Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Nau'ikan
كانت مهمة زكي نجيب محمود في حقيقتها مهمة تحررية، أي تحرير الحياة الثقافية العربية من بعض جوانبها اللاعقلانية، وتحرير العقل من مسلمات موروثة وبديهيات غير قابلة للنقاش، ومحاولة وضعه - أي العقل - على أولى درجات المنهج العلمي. ولتحقيق هذا الهدف لم يكن أمامه من سبيل - في معركته للتنوير - غير التحليل اللغوي المنطقي ، واستخدام السلاح النقدي للوضعية المنطقية لمراجعة كل المسلمات والبديهيات الموروثة وغير المدروسة في آن واحد. ويمكن القول أيضا بأن زكي نجيب محمود بقدر ما كان وضعيا منطقيا، كان أيضا براجماتيا من حيث إيمانه بأن الفكرة هي خطة عمل، ودعوته إلى إصلاح الفكر بأن يكون «عالم الكلام» هو جانب «التخطيط» لعالم العمل والتطبيق، أنه لم يكن مصادفة أن أصبح «التخطيط» علامة من أبرز العلامات المميزة لعصرنا؛ لأن التخطيط تحليله هو أن «الفكر» خطة لعمل نؤديه أو هو لا يكون فكرا.
78
وربما انتهى البعض لذلك السبب إلى أن خلاصة تعريفات العقل والعقلانية عند زكي نجيب محمود «أنها عملية إجرائية خالصة بصرف النظر عن مبادئها وغاياتها ... فالعقل إذن مجرد سلوك عملي يبدأ من مقدمات مبدئية مفروضة أو قيم أخلاقية مطلقة، وينتهي إلى أهداف مبتغاة ... ولهذا فهو إلى جانب طابعه الإجرائي الخالص له طابع نفعي كذلك، وهو وسيلة أو أداة عملية لتحقيق غاية. وسلامته وصحته في مدى دقته في الوصول إلى هذه الغاية، إنها إذن دقة براجماتية نفعية.»
79 •••
وننتقل إلى تأثير تيار آخر على الفكر العربي ألا وهو البنيوية، وكان ميشيل فوكو هو أكثر أقطابها حظا من الانتشار في الفكر العربي الحديث. وربما يكون هذا الانتشار هو سبب أو نتيجة «الترجمات المختلفة لنصوصه وعدد الدراسات المختلفة التي تناولت الفيلسوف، والتي تعادل اهتمام العرب بفلاسفة غربيين أمثال ديكارت وسارتر وماركس، أي أولئك الفلاسفة الذين يشكلون توجها فكريا أو تيارا فكريا وحدثا ثقافيا.»
80
وقد قام بعض المفكرين العرب بتوظيف الفكر البنيوي وتطبيقه على بعض نصوص الأدب العربي القديم والحديث. وربما تكون أوضح محاولات هذا التوظيف هي انعكاسات تطبيق المنهج البنيوي على النقد الأدبي بين المتحمسين والمعارضين له، فقد تحمس له بعض المشتغلين بالنقد الأدبي (مثل جابر عصفور، وحكمت الخطيب، وكمال أبو ديب)، وعارضه بنفس القدر من الحماس البعض الآخر من النقاد (مثل شكري عياد وعبد العزيز حمودة)، وذلك لرفضهم لفكرة نقل مدارس نقدية تنتمي إلى مناخ ثقافي وفكر فلسفي محددين إلى مناخ ثقافي وفكر فلسفي مغايرين تماما. ويرى هذا الأخير أن الحداثيين العرب عندما ينقلون المصطلح النقدي الجديد، ويعزلونه عن خلفيته الفكرية والفلسفية، فإنه «يفرغ من دلالته، ويفقد القدرة على أن يحدد معنى. فإذا نقلناه بعوالقه الفلسفية أدى إلى الفوضى والاضطراب؛ إذ إن القيم المعرفية القادمة مع المصطلح تختلف، بل تتعارض أحيانا مع القيم المعرفية التي طورها الفكر العربي المختلف.»
81
وإذا صح قول هذا الناقد، فإن النتيجة المترتبة عليه هي أن ما ينطبق على النقد الأدبي يمكن أن ينسحب بطبيعة الحال على سائر المجالات المعرفية الأخرى، أي محاولة نقل فلسفات ومناهج بحث غربية وإدماجها في بنية الثقافة العربية التي تتسم بطبيعتها بسياق اجتماعي وتاريخي ومعرفي مغاير؛ مما يثير الكثير من الجدل والتساؤلات حول مدى صدق ومشروعية هذه المحاولات. وهذه حجج مردود عليها، ولكننا سنرجئ الرد قليلا.
وكما حاول نقاد الأدب العربي تطبيق المنهج البنيوي على النصوص الأدبية العربية، حاول أيضا بعض المفكرين العرب توظيف هذا المنهج في بحث التراث الفلسفي العربي، كتلك المحاولات التي قام بها العديد من مفكري المغرب العربي (أمثال محمد عابد الجابري، ومحمد أركون، والتريكي، وصفدي، وغيرهم)، ولا نستطيع بطبيعة الحال تتبع المشروعات الفكرية التي طرحها أصحابها، ولكن سنكتفي بالحديث المقتضب عن مثال واحد فقط، وليكن هو المشروع الذي طرحه محمد عابد الجابري لنقد العقل العربي، وقد قدم الجابري مشروعا في نقد العقل العربي، وتحليل المكونات الثقافية العربية التي ساهمت بدورها في تكوين العقل العربي ذاته، واستهل هذه الدراسة بكتابه «تكوين العقل العربي»، الذي بدأ به مشروعه النقدي على أساس من التحليل الإبستمولوجي: «إن وجهتنا هي تحليل الأساس الإبستمولوجي للثقافة العربية التي أنتجت العقل.»
Shafi da ba'a sani ba