وأن السلطات الروسية قد استأنفت قسوتها ووحشيتها، فألف «الأم». ومغزى هذه القصة أن الثائرين يجب ألا ييأسوا، وهو يشرح، كأنه الدليل المرشد، كيف يجب أن يستعد المتآمرون، وكيف يعرفون الخائن فيتقونه، وكيف يحذرون الجواسيس. وقصة «الأم» من هذه الجهة ليست قصة فقط؛ إذ هي قبل كل شيء دليل يوضح أساليب الثورة، وهذا هو المغزى العام منها.
ولكن هناك مغزى آخر يمكن أن نسميه المغزى الشخصي من الثورة، هو أن العامل الفقير، عندما ييأس يفسد، ويهرب من الحياة بالخمر والرذيلة، ولكنه عندما ينهض، ويحس أنه رجل له آمال في الارتقاء العام وتغيير النظم الاستبدادية، عند ذلك يعمد إلى نفسه هو فيرقي شخصيته، ويغير أخلاقه، فيشرع في التعلم، أو ما نسميه التثقيف الذاتي، فما هو أن تمضي عليه سنوات قليلة حتى يكون قد انتقل من العامية المهنية إلى الثقافة العالية، وخاصة إذا كانت هذه الثورة التي ينشدها هي النظام الاشتراكي. •••
كما أن هناك «عقدا» أو «مركبات» في الأخلاق تعين لنا سلوكنا وأهدافنا، كذلك نحن في دراستنا وثقافتنا نجد أننا في أسر هذه العقد أو المركبات الذهنية النفسية التي تكسبنا الحوافز، وتبعث فينا النشاط للدرس، وتفتأ تملؤنا اهتمامات تكاد تكون هموما مؤلمة، لا نرتاح إلا بعد أن نحلها وننفرج من أسرها. وهنا كلمة عن شخصي أنا من حيث اختباراتي للشهوة الثقافية والإرشاد للعلوم والآداب، فقد وجدت عقدتين في حياتي كان لهما كل الأثر في توجيه أبحاثي ودراساتي.
العقدة الأولى: هي نظرية التطور التي طرأت علي، ولما أبلغ السابعة عشرة من عمري، وكانت مجلة المقتطف تسميها نظرية النشوء والارتقاء، وما هو أن عثرت عليها حتى وجدتني في عاصفة من التفكير والتردد. هذه النظرية، هذه العقدة، جعلتني أبحث الأديان، وأدرس البيولوجيا - أي علم الحياة - وأقتني عشرات بل مئات الكتب عن الإنسان البدائي ونشأة الحضارات، وأسلوب الحياة عند المتوحشين في أيامنا، وثورة العلم على التقاليد في النهضة الأوروبية، ومعاني التطور الاجتماعي، وتاريخ الأرض، وأصل الكون، ومستقبل الإنسان، وأخيرا السيكلوجية - أي علم النفس. كل هذه الدراسات كانت ولا تزال عندي، تعود إلى العقدة الأولى التي غرستها في نفسي نظرية التطور. والمهم الذي يجب أن أذكره أني ما زلت في أسر هذه العقدة، وأن استطلاعاتي الجديدة للثقافة تعود إلى جذورها الأولى حين كانت سني 17 سنة، وهي الأصل في اتجاهاتي العلمية.
والعقدة الثانية: هي الاشتراكية التي طرأت علي وأنا حوالي العشرين في لندن حين التحقت عضوا بالجمعية الفابية؛ فقد حفزني هذا المذهب على بحوث واستطلاعات اجتماعية جديدة.
ما هي علة الفقر؟
Shafi da ba'a sani ba