Hasad Falsafi
الحصاد الفلسفي للقرن العشرين : وبحوث فلسفية أخرى
Nau'ikan
إذا عدنا إلى الرؤية تاريخية لزمن نيتشه وجدنا أن أصحاب النزعة التاريخية يدعوننا إلى التمسك بالحس أو الوعي التاريخي، بينما يدعونا نيتشه - هذا الفيلسوف السابق لأوانه على حد تعبيره! - إلى الحس اللاتاريخي جنبا إلى جنب مع الحس التاريخي. وهنا تكمن المفارقة النيتشوية التي يحملها هذا البحث عنوانا له والمتمثلة في السؤال الذي طرحناه منذ قليل: كيف يعيش الإنسان بشكل تاريخي وغير تاريخي في آن واحد؟ تتأكد هذه العلاقة الجدلية بين الطبيعة التاريخية واللاتاريخية للإنسان في التفرقة التي أقامها نيتشه بين الإنسان والحيوان من حيث علاقة كل منهما بالزمن. فإذا كان الأخير يعيش بشكل غير تاريخي - لا يعرف معنى الأمس أو اليوم أو الغد - وتتميز حياته بالنسيان السلبي، فإن الإنسان يتأكد وجوده الحقيقي في قدرته على النسيان، ولكنه ليس النسيان السلبي كما في حالة الحيوان، بل هو نسيان من النوع الإيجابي، ووجود الإنسان هو فحسب في «قدرته على النسيان في الوقت المناسب والتذكر في الوقت المناسب، في غريزته المفعمة بالقوة لأن يحيا بشكل تاريخي عندما يكون ذلك ضروريا، وأن يحيا بشكل لا تاريخي عندما يكون ذلك ضروريا، فاللاتاريخي والتاريخي ضروريان بنفس القدر لصحة الفرد والناس والثقافة»،
28
والقدرة على النسيان هي الشرط الأساسي والجوهري لسعادة الجنس البشري. فإذا كانت دراسة التاريخ تتطلب التذكر الفعال للحظات الكبرى في تاريخ الإنسانية، فهي تتطلب أيضا النسيان الفعال «النسيان أساسي لأي فعل، تماما كما أنه ليس النور فقط، بل الظلام أيضا أساس لحياة كل كائن حي. والإنسان الذي يريد أن يحيا بشكل تاريخي فحسب سيكون مثل من حرم قسرا من النوم، أو الحيوان الذي اضطر أن يعيش قط بالاجترار وسيظل يعيد الاجترار.»
29
ومهمة الإنسان إذن هي تطوير قدرته على النسيان من أجل الحياة؛ لأن النسيان الإيجابي الفعال له قوة مبدعة. التذكر والنسيان إذن ضروريان بنفس القدر في التعامل مع التاريخ ليكون في خدمة الحياة.
وبقدر ما تتوقف قيمة دراسة التاريخ على تأكيد الحياة وتدعيمها، تتوقف أيضا على تأكيد قوة الوعي اللاتاريخي وتدعيمه. فالتاريخ في رأي نيتشه ليس عالما خالصا كالرياضيات، ولذلك فهو يرفض الحجج «العلمية» التي تزعم أن التاريخ علم موضوعي متعلق بالحقائق التجريبية، ويؤكد أن الظاهرة التاريخية ليست ظاهرة معرفية فحسب، بل يجب توظيفها من أجل الحياة. ويتجلى العنصر اللاتاريخي في قوة توظيف الماضي لأغراض الحياة. وهو بهذا يشير إلى العلاقة بين الماضي والمستقبل التي لا يحكمها الصراع، بل إن الماضي يصبح مستقبلا؛ فالعنصر اللاتاريخي بالمعنى السابق هو الذي يوجه الماضي ناحية المستقبل، وحتى الذين يتصورون أنهم يتمتعون بالحس التاريخي فقط، فإن «النظر إلى الماضي يفرض عليهم الاتجاه للمستقبل، ويشجعهم على الاستمرار في العيش، وتحقيق آمالهم التي يريدونها ... ويعتقد هؤلاء التاريخيون أن معنى الوجود سيأتي للنور أكثر فأكثر في مسار تقدمهم، وهم يسيرون وراءهم فقط ليتعلموا فهم الحاضر وتمني المستقبل. هؤلاء ليس لديهم أية فكرة - على الرغم من انشغالهم بالتاريخ - عن أنهم في الواقع يفكرون ويعملون بشكل غير تاريخي، وأن انشغالهم بالتاريخ لا يتوقف على المعرفة الخالصة، بل على خدمة الحياة.»
30
هكذا يكون الإحساس باللاتاريخية هو الأساس الذي يقوم عليه استخدام التاريخ من أجل الحياة عندما يظهر معنى جديد للماضي، إنه يعود - أي الماضي - للإنسان مرة أخرى، ويجعله كائنا مستقبليا قادرا على أن يظهر للنور تاريخا جديدا مختلفا عما قد ظهر بالفعل.
هكذا يصبح الماضي - بالمعنى السابق - نموذجا إرشاديا مبدعا للمستقبل، فالنفاذ إلى المستقبل لن يكون إلا من خلال الماضي، بمعنى آخر ليس بإمكاننا الوصول إلى الماضي إلا عندما ندخل في المستقبل، وهي الفكرة الملغزة والمحيرة في فلسفة نيتشه، أعني فكرة العود الأبدي التي عبر عنها بلغة ميتافيزيقية غامضة. وتؤكد هذه الفكرة على أن كل اللحظات التي انقضت في حياة الإنسان ستعود مرة أخرى. وأن كل الأشياء والوقائع التي حدثت في الماضي ستعود لتحدث مرة أخرى في المستقبل. وكأن هذه النظرية تقر بأبدية الزمان أو دورية التاريخ، وإذا كان الأمر كذلك، فكيف يتسق هذا مع رفض نيتشه للأبدية في صورتها الأفلاطونية؟ هل قال نيتشه بالعود الأبدي للهرب من تناهي الوجود الإنساني؟ وهل العود الأبدي إنكار للأبدية وتأكيد لمفهوم الوجود التاريخي؟ أم هو تأكيد لها، أي للأبدية؟
يصعب في حقيقة الأمر تحليل البنية الداخلية لفكرة العود الأبدي على أنها مجموعة من الحجج العقلية، علمية كانت أم فلسفية. فالفكرة في جوهرها بقدر ما تلخص غموض فلسفة نيتشه ومفارقاتها بصفة عامة، فهي تؤكد أيضا البناء الزمني للعود الأبدي من خلال تأكيدها على أن كل شيء سيعود، أي أن هناك عودة لكل لحظات الإنسانية، فهل هي إذن بحث في طبيعة الزمن؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإن الفكرة في مضمونها تعني أن جوهر الزمن هو التكرار الأبدي، مما يجعل الباحث لفكرة العود الأبدي يعتقد أن الفروق الموجودة بين الأبعاد الزمانية محض وهم، فإما أن تتلاشى - في هذه الحالة - المسافة التي تفصل بين الماضي والمستقبل، أو أن الأبعاد الزمانية تتداخل في بعضها البعض، ويفقد الزمن وجهته الصحيحة، ومسيرته المألوفة لنا (من الماضي إلى الحاضر، ثم التقدم في المستقبل) على نحو يثير الحيرة والارتباك، مما جعل بعض الباحثين يقول بتعدد الأبنية الزمنية المتشابكة عند نيتشه: «(1) فالوجود التاريخي في جوهره متوجه نحو المستقبل، إنه يرى معنى الوجود في مسار عملية تقدمه. والوجود التاريخي يحوي داخله بذرة المستقبل، التي تتوجه بالضرورة إلى الأمام بصورة حتمية. وكل نمو أو تطور هو كامن بالقوة في هذه البذرة كما أنه يتوق باستمرار لكي يفض نفسه. (2) ومع ذلك ففي تفسير الوجود التاريخي المتجه للمستقبل، هناك دائما صدى لتحديد الصيرورة باعتبارها تحررا من الوجود الأبدي بصورة قابلة للعقاب، وقد تم التعبير عن هذا بوضوح في وصف الحياة اللاتاريخية بأنها تلك القوة المظلمة المندفعة، والتي لا تشبع من الرغبة في ذاتها. الوجود التاريخي هو ذلك الوجود الذي يعاني أو يحرك هذه القوة المظلمة المندفعة إلى الماضي، ويواجهها باعتبارها قيدا على زماننا، وهو قيد يشلنا ويعلمنا في نفس الوقت، وذلك على التحديد في سعيها واندفاعها نحو المستقبل. هكذا ينشأ تناقض بين زمن الصيرورة الذي يتلاشى في الماضي وزمن الوجود التاريخي الذي يتجه نحو المستقبل بوصفه هدف تقدمه. وينشأ السؤال المتعلق بالوجود التاريخي: كيف ينبغي أن تكون علاقته بهذه الحياة، وهي التي يقابلها باعتبارها كانت موجودة دائما أمامه، أو كيف تكون علاقته بالماضي بأوسع معانيه. وهكذا يواجه الوجود التاريخي بالسؤال عما إذا كان عليه أن يكون ماضيا لم ينقطع، أو أن يكون قادرا على أن يعيد صنع التاريخ مما قد حدث بالفعل. (3) ويتضح مما سبق أن الزمن لا يختفي ببساطة في الماضي ولا يتلاشى فيه، وإنما يرجع ثانية للإنسان ويتحداه أن يقيم علاقة معه. هذه العودة للماضي هي إلى أقصى حد البنية الأساسية والبنية الإشكالية في نفس الوقت. والتفكير فيها (أي العودة للماضي) مع التفكير في اتجاه زمني معين لا ينساب من المستقبل إلى الماضي، وكذلك لا ينمو ولا يتجه من الماضي إلى المستقبل يسقط أي فكرة عن توجه زمني ذي بعد واحد من حيث تقاطع كل العوامل التي يتحدد بها هذا التوجه الزمني أن الماضي يعود.»
Shafi da ba'a sani ba