ويستقر في ذهن تولستوي أنه قد فشل في حياته، فلا هو استطاع أن يوزع الأرض على فلاحيه، ولا هو استطاع أن يؤمن بالإيمان الساذج الذي كان ينشده بإحساسه، ولا هو قادر على أن يعيش العيش الساذج الذي قال به ودعا إليه، بل إن نفسه لتهفو حتى وهو في هذا النسك إلى أن يؤلف قصة غرامية، وأنه مع دعواه بأن التناسل هو الغاية المفردة من التعارف الجنسي ليتقدم في ذل إلى زوجته.
والدنيا حوله في آلام، فقر وجوع ودنس وظلم، أجل، ليس له الحق في أن ينعم بطعام طيب أو فراش دافئ، وهو يحس أنه قد اقترب من الليل الطويل والنوم الأخير، وأنه يجب أن يتنكر الإنكار العظيم لحياته الماضية، وأن يفر من الدنيا إلى ... إلى الله، وكيف يفر إلى الله هذا الشيخ الذي بلغ الثانية والثمانين؟
في الساعة السادسة من صباح يوم 28 أكتوبر من عام 1910 تأتي إليه عربته التي ينتظرها بميعاد، ويحرص الحوذي على الصمت والسكون حتى لا يستيقظ أحد آخر، ثم تسير به العربة إلى محطة السكة الحديدة، فينزل ويجد صديقه الطبيب في انتظاره، ويأتي القطار فيركبان في إحدى عربات الدرجة الثالثة، وينزل كلاهما في إحدى المحطات، ويسيران إلى دير حيث تستقبلهما الراهبات، ولكن لا تمضي أيام حتى تعرف ابنة تولستوي - وهي فتاة في السادسة والعشرين - مكانه، فتذهب إليه وتدخل الدير وتقف إلى جنب والدها، ولكنه هو يحس من هذه الزيارة أن الدنيا قد شرعت تجره إليها بعد أن تركها، فهو يستيقظ في الرابعة من الصباح، والثلوج تكسو روسيا بأجمعها، فيفر مرة أخرى مع ابنته والطبيب.
ويحس قشعريرة تلجئه إلى أن يرتاح في غرفة بإحدى محطات السكك الحديدية، وبعد أيام بين يدي ابنته، يموت ... يموت موتا عظيما بعد أن عاش حياة عظيمة، لقد ألف تولستوي عشرات القصص الجميلة، ولكن قصة حياته أجمل بل أخلد، إنها كانت جهادا شاقا وأخطاء متوالية في سبيل الحق والشرف، ونحن أعجز من أن ننهج هذا النهج في الحياة، ولكن هذا العجز يزيدنا حبا له. وحياته هي رؤيا دائمة، هي دعوة إلى أن نتحرى الحق ونجرب التجارب في العيش، فننفض العادات، والتقاليد، والعرف، إذا لم نجد أنها تلائم العيش المثمر البار.
وتجارب العيش هي في النهاية أثمن ما يطلبه من المؤلف أو المفكر، ونحن ننتفع ونسترشد بحياة المؤلف كما ننتفع بمؤلفاته، بل ربما أكثر؛ لأن حياة المؤلف هي نهج جديد للبشر.
وكثيرا ما أقارن بين حياة فولتير ومؤلفاته، فأجد أن كفاحه الشخصي للتعصب الديني قد ربى أوروبا وعلمها معاني جديدة لشرف الفكر، رباها وعلمها بأكثر مما ربتها وعلمتها مؤلفاته، وكذلك الشأن في حياة غاندي أو شفيتزر؛ ذلك لأننا لسنا واثقين بأننا نعيش في حضارتنا الراهنة الحياة الفضلى على المستوى الأرحب، ومن الحسن أن نصدم من وقت لآخر بمن يوضحون لنا الخطأ والخطل في عيشنا الحاضر، أو على الأقل يغرسون الشك في نفوسنا حتى لا نسرف في عاداتنا الاجتماعية المورثة ونتقيد بها كما لو كانت شعائر دينية، فمجتمعنا الذي نعيش فيه مثلا هو مجتمع اقتنائي يعلمنا كيف نقتني، ويغرس في نفوسنا عواطف الكسب والجمع والغيرة والحسد، وكثيرا ما نسير إلى أقصى حد مع هذه العواطف فنقع في هموم هي سموم تأكل في نفوسنا وأجسامنا معا، ونشقى بما نقتني.
وقد رفض غاندي أن يعيش وفق المبادئ التي يدعو إليها هذا المجتمع، فقنع من الدنيا بشملة وعنزة، وعاش سعيدا إلى سن الثمانين تقريبا، ولعله كان يعيش أكثر لو لم يقتل، وكانت له مبادئ في الخير والبر والإخاء والحب هي ثمرة هذا العيش الساذج، أو على الأقل كانت بعض ثمرته؛ لأننا يجب ألا ننسى أن أسلوب عيشنا «يكيف» أفكارنا ويعين أخلاقنا إلى حد بعيد، وأسلوب الاقتناء في العيش يبعث الطمع والحسد، وأسلوب القناعة في العيش يبعث الطمأنينة. •••
وإني أذكر هنا رجلا جرب تجربة في العيش كانت إلهاما لغاندي هو هنري ثورو الكاتب الأمريكي، الذي كسب غاندي عنه أسلوب العيش، كما أخذ عنه شعار الثورة الهندية على الإمبراطورية البريطانية، وهو «العصيان المدني». وقد كان هنري ثورو يقصد من هذه العبارة إلى أننا نكون أحرارا بحيث لا يربطنا المجتمع بعاداته وأهدافه وأساليبه وقيمه؛ لأن لكل منا حق الاستقلال في تنظيم عيشه وفق مبادئه الشخصية، حتى حين يخالف العرف المألوف، وقد خرج غاندي هذه العبارة تخريجا آخر هو أن الهنود يجب ألا يتعاونوا مع الإنجليز.
ولد ثورو في عام 1817 ومات في سنة 1862، وقد ألف كثيرا، ولكن ميزته أنه أدخل الطبيعة في الأدب الأمريكي، وأثار الوجدان لجمال الريف والغابة والطير والوحش، وكان الروح التجاري والاقتنائي في أيامه على أشده في الولايات المتحدة، فعمد هو إلى صده، وترك المدينة وأقام في الغابة، وكتابه «والدين» هو أثره العظيم الذي يذكر لنا فيه تجاربه وإحساساته عن هذه الحياة الفطرية التي عاشها.
وهو يقول عن تجربته هذه: «لقد أردت أن أعيش عن قصد، وأن أجابه حقا عمق الحياة الأصلية فقط؛ كي أعرف ما يمكن أن تعلمني هذه الحياة، حتى إذا قاربت الموت أكون واثقا بأني قد عشت ، ولم أكن أرغب في أن أحيا بما لم يكن أصيلا في الحياة؛ لأن الحياة غالية، كما أني لم أكن أقصد إلى الاعتكاف ما لم يكن هذا ضروريا، إنما أردت أن أعيش في عمق وأن أمتص مخ الحياة، وأن أحيا في قوة حياة إسبرطية تبعد عني ما ليس من الحياة، وأن أدفع الحياة إلى مأزق، وأن أصل منها إلى أن أدون ما فيها، فإذا كانت خسيسة فإني سوف أعلن خستها للعالم، وإذا كانت سامية فإني أريد أن أعرف هذا السمو وأجربه وأقدم عنه حسابا.»
Shafi da ba'a sani ba