Hashiyat Ibn Hajar Al-Haytami on Al-Idah in Hajj Rituals
حاشية ابن حجر الهيتمي على الإيضاح في مناسك الحج
Mai Buga Littafi
المكتبة السلفية ودار الحديث
Inda aka buga
بيروت
Nau'ikan
حَاشِيَة العَلامَة ابن حجر الهيتمي
على شرح الإيضاح في مناسك الحج
للإمام النووي
توزيع المكتبة السلفية
1
حَاشِيَة العَلَّامَة ابن حجر الهيتمي
على شرح الإيضاح في مَناسِك الحج
للإمَامِ النَّوَوِي
دار الحديث
للطباعة والنشر والتوزيع
بيروت - لبنان
ص ب ١١/٦٠٨٩
2
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ذى الجلال والإكرام والفضل والطول والمنن العظام الذى
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي عظم شعائر بيته الحرام بما أوجبه على الكافة من إحياء معالمه بالزيارة إليها في كل عام وجعله محل تنزلات رحماته الجسام ومنبع الخلوص لمن أمه من الجرائم والآثام وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أنتظم بها في سلك أوليائه الأئمة الأعلام وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله الذي شرف الله به بيته وبلده الحرام صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه بدور الهدى في دجنات الظلام ما همعت غيوث إمداده على من اقتفى آثاره في تلك المشاعر العظام (أما بعد) فهذا ما اشتلت إليه حاجة المتفهمين لإيضاح الشيخ الإمام والصديق الحمام محي السنة والدين وعلم منار الأئمة المحققين سيد وقته وحكيمه ومحرر المذهب وعليمه كيف وقد أجمع الأئمة بعده على أنه البالغ في العرفان والاجتهاد الغاية القصوى والحقيق بتعفير الوجوه على مواطئ أقدامه فضلا عن تقديم آرائه في القضاء والفتوى حتى قال السبكي مع جلالته:
وفي دار الحديث لطيف معنى إلى بسط لها أصبو وآوى
من تسويد تعليق لطيف يتمم مفاده ويبين مراده ويحقق أكثر مسائله ويحرر بعض دلائله ويزيف ما أورد عليها مما لا يستحسن ويجيب عنه كالإمام الرافعى رضى الله عنهما وجزاهما عن أهل المذهب خبراً حيث أمكن فقصدت إلى ذلك تاركاً الإسهاب الممل والإيجاز المخل ومقتصراً على أحسن ما يشار إليه ومفاد ما يحتاج للتنبيه عليه وقد أزيد نزراً يسيراً لنحو وهم وقع في تقريره أو خلل دخل في تحريره سائلا من نظر فيه بعين الإنصاف والتحقيق أن ينبه على خلله وأوهامه وخطله فإنه سود في زمن قليل ويحتاج لتحرير وتكميل مع الاشتغال عنه لسوء ما اقترفت من الذنوب وقبيح ما جمعت من العيوب وأنا أسأل الله العظيم أن يوقظ له الفضلاء لينبهوا على ما فيه من ظلمات الأوهام وأن ينفعني وإياهم به في دار السلام إنه جواد كريم رؤوف رحيم (قوله رضى الله تعالى عنه وأرضاه وجعل جنات الشهود متقلبه ومثواه الحمد لله) الحمد هو الوصف بالجميل أو الثناء كما قاله المحققون وزاد غيرهم في الحد الثاني زيادات لا حاجة إليها إلى التنصيص على أجزاء الماهية أو نحوه كما قرر في محله والجملة خبرية لفظاً إنشائية معنى على ما اشتهر و قول بعضهم إنها خبرية لفظاً ومعنى رددته في
3
هَدانَاَ للْإِسلَامِ وَأَسْبَغَ عَلَيْنَا جَزِيلَ نِعَمِهِ وَأَلْطَافِه الْجسْامِ وَكَرَمَ الْآدَمِينَ وَفَضَّلَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنَ الْأَنَامِ
شرح الإرشاد (قوله ذي الجلال الخ) الجلال العظمة المستلزمة للاتصاف بكل صفة من صفات الكمال ومنها التنزه عن كل سمة من سمات النقص، والإكرام التفضل على عباده، والفضل الإنعام وتفسيره بالنعمة حيث قيل هو ما أنعم الله به على عباده تفسير باعتبار أثره، والطول السعة في تفضله وإنعامه وغيرهما، والمنن جمع منة وهي النعمة الثقيلة فقوله العظام صفة كاشفة ويصح أن تكون مؤسسة (قوله هدانا) أي دلنا أو أوصلنا إذ الهداية تستعمل في كل منهما (قوله وأسبغ علينا جزيل نعمه) هو من إضافة الصفة للموصوف أي نعمه الجزيلة العظيمة المشبهة في انغمارنا فيها حتى صارت لنا كالظرف بالثوب السابع على لابسه فتشبيه النعم بالثوب استعارة بالكناية وإثبات الإسباغ لها استعارة ترشيحية إذ هي أن يقرن المشبه بما يلائم المشبه به وقد ترشح أيضاً الاستعارة التحقيقية بما يلائم المشبه به كما في قوله تعالى أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم فإنه شبه فيه الاستبدال بالاشتراء ثم قرن بما يلائمه من الربح والتجارة ونظيره قولك جاوزت بحراً زاخراً تتلاطم أمواجه وآثر رضى الله عنه ما ذكر لأن الترشيح أبلغ من الإطلاق وهو أن لا يذكر ما يلائمهما والتجريد وهو أن يذكر ما يلايم المشبه ومن جمع التجريد معه لاشتماله على تحقيق المبالغة في التشبيه لأن في الاستعارة مبالغة في التشبيه فترشيحها وتزينها بما يلامه تحقيق وتقوية لذلك وقد يجتمع الترشيح مع التجريد كما في قوله:
لدى أسد شاكي السلاح مقذف له لبد أظفاره لم تقلم
(قوله وألطافه) جمع لطف وهو ما يقع به صلاح العبد آخرة، والتوفيق خلق قدرة الطاعة في العبد أو إرادة تسهيل سبيل الخير أو الوقوع فيه بلا استعداد وعلى كل فهما متحدان في الماصدق مختلفان في المفهوم هذا في اصطلاح محتفى العلوم العقلية وأما في اللغة فهما متحدان في المفهوم والماصدق (قوله الجسام) جمع جسيم أي عظيم وفيه من التشبيه والاستعارة ما لا يخفى على من تدبر نحو ما مر (قوله من الأنام) هو الخلق أو الجن والإنس أو جميع ما على وجه الأرض أقوال أشهرها الأول وعليه فكلامه شاملا للملائكة لكن التحقيق الذي عليه أكثر أهل السنة أن في تفضيل الآدميين عليهم تفصيلا وهو أن خواصنا وهم الأنبياء لا غير أفضل من خواصهم وعوامهم، وأن خواصهم كجبريل أفضل من عوامنا كأبي بكر رضى الله عنه وكرم وجهه. وأن عوامنا أفضل من عوامهم فعلم أن المراد بالعوام منا الصلحاء ومقتضى قول ابن يونس من أصحابنا وقال الأكثرون منا إن المؤمن الطائع أفضل منهم وأن المراد بهم المطيعون ويمكن أن يجمع بينهما
4
وَدَعَاهُمْ بِرَأْفَتِيهِ وَرَحْمَتِهِ إِلَى دَارِ السَّلَامِ، وأَكْرَمَهُمْ بِمَا شَرَعَ لَهُمْ مِن حَجِّ بَيْتِهِ الْحَرَامِ، وَيَسَّرَ ذَلكَ عَلَى تَكرُّرِ الدُّهورِ: الأعْوَامِ، وفَرَضَ حَجّه عَلَى مَن اسْتطاع إليْه سَبِيلاً
بأن يقال المراد القائمون بحقوق الله تعالى وحقوق عباده فهؤلاء كما يسمون صلحاء يسمون مطيعين وليس المراد مجرد العدول فيما يظهر ويحتمل خلافه وعلم أيضاً أن ما نقله البيهقى عن جمع من أن الأولياء منا أفضل من الأولياء منهم وكذا ما ذكر عن ابن يونس محمول على ما قررته وإلا فهو ضعيف وأنه لافرق فيما ذكر بين ملائكة الملأ الأعلى والأسفل وإن سلمنا أن الأولين أفضل. هذا ونساء الدنيا أفضل من الحور العين لحديث أم سلمة فى الطبرانى والأوسط والكبير قلت يارسول الله أنساء الدنيا أفضل أم الحور العين قال فضل نساء الدنيا كفضل الظهارة على البطانة قلت يا رسول اللّه ولم ذلك قال لصلاتهن وصيامهن وعبادة الله عز وجل وفى رواية قال بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين بفضل الظهارة على البطانة قلت يارسول الله وبم ذلك قال بصلاتهن وصيامهن لله عز وجل ، وحديث أبى هريرة عند البيهقى وأبي يعلى وفيه فيدخل الجنة رجل منهم يمسى على ثنتين وسبعين زوجة مما ينشئ اللّه تعالى وثنتين من ولد آدم لهما فضل على من أنشأ اللّه تعالى بعبادتهما فى الدنيا وهذا يدل على أن النساء أكثر أهل الجنة ويجمع بينه وبين ماورد من أنهن أكثر أهل النار بأنهن أكثر أهلها ابتداء وأكثر أهل الجنة انتهاء (قوله برحمته ورأفته) الرحمة أعم من الرأفة وهما متحدان وعلى كل فالمراد بهما فى حقه تعالى غايتهما وهو التفضل والإحسان أى فهما من صفات الأفعال أو إرادة ذلك فيكونان من صفات الذات وكذا يقال فيماضاهاهما مما يستحيل معناه على اللّه تعالى (قوله دار السلام) هى الجنة سميت بذلك لأن تحيتهم فيها سلام من بعضهم على بعض أو من الملائكة عليهم أو لأن أشرف تحية تنالهم سلام قولا من رب رحيم أو لأن من دخلها سلم من الآفات أو السلام من أسمائه تعالى فهو فى الأول بأقسامه اسم من التسليم بمعنى التحية وفى الثانى مصدر سلم وفى الثالث يحتملهما لكنه استعمل بمعنى السليم من النقائص أو بمعنى المسلم فى الأولى والعقبى (قوله بما شرع لهم) أى بين وفى نسخ شرعه ( قوله الدهور) هو كالأدهر جمع دهر وهو الأمد الممدود وفى الخبر المتفق عليه النهى عن سبه وأنه اللّه ومعناه أن ما أصابك من الدهر فالله هو الفاعل له فسبه سب لله كذا قيل وقضيته حرمة سب الدهر وقياس قولهم يكره سب الريح مع أن سبها سب لله الكراهة فقط وكون سب أحدهما سبباً له تعالى إنما معناه أنه يخشى منه أنه يئول لذلك لا أن مدلول له وإلا کان کفراً فضلا عن كونه حراماً. على أن سبب النهى ما كانت العرب تعتاده من ذمه لما يرونه من أنه الفاعل للنوائب فقال تعالى وأنا الدهر أى الذى أفعل ذلك لا الدهر فى زعمكم وبهذا يرد على من زعم نصب الدهر ظرفاً لما بعده فى
5
من الناس حتى الأغبياء والطفل
الخبر من أقلب الليل والنهار لأنه يلزم على الرفع أنه من أسمائه تعالى ورجحه وده ما تقرر من أن إطلاقه عليه تعالى مجاز لا حقيقة (قوله من الناس) فيه تصريح بأن الحج كان واجباً على من قبلنا فقول ابن خليل شيخ المحب الطبرى الصحيح أنه لم يجب إلا على هذه الأمة نظر فيه العز بن جماعة ورده غيره بما جاء فى نداء إبراهيم عليه السلام لما أمر أن يؤذن فى الناس بالحج من أنه قال إن اللّه كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فأجيبوا ربكم فهذه صيغة أمر والأصل فيها الوجوب وأيضاً فقوله تعالى ولله على الناس حج البيت الآية دليل ظاهر فى ذلك واستدل له القاضى بما فيه نظر ظاهر والناس يشمل الإنس والجن بناء على أنه من نوس كما فى القاموس وصرح به قبله صاحب عباب اللغة وعليه ففرض الحج يشمل الجن أيضاً ونقله بعض الحنابلة عن قضية كلام أصحابهم وصرح به السبكى فى فتاويه فقال لا نقول إنهم مكلفون بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم فى أصل الإيمان فقط بل فى كل شىء لأنه إذا ثبت أنه مرسل إليهم كما هو مرسل إلى الإنس والدعوة عامة والشريعة عامة لزمهم جميع التكاليف التى توجد أسبابها فيهم إلا أن يقوم دليل على تخصيص ببعضها فنقول إنه تجب عليهم الصلاة والزكاة إن ملكوا نصاباً بشرطه والحج وصوم رمضان وغيرهما من الواجبات ويحرم عليهم كل حرام فى الشريعة بخلاف الملائكة لا نلتزم أن هذه التكاليف كلها ثابتة لهم فى حقهم إذا قيل بعموم الرسالة لهم بل يحتمل ذلك ويحتمل الرسالة فى شخص خاص انتهى ثم الحج لغة القصد وقيل كثرته إلى من يعظم ويجوز فتح أوله وكسره وهما مصدران وقيل الأول مصدر والثانى اسم وفى شرح مسلم أنه بالفتح هو المصدر وبالفتح والكسر هو الاسم منه وفى كونه بالفتح اسم مصدر نظر. وشرعاً على ما فى المجموع قصد البيت للأفعال الآتية وقال ابن الرفعة هو نفس تلك الأفعال أى لأنها أجزاؤه فلا وجود له بدونها حتى يقال إنه قصد البيت لأجلها وهو ظاهر وقد يؤول الأول بأن اللام فيه بمعنى مع أو يقال قصد البيت لأجلها يستلزم قصدها وعلى كل فليس المراد بالقصد المذكور نية الدخول فى النسك المعبر عنه بالإحرام بل ما هو أعم من ذلك وهو العزم كما هو ظاهر. والعمرة بضم أوليه وبضم أو فتح فسكون لغة الزيارة وقيل القصد إلى مكان عامر. وشرعاً زيارة البيت للأفعال الآتية على ما تقرر فى الحج (قوله حتى الأغبياء والطغام) الأول جمع غبى بمعجمة فموحدة وهو قليل الفطنة والثانى بمهملة فمعجمة كالسحاب قال فى القاموس أوغاد الناس جمع وغد وهو الأحمق الضعيف الرأى وحتى هنا عاطفة وإن قل العطف بها حتى أنكره الكوفيون وشروط عطفها التى ذكروها خلافاً ووفاقاً موجودة هنا لأن معطوفها اسم ظاهر وبعض مما قبله كقدم الحاج حتى المشاة وغاية لما قبله وهى إما فى زيادة أو نقص كمات الناس حتى الأنبياء وزارك الناس حتى الحجامون والظاهر أنها هنا
6
(أحمده) أَبْلَغَ الْحَمْدِ وَأَكْمَلَهُ، وَأَعْظَمَهُ وَأَهْلَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَٰهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إِقْرَارًا بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَإِذْعَانًا لِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ وَصَمَدِيَّتِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الْمُصْطَفَى مِنْ خَلِيقَتِهِ وَالْمُخْتَارَ مِنْ بَرِيَّتِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَزَادَهُ فَضْلًا وَشَرَفًا لَدَيْهِ
بالمعنى الثاني وكأن حكمته هنا بيان أن فرضية الحج مع عظمه لم تقتصر على العظماء بل تناولت غيرهم أيضًا فإن قلت شرط عطفها على مجرور إعادة الجار فرقًا بينها وبين حتى الجارة وهذا غير موجود هنا قلت هذا قول لابن الخباز خالفه فيه ابن عصفور فجعل إعادته حسنة لا واجبة على أن ابن مالك قيد الأول بأن لا يتعين كونها للعطف وهو ظاهر وإن اعترضه أبو حيان لأن ابن الخباز علل اشتراط إعادة الجار بالفرق بينها وبين الجارة ولا يحتاج للفرق إلا في محل يحتملهما أما ما يتعين فيه العطف فلا فائدة لاشتراط الإعادة وهي في كلام المصنف متعينة للعطف إذ لا يحتمل الجر والعطف إلا إذا صح أن يحل في محلها إلى كاعتكفت في الشهر حتى آخره لأن الجارة بمعنى إلى غالبًا ولا يصح أيضًا كونها ابتدائية لكون الخبر غير مذكور (قوله أبلغ الحمد وأكمله إلى آخره) أبلغه أنهاه وأكمله أتمه من الكمال والتمام والأول انتفاء نقص العوارض والثاني انتفاء نقص الذات وأشمله أعمه ومراده بذلك نسبة عموم المحامد إليه تعالى إجمالًا لا تفصيلًا لعجز سائر البشر عن ذلك ومن ثم قال سيدهم ﷺ سبحانك لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك (قوله وصمديته) هو من المصادر المأخوذة من الأسماء كالشيئية والزيدية ونحوهما والصمد هو الذي لا جوف له أو الذي يصمد إليه في الحوائج أي يقصد وقيل غير ذلك (قوله من بريته) أي خليقته والجمع بينهما للتفنن في العبارة (قوله وزاده فضلًا وشرفًا لديه) أي عنده جرى على هذه العبارة في المنهاج والروضة أيضًا وهي صريحة في جواز الدعاء له ﷺ بذلك بل في استحسانه وهو كذلك كما بينته في إفتاء طويل ومن جملة ما ذكرته فيه أن الحليمي والبيهقي صرحا بما يفيده ويرد على من أنكره نظرًا إلى أن الدعاء بالزيادة يقتضي النقص من أن مقامه ﷺ يقبل الزيادة في الثواب وغيره من سائر المراتب والدرجات إذ غاية كماله وإن لم يكن لها حد لا تمنع احتياجه إلى مزيد ترق واستمداد من فضله تعالى الذي لا نهاية له وسؤال الزيادة لا يستلزم إثبات النقص ألا ترى إلى الدعاء الآتي عند رؤية البيت اللهم زد هذا البيت الخ ومن ثم استنبط بعض المتأخرين من حديث أن الدعاء عقب القراءة باجعل ثواب ذلك لسيدنا رسول الله ﷺ أو زيادة في شرفه معناه الدعاء
7
(أما بعد) فإن الحج أحد أركان الدين، ومن أعظم الطاعات لرب العالمين، وهو شعار أنبياء الله وسائر عباد الله الصالحين، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فمن أهم الأمور بيان أحكامه، وإيضاح مناسكه وأقسامه، وذكر مصححاته ومفسداته، وواجباته وآدابه ومسؤولياته وسوابقه ولواحقه وظواهره ودقائقه، وبيان الحرم ومكه،
بتقبل ذلك فيثاب عليه وإذا أثيب أحد من الأمة على الطاعة كان لمعلمه نظير ثوابه أو كذا لمعلم معلمه وهكذا وله واقع مثل ثواب الجميع فهذا معنى الزيادة في شرفه وإن كان شرفه مستقراً كاملاً فعلم أن من طلب الزيادة له طلب تكثير نحو أتباعه سيما العلماء ورفع درجاته ومراتبه العلية وبه يرد ما وقع في فتاوى البلقيني وإن تبعه ولده علم الدين فقال أخذاً من كلام والده لا ينبغي أن يقال اجعل ثواب ما قرأناه زيادة في شرفه إلا بدليل وقد خالفهما شيخا الإسلام المناوي والشمس القاياتي فقالا باستحسان ذلك ووافقهما صاحباهما المحققان الكمال بن الهمام وشيخنا شيخ الإسلام زكريا وقد ذكرت عبارات أولئك وغيرها في الفتاوى فانظر ذلك فإنه مهم وقد وقع فيه خبط وغلط فاحش فاحذره (قوله ومن أعظم الطاعات) فيه رد لقول القاضي حسين إنه أعظمها وأفضلها إذ الأصحاب على خلافه وإن ورد في أحاديث ما يشهد له نعم حج التطوع أفضل من صلاته على ما ذكره الأذرعي وقال إنها مسألة عزيزة النقل اهـ وفيه نظر وكلامهم كالصريح في رده إن أراد حج تطوع لا يقع فرض كفاية كحج الأرقاء والصبيان وإن أراد ما يقع فرض كفاية فلم يفضل حج تطوع صلاته بل حج فرض صلاة تطوع وهذا لا نزاع فيه ومن ثم وجهوا قول الشافعي رضي الله عنه الاشتغال بالعلم أفضل من الصلاة النافلة بأن الاشتغال بالعلم فرض كفاية وهو أفضل من النفل ويأتي ما ذكرته بناء على أن فرض الصدقة أفضل من فرض الحج ونفلها أفضل من نفله وهو ما يدل عليه كثير من العبارات فيما فهم منها كلام العبادي في زياداته من أن حج التطوع أفضل من صدقة التطوع وفي حديث عبد الرزاق أن عائشة رضي الله تعالى عنها سألت رسول الله ﷺ عن رجل حج فأكثر أتجعل نفقته في صلة أو عتق فقال ﷺ طواف سبع لا لغو فيه يفضل عتق رقبة وقضيته أن الحج أفضل من العتق وعليه فيكون أفضل من الصدقة إذ العتق أفضل أنواعها (قوله وهو شعار أنبياء الله تعالى) ظاهره أن سائر الأنبياء حجوا لأنه جمع مضاف فيعم وهو الظاهر وقول عروة بن الزبير رضي الله عنهما بلغني أن آدم ونوحاً حجا دون هود وصالح لاشتغالهما بأمر قومهما ثم بعث الله تعالى إبراهيم فحجه وعلم مناسكه ثم لم يبعث الله تعالى نبيًا
8
والمسجد والكعبة، وما يتعلق بهما من الأحكام، وما تميزت به عن سائر بلاد الإسلام، وقد جمعت هذا الكتاب مستوعباً لجميع مقاصدها، مستوفياً لكل ما محتاج إليه من أصولها وفروعها ومعاقدها (وضّمنته) من النفائس مالا ينبغي لطالب الحج أن تفوته معرفته، ولا تعزب عنه خبرته ولم أقتصر فيه على ما يحتاج إليه في الغالب بل ذكرت فيه أيضاً كل ما قد تدعو إليه حاجة الطالب، بحيث لا يخفى عليه شيء من أمر المناسك في معظم الأوقات ولا يحتاج إلى السؤال لأحد عن شيء من ذلك في أكثر الحادثات؛ وقصدت فيه أن يستغني به صاحبه عن استفتاء غيره عما يحتاج إليه؛ وأرجو أن لا يقع
بعده إلا حجه معترض بأنه جاء في أحاديث كثيرة أن هوداً وصالحاً حجا منها قول الحسن في رسالته أن رسول الله ﷺ قال إن قبر نوح وهود وصالح وشعيب فيما بين الركن والمقام وزمزم ومن ثم قال السهيلي في الروض والمحب الطبري وغيرهما الأشبه أنهما حجا ويقول جماعة إن جميع الأنبياء والرسل حجوا البيت ومشى عليه صاحب البيان وابن الرفعة والدميري حيث قالوا لم يبعث الله نبياً إلا حج البيت وحج نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم قبل النبوة وبعدها قبل الهجرة حججاً وعمراً لا يعرف عددها كذا قال ابن حزم لكن صح أنه حج قبل الهجرة حجتين.
((فائدة)) قد يتوهم من الخبر الذي ذكره الحسن كراهة الصلاة بين الركن والمقام وزمزم لأنه مقبرة ورد بأن مقبرة الأنبياء لا تكره الصلاة فيها لأنهم أحياء في قبورهم يصلون ويتعبدون فإن قلت الكراهة بل الحرمة لازمة من جهة أخرى وهي أن المصلي ثم يستقبل قبر نبي قلت شرط الحرمة أو الكراهة تحقق ذلك وهذا غير محقق هنا (قوله من أصولها) الضمير فيه وفيما بعده للمقاصد ويصح عوده لأحكام المناسك وما معه ويكون المراد جمعه لذلك بطريق الإشارة والعبارة (قوله ولا يعزب) أي يغيب (قوله عن استفتاء غيره) قد يشكل عليه قوله في مجموعه لا يجوز لمفت على مذهب الشافعي رضي الله عنه
9
لَهُ شَىْءٍ مِنَ الْمسَائِلِ إِلَا وَجَدَهُ فِيهِ مَنْصُوصاً عَلَيْهِ وَأَحْذَف الأدِلَّةَ في مُعظَمِهِ إِيثَاراً للاخْتِصَارِ وخوفاً منَ الإِمْلَالِ بالإِكْثَار، وَأَحْرِصُ عَلَى إِيضارح الْعِبَارَةِ وَإِيجَازِهَا حَيْثُ يَفْهَمُهَا العامي وَلَا يَستبشِعهَا الْفَقِيهُ لِتَعُمَّ فَائِدَتُهُ وَيَنْتَفِعَ بِهِ الْقَاصِرُ وَالنَّبِيهُ، وَقَدْ صَنَّفَ الشَّيْخُ الإِمَامُ أَبُو عَمْرِو ابْنُ الصَّلَاحِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في المناسِكِ كِتَابًا نَفِيسًا وَقَدْ ذَكَرْتُ مَقَاصِدَهُ في هَذَا الْكِتَابِ وَزِدْتُ فِيهِ مِثْلَهُ أَوْ أَكْثَرَ مِنَ النَّفَائِسِ الَّتِي لَا يستغنى عَنْ مَعْرِفَتِهَا مَنْ لَهُ رَغْبَةٌ مِنَ الطُّلَّابِ، وَعَلَى اللهِ اعْتِمَادِي وَإِلَيْهِ تَفْوِيضِي وَاسْتِنَادِي.
﴿وهَذَا) كِتَابٌ يَشْتَمِلُ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَبْوَابٍ: (البَابُ الأَوَّلُ) في آدَابِ السَّفَرِ وَفي آخِرِهِ فَصْلٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِوُجُوبِ الحَجِّ. (البَابُ الثَّانِي)في الإِحْرَامِ وَمُحَرَّمَاتِهِ وَوَاجِبَاتِهِ وَمَسْنوناتِهِ. (البَابُ الثَّالِثُ) في دُخُولِ
أن يكتفى بمصنف أو مصنفين ونحوهما من كتب المتقدمين لكثرة الاختلاف في الجزم والترجيح وقد يجزم نحو عشرة من المصنفين بشيء وهو شاذ مخالف للمنصوص وما عليه الجمهور ا.هـ والعامل لنفسه كالمفتي فيما ذكر فلا إشكال كما أشار إليه بقوله من كتب المتقدمين بخلاف من علم أنه لا يثني في كتبه إلا على المعتمد في المذهب كالمصنف وأمثاله فيجوز اعتماده على ما في كتبه نعم الحق أنه لا بد من نوع تفتيش فإن كتب المصنف نفسه كثيرة الاختلاف فيما بينها فلا يجوز لأحد أن يعتمد ما يراه في بعضها حتى ينظر في بقية كتبه أو أكثرها أو يعلم أن ذلك المحل قد أقره عليه شارحه أو المتكلم عليه الذي من عادته حكاية الاختلاف بين كتبه وبيان المعتمد من غيره. فإن قلت إذا خالف المتأخرون أو أكثرهم الشيخين أو المصنف فيؤخذ بماذا، قلت الذي أثرناه عن مشايخنا عن مشايخهم وهكذا أن المعتمد ما عليه الشيخان أو المصنف إلا
10
مَكَّةَ - زَادَها اللهُ شَرَفًا - وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَ وَفِيهِ ثَمَانِيَةُ فصول وَهُوَ مُعْظَمُ الْكِتَابِ وفى آخره بَيَانُ أركانِ الحجِّ وَوَاجِبَاتِه وَسُنَنِهُ وَآدَابِهُ مُخْتَصَرَةً (الْبَابُ الرَّابِعُ) فى العُمْرَةِ (الْبَابُ الْخَامِسُ) فى المُقَامِ بِمَكَّةَ وَطَوَافِ الْوَدَاعِ وفيه جُمَلٌ مُسْتَكثرات مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِمَكَّةَ وَالْحَرَمِ وَالْكَعْبَةِ وَالمسجد وأحكامها (الْبَابُ السَّادِسُ)فى زِيَارَةِ قَبْرِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَدِينَةِ (الْبَابُ السَّابِعُ) فِيمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ تَرَكَ فِى حَجِّهِ مَأْمُورًا أَوْ ارْتَكَبَ مَحْظُورًا وفيه نَفَائِسُ كَثِيرَةٌ (الْبَابُ الثَّامِنُ) فى حَجِّ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ وَمَنْ فِى مَعْنَاهُمَا وَبَعْدَهُ (فَصْلٌ) فى آدَابِ رُجُوعِهِ مِنْ سَفَرِهِ (وفَصْلٌ) فى الْوَلَايَةِ عَلَى الحجيج وَبَيَانِ مَا يَجُوزُ لِمُتَوَلِّيهِ فِعْلُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ وَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَمَا لاَ يَجِبُ وفيه نَفَائِسُ كَثِيرَةٌ (وفَصْلٌ)فى أَذْكَارٍ تُستَحَبُّ فى كلٍّ وَقْتِ خَتَمْتُ الْكِتَابَ بها وباللهِ التّوفيقُ وَهُوَ حَسْبِي وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
ما اتفق المتأخرون قاطبة على أنه سهو وغلط وما عداه لا عبرة بمن خالف فيه فإن قلت إذا اختلفت كتب المصنف ما الذى يعتمد عليه منها قلت أما المتبحر فلا يتقيد بشىء وأما غيره فيعتمد المتأخر منها الذى يكون تتبعه فيه لكلام الأصحاب أكثر كالمجموع فالتحقيق فالتنقيح فالروضة فالمنهاج وما اتفق عليه الأكثر من كتبه مقدم على ما اتفق عليه الأقل منها غالبًا وما كان فى بابه مقدم على ما فى غيره غالبًا أيضًا (قوله وهو حسبي ونعم الوكيل) جملة ونعم الوكيل معطوفة على هو حسبي بناء على ما عليه جمع من جواز عطف الإنشاء على الخبر لكن المشهور امتناعه فعليه يقدر فى المعطوف مبتدأ بقرينة ذكره فى المعطوف عليه ويجعل خبراً عنه بالتأويل المشهور فى وقوع الإنشاءات خبراً للمبتدأ أى وهو مقول فيه نعم الوكيل وحينئذ فهى جملة اسمية خبرية معطوفة على مثلها بلا محذور أو جملة نعم الوكيل معطوفة على حسبي وهو مفرد غير مضمن معنى الفعل فلم يكن فى قوة الجملة فلم يلزم عطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية بل على المفرد ولا محظور فى عطف الجملة على المفرد ولا فى عكسه بل يحسن ذلك اذا
11
(ثبت) فى الصَّحيحِّينِ عنْ ابْن عُمَرَ رَضِىَ الله عَنْهُمَا قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ بُنِىَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ شَهَادَةٍ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَصَوْمِ رَمَضَانَ.
(وثبت) فى الصحيحين عن أبى هريرة عبد الرحمن بن صخر رضى الله عنهُ قالَ قال رَسُولُ اللهِ ﷺ مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ
روعى فيه نكتة على أن بعض المحققين جوز عطف الإنشائية على الإخبارية فى الجمل التى لها محل من الإعراب لوقوعها موقع المفردات ولا عبرة ببنيتها وخرج عليه قوله تعالى وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل بناء على أن الواو من الحكاية لا من المحكى إذ لا مجال للعطف فيه إلا بتعسف قال ولا يختص ذلك بالجملة المحكية بالقول ونوقش فى ذلك بما لا يجدى بناء على أن حسمًا خبرعما بعده وليس كذلك بل هو مبتدأ خبره ما بعده وكون الإضافة لا تفيد حسب تعريفاً لكونه بمعنى محسب أو فى معنى الفعل إنما هو فى بعض المواضع قيل ويصح أن يكون حملة وهو حسبى لإنشاء التوكل فهو من عطف إنشاء على إنشاء أو من قبيل عطف القصة على القصة وهو لا يعتبر فيه اتحاد الجمل المتعاطفة خبراً أو إنشاء بل فى العرض المسوق له الكلام ورد الأول بأنه مخالف للفظ من غير دليل وعلى التنزل فهو إنشاء لطلب الكفاية لا لما ذكر والثانى بأن التحقيق أن القصة عبارة عن جمل متعددة متناسبة سيقت لغرض من الأغراض إذا عطفت على مثلها فالملحوظ بالذات فى ذلك العطف هو المجموع من حيث هو مجموع فلا يعتبر فيه إلا ما هو من أحواله من حيث هو كذلك لكونه مسوقاً لغرض كذا بخلاف الخبرية أو الإنشائية العارضة للنسب المعتبرة فيما بين أطراف الجملة الواقعة جزءاً منه فإنها ليبت من تلك الأحوال وقيل الواو للاعتراض لا للعطف وهو مبنى على وقوع الاعتراض آخر الكلام وفيه خلاف (قوله من حج هذا البيت) يحتمل أن المراد الحج يرعى فتخرج العمرة ويحتمل أن المراد ما يشملها فيكون معناه قصده للنسك وذلك صادق على مقعده لحج أو عمرة فعليه تكون العمرة محصلة الخروج من الذنوب كيوم الولادة أيضاً على ان العمرة تسمى حجاً أصغر كما يأتى ثم رأيت فى حديث عند النسائى من حج واعتمر وظاهره
12
فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمٍ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ الرَّفَثُ
أن ذلك الثواب لا يحصل بمجرد الحج لكن في حديث البيهقي حصوله بمقدمة الحج ولفظه إذا خرج الحاج من أهله فسار ثلاثة أيام وثلاث ليال خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه وكان سائر أيامه درجات والذي يتجه أن يقال إن في الحديث المتفق عليه ترتبه على الحج المحتمل لأن يراد به ما يشمل العمرة فيترتب عليها وحدها أيضاً وأما اشتراط جمعهما وترتبه على المقدمة فإن صح ذلك فيهما فلا ينافيان ما مر لأن كل ما فيه زيادة ثواب الظاهر أنه صلى الله عليه وسلم أخبر بما قبله ثم أعلم بتلك الزيادة فأخبر بها أو أن ذلك يختلف باختلاف أحوال الناس (قوله كيوم ولدته أمه) يشمل التبعات وورد التصريح بها في رواية وأفتى به بعض مشايخنا لكن ظاهر كلامهم يخالفه والأول أوفق بظواهر السنة والثاني أوفق بالقواعد ثم رأيت بعض المحققين نقل الإجماع على الثاني وبه يندفع الإفتاء المذكور تمسكاً بالظواهر ويؤيد ذلك قول المجموع عن القاضي عياض غفران الصغائر فقط مذهب أهل السنة والكبائر لا يكفرها إلا التوبة أو رحمة الله تعالى وعن الإمام أن ذلك عام في كل ما ورد واستدل له المصنف بخبر مسلم فيمن أحسن وضوءه وصلاته كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم تؤت كبيرة وذلك الدهر كله وبه يرد قول مجلي رداً لكلام الإمام وهذا الحكم يحتاج لدليل وفضل الله واسع ويرده أيضاً أن ابن عبد البر لما نقل عن بعض معاصريه التابع لابن المنذر أن الكبائر والصغائر يكفرها الصوم والصلاة فقال عقبة وهذا جهل وموافقة للمرجئة في قولهم ولو كان كما زعموا لم يكن للأمر بالتوبة معنى وقد أجمع المسلمون أنها فرض والفروض لا يصح شيء منها إلا بالقصد وقد قال صلى الله عليه وسلم كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر انتهى وأما خبر أنه صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة بالعفو حتى عن المظالم والدماء فلم يستجب له ثم دعا لهم صبيحة مزدلفة بذلك فاستجيب له حتى عن المظالم والدماء فضعيف فقد ضعف البخاري وابن ماجة اثنين من رواته وقال ابن الجوزي إنه لا يصح تفرد به عبد العزيز ولم يتابع عليه قال ابن حبان وكان يحدث على التوهم والنسيان فيبطل الاحتجاج به (قوله الرفث الخ) ظاهره أن كل معصية قولية كانت أو فعلية صغيرة أو كبيرة تسمى رفثاً لأن الفجور ونحوه يعم جميع ذلك فحينئذ يفهم من ذلك أنه يشترط في التكفير المذكور الخلو عن كل معصية كما يشترط ذلك في الحج المبرور لكن قد يتوقف فيه بما يأتي وفسره الأزهري بما يريد الرجل من امرأته أي من الجماع ومقدماته وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم بالجماع أي دون مقدماته وعليهما فالحج المبرور امتاز بخصوصية الخلو عن كل
13
أسمٌ لِكُلُّ لغْو وَخنىَّ وَفُجورٍ وَمجٍُون بَغيْرِ حَقٌّ، والفِسق الْخروَجُ عَنِ طَاعة الله تعالَى ( وَثَبْتَ ) فى الصَّحيحين عَنْ أَبِى هرِّيْرَةَ رضِىَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ الله ﷺ قَالَ الْعُمرَّةُ إِلَى الْعمُرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمْاَ وَالْحِجُّ الْمَبْرُورُ لِيْسَ لَهُ جَزَاءَ إلاّ اَلجَنةَ .
معصية بخلاف هذا فإنه يشترط خلوه عن معصية الجماع ومقدماته وعن الفسق دون غيرهما لكن يعارضه تفسيرهما الفسق بالمعاصى إلا أن يثبت عنهما أنهما أرادا بها الكبائر وعلم مما تقرر أن المراد باللغو وما بعده فى كلامه الإثم وفى اللغة اللغو السقط وما لا يعتدبه من كلام وغيره ويطلق على الإثم كما فى ((لا يؤاخذكم الله باللغو فى أيمانكم)) والخنا الفحش والفجور الانبعاث فى المعاصى والزنا والزور الكذب والباطل والمجون عدم المبالاة مما يصدر منه من قول أو فعل ( قوله والفسق الخروج عن طاعة الله) أى بارتكاب كبيرة وكذا الإصرار على صغيرة إن غلبت معاصيه طاعاته وإلا فمجرد الخروج عن الطاعة لا يسمى فقاً شرعاً وحينئذ فإن أريد بالفسق فى الحديث هذا المعنى كان من عطف الخاص على العام ونكتته الاهتمام بشأن هذا الخاص وإن أريد مطلق المعضية كما دلت عليه عبارة المصنف كان من عطف المرادف بناء على ما نقله عن العلماء فى الرفث ولا خفاء أن الأول أحسن وأبين ( قوله والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة ) معناه أنه لا يقتصر فيه على تكفير بعض الذنوب بل لابد أن يبلغْ بصاحبه إلى الجنة ومن استوجبها لم تضره الذنوب المتقدمة والمتأخرة بخلاف الخروج منها كيوم الولادة فإنها إنما تتناول تكفير الذنوب الماضية فقط وحينئذ فاختلاف سياق الحديثين يدل على أن المبرور غير الذى لا رفث فية ولا فسوق وما ذكره المصنف فى تعريف الرفث والبريقتضى. اتحادهما فالأوجه أن يحمل ما نقله على مفهوم الرفث شرعاً وما قاله ابن عباس والأزهرى على المراد به فى الحديث فإن قلت يمكن أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أولا عن المبرور بأن فيه تكفير الذنوب الماضية فقط بقوله كيوم ولدته أمه ثم أخبر عنه ثانياً باطلاع اللّه له بأن فيه تکفیر الذنوب الآ تية بقوله ليس له جزاء إلا الجنة قلت هو ممکن لگنه خلاف ظاهر سیاق الحديثين كما هو ظاهر نعم قد يؤيده خبر ابن حبان الحجة المبرورة تكفر خطايا سنة واعلم أنهم اختلفوا فى تكفير المستقبل فى أن صوم عرفة يكفر السنة الآتية كالماضية فيقال بنظير ذلك هنا ففى المجموع ثم عن الحاوى معناه إما غفر ان ما يقع فيه وإما العصمة عن وقوع ذنب فيه وعن السرخسى أن هذين قولان العلماء وعبر عن الأول بأن ما فى السنة المقبلة من المعصية
14
والأصح أن المبرور هو الذى لا يخالطه مأثم وقيل هو المقبول
يجعل الله صوم عرفة كفارة له لا يقال يلزم من تكفير الذنوب فى المستقبل إسقاط التكليف بها لأنا نقول لا يلزم ذلك لما يأتى قريباً ولا ينافى مامر من قول الرويانى وصاحب العدة ونقله عنه فى المجموع تكفير المستقبل لا يوجد لعبادة غير يوم عرفة لأنه مردود بخبر الجمعة إلى الجمعة كفارة لما بينهما ويرد أيضاً بالأخبار الواردة فى أن من فعل كذا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فإن قلت قد ورد التكفير بعبارات كثيرة فما الذى يكفره غير الأولى وقد لا يكون على الشخص ذنب قلت قال فى المجموع أجاب العلماء بأن كل واحد صالح للتكفير فإن وجد صغائر كفرها وإن لم يصادف صغيرة ولا كبيرة كتب له به حسنات ورفعت له درجات وإن صادف بحيرة أو كبائر خفف منها وعبر عن ذلك الزركشى بقوله يعطى من الثواب قدر ما يكفر ذلك القدر لو كان عليه ذنبه ولذلك يقول الكفارة لها فضلان الكفارة المذكورة بشرط اجتناب الكبائر والثواب المترتب عليها وقد يكون فى فضله ما يرفع الكبائر أيضاً ويشهد له قوله تعالى إن الحسنات يذهبن السيئات اهـ ومراده برفع الكبائر تخفيفها كما عبر به النووى أو رفع الوقوع فيها بعد ذلك ( قوله هو الذى لا يخالطه ماتم ) أى إثم ولو صغيرة وإن تاب منها حالا كما اقتضاه ظاهر إطلاقهم لكنه غير جلى المعنى ثم رأيت الزركشى صرح به وجعله أصلا مبنياً عليه وعبارة خادمه وإذا اغتاب الصائم أو سب أو فعل شيئاً مما نهى عنه ثم تاب فهل يزول نقص أجره الأقرب أنه لا يزول لأن أثر التوبة إنما هو فى سقوط الإثم لا فى تحصيل ثواب صفة الكمال وقواه بعض المتأخرين بأن التوبة إنما تتعلق بالمنهيات دون ترك المأمورات كما يدل عليه الآيات والأحاديث وثواب صفة الكمال فى الصوم من باب ترك المأمورات فلا تؤثر فيها التوبة ولذلك أن المحرم إذا رفث أو فسق فى حجه ثم تاب لا يمكننا أن نقول عاد حجه كاملا بعد ما نقص فكذلك هذا قال ولا فرق فى التوبة بين أن تكون بعد انقضاء زمن الصوم أو قبله قلت ولأن فى الحكم بالعود تسهيل الإقدام على المحذورات والأولى تحذير الصائم ليزداد حذراً وكفاً عن المنهيات فى الحديث فيمن قال إن فعلت كذا فأنا برىء من الإسلام وكان صادقاً فلن يرجع إلى الإسلام صادقاً اهـ ملخصة وما ذكر من أن ثواب الكمال من باب ترك المأمورات فيه نظر إلا أن يؤول وهل يشترط ترك ذلك إلى التحلل الأول فقط لانقضاء معظم العبادات أو إلى الثانى لأنه ما لم يفعله لم يتم حجه فيصدق عليه أن حجه خالطه الإثم فيه نظر. ثم رأيت المصنف قال فى فتاويه فى الحديث الأول والظاهر أن عدم الرفت والفسوق يعتبر من حين الشروع فى الإحرام إلى التحلل انتهى وهو صادق بالأول والثانى وهو الأقرب فى الموقعين وفسر الختم المصرى المرور بأن يرجع زاهداً فى الدنيا راغباً فى الآخرة. وفى مسند أحمد عن
15
ومن علامات القبول أن يرجع خيراً مما كان ولا يعاود المعاصى
جابر رضي الله عنه سئل رسول الله ﷺ ما بر الحج قال إطعام الطعام وإفشاء السلام رواه الحاكم وصححه لكنه قال إطعام الطعام وطيب الكلام ورواه عبدالرزاق أيضاً وقال إطعام الطعام وترك الكلام أي الذي فيه معصية وهذا كله لا ينافي ما قاله الأصحاب وغيرهم لأن ما اعتبروه من عدم المعصية مطلقاً يؤخذ من التعبير المبرور الوارد في الحديث إذ هو مستلزم لذلك لأنه مأخوذ من البر وهو الطاعة والمبالغة فيها المدلول عليها بصيغتها تقتضي تجنب المعصية أصلاً ورأساً فإن قلت سلمنا ذلك لكن في الحديث زيادة وهي إطعام الطعام وإنشاء السلام قلت إن أريد الإطعام الواجب لاضطرار وجوه والسلام الواجب وهو الرد فهو داخل فيما قالوه وإن أريد الأعم فالقاعدة أنه يستنبط من النص معنى يخصصه وهو أن المدار هنا على مزيد الطاعة وهو حاصل بتجنب المعصية وإن لم يحصل إطعام لأنه كمال فقط فلا يتوقف عليه المحازاة بالجنة لما علم واستقر من القواعد أن المتكفل بها من غير عذاب هو الخلو عن المعصية فقط فتأمل ذلك فإنه مهم (قوله ومن علامات القبول) جواب لما يقال على القول قبله لا اطلاع لنا على القبول (قوله ولا يعاود المعاصي) ظاهره أنه يترك المعصية ولو صغيرة إلى الممات وفيه وقفة والأوجه حمله على أنه لا يرتكب مفسقاً ولا صغيرة ويصر عليها لأن اجتناب الكبائر مكفر الصغائر فكأنها لم تفعل ولا ينافي ذلك وجوب التوبة منها كما لا يخفى لأن عدم التوبة منها يستلزم الإصرار عليها وهو قد يكون كبيرة فوجبت التوبة منها لئلا يجر تركها إلى كبيرة فإن قلت الإصرار صغيرة فالاجتناب مكفر له أيضاً قلت قولهم إذا غلبت الصغائر الطاعات صار فاسقاً صريح في أنه لا فرق حينئذ بين أن تكون صغائره مكفرة أولا بل لا يأتي ذلك إلا إذا كانت مكفرة لأن كلامهم في الغلبة وضدها في غير مرتكب الكبيرة أما مرتكبها فهو فاسق مطلقاً غلبت طاعته أولا فإن قلت كيف يحكم على من مر بالفسق مع أنه لا ذنب عليه قلت التكفير من أمور الآخرة والحكم بالفسق المستلزم لوجوب التوبة ورد الشهادة ونحو ذلك من أمور الدنيا بناء على أن قوله تعالى إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم يحتمل أن المراد اجتنابها إلى وقت وقوع الصغيرة ويحتمل اجتنابها إلى الموت وهو ظاهر اللفظ وحينئذ فلم يتحقق التكفير قبل الموت فاتضح وجوب التوبة من الصغائر والنظر إلى أنها هل تغلب الطاعات أم لا ثم رأيت المصنف في المجموع قال في خبر مسلم ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يأت كبيرة وذلك الدهر
16
والدَّلاَئُلُ عَلَّى فَضْلِ الْحَجِّ كَثِيرَةٌ مَشْهُورَةٌ في الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهَا وَفِيهَا أَشَارْنَا إِلَيْهِ كَفَايَةٌ فَتَشْرَعُ الآنَ في أبْوَابِ الْكِتَابِ وَمَقَاصِدِهِ مُستَعَيِّنًا بالله تَعَالَى مُسْتَمِدًّا منهُ التَّوْفِيقَ وَالهِدَايَةَ وَالصِّيَانَةَ وَالرِّعَايَةَ.
كله وفي خبره أيضًا الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة كفارات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر في معنى هذين تأويلان أحدهما تكفير الصغائر بشرط أن لا يكون هناك كبيرة فإن كانت لم يكفر شيء لا الصغائر ولا الكبائر والثاني وهو الأصح المختار أنه يكفر الصغائر وتقديره تغفر ذنوبه كلها إلا الكبائر انتهى وما صححه واختاره ينافيه ظاهر الحديثين والآية المذكورة فنأمل ذلك (قوله والدلائل على فضل الحج كثيرة مشهورة في الصحيحين وغيرهما) منها قوله ﷺ تابعوا بين الحج والعمرة فإن متابعة ما بينهما يزيد في العمر والرزق وفي رواية فإنهما ينفيان الفقر والذنوب وورد حجج تترى وعمر نسقا يدفعن ميتة السوء وعيلة الفقر والمراد بالمتابعة كما استظهره المحب الطبري الإتيان بكل عقب الآخر بحيث لا يتخلل بينهما زمان يصح إيقاع الثاني فيه وله احتمال أن المراد به العرف ولو قيل بترجيحه لم يبعد ومعنى تترى أي بعضها في إثر بعض ويأتي ما ذكر من الاحتمالين والعيلة الفاقة وصح في فضل الحج والعمرة أحاديث أخر كثيرة منها قوله ﷺ الحج يهدم ما قبله وقوله اللهم اغفر للحاج ولمن استغفر له الحاج وقوله استمتعوا بهذا البيت فقد هدم مرتين ويرفع في الثالثة وقوله إن الله تعالى يقول إن عبدًا صحت له جسمه ووسعت عليه في المعيشة تمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلى المحروم وهو محمول على تأكد استحباب الحج والعمرة في المدة المذكورة والقول بوجوبه في كل خمسة أعوام أخذًا من ذلك خارق للإجماع وقوله ما أمعر أي بمهملتين افتقر حاج قط وقوله عمرة في رمضان تعدل حجة معي وصح أيضًا من الذين لا ترد دعوتهم الحاج حتى يصدر وأن النفقة في الحج كالنفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف.
17
بسم الله الرحمن الرحيم
الباب الأول
(فى آداب سفره وفيه مسائل)
(الأولى) يُستَحَبُّ أنْ يُشَاوِرَ مَنْ يَثِقُ بدينه وخبرته وعِلْمه في حَجَّه في هَذَا الْوَقْتِ وَيَجِبُ عَلَى مَنْ يُشِيرُهُ أنْ يَبْذُلَ لهُ النَّصيحةَ وَيَتَخَلَّى عَنْ الْهَوَى وحُظُوظ النَّفْسِ وَمَا يَتَوَهَّمُهُ نافعاً في أمُور الدُّنْيَا فَإِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ والدِّينُ النَّصِيحَةُ.
(قوله من يثق) خرج به أخذ الفأل من المصحف فإنه مكروه وقيل حرام وفعل البدر ابن جماعة له اختيار له (قوله في هذا الوقت) بين به أن الاستشارة ليست في أصل العبادة بل في وقتها ويؤخذ منه أن الكلام فيمن لا يتضيق عليه الحج وأما من تضيق عليه فلا يندب له الاستشارة إذ لا فائدة فيها مع التضيق نظير ما يأتي في الاستخارة وظاهر صنيعه أن الأولى تقديم الاستشارة وليس ببعيد حتى عند التعارض لأن الطمأنينة إلى قول المشير الآتي أقوى منها إلى النفس لغلبة حظوظها وفساد خواطرها (قوله ويجب على من يستشيره الخ) صرح الأصحاب بأن من علم عيباً بنحو مبيع أو خاطب أو مخطوب وجب ذكره لمن يريد نحو شراء أو تزويج وإن لم يستشر فقياسه هنا وجوب النصح إن أدى تركه إلى ضرر له وإن لم يستشر (قوله وما يتوهمه الخ) معطوف على الهوى وكأن المراد به أنه لا ينبغي له أن يشير عليه بأمر تعود مصلحته إلى الدنيا فحسب بل الواجب إخباره بما تعود مصلحته إلى الدين وحده أو مع الدنيا (قوله فإن المستشار مؤتمن) هو حديث رواه أحمد وغيره وله شاهد حسن وفي رواية فإن شاء شار وإن شاء سكت فإن أشار فليشر بما لو نزل به فعله وينبغي حمل التخيير حتى لا ينافي ما مر على ما إذا لم يترجح عنده الإشارة وإلا وجبت (قوله والدين النصيحة) هو جزء من الحديث الصحيح المشهور.
18
(الثَّانِيَةُ) إذَا عَزَمَ عَلَى الْحَجِّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخِيرَ الله تَعَالَى وَهَذِهِ الاِسْتِخَارَةُ لا تَعُودُ إِلَى نَفْسِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ خَيْرٌ لاَ شَكَّ فِيهِ وَإِنَّمَا تَعُودُ إِلَى وَقْتِهِ فَمَنْ أَرَادَ الاِسْتِخَارَةَ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ وَأَسْتَقْدِرُكَ
(قوله إذا عزم على الحج) يلحق به العزم على كل واجب أو مندوب موسع بل ينبغي ندب الاستخارة حتى في المباح (قوله فينبغي) أي يندب للخبر الصحيح من سعادة ابن آدم استخارة الله ومن شقاوة ابن آدم تركه استخارة الله (قوله وهذه الاستخارة لا تعود إلى نفس الحج الخ) يؤخذ منه أنه لا استخارة في الواجب المضيق وهو ظاهر لأن معنى الاستخارة طلب خير الأمرين من الفعل الآن أو تركه وهذا لا يتصور إلا في الموسع دون المضيق لأنه لا رخصة في تأخيره (قوله يصلي ركعتين من غير الفريضة) أي في غير وقت الكراهة إلا بحرم ملكة ويظهر أنه لو نوى بصلاته الاستخارة وغيرها حرمت في وقت الكراهة لأنه اجتمع في نيته مصحح ومفسد فغلب بخلاف ما إذا لم ينو الاستخارة فإن وقوعها في وقت الكراهة لا ينافي حصول الاستخارة بها ضمناً وصرح المصنف في غير هذا الكتاب بحصولها بالفرض والنفل كالراتبة والتحية واعترضه بعض المتأخرين وأطال فيه ويجاب عنه بأن المراد بحصولها حينئذ سقوط الطلب أما حصول الثواب فلا بد فيه من النية نظير ما ذكروه في تحية المسجد ونحوها فقوله من غير الفريضة للكمال لا للاشتراط وواضح أن الكلام فيمن تقدم همه على الشروع في الصلاة لأنه لا يخاطب بسنة الاستخارة إلا حينئذ فهذا هو الذي يتردد فيه بين حصولها بفعل فرض أو نفل آخر أما لو خطر له الهم أثناء صلاته فلا يحصل له شيء مطلقاً وشمل قوله والنفل أكثر من ركعتين والحصول به على التفصيل المذكور ظاهر نظير ما ذكروه في تحية المسجد مع أن في حديثها التعبير بركعتين أيضاً وبالركعة والوجه عدم الحصول بها نظير التحية أيضاً وخبره ثم صل ما كتب الله لك يشملها وأكثر منها لكن استنبط منه معنى خصصه بغيرها ولا يخصصه حديث الركعتين لأنه من ذكر بعض أفراد العام الذي هو ما كتب الله لك وهو لا يخصص (قوله ثم يقول) أي عقب الصلاة لا فيها قال المصنف ويسن افتتاح هذا الدعاء وختمه بالحمد لله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم أي كسائر الأدعية ويسن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في أثناء الدعاء أيضاً إن كرره (قوله بعلمك) الباء للسببية ويحتمل كونها للقسم (قوله وأستقدرك) في رواية وأستهديك والمعنى متقارب
19
بِقْدْرَتِكَ وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ العَظِيمِ فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الغُيُوبِ اللّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمْ أَنَّ ذَهَابِى إِلَى الْحَجِّ فِى هَذَا العَامِ خَيْرٌ لى فى دِينِى وَدُنْيَاىَ وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِى وَعَاجِلِهِ وَآجِلِهِ فَاقْدُرْهُ لى وَيَسِّرْهُ لى ثُمَّ بَارِكْ لِى فِيهِ. اللّهُمَّ وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ شَرٌّ لى فى دِينِى وَدُنْيَاىَ وَمَعَاشِى وَعَاقِبَةِ أَمْرِى وَعَاجِلِهِ وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّى وَاصْرِفْنِى عَنْهُ وَاقْدُرْ لى الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ رَضِّنِى بِهِ.
(قوله فإنك تقدر الخ) كان حكمة تقديم القدرة هنا على العلم عكس الأول أن الباعث على الاستخارة شهود أن علمه تعالى محيط بسائر الكليات والجزئيات فكان تقديم العلم ثم أنسب وأما هنا فقد وقع سؤال الفضل وشهود القدرة على المسئول. أكمل من شهود العلم به إذ هى المتكفلة بنيل المطلوب فقدم فى كل من المقامين ما هو الأنسب به وإن احتيج إلى شهود كل من العلم والقدرة فى كل من المقامين (قوله إلى الحج) أشار إلى ما فى حديث البخارى من أنه يسمى حاجته وحينئذٍ فالسنة تسمية الأمر الذى يستخير فيه ليكون ذلك أبلغ وأوضح وظاهر قوله أنه شر إلى الاكتفاء بالتسمية فى الأول وهو ظاهر وإن قيل يسميها فيهما (قوله وعاقبة أمرى وعاجله وآجله) لفظ الحديث وعاقبة أمرى أو قال عاجل أمري وآجله فجمع المصنف بين الكلمتين احتياطاً ومنه يؤخذ قاعدة حسنة وهى أن كل ذكر جاء فى بعض ألفاظه شك من الراوى يسن الجمع بينها كلها ليتحقق الإتيان بالوارد ثم رأيت ما يأتى فى كثيراً كبيراً فى دعاء عرفة وهو يؤيد ما ذكرته وينبغى التفطن لدقيقة قد يغفل عنها ولم أر من نبه عليها وهى أن الواو فى المتعاطفات التى بعد خير على بابها وفى التى بعد شر بمعنى أو لأن المطلوب تيسيره لابد من أن يكون كل من أحواله المذكورة من الدين والدنيا والعاجل والآجل وغيرها خيراً والمطلوب صرفه يكفى أن يكون بعض أحواله المذكورة شراً وفى إبقاء الواو على حالها فيه إيهام أنه لا يطلب صرفه إلا إن كانت جميع أحواله لا بعضها شراً وليس مراداً كما هو ظاهر (قوله حيث كان) فى رواية النسائى حيث كنت (قوله ثم رضنى به) فى رواية للبخارى ثم أرضنى وفى أخرى للنسائى وغيره ثم أرضنى بقضائك وفى رواية ومعادى ومعاشى وفى أخرى ومعيشى وفى أخرى بعد اقدره لى وأعنى عليه وفى أخرى بعد حيث كان لا حول ولا قوة إلا بالله فيسن الجمع بين ذلك كله
20