Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Nau'ikan
نعود إلى حيث انتهينا من كلامنا عن جدل الحاضر والمستقبل الذي خلصنا منه إلى أننا لا نملك سوى الواقع المعيش. فإذا كان «الواقع المعيش ... أو الحياة الحاضرة مبدعة فهي تنفتح على المستقبل، ومن خلال هذا الانفتاح على المستقبل نتحول إلى الماضي لنحصل منه على التجارب الضرورية للحاضر. وفي هذه الحالة يدخل الماضي حياتنا بشكل مباشر، وبطريقة أداتية كتجربة ضرورية لحياتنا الحاضرة الخلاقة.»
32
هنا تكون العودة إلى الماضي ضرورة ملحة للاستعداد للمستقبل، ولكن هذه العودة إلى الخلف أو إلى الماضي هي فقط لشحذ القوى، «كمن يقفز فوق خندق، فلا بد له أن يتحرك للخلف قليلا كي يحفز قواه ويستجمع سرعته.»
33
وبهذا المعنى وحده يمكننا أن نقول في النهاية إننا نعي الحاضر تمام الوعي عندما ينفذ فيه الماضي والمستقبل بالصورة التي أوضحناها. وعصر النهضة الأوروبية هو الفترة التاريخية التي وقع عليها اختيارنا لتكون نموذجا للوعي التاريخي بالزمن الحاضر، فهي العصر الذي تبلورت فيه النظرة الصحيحة الواعية للزمن، والتي انطلقت من الحاضر، وبدأت بداية جديدة كل الجدة مع عدم إغفال بعدي الماضي والمستقبل. (4-1) النهضة الأوروبية نموذجا للوعي التاريخي
ما دمنا قد اتخذنا من عصر النهضة الأوروبية نموذجا للوعي التاريخي، فلا بد أولا من التذكير بالمعنى الاشتقاقي للكلمة في أصلها الأجنبي، وفي ترجمتها العربية، لنؤكد من خلاله موقف الوعي في تلك الحقبة الزمنية من الماضي والمستقبل معا. فالكلمة الأصلية
Renaiss ance
تعني حرفيا الميلاد الجديد أو الميلاد الثاني. وقد اصطلح على ترجمتها في العربية بالنهضة التي تعني البعث أو النهوض من جديد بعد ركود طويل. وهي حركة ثقافية بدأت في إيطاليا منذ القرن الرابع عشر، وامتدت إلى بقية الدول الأوروبية، وسادتها حركة إحياء واسعة، وبعث للتراث اليوناني والروماني القديم، ولكنه لم يكن بعثا لشيء ماضي أو إحياء لعصر قديم، بل كان في جوهره ولادة جديدة لتراث قديم، بمعنى آخر كانت عودة نقدية فاحصة للماضي، ومؤسسة للمستقبل. فقد نظر الأوروبيون «إلى تراثهم، في عصر نهضتهم، نظرة ناضجة، لا تخجل من الاعتراف بالاختلاف الجذري بينه وبين حاضرهم الجديد، وكانت بذلك عاملا حاسما في القضاء السريع على تخلفهم الفكري.»
34
لقد تم توظيف رؤية الماضي بشكل نقدي وواع من أجل الحاضر، بأن وضع الأوروبيون تراثهم الماضي في سياقه التاريخي، وكانوا على وعي بأنه مضى، وأدركوا بحس تاريخي صادق تلك الفجوة الزمنية التي تفصل بين الماضي والحاضر، ومع اعترافهم بالقيمة الحقيقية لتراثهم الثقافي وتقييمه في إطار عصره، إلا أن هذا لم يمنعهم من الوعي بالحاضر الذي يعيشون فيه وإدراك متغيراته، فتملكتهم رغبة جامحة في البدء من جديد.
Shafi da ba'a sani ba