Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Nau'ikan
23
ولدينا أيضا في الفكر العربي ما يؤكد هذه الفرضية بشكل غير مباشر في تعريف ابن سينا للطبيعة: «الطبيعة هي المبدأ الفعلي أو الانفعالي الأول الدائم لحركة الجسم وسكوناته، من حيث إن الموجودات تتحرك وتسكن على نسق واحد، فتدل على أن فيها علة الحركة والسكون، وعلة اطرادهما، فالفعل الباطن واطراده (القانون) علامتان على الطبيعة.»
24
وربما يدل هذا التعريف على القيمة الباطنة في الطبيعة باعتبار أنها علة ذاتها، وتعتمد اعتمادا ذاتيا لبلوغ كمالها الوظيفي. بهذا المعنى فإن البيئة الطبيعية غير الحية توجد من أجل ذاتها، وليس من أجل الإنسان وخدمة أغراضه، تماما كما وجد الإنسان من أجل ذاته، وليس من أجل الطبيعة، وإذا اعترفنا بأن للإنسان قيمة في ذاته؛ لأنه مخلوق لذاته، فلا بد أن نمنح البيئة الطبيعية نفس الحق ونعترف بأن لها قيمة كامنة في باطنها ما دامت قد وجدت لذاتها، ولا ينفي هذا ولا يقلل منه أن يجد فيها الإنسان منفعة له، ويكتشف فيها قيمة أداتية تحقق أغراضه.
ويؤدي الإيمان بالقيمة الباطنة في الطبيعة - من الناحية الفلسفية - إلى فكرة مفادها وضع الذات الطبيعية في مقابل الذات الإنسانية، وقد تبدو هذه الفكرة متشابهة مع النموذج المعرفي المتوارث من ديكارت، والذي وضع الذات في مقابل عالم الأشياء. وهو النموذج الذي نطالب بتغييره الآن، ولكن لا بد من التذكير بأن النموذج المعرفي الديكارتي إذا كان قد اعترف للعالم الطبيعي بوجوده المستقل عن عالم الذات، فهو لم يفعل هذا إلا لإثبات التفوق العقلي للإنسان والبرهنة على قدرة العقل على السيطرة على العالم الطبيعي - كما ورد في بداية هذا البحث - وهي الرؤية الفلسفية التي استمرت حتى هيجل عندما رفض الحركة الداخلية للطبيعة، ومنح للإنسان القدرة على التحكم في قوانينها عن طريق الدهاء، بحيث يحيل أعمالها العمياء إلى أعمال هادفة بعكس ما كانت تريده الطبيعة نفسها. ولا شك أن هذه الرؤية تعبر عن فلسفة الأنا والسيطرة المطلقة، وتسخير كل شيء للأنا البشرية. بينما تشكل فكرة ذات الطبيعة هنا موقفا مختلفا من الطبيعة، ليس نابعا من السيطرة أو الهيمنة عليها. بل إن النظر إلى الطبيعة بوصفها ذاتا يمكن أن يكون منطلقا لرؤية ثورية جديدة للعالم تستمد غذاءها من تراث صوفي طويل ، وتحدوها الرغبة والشوق لإعادة السحر إلى العالم (كما في التراث الشرقي القديم الذي يتميز بانسجام الإنسان وتناغمه مع الطبيعة)، وربما تستند هذه الرؤية أيضا إلى تراث رومانسي لا ينتقص من شأنها، فعندما فقد الإنسان رومانسيته فقد معها توازنه مع البيئة الطبيعية من حوله، وتحولت علاقة الانسجام مع الطبيعة إلى نوع من التعالي عليها. إن فكرة ذات الطبيعة تولد لدى الذات الإنسانية الشعور بالآخر، أي أن الطبيعة هي «الآخر» المختلف عنها. و«فكرة أخرية الطبيعة
Otherness ، أي انفصالها وتميزها عن المخلوقات البشرية أو عن المخلوقات التي تنتج الثقافة والتقنية، يؤكد فكرة القيمة الباطنة الموجودة في الطبيعة، كما أن إحساسنا بآخرية الطبيعة هو الذي يثير فينا الاستجابة التي تمكننا من إضفاء القيمة عليها.»
25
من الصحيح إذن أن للطبيعة قيمة باطنة في ذاتها، ومستقلة عن الإنسان، ومن الصحيح أيضا أن البشر وحدهم هم القادرون على التقييم، ولكنهم لا يقيمون عالما بلا قيم، بل إن البيئة الطبيعية تعرض عليهم بغير شك ما يستوجب التقييم.
إن فكرة النظر إلى الطبيعة باعتبار أنها «الآخر» تتطلب تجاوز النظرة الإنسانية الضيقة التي تتمركز حول الإنسان وتضعه على قمة سلم الموجودات (أو التسلسل الهرمي للموجودات)،
26 «فآخرية» الطبيعة التي تحدثنا عنها هي الأساس الوطيد لما يكمن فيها من قيمة باطنة. هذا بالإضافة إلى قيمتها الجمالية التي تدعم أيضا قيمتها الباطنة؛ ففي الطبيعة خصائص (مثل التنوع والثبات، الجلال والجمال، الانسجام والرقة، الإبداع والتنظيم ... إلخ) نلمس فيها القيمة الجمالية للطبيعة، والتي تساعدنا على إدراكها، وربما تكون هذه الخصائص ذاتها هي التي تساعدنا على إقناع الرافضين للقيمة الباطنة في الطبيعة، أي إقناعهم بقيمتها الجمالية الإيجابية التي هي الأساس الوطيد لما يكمن فيها من قيمة باطنة، ولعل أهم ما يميز القيمة الجمالية للطبيعة هي أنها تحققت بغير تصميم قصدي، وبدون تدخل هادف، وتنبع قيمة الطبيعة من أنها تطورت تطورا طبيعيا بدون تدخل تكنولوجي. ويكشف علم الأيكولوجيا عن هذا التطور والعمليات الطبيعية المختلفة التي تؤدي إلى التنظيم الذي نلاحظه في الطبيعة، والذي هو أحد أسباب قيمتها الباطنة.
Shafi da ba'a sani ba