وكان الرشيد مثقفا ثقافة عربية واسعة، علمه الأدب المفضل الضبي، والنحو الكسائي، وملأه الأصمعي طرفا من طرائفه الأدبية، وملحا من ملحه العربية.
وكان نديمه في الغناء إسحاق الموصلي، وتدلنا مناقشاته الكثيرة للعلماء والأدباء على بحر واسع في العلم والأدب.
وقد روي عنه أنه كان ينقد الشعراء في أشعارهم، وينقد المغنين في غنائهم، ويحصي غلطات هؤلاء وهؤلاء ، ومزايا هؤلاء وهؤلاء، كما كان من أدلة ذلك ما جمع له من الأصوات الممتازة التي اختارها أبو الفرج الأصفهاني، وبنى عليها كتابه الأغاني.
ولعل أكبر ما يدل على ثقافته وصيته المشهورة التي تقدم بها إلى الأحمر معلم ولده محمد الأمين، إذ قال: «يا أحمر، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، وكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين؛ أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة»، وهي وصية حكيمة، وضع فيها الرشيد منهج التعليم، ومنهج الأخلاق ... واتخذت على مر العصور مرشدا لكل من حاول التعليم، وأراد ممارسته. •••
ويروون أن الرشيد مرة دعا المفضل الضبي، والمأمون عن يمينه ومحمد الأمين عن يساره، قال المفضل فسلمت فأومأ إلي بالجلوس فجلست، فقال لي: «يا مفضل!» قلت: «لبيك يا أمير المؤمنين!» قال: «كم من الأسماء في فسيكفيكهم الله؟» فقلت: «ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين» قال: «وما هي؟» قلت: «الياء لله عز وجل، والكاف الثانية لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، والهاء والميم والواو للكفار» قال: «صدقت»، كذا أفادنا هذا الشيخ؛ يعني الكسائي، ثم التفت إلى الأمين، فقال له: «فهمت؟» قال: «نعم» قال: «أعد المسألة» فأعادها كما قال المفضل، قال الرشيد: «يا مفضل! هل عندك مسألة؟» قلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ قول الفرزدق:
أخذنا بأطراف السماء عليكم
لنا قمراها والنجوم الطوالع
قال الرشيد: «هيهات قد أفادنا هذا قبلك، فقد أخبرنا الشيخ - يعني الكسائي - أن لنا قمريها يعني الشمس والقمر، كما قالوا سنة العمرين يريدون أبا بكر وعمر.»
وذلك أنه إذا اجتمع اسمان من جنس واحد، وكان أحدهما أخف على أفواه القائلين غلبوه فسموا الأخير باسمه، فلما كانت أيام عمر أكثر من أيام أبي بكر، وفتوحه أكثر غلبوه، وسموا أبا بكر باسمه، وقد قال الله عز وجل:
Shafi da ba'a sani ba