فأسرعت ولادة تقول: وهل صدقت شيئا من هذا يا نائلة؟ فغمزت العجوز بإحدى عينيها وقالت: صدقت أو لم أصدق. إنها هدنة على أية حال. - ولا هدنة! - وأي ضرر في أن نتغابى ونأخذ الحذر؟ - من أخبر هذه الرقطاء أن أبا الوليد قال قصيدة في مدح صاحب بطليوس؟ ومن الذي نقل إليها هذه القصيدة؟ - الجواسيس! الجواسيس! إنهم أكثر من ذباب قرطبة. ثم اتجهت إلى ولادة كأنها تذكرت شيئا وقالت فيما يشبه العتاب: ماذا فعلتم بابن عبدوس يا ابنة المستكفي؟
فظهر الضجر على وجه ولادة وقالت: اسمعي يا نائلة ما رواه القصاصون، فقد قالوا: إن الجبال يوم خلقت اشتكت من ثقلها وصلادة صخورها، ولكنها هدأت حينما علمت أن الله خلق من هو أثقل منها. وقالوا: إن الأفاعي باهت يوما بسمومها فقيل لها: أطرقي؛ فإن الله خلق من هو أوحى منك سما. أتعرفين يا خالتي من ذلك الذي هو أثقل من الجبال وأفتك سما من الأفاعي؟ هو ابن عبدوس. لقد كدت أفارق قرطبة لأجله، جاء بثقله ودمامته وخبثه يرمي نفسه علي رميا، ويلزمني حبه إلزاما، فلم أجد محيصا إلا أن أرسل إليه رسالة باسمي بل صفعات متتابعة يدمى لها قذاله
3
العريض وأرسل إليه أبو الوليد أبياتا ستقض مضجعه، وتؤرق وساده. - جاءني بالأمس يشتكي من الرسالة والأبيات، ويرجوني أن أصلح ما فسد بينه وبين ابن زيدون، لأنه يغالي بصداقته، ويحرص على مودته، ثم ألح في أن أكون وسيلته إليك على أن يقنع منك بالحديث والمجاملة، وأن يرضى منك بقبوله في ندوتك صديقا مخلصا. - خير لي وله أن يبتعد عن ندوتي يا نائلة. - ألا ترين في الأمر شيئا يدعو إلى التوجس والقلق؟ فإنه ليس من محض المصادفة في رأيي أن تأتي عائشة ثم يليها ابن عبدوس فيعلنا في أسلوب يكاد يكون واحدا حبهما لابن زيدون، ووفاءهما له، إني أكاد أرى وراء الأكمة شيئا. وعلى أبي الوليد أن يحذر وعلى كل أصحابه أن يحذروا ويتربصوا. فظهر الذعر على وجه ولادة وقالت: ماذا نصنع يا خالتي؟ - نحذر ونتربص!
وكأن الخوف أعجل قيامها فقالت وهي تتحفز له: إنني أحذره دائما، ولكنه لا يأبه ولا يبالي، وهو لك أطوع، ولكلمتك أسمع، فهولي له الأمر يا حبيبتي، لعله يرعوي.
4
ثم أسرعت إلى الباب مرتجفة الأوصال.
وفي مساء هذا اليوم كان يجتمع في دار عائشة مربع له أربعة رءوس، لو أراد إبليس وكان أبرع خلق الله في علم الهندسة أن يؤلف مثله مربعا للؤم والدهاء والمكيدة والخسة ما استطاع - اجتمع أبو عامر ابن عبدوس، وابن القلاس، وابن المكري وعائشة وأغلقوا الباب دونهم، واتجهت عائشة نحو ابن المكري تقول: عجيب أن نراك بيننا اليوم يا أبا يزيد، وأنت تعرف. والناس يعرفون أنك أقرب الناس إلى ابن زيدون! وأحرصهم على صداقته، فإذا حدثتك نفسك يا سيدي بأن تلعب على حبلين، وأن تشهد طعام معاوية وتصلي خلف علي، فإنا لسنا من الغفلة بحيث تخفي علينا هذه الأخاديع، أو تلتبس علينا وجوه الحق من وراءها.
فأسرع ابن عبدوس يقول: على رسلك يا عائشة! فإن ابن المكري من أشد أعداء ابن زيدون وأحقدهم عليه، وأبعدهم له كيدا، ولكنه بارع في الرياء، عبقري في ألا يظهر فوق وجهه شعاع من قلبه، يعانق عدوه ويقبله في الصباح، ليطعن أحشاءه آمنا مطمئنا في المساء، أنت لا تعرفينه يا عائشة. إنه داهية الدواهي، وباقعة البواقع.
فابتسمت عائشة فيما يشبه السخرية وقالت: ومن يدريني - بعد أن وصفت الرجل بما وصفت - أنه اليوم صادق أمين؟ ألا يجوز أنه الآن يلبس غير ثوبه، ويقتعد غير سرجه، ويدلس علينا كما يدلس على كل مخلوق؟
Shafi da ba'a sani ba