Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Nau'ikan
48
ولكن يجب أن يحذر هذا المشروع الضخم من الوقوع في خطرين متطرفين : «الوقوع في الهيمنة الوحشية على القوى الطبيعية، والوقوع في نوع من الروحية أو الصوفية الجوفاء.»
49
خاتمة
نخلص من كل ما سبق إلى أن الإنسان والبيئة الطبيعية يمثلان قطبين في متصل واحد (مع وجود مستويات أخرى بطبيعة الحال من العلاقة بين الإنسان والبيئة الطبيعية تتوسط المسافة بين هذين القطبين). وقد بدأ المتصل بخوف الإنسان من قوة وبطش البيئة الطبيعية، عندما نظر إليها على أنها شيء آخر مختلف عنه يثير فيه الرعب، فتحولت الحيرة وعدم فهم ما يحدث حوله من ظواهر طبيعية تهدد حياته وبقاءه (من برق ورعد وأعاصير وفيضانات وبراكين ... إلخ) تحولت إلى خوف مدمر للبيئة الطبيعية ذاتها، وذلك لحماية نفسه من أهوالها. وقد انتهى هذا المتصل - كما رأينا - إلى تدمير الإنسان للبيئة الطبيعية إلى الحد الذي أصبح يهدد حياته وبقاءه أيضا، مما جعل الأيكولوجيين يبذلون المزيد من الجهد في محاولة لإنقاذ البيئة الطبيعية من قوة الإنسان وبطشه.
صحيح أن الإنسان هو الكائن الذي كتب عليه أن ينظم هذا العالم باعتباره الكائن العاقل الوحيد على هذا الكوكب، ولكن من الصحيح أيضا أنه ليس سوى نوع واحد بين أنواع وكائنات أخرى عديدة، وإذا كان العقل هو الملكة التي تميز الإنسان عن سائر المخلوقات، فإنها قد تحولت (أي ملكة العقل) من نعمة ممنوحة له إلى نقمة عليه منذ أن رفع ديكارت لواء العقل، ووضع أسس نموذج معرفي قائم على الثنائيات المتضادة، مما أدى في نهاية الأمر إلى السيطرة الكاملة على البيئة الطبيعية وتدميرها، فكيف يكون المخرج؟ أي كيف نعود إلى البيئة وتعود البيئة إلينا؟ بمعنى آخر كيف نحقق التوازن والتوازي بين إمكانيات البيئة الطبيعية وقدراتها وبين احتياجات الإنسان الراشدة بما يسهم في استدامة التنمية من ناحية، وحماية البيئة الطبيعية وصيانتها من ناحية أخرى؟
لن يكون المخرج إذن إلا بالتخلي عن نموذج الثنائيات الضدية، أي لا بد أن تتحول الثنائيات والازدواجيات المتضادة والحاسمة إلى قطبين في داخل نسق أكبر لا يكون التفكير فيه قائما على هذا أو ذاك، بل يكون هذا وذاك، ولا يتأتى هذا - كما بينا في هذا البحث - إلا من خلال نموذج معرفي جديد يجمع بين المتقابلات، ويقضي على التوتر القائم بين الثنائيات المتضادة التي تفصل بين العقل والجسم، الطبيعة والحضارة، القيم الباطنة والقيم الأداتية ... إلخ، نموذج يعلمنا أن نرى المفارقات والاختلافات بوضوح، وأن ننظر إلى هذه الاختلافات لا على أنها مجرد متعارضات، بل كأقطاب متناقضة في تفاعل داخل ميادين معقدة من العلاقات. وقد لا يرى البعض في مثل هذا النموذج الحل القاطع والسريع لمشكلة تتفاقم آثارها بشكل مرعب ومخيف؛ لأن تغيير النموذج المعرفي في مجالات النظم الاجتماعية والسياسية والأخلاقية لا يكون ثوريا، ولا يؤتي بثمار سريعة كما هو الحال عند توماس كون في مجال النظريات العلمية، وغالبا ما يستغرق التغيير المصاحب للنموذج الجديد زمنا إن لم يكن طويلا فهو ليس بالقصير، ولكن هذه من ناحية أخرى ليست بالحجة القوية بدليل أنه قد تمت بعض التحولات في النظم الفكرية بشكل ثوري وفجائي، ولم تمر بتلك التطورات البطيئة، بل أحدثت طفرة معرفية كالماركسية على سبيل المثال وغيرها.
لقد حاولنا تحسس الطريق إلى نموذج معرفي جديد لإعادة تقييم موقفنا من البيئة الطبيعية، وهي محاولة أولية تحتاج إلى تكاتف جهود العلماء من مختلف الميادين والتخصصات لكي يتحقق لها المزيد من التنسيق والوضوح، كما بينا أن هذا النموذج المعرفي يأخذ في الاعتبار القيم البيئية؛ لأن المشكلة التي تتعلق بالمأزق البيئي - كما رأينا - هي في المقام الأول مشكلة أخلاقية، فلا بد إذن أن يحاول النموذج المعرفي الجديد تأسيس أخلاق بيئية جديدة تقوم على عناصر أساسية، يمكن أن نوجزها فيما يلي: (1)
دحض النزعة المركزية الإنسانية التي تجعل الإنسان مصدر القيمة وموطنها ومنبعها الوحيد. (2)
الإيمان بمفهوم القيمة الباطنة في البيئة الطبيعية. (3)
Shafi da ba'a sani ba