ولم يمنع المسلمين نهي الإسلام لهم عن التصوير من ازدهار التصوير، ومنه الخطوط الجميلة والموسيقى والغناء، فقد تفننوا فيها كل التفنن، وكانت مجالس الرشيد وبلاطه مثلا أعلى للغناء والموسيقى، وكانت هناك مدارس لهم - كما كان هناك أصحاب الموسيقى النظرية والعلمية - فهم ينقلون فلسفة الغناء عن أرسطو، وفلسفة جالينوس، وفلسفة إقليدس كالذي فعله الفيلسوف الكندي بعد ذلك بقليل.
بغداد
عروس الأقطار الإسلامية
عظمة بغداد
هذا النظام الإداري والاجتماعي الذي ذكرناه كان له مركز خاص هو بغداد، وعلى منواله تسير سائر الأقطار الإسلامية. وبغداد هذه مدينة خطها المنصور مدورة، وجعل لها أربعة أبواب، سماها بأسماء المدن التي تتجه نحوها، وهي أبواب: البصرة، والكوفة، والشام، وخراسان، وحفر حولها خندقا، وبنى على كل باب قبة عالية تسمح بدخول الفارس وهو شاهر رمحه، وسورها بثلاثة أسوار، وبنى في الوسط قصرا ذهبيا يعرف بقصر الذهب.
وبنى على مقربة من هذا القصر المسجد الجامع، وقصور الأمراء والأشراف، ودواوين الحكومة، وكانت ضواحي المدينة مليئة بالحدائق والمتنزهات، والأسوار العامرة، والحمامات الجميلة، والجوامع الفخمة على جانبي النهر، وقد بلغ سكانها في أوج عظمتها نحو مليونين، وتخترق المدينة على جوانب النهر شوارع فسيحة تبلغ أحيانا أربعين ذراعا، وقد قسمت إلى مربعات، ويقوم على حراستها ليل نهار حراس يقفون في الأبراج المشيدة، والماء يصل إلى الدور في جداول، وتكنس الشوارع، وتنظف على نظام معين، فكان يعلو قصر الذهب قبة خضراء، ويبلغ ارتفاعها ثمانين ذراعا، وعلى القبة تمثال فارس، وبيده رمح طويل، ويعد هذا القصر بزينته رمز العباسيين. •••
وكانت بغداد مدينة زاخرة بكل العلوم والفنون، بناها المنصور، وما لبثت أن ازدهرت واحتوت على كل أسباب الترف والنعيم، وبعد مدة قصيرة من بنائها، كانت عروس الأقطار الإسلامية والأوروبية، فلم يكن على وجه الأرض أزهر منها، وليست تقاس عاصمة البيزنطيين، ولا عاصمة شارلمان بها في الصناعة أو في العلم، ولم تساوها الشام ولا فارس في عهد الدولتين الرومانية والفارسية، ويحدثنا مؤرخو بغداد بعظمة هذه الحضارة، حتى إذا قرأناها فكأنما نقرأ وصفا للحضارة العصرية.
وكثرت الرحلات منها إلى البلاد الأخرى: كالبلقان، والصين، وسيبيريا؛ يدعوهم إلى هذه الرحلات حب التجارة، والتبشير بالإسلام، وكانوا إذا وصلوا إليها احتقروها بالنسبة لمدينتهم مستسهلين الصعاب والمخاطرة بالنفس، فإذا قورنت هذه المدنيات بمدنية المسلمين - وخاصة في بغداد - سادت المدنية الإسلامية، وكانت هي موضع التقليد للغربيين حتى إنهم كانوا يستمدون في تشريعهم من التشريع الإسلامي، وكان العالم الأوروبي وقتئذ في جهل كبير.
ويقول الخطيب البغدادي: إنه أحصى السميريات - وهي نوع من القوارب بدجلة - فكانت ثلاثين ألفا، تدر على ملاحيها في كل يوم تسعين ألف درهم، وكان عدد الحمامات ستين ألف حمام، وبإزاء كل حمام خمسة مساجد. •••
وكانت بغداد تنقسم إلى محلات، كل محلة بقعة من الأرض بها مبان وقصور وشوارع ومساجد وأسواق وجوامع، وكل محلة عليها باب كبير يقف عليه الحراس يمنعون دخول المحلة ليلا إلا بإذن، كما كان هناك أسواق متعددة ... فسوق القطن، وسوق السلاح، وسوق الثلاثاء، إلى آخره ... كما أقيمت فيها القصور الضخمة العالية، ويتبعها بيوت صغيرة للحاشية، وكل قصر فيه بستان، وقد يكون فيه مسجد لأهله ... واشتهر في بغداد أسماء قصور كثيرة، منها قصر الخلد، وقصر زبيدة، وقصر التاج، وقصور البرامكة، وقصر الخصيب، وقصر المهدي.
Shafi da ba'a sani ba