فقالت نائلة: شر وأي شر؛ إنك يا مولانا جمعت أشتات الفرقة بقرطبة، واستأصلت الفتنة، وكنت في كل ما تأتي وتذر حكيما حازما فدعيت بحق أبا الحزم. ثم إنك لم تقبض على زمام الحكم راغبا في جاه أو مال أو علو منزلة، فإن لك من كريم محتدك، وجلال أبوتك ما يغني عن الجاه والمناصب، ولكنك رأيت ملكا يترنح، وعزا يريد أن ينقض، فوثبت لإغاثته كريما مخلصا صبورا على اللأواء، واخترت من الرجال من تعتز بهم الدولة، وتفخر بهم الأمة، ولم تستخلصهم لنفسك إلا بعد طول التجربة ودقة الاختبار، ولكنك يا سيدي تركت هؤلاء الوزراء المخلصين لك، الدائبين على خدمتك عرضة للوشاة وغرضا للحساد، وزدت فساعدتهم عليهم بأذنيك، ومكنتهم منهم بتصديق ما يأفكون. إن ابن زيدون يا سيدي الذي قبضت عليه بالأمس وألقيته في غيابة السجن جمال دولتك، وسياج حوزتك، وسيفك الذي تدفع به الأعداء، ورأيك الذي تقارع به الآراء، ولو أنه كان وزيرا بالمشرق لضربت به الأمثال، ولشدت إليه الرحال، ولكن الأندلس تدفن كنوزها، وتحطم بأيديها سيوفها. ثم من هذا النذل الفسل الدنيء الذي دفعك إلى ما عملت؟ ألم تملأ قصائده فيك أرجاء الأندلس؟ ألم يرحل في سفارتك إلى الأمراء فيرفع من قدر ملكك، ويشيد بسداد رأيك، ويملأ قلوب الأمراء رعبا من قوتك، ألم يبذل لك النصح أمينا، والولاء مخلصا؟ عار وأي عار أن يشيع بين الولايات أن أبا الحزم ابن جهور آخذ أعظم وزرائه وخير رجاله بسعاية كذاب أثيم - عار وأي عار أن يكون حديث البيوت والمجالس والسوامر أن أبا الحزم بن جهور يؤذي أوفى الناس له، ويقطع اليد التي لم تخلق إلا للذياد عن ملكه!
ثم سكتت قليلا بعد أن نال منها الجهد وانبرت ولادة تقول: إن ابن زيدون يا سيدي خطيبي وشقيق نفسي، فإذا بدرت منه هفوة كما يزعم الزاعمون فخذني به لأننا روح في بدنين، وما يصدر عنه فعني صدر، وما يتحرك لسانه به جهرا، فإنما هو حديث نفسي سرا. إنني يا مولاي بعد تقلص ظل الخلافة عن أهلي وقومي، لم أحزن ولم أبتئس، لأني رأيت فيك خير من يقوم بأعبائها، ويرفع من ألويتها. وعلم الله لو رأيت فيك نقصا، أو علمت ضعفا، لحملت راية الأموية، ولدعوت الناس لمبايعة ابن المرتضى، ولأعدت الفتنة جذعة ماحقة تأكل الرطب واليابس، ولكنك يا مولاي جئت فقومت المعوج، وأقمت المائل، ووطدت أركان الدولة، ورفعت ذكر قرطبة في الخافقين، ونشرت العدل بين الرعية، فجزاك الله خير ما يجزي به عباده العاملين. ولن أكتمك يا مولاي أني لم أعجب بابن زيدون، ولم أمنحه حبي وصداقتي، إلا لأنه من المخلصين في محبتك، المشيدين بفضلك، المداحين لمناقبك. وأقسم أني لو علمت فيه شرا لكنت أول من يكشف لك أمره ويفضح لديك سره. إنها سعاية يا مولاي، سعاية خبيثة من بعض المنافسين له والحاقدين عليه.
فتململ ابن جهور وقال: أية سعاية يا فتاة؟ إنني سمعته بأذني !
ووقفت نائلة تقول: أين سمعته يا مولاي؟ - بدار ابن المكري. - ومن الذي حملك على الذهاب إليها؟ - هذا سر الدولة يا نائلة. فغمغمت تقول بما لا يسمع: إنها عائشة بنت غالب. ويل للخائنة! لقد سبقتني هذه المرة، وستكون الحرب بيني وبينها مشتعلة الأوار. ثم اتجهت إليه تقول: قد يكون مما دفعه إلى القول بأن ابن المرتضى في داره شدة حبه لولادة حينما أدخل عليه أعداؤه أنك قبضت عليها ووكلت إلى عبيدك تعذيبها.
فصرخت ولادة والدموع تتناثر من عينيها: أحضره يا سيدي واسأله عما قصد إليه من هذا الاعتراف الكاذب، فلعل له حجة يدلي بها، وقد يكون مخطئا ولو أرشد إلى الحق لعاد إليه أقوى تمسكا به، وأشد صلابة في النفخ دونه، إن الدولة يا سيدي أحوج إلى أمثال ابن زيدون من الجيش والسلاح، وليس من الهين على كل قرطبي أن يراه ملقى في السجن دون أن يسأل عما فعل. إنه ملك الأمة، فمن حق أبناء الأمة أن يسألوا عما يبيت لبطلهم من المكايد.
فصرخ ابن جهور قائلا: هذا تهديد يا فتاة! فقالت نائلة: إنه ليس بتهديد ولكنه الحق الصراح الذي لا مواربة فيه. وهب ابن زيدون مخطئا، أليس في ساحة عفوك، ما يتسع للصفح عنه؟ وقديما قال المتنبي:
ترفق أيها المولى عليهم
فإن الرفق بالجاني عتاب
ويقول:
وما قتل الأحرار كالعفو عنهم
Shafi da ba'a sani ba