بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: حَاشِيةُ الشِّهَابِ عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوِي (الْمُسَمَّاة: عِنَايةُ القَاضِى وكِفَايةُ الرَّاضِى عَلَى تفْسيرِ البَيضَاوي)
المؤلف: أحمد بن محمد بن عمر شهاب الدين الخفاجي المصري الحنفي
دار النشر: دار صادر - بيروت
عدد الأجزاء: ٨
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
_________
تعريف بالكتاب:
هذه حاشية الشهاب الخفاجي على تفسير الإمام البيضاوي "أنور التنزيل وأسرار التأويل" وهي من أعظم الحواشي فائدة وأكثرها نفعًا وأسهلها عبارة، وقد قال الشهاب في مقدمة حاشيته: "نظمتها في سلك التحرير عقدًا، واجتهدت في أن أقلد بها جيد هذا العصر العاطل تقليدًا، فجاءت مواردها صافية من الكدر ورياضها محروسة بعين القضاء والقدر"، فجاءت هذه الحاشية كما قال.
ولا بد هنا من كلمة حول تفسير الإمام البيضاوي، فننقل ما قاله حاجي خليفة في كشف الظنون. قال: "وتفسيره هذا كتاب عظيم الشأن غني عن البيان، لخص فيه من الكشاف ما يتعلق بالإعراب والمعاني والبيان، ومن التفسير الكبير ما يتعلق بالحكمة والكلام، ومن تفسير الراغب ما يتعلق بالاشتقاق وغوامض الحقائق ولطائف الإشارات. وضم إليه ما ورى زناد فكره من الوجود المعقول والتصرفات المقبولة فجلا رين الشك عن السريرة وزاد في العلم بسطة وبصيرة".
قال: "ولكونه متبحرًا جال في ميدان فرسان الكلام فأظهر مهارته في العلوم حسبما يليق بالمقام، كشف القناع تارة عن وجوه محاسن الإشارة وملح الاستعارة، وهتك أستار أخرى ممن أسرار المعقولات بيد الحكمة ولسانها وترجمان الناطقة وبنانها، فحل ما أشكل على الأنام، وذلل لهم صعب المرام وأورد في المباحث الدقيقة ما يؤمن به عن الشبه المضلة، وأوضح له مناهج الأدلة ... ".
Shafi da ba'a sani ba
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدمة
يا مفيض البركات ومنزل الآيات البينات، افتح عيون بصائرنا لمشاهدة أنوارك، وارزقنا من موائد كرمك ذوق حلاوة أسرارك، ووفقنا لشكر آلائك، والتوفيق له من جملة نعمائك، واجعلنا ممن تمسك بعرا اليقين، واعتصم بحبلك المتين، من كتابك الكريم المنزل نجومًا مشرقة بنور الهدى، ورجومًا لشياطين الغواية المسترقة لسمع التحدّي في ظلمات الردي، فقطع علاقتهم عن طريق الحقيقة، فلم يهتدوا إلى المجاز، حتى تصغى أسماعهم إلى هيمنة الإعجاز، فظل كل شاعر في واد يهيم لا يجد شعورًا، وكل خطيب لسن يرى أسجاعه هباء منثورا، إلا من لمعت له أنوار ذاته، من خلف سرادقات صفاته، قد حل عكاظ الحقائق، وفاز بمتاع أسرار الدّقائق، بالوساطة المحمدية لا زالت الملائكة تهدي منا إليه كل حين أنفس صلاة وسلام وتحية، فإنه جزاه الله عنا خير الجزاء ختمت به الأديان، وفتحت به أبواب الرحمة وقصور الجنان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه عرانين الكرم ومصابيح الدجى والظلم، حماة بيضة الهدى، وكماة حومة الوغى، ما لمعت بروق البراهين، من مطالع اليقين.
(هذا) وإنّ الله تعالى لما خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور، خط على مهارق البسيطة آيات توحيده معربة بالنبات منقوطة بالزهوره
والأرض طرس والرياض سطوره
والزهر شكل بينها وحروف
وجعل أديم الخضراء المحيط بالستور لأوراقها جلد مذهبًا بالشموس والبدور، بعدما
خاط دفاتر الرياض بإبر الطل وخيوط الوسمي الفياض، ثم نشر صحفها على كراسي الروابي، بأيدي الصبا والقبول حتى درسنها بمكتب الهيولي أطفال الطبائع والعقول، فردّدها خرير الماء الجاري، وخطبت بسجعها على منابر القصب فصحاء القماري، فآذان الزهور لها مصغية، ورؤوس الجبال مطرقة، وعيون سيارة الزهر لها حائرة باهتة محدقة، فلم تهتد لها قلوب ميتة ظلت أجسامها لها قبورا: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا﴾ [الإسراء: ٤٤] فسبحان ما أوضح دلائل توحيده، وما أفصح ألسنة
1 / 1
الكائنات الناطقة بتمجيده، كما أبداه ترجمة الحضرة القدسية، دوحة جرثومة المجد الأبطحية، من قرع هامة العز والشرف، وشنف مسامع الدهر بدرر لا تعرف آذان الصدف، من كتاب تدفقت مياه البلاغة من حياضه، وتفجرت ينابيع الإعجاز خلال رياضه، فشرقت بها المصاقع حدا، وغصت بعريض العجز كمدًا.
كما قال الوليد وقد أصاخ له:
" والله إنّ له لحلاوة وإنّ عليه لطلاوة وإنّ أسفله لمغدق وان أعلاه لمثمر وما هذا بقول
بشر ".
والفضل ما شهدت به الأعداء، فكل من ينعم النظر فيه ويمعنه يقول هذا طراز ما أحسنه،
وهم ما هم في الجلاد والجدال، وفتح أكمام الأفواه عن أنوار المقال من كل من ساجل الدهر حتى مل ساجلتة، وصبر حتى وجد صبره من الفرج ضالتة، وكانت مناهل تفسيره تردها سابلة الأفهام، والمورد العذب كثير الزحام، وتفسير البيضاوي له من بينها اليد البيضاء لاقتناصه رواتع الأصلين وبدائع الشريعة الغرّاء، وقد تقدم رتبة وأن جاز منه أخيرا، فلسان حاله يتلو ﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا﴾ [الفرقان: ٣٣] وإن أمعنت في تأويله نظرًا ليس حسيرا ولا كليلًا، فهو خير وأحسن تأويلاَ.
أتيت بها يدا بيضاء حتى ~ كأنك في الذي أبدعت موسى
وقد أحييت موتى الفضل فيها ~ كما قد كان يحيى الميت عيسى
له فيه وفور حظ وسلاسة لفظ كما قال البحتري:
قد ركبن اللفظ القريب فأدرك ~ ن به غاية المرام البعيد
بل لفظه قريب لكنه أمنع من معشوق له رقيب، وشاؤه بعيد، ولكن ليس لنفس الفكر
وراءه تصعيد فيه أنضر روض طابت ثماره، وتفتحت بيد النسيم أنواره، سقاه من صيب البلاغة هتونه، حتى تشعبت فروعه وتهدلت غصونه، نجوه بصوب الوحي مغدق، ودوحه في ربيع المعاني مثمر مورق وكنت ممن اجتنى باكورة أبكاره، وتمشت في حدائقه أحداق أفكاره، وقد كثرت حواشيه، ونمّ على ضمائر أسراره وأشيه، وتبرّج القليب بعذب ماؤه، وبإنفاق المال يزكو نماؤه، وبصقل الفرند يبدو جوهره وعنقه، ويزيد في عطر المسك الذكي سحقه، راقت محاسنه فالعيون والأذان تهواها، فلو مني الحسن أمانيّ ما تعدّاها.
إذا امتحنت محاسنه أتته ~ غرائب جمة من كل باب
وكيف تتشبث يد المحجن بأهداب سحره، أو يصل غائص النظر إلى قرار فكره، والتفاسير جداول تنصبّ في لجة بحره ولكني رأيت البغاث ربما تفكهت بأعذب الثمار، ووردت قبل الضواري غير الأنهار فحداني ذلك إلى موارده ومصادره، وحثني على الغوص على فرائد جواهره، وأن أكتب عليه حواشي تكون سياجا لثماره، ومقدمات لنتائج أفكاره، التي تحير فيها البيان، ونادت الفضل للمتقدم في كل زمان، ولما ثقبت دررها من الأقلام المثاقب، وكان فكر الشهاب لها هو الثاقب.
ولاح نور من سنا أفقها ~ لا يدعيه البدر والشمس
نظمتها في سلك التحرير عقودا، واجتهدت في أن أقلد بها جيد هذا العصر العاطل
تقليدًا، فجاءت مواردها صافية من الكدر، ورياضها محروسة بعين القضاء والقدر، لا زالت وجوهها ناضرة، وعيون معانيها إلى ربها ناظرة، ما انجلى صدأ القلوب والأفهام بتدبر ما في الذكر الحكيم من الأحكام فرحم الله من استصبح من نور القرآن، واستضاء بقبس البيان، وجعل ذلك مطية إلى سبل الجنان.
أخلق بذي الصبر أن يحظى بحاجته ومد من القرع للأبواب أن يلجأ
ولما وقفت دهم الأقلام على ساحل التمام، سميتها " عناية القاضي وكفاية الراضي "، وها أنا أقول مستعطيًا بكف الضراعة القبول.
(مصنف هذا الكتاب) أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد بن علي أبو الخير القاضي ناصر الدين البيضاوي نسبة إلى البيضاء قرية من أعمال شيراز كان إمامًا في فقه الشافعيّ رحمه الله تعالى
1 / 2
والتفسير والأصلين والعربية، والمنطق نظارا زاهدا متعبدا، ومن مصنفاته هذا التفسير وهو أجلها ومنهاج الأصول وشرحه، وشرح مختصر ابن الحاجب ومتن في علم الهيئة وشرح المنتخب للرازي والطوالع والإيضاح في أصول الدين، والغاية القصوى في فقه الشافمي وشرح المصابيح ومختصر الكافية وتاريخ الدول الفارسية الذي سماه نظام التواريخ، وتوفي سنة خمس وثمانين وستمائة بتبريز وقال السبكي: سنة إحدى وتسعين وستمائة قدس الله روحه، ونوّر ضريحه.
أقول هذا هو المشهور والذي اعتمده وصححه المؤرّخون في التواريخ الفارسية أنه توفي
في شهر جمادى الأول سنة تسع عشرة وسبعمائة تقريبا ويشهد له ما في آخر تاريخه نظام التواريخ وهو المعتمد:
قوله: (الحمد لله الخ) براعة استهلال وفي نسخة القرآن بدل الفرقان والأولى موافقة للتنزيل إن فسر بما يكون مفرّقًا في النزول لا بالفارق بين الحق والباطل ونحوه بحسب الظاهر
بناء على الفرق بين التنزيل والإنزال بأن الأول التدريجي والثاني الدفعيّ، وهل هو أكثريّ أو كليّ أو عند القابل وضعيّ مستفاد مما يدلّ عليه التكثير أولًا ذهب إلى كل طائفة.
وسيأتي في محله ولا يرد هنا السؤال الوارد على النظم في سورة الفرقان بأنّ الموصول يقتضي سبق العلم بالصلة ليتعرّف بها وهذا ليس كذلك، فيجاب بأنه نزل منزلة المعلوم لسطوع برهانه ونحوه لأنه علم بعد ذلك فضلًا عن زمان التصنيف، والنزول وإن استعمل في الأجسام، والأعراض لا يوصف به إلا باعتبار محالها والقرآن من الأعراض الغير القارّة فلا يتصوّر إنزاله ولو بتبعية المحل فهو مجاز متعارف لوقوعه على مبلغه كما يقال نزل حكم الأمير من القصر، أو التنزيل مجاز عن إيحائه من الأعلى رتبة إلى عبده تدريجًا كالتجوّز في الطرف أو الإسناد، والقرآن مصدر قرأ قراءة وقرآنًا صار حقيقة في المقروء وهو كلام الله الذي بين دفتي المصحف ويطلق على المجموع، وعلى المشترك بينه وبين الأجزاء المختصة به، وعلى تلك الأجزاء، وعلى الكلام النفسيّ القائم بذاته، والظاهر اشتراكه بينها خلافًا لمن جعله حقيقة في أحدها، وقيل: المعرّف مخصوص بالجميع بخلاف المنكر حتى لو حلف لا يقرأ القرآن لا يحنث إلًا بقراءة الجميع بخلاف ما لو حلف لا يقرأ قرانًا ثم إنّ المصنف رحمه الله تعالى لم يقل تبارك مع أنه الموافق للنظم والمناسب للاقتباس المتعارف فيه ترجيحًا لمقتضي المقام من التصريح بالحمد.
وقيل: لا حاجة إلى العذر لأنه عند ارتكاب خلاف الظاهر إلا أن يقال إنه هو الظاهر بعد قصد الاقتباس، فإذا عارضه مقتضى المقام فرعايته أولى لأنّ مبنى البلاغة على مطابقته والاقتباس من المحسنات، وفيه نظر ثم إنه رتب استحقاق الحمد على تنزيل القرآن لبراعة الاستهلال مع أنه من أعظم النعم لأنّ به نظام المعاش والمعاد وقال على عبده موافقة للنظم، ولأنه أشرف الأوصاف لاقتضائه التمحيض لجانب الحق بخلاف النبوّة والرسالة، ولذا قال: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ﴾ [الإسراء: ١] كما قال الشاعر:
لاتدعني إلا بياعبدها ~ فإنه أشرف أسمائي
وإضافته لله للتشريف وفي كيفية نزوله كلام فقيل نزل جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، وأمرت السفرة بانتساخه، ثم نزل إلى الأرض منجّما في ثلاث وعشرين سنة على حسب المصالح وإنّ جبريل تلقاه في مقامه عند سدرة المنتهى من حضرة القدس إمّا بسماعه بلا صوت ولا حرف أو بصوت من جميع الجهات على خلاف العادة أو من جهة بصوت غير مكتسب للعباد، وقيل: أخذ المعنى وخلق فيه علم ضروري بعبارته، وقيل: تلقاه بلفظه ومعناه بالذات أو بواسطة ملك آخر كما فصل في محله وقوله: (ليكون) فيه ضمير مستتر للعبد وهو الأظهر أو للقرآن، وقد جوّز أن يكون لله، ونذير بمعنى منذر أو مصدر بمعنى الإنذار كالنكير
والاقتصار على الإنذار إمّا اكتفاء والمعطوف مقدّر أي وبشيرًا، وحذف لتوافق النظم وفيل لأنه يعمّ الكل بخلاف البشير، والأوجه أن يقال اقتصر عليه ليوافق قوله فتحدّي إلخ إذ المعارضة إنما صدرت من الكفرة واللائق بهم الإنذار لا التبشير، وعلى تقدير عمومه فهو للبشر أو للثقلين، وهو المناسب للعالمين، لا يشمل الملائكة إلا بتكلف أنّ إنذار الثقلين إنذار لهم وما قيل من أنه إن كان المراد بالإنذار
1 / 3
والبشارة ما هو بطريق التعيين مثل فلان يدخل الجنة وفلان يدخل النار، فلا عموم في شيء منهما وإلا فهما سيان في العموم نحو من اتصف بكذا يثاب، أو يعاقب فليس بشيء إذا المراد الثاني والعصاة، والكفرة من حيث العصيان والكفر منذرون غير مبشرين بلا شبهة، وتحقيق الحمد ومعنى العالمين سيأتي في محله، ولام ليكون تعليلية، وهو ظاهر على رأي من جوّز تعليل أفعاله تعالى، ومن منعه يقول لها ثمرات وحكم نزلت منزلة العلل أو هي لام العاقبة، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى قوله: (فتحذّي الخ) التحدّي طلب المعارضة ويكون بمعنى المعارضة نفسها كما صرّح به أهل اللغة لكنه غير مناسب هنا كما توهم إلا بتعسف لا حاجة إليه وأصله من الحداء، وهو التغني لحث الإبل على سرعة السير، ثم توسعوا فيه وصار حقيقة لما مرّ، ولذا قيل إن فيه إيماء إلى اختصاصه بالإنس بل العرب لأنهم أصحاب إبل فيكون تمهيدا لما بعده، وجملة تحدّي لا تحتاج إلى رابط وإن عطفت على جملة الصلة، وكان الضمير فيها عائدا إلى العبد كما هو الظاهر لتكلف عوده إلى القرآن من غير حاجة إليه إذ الفاء تجعلهما كجملة واحدة، فيكتفي بالضمير الواقع في إحداهما مثل الذي يطير الذباب فيغضب عمرو كما قرّره النحاة سواء قلنا الفاء سببية فقط، أو سببية وعاطفة كما ارتضاه الرضى فإن كان الضمير لله فهو ظاهر، والتحدّي كما ينسب للنبيّ ﷺ لقوله: ﴿وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسورة مِّن مِّثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] وهذا مما لا مرية فيه وإنما الكلام في أنه إن أريد بالقرآن المجموع لم يصح دخول الفاء لأنّ التحدّي لم يكن بعد نزول المجموع وإن لم يرد لم يصح رجوع الضمير في من سورة إليه إذ هي بعض من الأوّل دون الثاني، كما في بعض الحواشي، وقد أجيب عنه بوجوه:
الأوّل: أنّ المراد المجموع لكنه تجوّز به عن الإرادة كما في قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ﴾ [المائدة: ٦] ولا يلائمه ما بعده لأنّ الإنذار بما نزل لا بما أريد إنزاله اللهمّ إلا أن يقال إرادة إنزال الكل لا تنافي إنزال مقدار يتحدّى به وينذر ولا يظهر أيضًا كونه محمودا عليه، وإن كان الأمر فيه سهلًا.
الثاني: أنّ المراد به الثاني والتفريع باعتباره، وإرجاع الضمير إليه باعتبار المجموع استخدامًا، ولا يخفي ما فيه، فإنّ المقام لا يناسبه، وإرجاع الضمير إليه لأنه من جنسه كعندي درهم، ونصفه أقرب وإن قيل إنه استخدام أيضًا.
الثالث: أنّ الفاء للترتيب الرتبيّ لا الوجوديّ كما في يرحم الله المحلقين فالمقصرين لأنّ التنزيل أعلى وأشرف رتبة من التحدّي لأنه من أعظم النعم في هداية المؤمنين ولذا جعل محمودًا عليه أو للترتيب في الوجود لكنه بالنسبة إلى إنزال بعض القرآن لكون التحدي في أثناء التنزيل قاله الفاضل الليثيّ في حواشيه، ثم اعترف ببعده ونوّره بقوله وهو وان كان بحسب الظاهر بعيدًا لكنهم اعتبروا مثله فإنهم ذكروا أنّ المعطوف إذا كان ذا أجزاء تحصل بتمامه في زمان طويل جاز عطفه بالفاء إذا كان أوّل أجزائه متعقبا وجاز عطفه بثم نظرا إلى تمامه، وعلى هذا إذا كان المعطوف عليه كذلك والمعطوف متعقبًا لآخره جاز الفاء نظرا إلى آخره وثم نظرًا لأوّله كما قرّره التفتازاني في " شرح المفتاح " في قوله: فأصح ثم اختل في الالتفات، وان ردّه الشريف، فدل على أنّ تراخي المعطوف لا يجب أن يكون عن جميع المعطوف عليه بل يجوز أن يكون مجتمعًا مع بعض أجزائه متراخيا عن بعض فلا يبعد تجويز مثله في التعقيب والمقصود مجرّد التمثيل لاعتبارهم في الترتيب بين المعطوف والمعطوف عليه بعض الأجزاء، ولا ينافي ذلك الاعتبار تعقيب الأمر الممتدّ المتعقب أوّل أجزائه بالمعطوف عليه، ووصفه بكونه عقيبه لأنه كذلك حقيقة، أو في العرف نظرًا إلى عدم تخلل زمان بين زمان وجوده وزمان المعطوف عليه بخلاف ما ذكرنا لأنا نذعي أنّ ذلك متعارف.
والرابع: أنّ المراد بالقرآن الجنس من حيث الوجود لا المجموع ولا المفهوم الكلي،
وهو أقرب إذ به يصح التفريع وعود الضمير بلا تكلف وتأوّل، لكنه لا يخلو عن نظر وكون المتحدي به اقصر سورة يؤخذ من التنوين في قوله تعالى: ﴿فَأْتُواْ بِسورة مِّن مِّثْلِهِ﴾ [البقرة: ٢٣] وقوله من سوره احتراز عن سور غيره من الكتب السماوية، فإن فيها سورا أيضًا كما صرّحوا به. قوله: (مصاقع الخطباء (جمع خطيب وهو من يأتي بالخطبة وهي الكلام البليغ المقول على رؤوس الأشهاد وأن لم يكن على الوجه المتعارف الآن، ولا يشترط فيه السجع أيضًا كما توهم والمصقع
1 / 4
بكسر الميم بزنة منبر البليغ ومن لا يرتج عليه كلامه، والجهير صوته، ومثله لفظا ومعنى مجهر من صقع الديك إذا صاح، أو من الصقع بمعنى الجانب لأنه يأخذ في كل جانب من الكلام، أو من صقعه إذا ضرب صوقعته وهي وسط رأسه، والعرباء كالعاربة الخلص الصريح، وقال ابن قتيبة: العرب العاربة ولد اسماعيل والمتعرّبة غيرهم وهذا معنى آخر غير مراد هنا لأنه للتأكيد من لفظه كليل أليل وظل ظليل كما هو دأبهم إذا ارادوا المبالغة ومن في قوله: من العرب الخ تبعيضية سواء أريد ما هو أعمّ من الفصحاء او خص بهم بقرينة ما بعده لأن منهم خطيبا وشاعر وغيره وليس خاصا بالخطباء، ويجوز أن تكون بيانية بتاويله بما من شأنه ذلك وقيل هي على الأوّل تبعيضية، وعلى الثاني بيانية. وقيل: الأوجه على التقديرين أن تجعل بيانية لأنّ مصاقع الخطباء أخص من مطلق الفصحاء، ولا يخفى أنّ فيه ما هو غنيّ عن البيان. قوله: (فلم يجد به قديرا) قيل أي لم
يجدهم أو لم يصب إشارة إلى ما في الرضى من أنّ وجد لإصابة الشيء على صفة ومن خصائص أفعال القلوب أنك إذا وجدته على صفة لزم أن تعلمه عليها بعد أن لم يكن معلوما انتهى يعني أنّ أصل معناها الإصابة كوجد ضالتة فيتعدّى لواحد قال المتنبي:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد~ذاعفة فلعله لا يظلم
ثم إنها إذا دلت على الوجدان العلمي، كانت مثله في التعدي لاثنين، وهذا يخالف ما
في التسهيل من أنّ كلا منهما معنى على حدة، وليس هذا محل تفصيله، والوجهان جائزان هنا، ولو قيل إنه على تعديه لاثنين مفعوله الأوّل تقديره هنا فلم يجد المتحدي بصيغة المفعول وبه صلتة لتعديه بالباء والضمير للفرقان لم يبعد، وهو أقرب من تعلقه بيجد على أنّ الباء للسببية، أو الملابسة أو بمعنى مع، والضمير للفرقان أولًا قصر سورة أو للتحدي لا للعبد لما فيه من البعد أو هو متعلق بقدير قدم للفاصلة أو للقصر لقدرتهم على غيره والباء بمعنى على كما قال النحاة في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ﴾ [آل عمران: ٧٥] وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ﴾ [المطففين: ٣٠] أو على ظاهرها لأنه في معنى لاطاقة له به، فلا يعترض عليه بأنّ صلتة على لا الباء لا يقال لا يلزم من نفي كامل القدرة الخاص نفي من له قدرة ما العام لما قيل من أنّ قديرا هنا بمعنى قادر جرّد عن قيد المبالغة أو هو كقوله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: ٤٦] أحد الوجوه، وهو أنّ المبالغة في النفي لا المنفيّ على ما فيه، وقيل: إن المبالغة في وصف العبد به لا تضرّ لأنها باعتبار تعلمه وكسبه. وقيل: إنه لا ضير فيه إذا الآتي بالكامل في البلاغة لا بد من كونه كاملًا كما ستراه في سورة الأنبياء في تفسير قوله: ﴿لَا يَسْتَحْسِرُونَ﴾ [الأنبياء: ١٩] على أن المراد بمثله نفى أصل الفعل وعبر بهذا للدلالة على أنه يقتضي الغاية من ذلك، وقيل الباء للملابسة فيصح أن يكون نفي قدير نفي الكامل على ظاهره بلا تكلف، والباء متعلقة بقدير أي لم يجد من يقدر عليه فضلًا عن وجوده، فعدم الوجدان لعالم الغيب والشهادة كناية عن نفي الوجود، وأيضا المبالغة ليست لازمة لفعيل إلا إذا كان من فعل بضم العين، وليس هذا كذلك حتى يلزم أن عدم وجدان القدير لا ينافي ثبوت من يقدر عليه في الجملة، ولو سلم أنه من نفس الصيغة فلا ضير فيه كما مرّ آنفًا، وقيل: عليه أنّ القول بالنقل إنما هو في الصغة المشبهة من المتعدي ولزوم الضرر بعد التعدي ظاهر إذ الآتي بالكامل في البلاغة لا يلزم أن يكون كامل القدرة في ذلك الإتيان وإن كان كاملًا في الجملة فلا يلزم من نفي كامل القدرة نفي الآتي مطلقًا، ولا يخفي ما فيه من الخبط فإن هذا القائل أرجع ضمير يجد لله ليستلزم نفيه نفي الوجود وتصح الكناية، وما ذكر ليس بلازم حتى يرتكب مخالفة الظاهر، وما ذكره في الصيغة لا وجه له كما بينه المعترض مع أنه لم يقف على المراد فإنه عين ما حققه المصنف ﵀ كغيره في سورة الأنبياء وستعرفه، والأوجه أن الباء بمعنى في الظرفية متعلقة بيجد كقولك
خطب إذا نزل لم نجد فيه معينا أي في شأنه وحاله والضمير للتحدّي، وإذا لم يوجد إذا تحدّى بأقله ذو قدرة تامّة فغيره بالطريق الأولى، وأولى من هذا كله ما قرّره العز بن عبد السلام في الأسئلة القرآنية أن المبالغة كما تكون في الكيف تكون في الكمّ، فالمراد كثرة العجزة عن إعجازه.
واعلم أن الإمام الراغب قال: إن القدير لا يطلق على غير الله تعالى بخلاف المقتدر ففي إطلاقه هنا نظر لا يخفى فتأمّل
1 / 5
قوله: (وأفحم الخ) وفي نسخ أفحم بدون عاطف لأنه بيان أو توكيد لقوله: لم يجديه قديرا، فالعطف إمّا لعدم قصد ذلك أو لعطفه على جملة تحدّى ويجوز كونه استئنافًا بيانيا حينئذ أيضا والإفحام إسكات الخصم عجزًا حتى كانه لافتضاحه اسودّ وجهه وصار كالفحم كما قيل:
*فتعجبوا لسواد وجه الكاذب*
وتصدّى بمعنى تعرّض، وأصله تصدّد، فأبدلت الدال الأخيرة حرف علة هربًا من ثقل التكرار، كما قالوا في تقضض تقضي، فالمراد أسكتهم للعجز لا للصرفة كما يشهد له السياق، وهذا يدلّ على وجود التصدّي للمعارضة وقوله في) الكشاف): فلم يتصدّ للاتيان بما يوازيه أو يدانيه واحد من فصحائهم يدلّ على عدمه وكلام المصنف ﵀ هو الموافق للواقع وما في الكشاف أمّا محمول على نفي القيد أي لم يأتوا وإن تصدّوا بموازيه، أو على تنزيل تصدّيهم منزلة العدم لعدم ثمرته، وأمّا كون من تصدّي غير فصيح، فليس بشيء، وقد اعترف به الوليد مع بلاغتة ومبالغته في كفره في كلامه المعروف في السير، وقول قريش له صبًا والله
فإن قلت لم خالفه المصنف ﵀، وهو أبلغ كما قيل من وجهين، لأن عدم التصدّي مع كمال الحرص عليه أدل على العجز من عدم الإتيان بعد التصدّي كما أن عدم تصدّي واحد للإتيان بما يدانيه فضلاَ عن مساويه كذلك، ولا احتمال أن ذلك لقلة المبالاة.
قلت: هو كما ذكرت في إلا بلغية لكنه مخالف للواقع وموهم للصرفة إيهامًا قويًا فلذا
رجحه المصنف رحمه الله تعالى فاختر لنفسك ما يحلو فاثباته للتصدّي يدلّ على أنه ليس للصرفة أو الإخبار بالمغيبات، قيل: ولو قال أفحم به اندفع توهم أن الإفحام بالصرفة لا للبلاغة، وفيه أن السياق يدفعه مع أنه لا مجال له هنا إذا الصرف فعله تعالى وإلا فحام مسند إلى الرسول ﷺ وعبارة الكشاف توهمه لإسناده الإفحام إلى الله تعالى، فلذا زاد به مع أنه لولا دلالة السياق أيضًا لم يفهم أنه بالبلاغة لاحتمال أنه لاشتماله على المغيبات والسلامة من التناقض والاختلاف، ولا يخفى أن زيادة به تدفعه لأن مقدار أقصر سورة لا يجري فيه ذلك نعم لو قيل: هو لا يدفع كونه بالنظم الغريب المخالف لغيره أو بمجموع النظم والبلاغة، كما ذهب إليه الباقلانيّ لم يبعد ولا يخفى ما فيه من التعسف.
وفي تهذيب الأزهريّ. اختلف الناس في العرب، ولم سموا عربًا فقال بعضهم أوّل من نطق بالعربية يعرب بن قحطان أبو اليمن وهم العرب العاربة ونشأ إسماعيل ﵊ معهم فتكلم بلسانهم وأولاده العرب المستعرية، وقال آخرون: نشأ بعربة وهي بلدة من تهامة فنسبوا إلى بلدهم وفي الحديث " خمسة أنبياء من العرب إسماعيل ومحمد وشعيب وصالح وهود، وهذا يدلّ على أن لسان العرب قديم وكل من يسكن جزيرة العرب وتكلم بلسانهم فهو منهم انتهى فقوله عدنان وقحطان إشارة إلى قسمي العرب العارية والمستعربة وكناية عن جميعهم، وعدنان أبو معدّ أحد أجداده ﷺ، وإضافة الفصاحة إلى عدنان، والبلاغة إلى قحطان إمّا تفنن أو بناء على المتعارف من إطلاق الفصاحة على الكلام العذب السهل، والبلاغة المتين الجزيل، وهو الغالب في اللغة القديمة، والإضافة لهما لأنهما من أولادهما أو لأنهما أريد بهما القبيلة كما يقال تميم لأولاده، وهو مجاز مشهور، ثم إن المراد بالفصحاء هنا ما يشمل البلغاء، والشيخ في الدلائل كثيرًا ما يستعمل الفصاحة بمعنى البلاغة فلا يقال إن الفصاحة لا دخل لها في الإعجاز مع ما يرد عليه من المنع الظاهر قوله: (حتى حسبوا الخ) السحر كل ما لطف ماخذه ورق وما يخيل شيأ ليس بواقع واقعًا وفعله سحر مخففًا ومشدّدا وقد يمدح به نحو إنّ من البيان لسحرا على أحد الوجهين فيه وحسبوا بمعنى ظنوا، وقد يرد بمعنى اليقين نادرًا كقوله:
~ حسبت التقى والجود خير تجارة
وليس بمراد هنا، وفيه إشارة إلى أنه ظن فاسد، وتوهم كاسد إذ ليس عجزهم لسحر
ونحوه وحسبانهم لعدم الفرق بين المعجزة والسحر وسيأتي تحقيقه وليس في هذا إشعار
بالصرفة لأن جعل المانع عن الإتيان بمثله السحر يشعر بأن لهم قدرة في حد ذاتهم، ولذا قيل
إن إظهار الحسبان لدفع الخجالة والتليس على سفهائهم لعلمهم بأنه ليس بساحر وان نسبوه له
مكابرة وعنادا، ولو اعترفوا بصرف الله عن معارضتة اعترفوا بأنه من عنده فمثل هذا الخيال
الفارغ لا يضرّنا، وقيل في عبارة الحسبان ردّ على معتقدي الصرفة لدلالتة على أنه مجرّد توهم
وفيه نظر
1 / 6
وسحروا مبنى للمجهول، وحسبوا معلوم، ويصح فيه بناء المجهول، والمعنى على
الأول حسبوا أنفسهم، وعلى الثاني حسبهم من رآهم من الناس، وقد قيل: إنه أبلغ قوله: (ثم
بين للناس الخ) ثم لتفاوت ما بين مرتبتي المنكر المتحدّي والمؤمن المتدبر أو للتراخي لأنه أمر
ممتدّ فعطف بثم باعتبار أوّله وإن قارنه ويعقبه بعض منه حتى جاز فيه الفاء أيضًا كما مرّ وقيل
هو للإشارة إلى جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، وإن لم يجز عن وقت الحاجة، وفيه
نظر ولام للناس صلة أو تعليلية والعموم لا يقتضي ثبوته لكل فرد فرد، وكذا قوله ليدبروا.
ونزوله إليهم بواسطة الرسول، وهم المقصودون بالذات والجن بالتبع، وأمّا تفسير الناس بالإنس والجن كما في الصحاح فمع كونه خلاف الظاهر لا يوافق ما ارتضاه المصنف ﵀ في سورة الناس وسيأتي ما فيه فإن قلت هل نسبة التنزيل إليهم مجاز ونسبته إلى الرسول حقيقة لأنها له أوّلًا وبالذات ولامّته ثانيًا وبالعرض كحركة السفينة وراكبها كما في بعض الحواشي. قلت: لا فإن الأصل الحقيقة وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ [سورة الأنبياء: ١٠] يتبادر منه ذلك لأن المراد بإنزاله إليهم إيصاله لهم ليأتمروا بأوامره، وينتهوا بنواهيه لا الوحي وخطاب جبريل ﵊، فإن فسر بهذا لزم اختصاص معناه الحقيقي بالرسول ولا حاجة تدعو إليه. قوله: (حسبما عن الخ (أي بمقدار أو على مقدار ما سنح وعرض من قولهم لا أفعله ما عن في السماء نجم أي طلع وظهر وما موصولة أو موصوفة عبارة عن الأمور والحوادث التي لها أحكام بينها الشارع وحسب منصوب على نزع الخافض أو على الظرفية لأنه بمعنى وقت الحاجة وعامله بين أو نزل أو هو حال أي بقدر ما عن لهم وسينه مفتوحة، وقد تسكن وتبيينه كما قيل يشمل القياس، ودليل العقل لارشاده إلى ما يدلّ عليه فما رجع إليه رجع في الحقيقة إلى بيان الرسول، وفي هذا تلميح إلى قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤] قيل وظاهره أن القرآن كله محتاج للبيان ولذا قال الإمام: المراد بيان ما يحتاج إلى البيان من مجمله ونحوه ولا حاجة لهذا إن فسر البيان بالإعلام والتبليغ الذي لولاه لم يعرف وقد ورد هذا المعنى في القرآن كقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤] الآية ولذا عمم في تفسيره يقوله فكشف الخ ليشمل جميع الأقسام ورعايته لمصالحهم تفضل منه لا بطريق الوجوب كما ذهب إليه المعتزلة، والتدبر النظر في عواقب الأمور وأدبارها، والتذكر الإيقاظ و(لمحالحظة عليها لحفظها والألباب جمع لبّ وهو العقل فانه لبّ الإنسان والبدن قشره واللباس قشر القشر، وبما ذكرناه من تفسير البيان اندفع ما أورد عليه من أنه بعد البيان لا يحتاج إلى التفكر لمعرفة ما ذكر حتى يجاب بًا نه لم يبين جميع الآيات بل البعض ليتفكر في نظائره ويستنبط منها وقد يكون اللفظ بحيث لا يمكن التفكر فيه إلا بعد البيان في الجملة لكمال صعوبتة قوله: (تذكيرا (مصدر من غير فعله أو مصدر فعل مقدّر أو مصدر المجهول فيؤل إلى معنى التذكير قيل وفيه دقة لأنّ المراد تذكيرهم أنفسهم، فالتذكر تذكير بهذا الاعتبار فقصد هذا وان جاز أن يرأد تذكير الغير لأجل السجع، ويجوز أن يكون من ذكره الشيء فتذكر أي ليستحضروا ويذكروا ما هو مركوز في عقولهم مع تمكنهم من معرفتة للدلائل المنصوبة عليه، فان القرآن بيان لما لا يعرف إلا من الشرع وارشاد إلى ما يستقل به العقل ولعل التدبر للأوّل والتذكر للثاني وفيه اقتباس مع تغيير مّا وقد جوّزوه إذا لم يقصد به التلاوة (وألوا) وفي (ليدبروا) ضمير) أولى الألباب) على التنازع وأعمال الثاني أو للناس قوله: (فكشف قناع
الانغلاق) الكشف إزالة ما يستر الشيء عن المستور به والقناع بالكسر ما يستر به الرأس وهو أوسع من المقنعة والانغلاق انفعال من غلق الباب إذا سده وضرب عليه ما يمنع فتحه كالقفل وقد شاع فيما يشق الوصول إليه وما يشتد خفاؤه فيقال استغلق عليه الكلام وكلام مغلق وضده الفتح والإضافة فيه من قبيل لجين الماء، فالتقدير كشف انغلاقًا كالقناع، ولما كان المناسب للانغلاق الفتح والكشف يناسب القناع يقال كشفت قناعها وألقت جلبابها كما في الأساس جعلوا الكشف هنا ترجيحا للتشبيه وفيه ما فيه، وفي الحواشي أنه يحتمل المكنية والتخييل والترشيح تشبيها لهذا الخفاء بخفاء ما تحت القناع، وقيل: شبه الآيات تارة بمخزونات النفائس، وأخرى بمحتجبات العرائس
1 / 7
على طريق الكناية وأثبت للأولى الانغلاق وللثانية القناع ففيه استعارتان مكنيتان وتخييليتان وهو وجه وجيه ذكر أهل المعاني نظيره في قوله تعالى: ﴿جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ﴾ [سورة الأنبياء: ٥ ا] كما في شرح المفتاح فمن ظن أنه لم يسبق إليه فقد وهم إلا أنّ ما في الآية من أعلى طبقات البلاغة وما هنا أضيف أحد التخييلين للآخر والمعروف فيه عدم الإضافة كما في هذه الآية، أو إضافة التخييل مكنية، كإظفار المنية فلو كان النظم جعلناهم في حصاد الخمود كان مما نحن فيه لا يقال الانغلاق من لوازم الخزانة دون المخزونات والقناع أثبت للإنغلاق لا للآيات لأنا نقول إذا كان من لوازم الخزانة كان من لوازم المخزون بواسطة ومثله كثير، ولما شبه الانغلاق بالقناع تشبيهًا بليغا صيره من جنسه كزيد أسد كان ثابتا لللآيات ادّعاء إن كان على هذا الوجه من قبيل لجين الماء أيضا إلا أنه يكون القناع مسوقًا للتشبيه فيبعد جعله تخييلاَ واثبات الكشف له كما مرّ.
وعلى كل حال فركاكته ظاهرة والقوم صرّحوا بجواز أجتماع المصرّحة والمكنية في لفظ
واحد كما في قوله تعالى: ﴿فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ﴾ [النحل: ١١٢] فلو
حمل ما هنا عليه كان أوجه وأقرب مما ذكر فيقال استعير الانغلاق لخفاء المعاني وصعوبة
فهمها ثم لما شاع في الاستعمال استعير مرّة أخرى على طريق الكناية فشبه خفاء المعاني في
ألفاظها باحتجاب العرائس، وتسترها بقناعها وأثبت ذلك لها تخييلًا فتدبر قوله: (عن آيات
محكمات الخ (فسر المصنف ﵀ في سورة آل عمران المحكم بما أحكمت عبارته بأن
حفظت عن الاحتمال والاشتباه والمتشابه بخلافه فيندرج في المحكم النص والظاهر وفي
المتشابه ما يخالفه كالمجمل والمؤوّل، وهو مصطلح الشافعية في أصولهم، فيشملان جميع
أقسام النظم وعند الحنفية المحكم ما زاد ظهوره حتى سذ احتمال النسخ معنى وإن احتمله لفظا
وتلاوة والمتشابه ما خفي بنفسه فلا يدري أصلًا فلا يشمل الأقسام، ويرد عليه أن كشف قناع
الانغلاق يقتضي سبق الاستتار فيه، وهو غير ظاهر في المحكم، وأجيب عنه بأنّ معاني
المحكمات قبل نزول الوحي والقائه على الناس كانت مخفية، وبالقاء النبيّ الكلمات ظهرت
معانيها، وزال خفاؤها لبروزها من فناع الكمون إلى تجلي الظهور قوله: (تأويلاَ وتقسيرا) لف ونشر غير مرتب وهما منصوبان على المصدرية لأنهما نوعان من الكشف أو على التمييز أو الحالية أي مؤوّلًا ومفسرا، فالأوّل للتشابهات، والثاني للمحكمات كما في التفسير، وتسميتة تفسيرًا على هذا بالنظر إلى المعنى اللغويّ، وهو التبيين والمراد به ما يتناول التلبيغ، أو المراد ما يتناول التعبير عن مراد الله بعبارة أوضح بالنسبة إلى متفاهم العامة وحينئذ الانغلاق عبارة عن خفائها بالنسبة إلى متفاهمهم أيضًا، وقيل: لما كانت في عرضة الانغلاق كالمتشابهات، وحفظت عنه جعلها مكشوفة عنها على حدّ قولهم ضيق فم الركية، ولا يخفي ما فيه من التكلف ومنافاته لقوله تفسيرا مع تكلف الجمع بين الحقيقة والمجاز، وإن قال به المصنف رحمه الله تعالى، ومع أنه لا يناسب نسبة الكشف إلى النبي ﷺ، ولذا قيل إنه على تقدير إرجاع الضمائر لله تعالى، وأمّا على ارجاعها للعبد كما هو المتبادر من الإفحام وقرائنه فالوجه أن يراد بالمحكم غير ما ذكره المصنف ثمة وفي الدرّ المنثور المحكم ما عرف المراد منه إمّا بالظهور وإمّا بالتأويل، والمتشابه ما استأثر الله بعمله، وقيل ما لا يحتمل من التأويل إلا وجها واحد والمتشابه ما احتمل أوجهًا، وقيل ما كان معقول المعنى وما خالفه وفيه ما فيه، ومن قال في شرحه كشف لثام الانغلاق عن آيات محكمات واضحات لا تقبل النسخ فقد غفل عن مذهب المصنف رحمه الله تعالى، والمراد بكونها أمّ الكتاب أنها أصله الذي يردّ إليه وأفردها لأن المراد كل واحدة منها أو لأنها بمنزلة شيء واحد لاشتراكها كلها في الظهور وللمتشابه أسباب مختلفة، والرمز الإشارة بشفة أو حاجب والمراد ما أفيد لا بطريق الظهور، فلا يرد أنه يناسب ما فسر به الحنفية المتشابه والخطاب توجيه الكلام نحو الغير للافهام ويطلق على الكلام الموجه نفسه والتأويل من الأول وهو الرجوع لأنه بيان ما يرجع إليه بمقتضى القواعد والنظر الصحيح؛ أو بيان عاقبة الأمر كما سيأتيء
ولينى هو التفسير بالرأي المنهي عنه في حديث:) من فسر القرآن برأيه فليتبوّأ
1 / 8
مقعده من النار لأنه ما كان بمجرّد التشهي وما يتكلف فيه أو يجزم فيه بأنه مراد الله تعالى، والتفسير ما
كان برواية معتبرة، وفد يراد به مطلق التبيين ولهما معان أخر، ومن السلف من أنكر هذا الحديث لما رأى السلف والخلف على خلافه، ولا حاجة إليه كما عرفت، وما قيل من أنّ نسبة المتشابه إلى غيره تعالى تدلّ على أنّ المصنف رحمه الله تعالى لا يقف على إلا الله فيه أنّ من وقف فسر المتشابه بما استأثر الله بعلمه كوقت الساعة ومن لم يقف لا يفسر بذلك كما يسأتي قوله: (وأبرز غوامض الحقائق) أبرز بمعنى أخرج وأظهر لأنه جعله في براز من الأرض أي مرتفع وغوامض جمع غامضة أو غامض بمعنى خفي لأن فاعلًا في الأسماء وصفات غير العقلاء يجمع على فواعل، واللطيف ضدّ الكثيف والحقيقة ماهية الشيء وكنهه ولا يخفي مناسبتها للغموض، لأن حقائق الأشياء تخفي معرفتها حتى تحتاج للنظر التام بخلاف المعرفة بوجه ومناسبة الدفائق وهي الأمور المحتاجة لدقة النظر للطائف في غاية الظهور أيضًا ومنهم من فسر الحقائق بعالم الشهادة الدقائق بعالم الغيب، أو نفس العوالم وأحوالها، والإضافة لامية، أو من إضافة الصفة إلى الموصوف، وعطفه بالواو لأنه لم يقصد به تفسير ما قبله ولو قصده لصح، أو لجعل مجموع الكشف والإبراز بيانًا للتبيين قوله: (لتنجلي لهم خقايا الملك والملكوت الخ) متعلق بقوله أبرز والإنجلاء الظهور والانكشاف، والملك بالضم التصرف في الأمور، وميأني تحقيقه والفرق بينه، وبين الملك بالكسر في سورة الفاتحة، وخفايا جمع خفية وهي ضدّ الظاهرة والملكوت عظيم الملك، لأنه مبالغة فيه كالرهبوت ولذا فسر الملك بعالم الشهادة، والملكوت بعالم الغيب، وهو عالم الأمر، وقيل: الملك ما يدرك بالحس والملكوت ما لا يدرك به، والخبايا جمع خبية من خبأته إذا سترته، وفي أمالي الغزالي: عالم الملك ما ظهر للحواس تميز بعضه من بعض بقدرته تعالى، والملكوت ما أوجده بالأمر الأزليّ بلا تدريج، وبقاؤه فوق الأوّل، وعالم الجبروت ما بينهما مما يصح أن يلحق بكل منهما انتهى، والقدس بضم القاف والدال، وتسكن الطهارة والتنزه عن دنس النقص وشوائبه، والجبروت القهر والكبرياء والعظمة ويقابله الرأفة، وفي القاموس: إنه تكبر من ليس لأحد عليه حق،
وإضافة القدس له لأنّ جبروت الله متنزه عن النقص بخلاف العباد فإن تجبرهم ظلم وتعدو في نسخة القدس، والجبروت بالعطف وهو أنسب بما قبله، والمراد أن تعرّفوا ما في قهره من الحكم والمصالح، فإنه بسورة باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، وفي الحواشي الليثية المراد بخبايا قدس الجبروت صفات الله تعالى، وذكرها بعد خفايا الملك والملكوت تخصيص بعد تعميم لزيادة شرفها، ويجوز عطف خبايا قدس الجبروت على غوامض الحقائق، والتخصيص لما ذكرنا، وجوّز أن يكون المراد بخبايا قدس الجبروت صفات الأفعال، ويؤيده قوله: (ليتفكروا) فإنّ المناسب بحسب المعنى أن يكون الإبراز باعتبار تعلقه بالغوامض واللطائف معللًا بالتجلي، وباعتبار تعلقه بخبايا قدس الجبروت معللًا بالتفكر وان كان المناسب بحسب اللفظ عطفه على خفايا وحينئذ، فقوله ليتفكروا متعلق بتنجلي، وانما قلنا المناسب ذلك لأنّ صفات الذات وجمال الحضرة الإلهية، كما قاله حجة الإسلام في نهاية الإشراق والعقول لا تطيق النظر إليها إلا من آثار الصفات كما ترى الشمس إذا انكشف بعضها في طشت فيه ماء فكذا الأفعال واسطة لمشاهدة صفات الفاعل لئلا تبهر أنوار ذاته، وهذا سرّ قوله في الحديث " تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذاته ") (ولذا قال الأصفهانيّ في شرح قول المصنف في المطالع إبراز أسرار اللاهوت عن أستار الجبروت أنّ أسرار اللاهوت صفات الذات، وأستار الجبروت صفات الأفعال انتهى.
ولذا قال الدواتي في شرح الهياكل المراد بالجبروت عالم العقول ويسمى أيضا بالملكوت الأعلى والأعظم ذكره الشيخ في كتاب برنونامه. قيل: وإنما سمي به لأنها مجبورة على كمالاتها النظرية، ولأنه حفظها وجبر نقصها الإمكاني بحصول ما يمكن لها بالعقل انتهى، وقال القرطبيّ في " شرح الأسماء الحسنى): الجبروت التكبر وا العظمة ولما وقع هذا الاسم بين العزيز والمتكبر علم أن المراد به ذو الجبروت، وفي الحديث الصحيح أنه ﷺ قال في ركوعه وسجوده ص سبحان ذي الملك والملكوت سبحان ذي العزة
1 / 9
والجبروت " فجاء في الحديث بعد الملك والملكوت والعزة على ترتيب الأسماء فمعنى الجبار ذو الجبروت أي المستعلي المتعاظم، وقيل: هو الصفات السلبية، وقيل: الجبروت الملأ الأعلى لأنه جبر به نقص الإمكان بالكمال بالفعل، أو لأنهم مجبورون على حفظ كمالاتهم وهو بعيد رواية ودراية، فإن
قلت انجلاء الخفايا والخبايا بحسب المآل هو ابراز الغوامض، فكيف يجعل غاية وعلة له،
وهل هذا إلا كتعليل الشيء بنفسه ولا يخفي ما فيه.
قلت إبراز غوامض الحقائق والدقائق المراد به إظهار حقائق الموجودات المحسوسة
والمعاني المعقولة بقدر ما تسعه الطاقة البشرية، وانجلاء خفايا عالم الغيب والشهادة في الملك
والملكوت معرفة الصانع والعقائد الحقة، والحاصل أنه أوجد العالم ليدل على موجده،
ويصدق بكل مّا جاء منه فما قيل من أنّ قوله لتنجلي غاية للإبراز، وترتب الغاية على ذي الغاية
غير لازم، ولذا قالوا غاية العلوم الغير الآلية أنفسها تعسف من غير داع له. قوله: (ليتفكروا
فيها تفكيرا) التفكير بمعنى التفكر واختياره لرعاية السجع كما مرّ.
وقيل المراد بالتفكر حصول العقل المستفاد منه، وفيه إشارة إلى أصول علم الكلام فتدبر
قوله: (ومهد لهم قواعد الآحكام وأوضاعها) التمهيد وضع المهاد، وهو البساط استعير للتهيئة
والإعداد والقواعد جمع قاعدة وهي المسائل والقضايا الكلية، والأحكام جمع حكم، وهو
النسبة التامّة وخطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين عملًا واعتقادا، والمراد بالأوضاع جمع
وضع أئا بالمعنى للغوي من وضع كذا في كذا أو عليه إذا كان في داخله أو متمكنا عليه
والمعنى أنه بين الأحكام وأحوالها أو مصطلح أهل الأصول المسمي بخطاب الوضع، وهو بيان
أسباب الأحكام وشروطها ونحوهما، والضمير للقوإعد أو للأحكام والنصوص جمع نص،
وهو ما كان معناه صريحا غير محتمل لمعنى آخر، والإلماع جمع لمع كضوء وأضواء، وهو
لمعان الضوء ونحوه والمراد به إشارة النص، وليس جمع لامع كما قيل. قوله: (ليذهب عنهم
الرجس ويطهرهم تطهيرا) علة لقوله مهد أو لجميع ما مرّ والرجس اسم لما يستقذر والتطهير
إزالته والمراد إزالة الأقذار الحسية والمعنوية لتكفل الشريعة بالطهارتين، واكثر على أنّ المراد
الثاني فإن قلت معنى الطهارة إزالة الحدث أو الخبث، وكونها بمعنى إزالة دنس الذنوب مجاز
على طريق تشبيهها بالطهارة الحسية والتأكيد بالمصدر ينافي المجازية. قلت: هكذا قرّره بعض
أهل العربية لكن ذهب بعض المحققين إلى أنّ الفعل المؤكد بالمصدر لا يتعين استعماله في
معناه الحقيقي، لما ورد في كلام العرب مما يدلّ على خلافه، كما فصل شرّاح التسهيل، ولك
أن توفق بينهما بأنه إذا لم تقم قرينة تعينت الحقيقة والا فلا أو أنه إذا اشتهر المجاز جاز كما هنا
لالتحاقه بالحقيقة، فإن الطهارة. كذلك ولذا ورد) الصدقة أوساخ الناس) (١ (وسمي المشركون
نجسا، وفيه اقتباس مع تغيير يسير، والمراد بالرجس هنا الجهل والذنب وتطهيره بالعلوم
والملكات الفاضلة قيل: وهو مناسب لما قيل في الآية من أنّ المراد بأهل البيت الأمّة لأنهم
أهل بيت الشريعة، والقرينة الأولى للإشارة إلى إفادة القرآن للمسائل الكلامية، والثابة لبيان
إفادته للمسائل الأصولية والفرعية كما أنّ ما قبلهما لبيان كشفه تعالى للمعاني القرآنية بالقرآن وغيره والكل للحمد الذاتي وغيره قوله: (فمن كان له قلب الخ) نكر القلب لتفخيمه، وللإشعار بأن كل قلب لا يتفكر ولا يتدبر أي من كان له قلب واع يتفكر في حقائق القرآن، وما بين له فيه، أو أصغي لسماعه، وهو حاضر بذهنه ليفهم معانيه أو شاهد بصدقه فيتعظ بمواعظه، وينزجر بزواجره فهو حميد محمود في الدنيا سعيد في الآخرة، وهذا على اللف والنشر التقديري أو فيهما وهذا اقتباس من قوله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: ٣٧] وفي بعض رسائل الرازي أنه إشارة إلى أنّ المدرك هو القلب لا الدماغ كما بين في محله، فإن قلت العطف بالواو هنا أليق من أو الفارقة لأن القلب محل الإدراك وإلقاء السمع عبارة عن الجدّ في تحصيل المدرك ولا بدّ من الأمرين. قلت: إن أريد به ظاهره فالمراد بالأوّل من له كماد في معرفته وقلبه مشتغل باستخرأج حقائقه ودقائقه وبالثاني من سواه، وقريب منه ما قيل: إنّ المراد بمن له قلب ذوو الأنفس القدسية الغنية عن الكسب والتعلم، وبمن ألقى السمع المحتاج إلى ذلك وقيل الأوّل
1 / 10
إشارة إلى رتبة الاجتهاد والثاني إلى التقليد، وعلى كل تقدير فأوفى موقعها، وعلى التأويل، فالأمر أظهر وهذا بيان لحال المكلفين بما بين فيه والمأمورين بالاهتداء بنوره المبين والفاء تفريعية أو قصيحة قوله:
(ومن لم يرفع إليه رأسه الخ) يعش مجزوم في جواب الشرط، ويصل سعيرًا مجزوم بعطفه عليه وفي نسخة وسيصلى سعيرا بالرفع على الاستئناف والقطع، ولذا قيل عرّاه عن الجزم ليفيد الجزم لأنّ دخوله النار محقق، ولذا أتي بالسين الدالة على التأكيد والتحقيق عند الزمخشريّ، كما فصل في المغني وشروحه بخلاف معيشتة مذمومًا فإنه قد لا يقع في الدنيا وهو بيان لحاله في الدارين كمقابله فإن المراد بكونه في عيشة مذمومة أنها مستحقة للذم، أو هي كذلك عند الله، وعند المؤمنين، وهذا محقق أيضًا وعدم رفع الرأس عبارة عن تركه أو عدم الالتفات له والاعتداد به وقد يكنى به أيضًا عن الحياء والخجل وليس بمراد هنا كقوله:
خجل البنفسج حين لاح عذاره ~ أو ما تراه ليس يرفع رأسه
وهمزة رأسه لسكونها بعد فتحة يجوز إبدالها ألفًا وهو المناسب هنا ليشاكل قوله نبراسه،
وأطفأ مهموز من قولهم أطفأت النار، وقد يرد معتلاَ وضمير إليه للنبي ﷺ وللقرآن، والنبراس المصباح وبزنته، والضمير المضاف إليه إن عاد إلى من، فالمراد به نور العقل أو الفطرة التي يولد كل مولود عليها وإطفاؤه بريح الجهل والعناد، وعوده إلى النبيّ أو القرآن على معنى أراد إطفاءه بعيد جدا. قوله: (ذميمًا) بالذال المعجمة بمعنى مذموم في الدنيا ما دام حيًا وكونه بالدال المهملة بمعنى قبيح غير مناسب هنا، وإن جوّزه بعضهم ويصل سعيرا أي يدخل جهنم في الآخرة، ويقابله ما في الفقرة السابقة، فإن أريد بمن له قلب صاحب القوة القدسية، وبمن ألقى المسمع صاحب العقل المستفاد فمن لم يرفع رأسه ذو الغباوة والغواية وان أريد بالأول
المجتهد، وبالثاني المقلد فهذا هو المنهمل في الجهل والضلال، وقيل: الأوّل صاحب التأويل والثاني صاحب التفسير وهذا الجاهل البحت وفي قوله: (نبراسه) إشارة إلى مكنية فإن فهمت فنور على نور وفي قوله يرفع إليه رأسه إشارة إلى علوّ مرتبتة ورفعة منزلته لأنّ الناظر إنما يرفع رأسه لما كان عاليًا عليه مرتفعًا فوقه، وهكذا هو يعلو ولا يعلى عليه فوله: (فيا واجب الوجودا لما كان جميع ما سبق إلى هنا يدل على ان كلامه المعجز الذي بلغه رسول الله ﷺ وتحدّى به، وأبرز فيه خفايا الملك والملكوت، وخبايا قدس الجبروت من الصفات القدسية الدالة على وجوب وجوده، وإنعامه بجلائل النعم بواسطة ما أنزله على نبيه ﷺ، وأمره أن يصدع به فبذل طاقته في تبليغه وتبيينه على أحسن وجه يرتسم في مرآة البصائر والعقول صار كأنه مشاهد لذلك في حضرة قدسه واقف بين يدبه مناج له فلهذا التفت بعد الغيبة وفرع النداء بالفاء على ما مرّ، كما سبأني في الفاتحة، فقال: فيا واجب الخ.
وقيل: لما لزم من كون القرآن معجزا كون المتكلم به واجب الوجود إذ الممكن الوجود، لو قدر على مثله لم يكن ذلك معجزًا ومن كونه مكملاَ للناس بحسب القوّتين كونه فائض الوجود، وكان المقصود الأصلي والغرض الأولي لكل من استكمل بالكمالين تحصيل الرضوان، ومشاهدة جمال الرحمن فرّع عليه قوله: فيا واجب الوجود الخ.
وقيل: إن هذه الفاء سببية رابطة لما بعدها بشرط مفهوم من الكلام السابق أي، من كان
بهذه المثابة من السعي في أعلاء كلمتك، والشفقة على خلقك فصل عليه يا واجب الوجود الغنيّ بالذات، وهذا يناسب كون الأفعال السابقة مسندة للعبد كما لا يخفى، وستسمع عن قريب توجيهًا آخر اخترناه فيه كفاية عن القيل والقال، ووجوب الوجود كون ذاته مقتضية لوجوده، أو كونه عين وجوده، وهو يقابل الامتناع والإمكان، فإن كان ذاتيًا فمعناه ما لا يمكن عدمه، كما فصل في علم الكلام، وإطلاق واجب الوجود على الله مبني على ما ذهب إليه الغزالي رحمه الله تعالى من جواز إطلاق ما علم اتصافه تعالى به على طريق التوصيف دون التسمية لأنّ إجراء الصفة إخبار بثبوت مدلولها فيجوز إذا تحقق بدون مانع بخلاف التسمية، فإنها تصرّف في المسمى لمن له الولاية، وهو منزه عن ذلك. قوله: (ويا فائض الجود) فسر الحكماء الفيض بفعل فاعل يفعل دائمًا لا لعوض ولا لغرض، والجود بإفادة ما ينبغي لمن يبغي لا لعوض
1 / 11
لأن من فعل لعوض يناله فهو فقير، أو متجر والغنيّ هو الذي لا يحتاج في ذاته وكماله إلى غيره، والغنيّ المطلق هو الذي وجوده من ذاته، وهو نور الأنوار ولا غرض له في صنعه بل ذاته فياضة للرحمة، وهو الملك المطلق كما في هياكل النور، وأصل الفيض سيلان الماء من جوانب ما هو فيه لزيادته، ووجه الثبه كثرة المنافع، أو هو من فاض الخبر إذا شاع فيكون حقيقة كما فصل في حواشي شرح المطالع، وفائض الجواد وصف بحال المتعلق كواجب الوجود أي فائض جوده وواجب وجوده. قوله: (ويا غاية كل مقصود) أي كل مطلوب يطلبه كل طالب لا بدّ أن ينتهي إليك، فإنك المفيض للخير لا سواك من الوسايط، فالمراد
بالغاية معناها اللغوي وهو المنتهى، وهذا هو الظاهر، أو هو من العلة الغائية، ومعنى كونه العلة الغائية أنّ ذاته كافية في وجود ما يوجد، ويصدر عنه، فهو بذاته علة فاعلية من حيث التأثير، وعلة غائية من حيث كونه المقتضي لفاعليته على نحو ما حقق في كون صفاته تعالى عين ذاته، كما قاله الدواني في " شرح هياكل النور " فتأمّل في الوجهين، واختر لنفسك ما يحلو، ويحتمل أن يكون المعنى أنه أسنى المقاصد وأعلاها فإن جميع الموجودات وسيلة لمعرفته التي هي نهاية المآرب، وقبلة وجوه المطالب.
لمانما أنت مغناطيس أنفسنا فحيثما كنت دارت نحوك الصور
وإطلاق الغاية وقع في كلام الحكماء كالمبدإ، ولما كان غاية الغايات دعا بعد التوجه إليه للواسطة بيننا وبينه، فقال: صلى عليه أي على عبدك ونبيك السابق ذكره. قوله: (توازي غناءه الخ (سيأتي معنى الصلاة، وتوازى بمعنى تقابل، وتساوى وماضيه آزى، وتبدل همزته واوًا في المضارع فيقال: يوازي ولا يبدل في الماضي، فيقال: وازى، وهي مولدة عند بعض أهل اللغة، وقال التبريزي: يجوز حملاَ على المضارع وتجازى تكون جزاء وعوضا، والغناء بفتح الغين المعجمة والمد النفع، وقيل: معناه اقامته للدين لقوله في القاموس: ما فيه غناء ذاك أي إقامته، ولا يخفى ما فيه من الركاكة، والعناء بالمهملة التعب، ونفعه ﵊ في الدارين أجلى من البيان، وتعبه في تبليغ الرسالة، واعلاء كلمة الله على ما فصل في السير مما لا تفي به طاقة البشر، والمعنى صل عليه صلاة لا تحصى ولا تعد، كما أنّ منافعه وما تحمله من اعباء الرسالة كذلك، والغناء بالمعجمة في الأوّل، وبالمهملة في الثاني، وأجاز بعضهم عكسه، وجزالة المعنى تأباه، وفي قوله توازى وتجازى جناس مضارع، وفي قوله غناءه وعناءه جناس مصحف، وهذا مأخوذ مما روي عن ابن عباس ﵄ موقوفا من أن من قال: جزى اثبما عنا نبينا محمد ﷺ ما هو أهله، أتعب سبعين كاتبا ألف صباح. قوله: (وعلى من أعانه الخ) الإعانة المساعدة قولًا وفعلًا، والمراد بهم الصحابة ﵃، وبما يعده من خلفهم من التابعين وعلماء الدين والتقرير والتقوية والتثبت، وتبيانه بكسر التاء المثناة الفوقية مصدر بمعنى البيان، وفي وزن تفعال بالكسر كلام سيأتي في محله، وفي نسخة بنيانه بضم الباء الموحدة مصدر بناه يبنيه، وهو استعارة لما أتى به من الشرع وأحكامه كما في الحديث) بني الإسلام على خمس " (١ (والتقرير على النسخة الأولى من قرّر المسألة حققها وبينها فجعلها قارّة في الأذهان أو في نفسها، وعلى الثانية من القرار والبقاء ترشيحا لاستعارة البناء، لأنه من شأنه
أو استعارة أخرى تبعية، وتقريرا مصدر مؤكد. قوله: (وأفض علينا من بركاتهم الخ) قد مرّ تحقيق الإفاضة، وما يدلّ على أنها الإحسان الكثير والبركة للزيادة والنماء، وهي هنا زيادة معنوية، والمعنى حصل لنا الخيرات بالتوسل بهم إليك حتى كان ذلك من نفس خيراتهم، أو علمنا علومهم، وأفض علينا من معارفهم. قوله: (واسلك بنا مسالك كرامائهم) أي أدخلنا في الطريق التي أوصلتهم إلى إكرامك لهم بنيل المراتب العلية عندك، وبما أعددته لهم مما هو، كالمنزل لهم في دار البقاء، وهذا أحد معاني الكرامة، وقال بعض الفضلاء ذكرهما بين صل وسلم لكونه أقرب إلى الاستجابة لوقوعهما بين المستجابين، ولو بالنسبة إلى بعض المدعوّ لهم، والباء في بنا للدلالة على التكرير والدوام، فإنّ السلك بالفتح بمعنى الإدخال متعد قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ﴾ [الشعراء: ٢٠٠] وفي لغة أخرى يقال أسلك فيه، وأدرج دعاء التسليم على من أراده بضمير علينا في دعاء التسليم على النبي صلى الله
1 / 12
عليه وسلم
ومن أعانه حيث أخر سليما رجاء استجابتة مع رعاية السجع فيه انتهى.
وقيل إن الدوام فهم من الملابسة المحمولة على الكمال فتدبر.
واعلم أكرمك الله أنّ زبدة ما قصده المصنف ﵀ من أوّل الخطبة إلى هنا مع رعاية
براعة الاستهلال أنه حمد الله بعد حمد. الذاتي على نعمه التي من أجلها تنزيل معجز كلامه على أعظم رسله المرشد. لكافة الًا نام بما بلغه من الأحكام، كما أومأ إليه بقوله، ثم بين الخ وبما قرّره من حقائق العلوم اللدنية، ودقائقها المشار إليه بقوله: وأبرز الخ.
وبما أبداه من العقائد الحقة الدالة على التحميد والتمجيد بصفات الذات والأفعال المرموز إليه بقوله لينجلي إلى آخره، وأدرج فيه بعدما أفاضه بالوساطة المحمدية من جلائل النعم ما قاساه في حمل ًا عباء الرسالة في مغازاة الجاهلية من الشدائد والمهالك المكنى عنه بقوله: فتحدى، ومن لم يرفع إليه رأسه، ونحوه ليتفكر العارف تفكيرا وتشرق به مشكاة قلبه، وتنفتح عين بصيرته حتى يشاهد جمال ذاته من مشرق صفاته قائما في مقام الإحسان كأنه يراه، وهذا هو السبب في التفاته لخطابه والتماس الفيض من جنابه، فلهذا فرّعه عليه بالفاء واصفًا له بوجوب الوجود وافاضة الجود اللذين هما أصل صفات الذات والأفعال، والتمس منه غاية مناه من سعادة الدارين بعد الدعاء للواسطة في ذلك والثناء عليه، واذا عرفت هذا فاعلم أيضا أنّ المناسب لمغزاه أن يرجع الضمائر ويسند الأفعال السابقة عليها للنبي ﷺ ليدل ذلك صراحة على غنائه، ونفعه بإرشاده وتعليمه، وغير ذلك مما أثمر السعادة العظمى، وعلى عنائه وتعبه في تحدّيه وعناد أعدائه الداعي للقتل والقتال، فيأخذ الكلام بعضه بحجز بعض ويضمخ بمسك ختامه مفارق افتتاحه، وهذا مما من الله به بفيض كرمه. قوله: (وبعد فإن أعظم العلوم مقدارا)
الكلام على بعد وكون الفاء لتوهم أمّا أو تقديرها أشهر من قفا فيك فإعادته تعدّ من الففمول والمقدار والقد وبمعنى والمراد به هنا المنزلة والشرف الرقبيّ والعلوم إن كان المراد بها صا العلوم الشرعية، وهي التفسير والحديث والفقه على أنّ تعريفها عهدي، وهو المتبادر منه إذا أطلق، ولذا اختاره بعض المحشين فلا شبهة في كونه أعظمها وإن كان الصراد ما يشصل سائرها، فكذلك لأنه عظم بشرف موضوعه، وشرف معلومه وغايتة، وئذّة الاحتياج إليه، وهو حائز لجميعها، فإنّ موضوعه كلام الله الذي هو معدن الحكم ولا شك في أت أشرف الموضوعات، ومعلومه أشرف المعلومات مع أنه مراد الله تعالى الدالى عليه كلامه الجامع للعقائد الحقة والأحكام الشرعية وغير دّلك مما لا بدّ منه كما قألا تعالى: ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ٣٨] وغايته الاعتصام بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها، والوصول إلى سعادة الدارين وشدّة الاحتياج إليه ظاهرة لتوقف الأدلة والأمحمال والأحكام علبه، فإن قلت: موضوع علم الكلام دّات الله وصفاته، وس أشرف من كل شيء فيكون علم الكلام أشرف منه. فلت: المتقدّمون على أنّ موضوع علم الكلام المعلوم " وقيل: الموجود من حبث يتعلق به إثبات العقائد الدينية على ما فصلوه، وحينئذ لا يلزم ى ن موضوعه أشرف، وذهب القاضي الأرمويّ من المتأخرين إلى أنّ موضوعه ذات الله، وذهب صأحب الصحائف إلى أنه ذات الله من حيث هي، وذات الممكنات من حيث اسننادها إليه، وردّ يأنه لو كان كذلك ما كان اثبات من المطالب الكلامية كما في شرح المقاصد، وليى هذا محل تفصيله إلا أنا إذا سلمناه نقول كلام الله مشتمل على التوحيد والعقائد الحقة يختد وج في موضوعه موضوع الكلام، وزيادة الخير خير أو فقول مجموع الثلاثة لا تجتمع في غيره هـ وقال بعض الفضلاء رحمه الله تعالى: فإن قيل قد ذكروا أن علم الكلام أساص العلوم الشرعية ت وعليه مبنى الثرائع والأحكام إذ لولا ثبوت الصانع وصفلايه لم يتصوّر علم العنسير والحديث وكذا الفقه والأصول، وكلام المصنف ﵀ تعألى يدلّ على خلافه وتخصيصه بما سوى الأحكام خلاف الظاهر. فلنا: السمعيات من الكلام دليلها القرآق أو ما يتوقف حجيته عليه وما يستقل بإثباته العقل لا يعتدّ به ما لم يؤخذ من الشرع، فيستند إليه أيضًا من حيث الاعتداد به والاستدلال به يتوتف على علم المكسير، وهذا لا ينافي كون الكلام أساسه باعتار القسم الأخير صن حيث التصديق لا من حيث الاعتداد به أنتهى.
قلت: قد علمت مما مرّ عدم ورود هذا السؤال، وأمّا كون
1 / 13
ما يستقل به العقل كالإيمان بوجود الباري يوخذ من الشرع فهو بناء على ما قاله بعض الأشرية وخالفه بعضهم، وبعض الماتريدية قال في التلويح وغيره إن ثبوت الشرع موقوف على الإيمان به وجود الباري وعلمه وقدرته وكلامه، وعلى التصديق بنبوّة النبي ﷺ بدلالة معجزأته، فلو توقف شيء من هده الأحكام على الشرع لزم الدور انتهى وفيه كلام ليى هذا محله، وما يل، من أن المراد أنه من
أعظمها لكن قصد المبالغة في مقام الخطابة بعيد. فوله: (وأرفعها شرفًا ومنارا) الشرف علوّ القدر والمكان العالي والمراد الأوّل أو الثاني على أنه استعار لئلا يتكرّر مع ما فبله، وهو الأنسب لما بعده أيضًا، ومن فسره بالعلماء لم يصب والمنار كالمنارة ويقال منورة على الأصل موضع النار وجمعه مناور ومناير كما في كتاب النبات وشاع في كل بناء عال يهتدى به سالك الطريق، ولما يوضع عليه السراج وشاع في العرف لمحل الأذان المعروف وفسر هنا بالدليل ولا وجه له إلا أن يريد به بيان حاله فإنّ المراد أنه أعلى العلوم من جهة شرفه، ودلالتة على طرق النجاح، والكسير يطلق على بيان معنى كلام الله رواية ويقابله التاويل، وهو ما كان بطريق الدارية ويطلق على بيان معناه مطلقا وعلى ذكر ما يتوقف ذلك عليه، وهو المراد هنا وموضوعة القرآن بمعنى الكل أو الكلي، والحنسير تفعيل من الفسر وهو الكشف، ومنه التفسير لما يعرف به الطبيب المرض، وفيل: إنه مقلوب من السفر ومنه أسفر الصحيح. فوله: (رئيس العلوم الدينية ورأسها) الرئيس سيد القوم ومقدّمهم والرأس عضو معروف، ويكون بمعنى الرئيس أيضًا وهو هنا استعارة، أو تشبيه بليغ فجعله رئيسًا لنفاذ حكمه عليها وتوقفها عليه، لأنّ مرجع أدلتها إليه ورأصًا لأن به بقاء البدن، وبحواسه يتصرّف في مهماته وبه يتم غيره من العلوم ويتمشى معتمدا عليه لما فيه من الحقائق، وهمزته مبدلة ألفًا لما مرّ والمبني موضع البناء، والأساس ما يوضع عليه غيره، وهو المراد لما فيه من الأدلة التي يبنى عليها، والقواعد جمع قاعدة، وهي الأساس وساق البناء والصف الأوّل منه أيضًا، وهو معطوف على المبني عطف تفسير لا على القواعد لئلا يلزم اختلاف حركة ما هو كالرويّ المعيب لا التكرار كما توهم قوله: (لا يليق لتعاطيه الخ) التعاطي في أصل اللغة تفاعل من العطاء، ثم أطلق على الأخذ والتناول وهو المراد، وخص في عرف الفقهاء بالأخذ من غير إيجاب ولا قبول، وفي عرف الناس بالسؤال، والتصدّي التعرّض، وبرع بفتح الموحدة وفتح الراء المهملة. وضمها، وعين مهملة براعة وبروعًا فاق غيره في علم وغيره، والدينية ما له انتساب وتعلق بالدين كالفقه والحديث والأصلين، وأصولها وفروعها بدل قصد به التعميم أي كلها، فإن قلت في كلامه هنا اختلال ظاهر، فإنّ كونه رئيس العلوم الدينية ورأسها، يستلزم توقف البراعة، والتفوّق فيها عليه، فتتوقف على تعاطيه والتكلم قيه أيضا، فكيف يتوقف تعاطيه والتصدّي للتكلم فيه على وجه اللياقة على البراعة فيها قلت: المراد بتعاطيه والتكلم فيه أخذه من كتب التفسير والتكلم بكلامهم فيها، فإنه يتوقف على البراعة في العلوم الدينية، كما قيل: فالأوّل بالنظر إلى السلف المقتبسين لأنوار التنزيل من مشكاة النبوّة بواسطة، أو بدونها، وأصحاب الأنفس القدسية والسليقة العربية، والثاني ما عداهم. وقيل تقدّمه بالذات إذ ما من علم من العلوم الدينية إلا وهو محتاج إلى كلام الله تعالى الذي لا يتحصل بدون علم التفسير، وأمّا تاخره فمن حيث التعلم لأنّ العلماء بينوه بها وهو قريب مما مرّ فليس جوابًا مستقلاَ كما توهم وقد قال بعض
الفضلاء المتأخرين: إنه لا طائل تحت السؤال إذ دعوى الاستلزام غير ظاهرة لما مرّ أنّ المتوقف عليه الاعتداد بها أي لا يعتد بها ما لم تؤخذ من الشرع، وكذا الأوجه للقول بأنّ الأوّل بالنسبة للسلف، والأصحاب والثاني بالنسبة لغيرهم، لأن المراد بالعلوم العلوم المدوّنة المشهورة، وهي بعد الصدر الأوّل والمقصود الترغيب فيه من بينها لتبقى علوم السلف خارجة انتهى. وفيه دخل يعلم مما قذمناه ولبعضهم هنا كلام تركه أتم فاثدة من ذكره. قوله: (وفاق في الصناعات العربية الخ) قيل: العلم إن لم يتعلق بكيفية عمل كان مقصودًا في نفسه، ويختمى باسم العلم، وإذا تعلق بها، وكان المقصود منه ذلك العمل يسمى صناعة في عرف الخاصة، وينقسم إلى قسمين قسم يكون حصوله بمجرّد النظر والاستدلال كالطب، وقسم لا يحصل إلا بمزاولة العمل كالخياطة، وهذا القسم يختص باسم الصناعة في عرف العامة، والظاهر أنه لا يطلق العلم على مثل الخياطة والحياكة إلا أن يراد أنه علم لغة، وعلم الأدب عرّفوه بعلم يحترز به عن الخلل في كلام العرب لفظا أو كتابة وقسموه إلى اثني عشر قسمًا على ما في شرح المفتاح.
وسميت أدبية لتوقف أدب النفس والدرس عليها بقي أنه قيل إن بعض فنون الأدب لا يستمد منه التفسير، وهو العروض والقافية وقرض الشعر والإنشاء فمراده بأنواعها أنواعها الكاملة المعتبرة، ولا شك أن من أراد النظر فيه على أتمّ الوجوه يحتاج إليها، أمّا الخط فإن الرسم العثمانيّ يحتاج إليه فيه، فلا بد من معرفتة ليعلم ما جرى على وفقه ووجه مخالفة ما خالفه، وكذلك قرض الشعر والعروض والقافية لو لم ينظر فيها لم يفرق بينه وبين الشعر حتى يعرف معنى قوله ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ﴾ [يس: ٦٩] مع وقوع أنواع من الموزون فيه، وكذا الإنشاء ينظر فيه ليعرف مخالفة النظم المعجز له كما قيل: عرفت الشرّ لا للشرّ لكن لتوقيه، ثم قال: إن علم القراآت لا بد منه أيضًا في التفسير ولم يعد من العلوم الأدبية فإمّا أن يدرج في الدينية لاختصاصه بالفرآن، أو في علم التفسير كما يشعر به كلام المصنف ﵀ فيما سيأتي ويعرّف التفسير حينئذ بما يعرف به معاني كلام الله وألفاظه بحسب الطاقة البشرية، وتكون تسميته بالتفسير تسمية له بأشرف أجزائه، ولا يخفى ما فيه فإن أحدًا لم يعدّ القرا آت من التفسير مع أن أكثر مسائله المتعلقة بالأداء لم يذكر فيه، والمصنف لم يحصر ما يتوقف عليه التفسير فيما ذكره فكم من أمور تلزم فيه أحيانا ولم يذكرها، ثم إنّ المصنف ﵀ أن جعل قوله بأنواعها قافية لفروعها فلا يخفى ما فيه من اختلاف الردف فكأنه لم يقصد التقفية فيه، وفي تعبيره عن الشرعيات بالعلوم وعن غيرها بالصناعة حسن أدب لطيف.
تنبيه: قال الجواليقيّ في) شرح أدب الكاتب ": الأدب في اللغة حسن الأخلاق، وفعل المكارم، واطلاقه على علوم العربية المذكورة مولد حدث في الإسلام، وكذا قاله الإمام
المطرزيّ ﵀. قوله: (ولطالما أحدِّث نفسي الخ) هذه اللام زائدة للتأكيد أو جواب قسم مقدّر وليست توطئة وما كافة عن طلب الفاعل، فإن قل وكثر وطال تكف بها ولا تتصل ما الكافة بفعل غير هذه الأفعال الثلاثة، أو هي مصدرية فترسم منفصلة، والموجود في أكثر النسخ اتصالها ويليها الماضي في اكثر نحو طالما دار في خلدي والمضارع كقوله:
فلمما يبرح الحبيب إلى ما~يورث المجد داعيًا ومجيبا
وتقديره هنا بنحو طالما كنت أحدث الخ تكلف لا داعي له، ويحتوي بمعنى يشتمل والصفوة مثلث الصاد المهملة بمعنى الخالص، والصحابة بفتح الصاد بمعنى الأصحاب وكذا الصحبة، وقال المرزوقيّ في شرح الفصيح: صحابة مصدر بمعنى صحبة لكنه وصف به، وقد يجعل الصحبة جمعا كالرفقة، وفي التسهيل: صحبة اسم جمع لصاحبة، وكذا صحابة اسم جمع كلراية اسم جمع للقريب.
والصحابي كل مسلم لتى النبي ﷺ أو اجتمع معه وهو يعقل وهذا أحسن من قولهم رأى لشموله الأعمى ولا يشترط طول الصحبة ولا الرواية عنه ولا يثترط بقاؤ. على الإسلام أيضا وانما يشترط موته عليه، وعظماؤهم كابن عباس وابن مسعود ﵃ والتابعين: جمع تابع، وهو من لقي الصحابي، واشترط بعضهم فيه طول الصحبة بخلاف الصحابيّ لأن نور النبوّة مؤثر فيمن لمحه طرفة عين، ومن دونهم من بعد التابعين، والمرويّ عنه التفسير من الصحابة كثير والمعروف منهم الخلفاء وابن عباس، وقد كثر عنه ذلك حتى سمي ترجمان القرآن، وكذا يروى عن ابن مسعود ما لا يحصى، والمشهور من التابعين مجاهد وعطاء وعكرمة وسعيد بن جبير وطاوس وزيد بن أسلم وبعد هؤلاء ألفت تفاسير جمع فيها أقوال الصحابة والتابعين، كتفسير سفيان بن عيينة ووكيع وشعبة وعبد الرزاق وزيد بن هرون، وبعد هؤلاء أبن جرير وتفسيره أجل تفسير للمتقدّمين ثم استفاض التأليف حتى انتهى للزجاج والرماني، ومنهما أخذ الزمخشريّ، ثم جاء بعدهم من كثر السواد بأقوال الحكماء والصوفية كالرازي حتى قيل في تفسيره كل شيء إلا التفسير، وقوله أحدث نفسي حديث النفس هنا مستعار للخواطر والأماني استعارة مشهورة كقوله:
1 / 14
أكذب النفس إذا حدثتها ... إنّ صدق النفس يزري بالأمل
قوله: (وينطوي على نكث الخ) انطوى مطاوع طواه ضد نشره وضمن معنى الاشتمال
فعدّاه بعلى أي ينطوي مشتملًا على النكت وهو جمع نكتة بضم النون، وهي اللطيفة المستخرجة بقوّة الفكر من نكت في الأرض إذا نبشها بإصبع، أو قضيب ونحوه سميت بها
لمقارنتها لذلك غالبًا، أو لأنّ تأثير الفكر كالنكت في القلب، ويصح أن ينقل من نكتة الأديم والثوب، وهي ما تخالف لونه لكونها تخالف غيرها بلطافتها، وبارعة بمعنى فائقة، ورائعة من الروع بفتح الراء، وهو الإعجاب يقال راعني الشيء إذا أعجبني ورافني أو من راعه إذا أفزعه كان الرائع الجميل يفرط حتى يروع من يراه قاله السهيلي في) الروض الأنف): وقيل إنه من الريع بمعنى الزيادة والنماء، والاستنباط أصل معناه إستخرج ماء البئر ونحوه، فاستعير لاستخراج المعاتي بجدّ واجتهاد وفيه تشبيه المعاني بالماء للطفه، وصفائه، أو لأنه سبب الحياة، ومراده ﵀ بالأفاضل الزمخشريّ والراغب والرازي، فإنّ معوّل المصنف ﵀ على هؤلاء في الأثر حتى قيل: إنّ كل ما فيه من العربية وما فيه من اللغة من الراغب، وما فيه من الكلام من التفسير الكبير. قوله: (ويعرب عن وجوه القراآث الخ) المعزية ويقال: معزوّة بمعنى منسوبة، وفعله عزيتة وعزوته، والثاني كثر والثمانية هم القرّاء السبعة المشهورون، والثامن يعقوب بن إسحاق الحضرمي البصري وراوياه روح بفتح الراء وروشى بالتصغير، والشاذ ما وراء السبعة والأصح أنه ما فوق العشرة، وأحكامه مبسوطة في محلها قوله: (الثمانية الخ) إشارة إلى وجه اختياره الثامنة دون باقيها لأنها اشتهرت حتى قيل إنها الشائعة في الصدر الأوّل إلى رأس الثلثمائة، ثم أسقطها منها ابن مجاهد وأثبت بدلها قراءة الكسائي، وقد قالوا: إنّ يعقوب كان أعلم أهل عصره بالعربية، ووجوه القراآت كما في الإتقان وغيره. قوله: " لا أن قصور بضاعتي الخ) في الأساص قصر عنه قصورا عجز عنه، ولم ينله والبضاعة المتاع المجلوب،. فنسبة القصور إليه مجازية، والأصل قصوري عن تكثير بضاعتي، أو ترويجها وهو استعارة شبه العلم والاشتغال به بالمال الذي يتجر فيه أهله، وقلة معلوماته بقلة رأس مال التجارة، وثبطه عن الأمر عوقه عنه، وأبطأه عتة، قوله: (ويمنعني عن الانتصاب في هذا المقام) ويعني به مقام تأليف ما ذكره. وقوله: (أن أوسمه) أي أجعل سمة وعلامة والمعروف فيه وسمه يسمه كوعده يعده، وأمّا وسم المشدّد، فإنه بمعنى حضر الوسم، فإن صح روايته هنا، فهو لأجل الازدواج مع قوله أتممه، وصمم على صيغة المبني للفاعل أي خلص عن التردّد، وموجب التوقف وصار ماضيًا لا فتور فيه. يقال صمم في السفر ونحوه أي مضى، وصمم السيف نفذ للعظم وقطعه، وصمم أي عض ونشب فلم يرسل ما عضه ويجوز كون صمم مبنيًا للمفعول من هذه اللغة أي أخذ عزمي ولم يرسله قوله: (بأنوار التنزيل الخ) النور هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره فإن فهمت، فهو نور والسر ما يلزم كتمانه ولب الشيء ولا يخفى مناسبته
للتأويل، والسول السؤل أبدلت همزته واوا على القياس، وفي بعض النسخ مسؤل بدله، وأقول هنا نزل منزل اللازم فلا سول له، أو سوله ومقوله ما بعده على الحكاية.
سورة فاتحة الكتاب
السورة مهموزة وغير مهموزة بإبدال إن كانت من السؤر وهو البقية، لأن بقية كل شيء بعضه، وبدونه إن كانت من سور البناء، وهي المنزلة منه أو من سور المدينة لإحاطتها بآياتها، ومته السوار المحيط أو من التسوّر، وهو العلوّ والارتفاع نقلت إلى مقدار من القرآن يشتمل على آيات ذي فاتحة، وخاتمة أقلها ثلاث آيات، وقيل: السورة الطائفة المترجمة، والترجمة في الأصل تفسير لغة بأخرى وتطلق على التبليغ مطلقا كما في قوله:
إنّ الثمانين وبلغتها قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وتطلق على التسمية كثيرًا في كلام المصنفين وهو المراد هنا وأسماء السور كلها توقيفية
ثابتة بالأحاديث
1 / 15
والآثار، والمراد بالطائفة قطعة مستقلة أو آيات مخصوصة منه فلا يراد آية الكرسي لأنها غير مستقلة إذ هي بعض من سورة البقرة وآية واحدة أيضا، ودفعه بأنّ المراد بالترجمة أنها مسماة بالسورة ضعفه غنيّ عن البيان، وإنما جعل القرآن سورا لأنه أسهلى للحفظ وأ نشط.
وقال الشريف قدس سره: الفاتحة مصدر كالكاذبة بمعنى الكذب، ثم أطلق على أوّل الشيء تسمية للمفعول بالمصدر لأنّ الفتح يتعلق به أوّلًا، ثم بواسطته يتعلق بالمجموع، فهو المفتوح الأوّل، وهذا بالنسبة للمقروء، والمكتوب مطلقًا، فقول بعض المتصلفين من أهل العصر أنه إنما يتحقق في المكتوب إذا كان كالطومار من خمود الفكر وجموده، وقيل: الفاتحة صفة جعلت اسمًا لأوّل الشيء إذ به يتعلق الفتح مجموعه، كالباعث على الفتح فالتاء علامة للنقل من الوصفية إلى الإسمية، وقيل: للمبالغة ولا اختصاص لها بزنة علامة كما توهم، وهذا أقرب لقلة فاعلة في المصادر قيل، ولم يجعل آلة، وأن أطلق عليها فاعل كالقاطع والقاتل لأنّ الآلة لا تتصف بالفعل، وهذه متلبسة بالفتح، ولا باعثًا لأنه لا يقارن الفعل، وهذه قارنت الفتح، وفيه أنه إن ادّعى كلية ما ذكر، فليس كذلك فإنّ الصبغ آلة للصباغ يصبغ أيضًا، وفي نحو قعدت عن الحرب جبنًا الجبن باعث على القعود،، وهو مقارن وإن ادّعى الأغلبية لم يفد لأنه يقال له هذا من غير الغالب، اللهمّ إلا أن يقال كفى بالندرة باعثًا على الترك أو المراد أنه لا يقصد اتصافها به، وما ذكر لا يعد باعثا مع أنّ جعل بعض القرآن آلة غير مناسب لإيهام أنه غير مقصود منه وحيسئذ يتمّ هذا وجهًا، والحاصل أنه مفتوح من جهة، وفاتح من أخرى، فنظر كل فريق إلى جانب، وجوّز أن يكون للنسبة أي ذات فتح مع وجوه أخرى مرجوحة لم نكثر بها السواد، ثم قال: الكتاب بمعنى المكتوب والمصحف يطلق على المجموع وعلى جزئه وعلى المشترك بينه وبين أجزائه، وفاتحة الكتاب صارت علما بالغلبة لهذه السورة، فالفاتحة علم آخر، والألف واللام عوض عن الإضافة وفيه نظر، وذكر بعضهم أنّ هذه الإضافة بمعنى
من لأنّ أوّل الشيء بعضه، ورد بأن البعض يراد به الجزئي كزيد للإنسان، والجزء كاليد لزيد
واضافة الأوّل بيانية بمعنى من، وإضافة الثاني على معنى اللام وليس الكتاب جنسا شاملًا هنا
لأنّ فتح الفاتحة بالقياس إلى المجموع لا إلى الكل الذي هو القدر المشترك، فإن قيل في
الكشاف أن معنى إضافة اللهو إلى الحديث التبيين، وهي الإضافة بمعنى من أي من يشتري
اللهو من الحديث، فبين اللهو بالحديث لأنه قد يكون من الحديث، وقد يكون من غيره
والمراد بالحديث المنكر كما ورد) الحديث في المسجد يأكل الحسنات ") ١ (ويجوز أن تكون
الإضافة بمعنى من التبعيضية، كأنه قيل: ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي اللهو منه،
فعلى التقدير الثاني إن أريد بالحديث مطلقه كان جنسا للهو صادقا عليه، كما يطلق عليه
الحديث المنكر، فتكون الإضافة بيانية لا مقابلة لها وإت أريد العموم والاستغراق، كان لهو
الحديث جزأ منه، فقد ثبت أنّ إضافة الجزء إلى كله بمعنى من التبعيضية وإن لم تكن مشهورة
قيل الظاهر أنّ المراد مطلق الحديث، لكن العلامة دقق النظر في إضافة الشيء إلى ما هو
صادق عليه، فإن حسن فيه جعل المضاف إليه بيانًا وتمييزًا للمضاف كالساج للباب، والحديث
المنكر للهو جعلها بيانية، وان لم يحسن ذلك فيه كالحديث المطلق للهو جعلها تبعيضية ميلًا
إلى جانب المعنى. أقول هذا ردّ لما في الكشاف تبع فيه الشارح المحقق، وليس بوارد عليه
وما ذكره المدقق مخالف لكلام قدماء النحاة كشرّاح الكتاب، ومن حذا حذوهم، فإن إضافة
نحو يذ زيد على معنى اللام، وقال قوم منهم كابن كيسان والسيرافي: إن إضافة ما هو جزء من
المضاف إليه بمعنى من التبعيضية، واستدلوا عليه بفصله عن الإضافة بمن كقوله:
كأنّ على الكتفين منه إذا انتحى ~ مداك عروس أو صلاية حنظل
وهو شائع كما فصله أبو حيان في شرح التسهيل، ومنهم من ذهب إلى أنّ من المقذرة
في الإضافة مطلقا تبعيضية من غير فرق بين الجزء والجزئي، كما في لمع ابن جني وشرحه
للثمانين، وعبارته: إن كان الأوّل جزأ من الثاني كانت الإضافة بمعنى من نحو باب ساج، ودار
آجرّ وجبة صوف، وتقديره باب من ساح ودار من آجرّ
1 / 16
والأوّل في هذا جزء من الثاني ومن فيه
للتبعيض انتهى.
فادعاء أنها غير موجودة، أو غير مشهورة مكابرة لمخالفته ما سطر في كتبهم المعوّل
عليها، وفيما ذكره في توجيه كلام الكشف دقة لا يتحملها نظر أهل العربية، ثم إنّ للناظرين في
كلام الشريف وجوهًا شتى كلها خارجة عن قانون العربية، لاقتصارهم على ما لا يغني، ولا يسمن من كلام المتأخرين ولذا أضربنا عنهما صفحا، وأمّا إضافة السورة فحن إضافة المسمى
إلى الاسم كيوم الأحد وهي مشهورة، ثم إنهم أطلقوا كون الإضافة إلى الجزئي بيانية، وهو
مخالف لما صرّح به كثير من المتقدمين والمتأخرين من أنها إنما تكون كذلك إذا كان بينهما عموم وخصوص وجهيّ، كخاتم فضة، فإن كان مطلقًا كمدينة بغداد فهي لامية، وذهب شاوح الهادي إلى أنها بيانية أيضا، ولذا تراهم يجعلون شجر الأراك من الإضافة اللامية تارة، ومن البيانية أخرى، وهذا مما غفل عته كثير من الناس فاحفظه. قوله: (وتسمى أمّ القرآن) عطف على مقذر رأى تسمى بفاتحة، أو على سورة الفاتحة باعتبار المعنى، أو التقدير هذه سورة فاتحة الكتاب وتسمى الخ وعطف الفعلية على الاسمية شائع كعكسه، والمراد بالتسمية وضع العلم لا الإطلاق.
وتال الفاضل الشريف: فاتحة ألكتاب صارت علما بالغلبة للسورة وقد ذكر. في الكشف أيضًا، وفي اجتماع الغلبة والتجوّز نظر مع أنه مناف لما مرّ من النقل قيل: وفيه خفاء أيضًا لأنّ القول بعلمية الجنس ضروريّ لمنع الصرف ونحوه من الأحكام ويجب في العلمية الشخصية تشخص المعنى ولا تشخص هنا، والأصح أن أسماء السور موضوعة لتلك الألفاظ المقروأة، فتكون واحدة بالنوع كما في التلويح وشرح المقاصد إلا أن يقال مثل هذا المؤلف بحسب العرف يعد شخصا، وأمّا جعلها وأمثالها من قبيل أسماء الإشارة في عموم الوضع وخصوص الموضوع له فبعيد جدًا، وما ذكر من السبب في عدم اعتباوه فيها من أنها لو كانت موضوعة لشيء من الخصوصيات كانت في غيره مجازيات، وإن كانت موضوعة لكل منها كانت مشتركة بين معان غير محصووة، وإن كانت. موضوعة لمعان كلية لزم كونها مجازات لا حقائق لها، والكل فاسد لا يتاتى هنا إذ قلما تستعمل في شخص، والأكثر استعمالها في الكل، فلا يلزم ما ذكر وتفصيله في شرج الرسالة الوضعية.
، أقول الذي عليه المعوّل في أسماء السور وأسماء الكتب والعلوم، ونحوها أنها أعلام شخصية لتلك الألفاظ المخصوصة لا للصور الذهنية، ولا للنقوس، ولا للمركب منها وهي تعد في العرف شيأ واحدا شخصا، واختلاف اللافظ، وتعدّده كتعدد أمكنة زيد لا يغير تشخصه، لأنها غير معتبرة فيه، ومما يشهد له شهادة يزكيها الاستقراء تسميتها بالجمل ك ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ﴾ و﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ﴾ ومثله معهود معروف في الاعلام كتأبط شرّا وبرق نحره وصردر دون اسم الجنس، فإئه وان لم يكن مفقودًا فيها نادر، وأمّا الاسندلال بدخول اللام عليه كالكافية والثافية، فليس بشيء، لأنه ليس مما يستدلّ بمثله، وما قيل من أنّ العلمية الجنسية ضرورية مما تفرّد به الرضيّ، وهو غير مسلم عند النحاة، ودلالة الموصول على ماهية نوعية أو جنسية لا ترد عليه نقضا.
وفي شرح الفوائد العتابية لشيخ مشايخنا أسماء العلوم كأسماء الكتب أعلام أجناس عند
التحقيق وضعت لأنواع وأعراض تتعدد بتعدد محالها القائمة بها كزيد وعمرو، وقد تجعل أعلاما شخصية باعتبار أن المتعدد باعتبار المحل يعد واحدًا في العرف، وهو إنما يتتم إذا لم تكن موضوعة للمفهوم الاجماليّ وتردّد السبكيّ في أسماء العلوم هل هي أعلام بالغلبة أو منقولات عرفية كالدابة ورجح الثانية، وسيأتي تتمة لهذا المبحث في تعريف الجلالة الكريمة. قوله: (لأنها مفتتحه ومبدؤه الخ) الأمّ في اللغة الأصل والوالدة ثم أطلق على الفاتحة ومحكم القرآن قال تعالى: ﴿مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ [اس عمران: ٧] ومفتتح اسم مفعول أو اسم مكان أو مصدر ميمي، وقال صاحب القاموس في شرح الديباجة المفتتح لغة شائعة فصيحة يقال فتحه وافتتحه نقيض أغلقه، وأمّا المختتم فغير فصيحة، ولا تكاد توجد عند لغويّ ثبت، والمراد به غير الأوّل ولذا عطف عليه قوله ومبدؤه عطفًا تفسيريًا، ولما كان افتتاحه وابتداؤه بها في كتابة المصاحف، أو في التلاوة، أو في الصلاة أو في النزول بناء على أنها أوّل سورة نزلت ويتلوها ما عداها في ذلك جعلت أمّا وأصلاَ له
1 / 17
ومنشأ بطريق التسبب لأنّ الولد يتكوّن ويوجد بعه أمّه، ولذلك سميت أساسًا لتوقف بقية البناء وابتنائه عليه، ووجوده بعده وبهذا التقرير سقط ما في بعض الحواشي من الأوهام مثل ما قيل من أنّ المبدأ يقال للجزء الأوّل، ولما منه ذلك الشيء، والفاتحة مبدأ بالمعنى الأوّل، وأمّ بالمعنى الثاني، فجعل هذا وجها لتسميتها أمّا غير مرضي، وكذا ما قيل أنه لا فائدة لذكر الأصالة والمنشئية إذ ليس في الفاتحة سوى المبدئية، وان كانتا موجودتين في المنقول عنه، وهي الوالدة والأمّ في اللغة الأصل، ومنه قيل للوالدة: أصل وحينئذ لا يناسب ذكر كان، لأن الجزء الأوّل من الشيء أصل ينبني عليه باقي الأجزاء من حيث أنها أجزاء متأخرة انتهى.
وقيل: إنها سميت امًا لجمعها كل خير كأمّ الدماغ الجامعة للحوأس، أو لأنها مفزع أهل الإيمان كما تسمى الراية أمّا وركاكته ظاهرة، فإن قلت: زعم بعض فضلاء العصر أنّ قوله في الكشاف، وتسمى أمّ القرآن لأنّ أم الشيء أصله وهي مشتمدف على كليات معاني القرآن أولى مما ذكره المصنف، لأنّ الاشتمال أنسب بالأمّ من الافتتاح، والمبتدئية بمعنى الابتداء، وان كان ما ذكره صحيحا أيضًا.
قلت: هذا وهم منه فإنّ المصنف ذكر ما في الكشاف بعينه وزاد عليه وجها آخر قدمه
عليه إشارة لأرجحيته عنده لأنّ أصل معنى القرآن والكتاب الألفاظ لا المعاني، وهو فيما اختاره باق على أصله بخلافه في الوجه الثاني فإنه محتاج إلى التجوّز أو التقدير. أي أمّ معاني القرآن، وهو بعيد كحمل القرآن على المعاني، وهذا لم ينبه عليه أحد وتنبه له.
واعلم أنّ في كلام المصنف هنا وجهين:
أحدهما: أن يكون قوله مفتتحه بيانا لوجه التسمية بفاتحة الكتاب، ومبدؤه لأمّ القرآن لفا
ونشرًا. وقوله: (فكأنها الخ) بيان لمشابهته للمعنى الأصلي للامّ في المبتدئية حقيقة للمعنى العرفي وهو الوالدة فيما له زيادة خصوصية واشتهار به أعني المبتدئية، والمنشئية ادّعاء دون المتبدئية الأوّلية، وكونه مفتتحًا غنيّ عن البيان.
والثاني: أن يكون مبدؤه عطفا تفسيريًا وهما علة لقوله أمّ القرآن، وترك تسميتها بالفاتحة لظهوره.
قال الفاضل الليثيّ: وهو وجه وجيه إلا أنه مخالف لما نقل عن المصنف في حواشيه من
أنّ قوله لأنها مفتتحه تعليل لما تضمنه قوله سورة فاتحة الكتاب من الجملة الخبرية التي تقديرها تسمى فاتحة الكتاب، في هذا الوجه يكون المنقول عته بالمعنى العرفيّ أنسب، كما أنّ الوجه الأوّل بالأصليّ أنسب، وان جرى كل منهما في كل منهما. وقوله: (ولذلك) أي لكونها أصلاَ وهو ظاهر، ثم أنها تسمى أيضًا أمّ الكتاب، وفاتحة القرآن ووجهه يعلم مما مرّ، ثم أنه قيل: إن في كلام المصنف إشارة إلى أنّ التسمية بفاتحة الكتاب من قبيل تسمية المكان باسم الفاعل، وهي من فروع الإسناد إليه، واذا كان مصدرًا كالعافية، فمن فروع تسمية المكان بالمصدر وجعلها من تسمية المفعول بالمصدر إذ فاتحة الشيء أوّله والفتح يتعلق به أوّلًا وبتبعيته للمجموع، فهو المفتوح الأوّل بعيد إذ تسمية المفعول بالمصدر غير مشهورة، وقيل: فاتحة الشيء، وأوّله آلة لفتحه، وهو من تسمية الآلة بالفاعل كالباصرة والسامعة، وعلى اشتقاقها تاؤها للنقل لا للتأنيث بتقدير طائفة فاتحة ولا للمبالغة لقلة مجيئه في غير صيغ المبالغة، وعدم مناسبته هنا وجعله من النسب كتامر بعيد غير مسموع إذ هو مقصور على السماع انتهى.
ولا يخفى ما فيه من التعسف، لأنه ليس بمكان حقيقيّ، فنقل اسم الفاعل إلى المكان المتجوز به عن الأوّل مع صحة تسمية الأوّل فاتحًا لحصول الفتح به تطويل بغير طائل، وقد مز ما فيه غنية عنه، والذي حمله على هذا قوله مفتتحه. قوله: (أو لأنها تشتمل على ما فيه الخ (في بعض الحواشي أن المراد جميع ما فيه يعني ادّعاء واجمالًا ويأباه قوله فيما بعد أو على جملة معانيه إلا أن يكون تفننًا في التعبير، والذي في الحواشي الشريفية وغيرها تفسيره بأصول ما فيه، ومقاصده، وهو الظاهر فلا يرد عليه أن فيه القصص وغيرها، وان قيل إنها ترجع لما ذكر لما فيها من العبرة والإتعاظ، وهذا هو الوجه الثاني لكونها ًا مّا. وعليه اقتصر في الكشاف كما مرّ. قوله: (والتعبد بأمره ونهيه (أي التكليف، وهو في إياك نعبد لأن العبادة قيام العبد بما تعبد به من امتثال الأوامر واجتناب النواهي كما قيل، وأورد عليه أق في قوله إياك نعبد التنسك الذي هو وصف العبد لا التكليف، وأجيب بأنه بناء على أنه على لسان العباد تعليما لهم
1 / 18
وطلبا لعبادتهم فهو تكليف، ثم إنّ تفسير التعبد بالتكليف لا تساعده اللغة إلا أن يقال هو تفسير له بلازم معناه، وحقيقته اتخذه عبدًا، أو تضمين لتعذيه بالباء كذا قيل.
(وأنا أقول) الذي دعا الشريف وغيره لتفسير التعبد بما ذكر أنه ليس المراد مطلق التنسك
لتقييده بأمر الله ونهيه، بل تعبد المرء تنسكه بما كلفه الشارع به، فتفسيره بالتكليف إمّا لأنه
أظهر في العبادة المقصودة هنا سواء كانت الآية تعليمًا للعباد أم لا نعم إذا كانت تعليما كانت
أظهر وأنور فهو كقولهم حصول الصورة أو هو حقيقة لغة قال السمين في " مفرداته ": قوله
تعالى: ﴿أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: ٢٢] أي اتخذتهم عبيدًا وقيل ذللتهم ذلة
العبيد وقيل كلفتهم الأعمال الشاقة التي يكلف مثلها العباد، وبهذا وقفت على ما في كلام هذا
القائل، وأن قوله لا تساعده اللغة من قصور الباع وعدم الإطلاع، ثم إنّ الإيمان بالله ورسله
داخل في التعبد، لأنه مع توقف العبادة عليه مأمور به في آمنوا بالله ورسله، فلا يتوهم أنه
خارج وهو أجل المقاصد، واشتمالها على الثناء من الحمد واجراء الصفات المذكورة، والتعبد
في قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ كما مرّ وفي قوله: ﴿الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ﴾ إن أريد به ملة الإسلام،
وقيل: هو في قوله الحمد لله لأنه بتقدير قولوا وفيه نظر، وأمّا الوعد والوعيد، ففي قوله:
﴿أَنعَمتَ﴾ و﴿المَغضُوبِ﴾ عليهم أو في يوم الدين والجزاء لتناوله الثواب والعقاب، ولما كانت
مقاصد الأمور نتائجها والنسل أعظم المقاصد ونتيجة مقذمات الأعمار شبهت بالولد، ولذا
سمي نتاجا ووجه الشبه ظاهر كما قيل:
لنامن بنات الفكر نسل بهانسلو
وإنما كانت هذ. مقاصد وأصولًا، لأنه أنزل إرشادًا للعباد، إلى معرفة المبدإ والمعاد
ليؤدّوا حق المبدإ بامتثال أوامره ونواهيه، ويدّخروا للمعاد مثوبة كبرى، ولأنه كافل لسعادة
الإنسان، وذلك بمعرفة مولاه، والتوصل بما يقرّ به والتنصل عما يبعده منه، والباعث عليه
الوعد والزاجر عنه الوعيد، والا حجب عن نور الأنوار، وهوى في ظلمات بعضها فوق
بعض، وأمّا الدعاء والسؤال، فوسيلة يعتبر منها ما تعلق بالمعاد، ولا يرد اشتمال غير هذه
السورة على مثل ما ذكر لأن وجه التسمية لا يلزم اطراده ولأنها استحقته بالسبق إليه، والترتيب
الخاص والإجمال المفصل في غيرها فضاهت مكة في تسميتها أمّ القرى لما تقذمت، ودحيت
الأرض عنها، وتمام تفصيله في شروج الكشاف، وفي بعض الحواشي أنّ ابن سيرين كره
تسميتها أمّ القرآن والحسن البصري تسميتها أمّ الكتاب، وردّ بثبوته في الصحيحين وغيرهما
كحديث " الحمد لله أمّ القرآن وأمّ الكتاب " (١ (قوله: (أو على جملة معانيه الخ) الجملة بمعنى
الجميع، وبمعنى الإجمال والمراد الثاني، والحكم جمع حكمة وهي لغة العلم الحق المحكم
عن قبول الشبه، ولذا فسرها ابن عباس في قوله ﷿: ﴿وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [البقرة: ٢٦٩] بعلم القرآن وفسرها الحكماء بمعرفة حقائق الأشياء على ما هي عليه بقدر الطاقة البشرية، وهو قريب مما قبله، والنظرية نسبة للنظر بمعنى الفكر والمراد ما لا تعلق له بالعمل من العقائد الحقة الشاملة لأمر المعاد والنبوّة وسائر الإلهيات ونحوها مما المقصود منه بالذات العلم دون العمل، والأحكام مرّ تفسيرها، والعملية منها العبادات، وكل ما ذكر في الفروع، والأوّل مستفاد من أوّل السورة إلى قوله: ﴿يَوْمِ الدِّينِ﴾ والثاني من قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ وما بعده، وسلوك الطريق المستقيم من قوله اهدنا الصراط، والإطلاع بتشديد الطاء افتعال من طلع ظهر، وبسكونها أفعال منه والأوّل أظهر وهو من قوله: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ﴾ الخ وفيه، وعد ووعيد فدخلا فيه، والأمثال والقصص المقصود بها الاتعاظ، وكذا الدعاء واك اء فهذه جملة المعاني القرآنية إجمالًا مطابقة، والتزاما فقوله من الحكم بيان لجملة وقوله: (التي الخ) في موصوفه احتمالات، لأنه يحتمل أن يكون صفة جملة أو معان أيضًا المبينة بالحكم، والأحكام فيكون في المعنى صفة لهما من غير تكلف، كما في القول بأنه صفة لهما معا وليس صفة للأحكام وحدها كما في بعض الحواشي قيل: لأن السلوك شامل للنظرية والعملية، وقيل لأنه لا يصح الحكم عليها بأنها سلوك الطريق المستقيم، لأنه العمل لا الحكم يخحتاج إلى تقدير مضاف أي أحكام الخ، وكلاهما على طرف الثمام، ومنهم من جعل المشير إلى الأحكام العملية الصراط المستقيم، وإلى النظرية ذكر السعداء والأشقياء على أنه لف ونشر غير مرتب مع أنّ ذكر الصفات دال على ما هو من الحكم
1 / 19