مقدمة
الرشيد في سطور
ميلاد دولة
على أريكة الخلافة
أبهة الدولة في عصر هارون الرشيد
النظام الاجتماعي في عهد هارون الرشيد
بغداد
الرشيد في قصر الخلد
الأدب والأدباء
مأساة البرامكة
الشعر والغناء
لهو الرشيد
شارلمان والرشيد
نهاية الرشيد
خاتمة
مقدمة
الرشيد في سطور
ميلاد دولة
على أريكة الخلافة
أبهة الدولة في عصر هارون الرشيد
النظام الاجتماعي في عهد هارون الرشيد
بغداد
الرشيد في قصر الخلد
الأدب والأدباء
مأساة البرامكة
الشعر والغناء
لهو الرشيد
شارلمان والرشيد
نهاية الرشيد
خاتمة
هارون الرشيد
هارون الرشيد
تأليف
أحمد أمين
مقدمة
طلبت إلي دار الهلال أن أضع كتابا عن هارون الرشيد، فاغتبطت بهذا الطلب؛ لأني أحبه، وربما كان سبب حبي له أنه رجل عاطفي ذواق، يخضع للمؤثرات الوقتية؛ فيصلي مائة ركعة كل يوم، ويحج ماشيا، ويهيم من ناحية أخرى بالجمال والغناء ومجالس الشراب، ويحدثه أبو العتاهية حديث الزهد فيبكي حتى تخضل لحيته، ويقول له ابن أبي مريم نكتة فيضحك حتى يستلقي على قفاه، ويرضى عن البرامكة فيطلق لهم العنان، ويغضب عليهم فينكل بهم أشد النكال.
ورجل كهذا يكون - عادة - صريحا صادقا ... وأحبه أيضا؛ لأنه أعلى شأن الشرق في الغرب، فكلما ذكر هارون الرشيد تخيل الغربيون الشرق بفتنته العجيبة، وجاذبيته الساحرة؛ والسبب في ذلك كتاب ألف ليلة وليلة، وما أضفت عليه علاقته بشارلمان من فخفخة وإجلال، وتوالي الوفود منه وإليه، وحركة التجارة بين الشرق والغرب في أيامه ... إلى غير ذلك.
ويضاف إلى هذا كله ما رزق من حسن حظ؛ فكثير من الخلفاء قبله وبعده - كمعاوية، وعبد الملك بن مروان، وهشام بن عبد الملك، وعبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الناصر، والمأمون - كانوا خيرا منه.
وغلطة كغلطة البرامكة كانت تكفي لأن تطوح بذكره، وتصغر من شأنه ... ولكن هي الظروف، وهو الحظ، حتى إن بعض كبار المؤرخين - كابن خلدون - نصبوا أنفسهم للدفاع عنه وتصويره كأنه نبي كريم لا يصح أن يغني، ولا أن يشرب، ولا أن يزل!
كل هذا ونحوه جعله محبوبا، عالي الذكر، بعيد الصيت. وقد عمدت إلى كتابته بأسلوب عصري سهل يناسب جمهور القراء، فلم أتعمق فيه تعمقا يجعله ثقيلا، ولا أغرقته بذكر المصادر كما يفعل الجامعيون، ومن نحا نحوهم، والله يرزقه من الحظوة ما رزق الرشيد.
أحمد أمين
هارون الرشيد بريشة «جبران خليل جبران».
الرشيد في سطور
ولد هارون الرشيد ببلدة «الري» بطبرستان في آخر ذي الحجة سنة 145ه، وقيل: في أول المحرم سنة 149ه.
بويع بالخلافة يوم الجمعة 12 ربيع الأول سنة 170ه، في صبيحة الليلة التي مات فيها أخوه الخليفة الهادي.
استوزر الرشيد سنة مبايعته بالخلافة يحيى بن خالد البرمكي، ودفع إليه بخاتمه قائلا: «قد قلدتك أمر الرعية، فاحكم فيها بما ترى.»
في سنة 176ه خرج عليه يحيى بن عبد الله بالديلم؛ فأرسل إليه الفضل بن يحيى في خمسين ألفا، وأعاد الأمن إلى نصابه، وقد تمكن من إخماد عدة فتن في الجزيرة ودمشق في سنتي 177، 178ه.
في سنة 175ه عقد الرشيد لابنه محمد ابن زوجته زبيدة بولايته العهد من بعده، ولقبه «الأمين»، وعمره وقتئذ خمس سنوات.
في سنة 182ه بايع الرشيد لابنه «عبد الله» بولاية العهد بعد محمد الأمين، وولاه خراسان، ولقبه «المأمون»، وبايع لابنه القاسم بولاية العهد بعد المأمون، ولقبه «المؤتمن»، وولاه على الجزيرة والثغور.
خرج لمحاربة رافع بن الليث بخراسان في جيش كبير من «الرقة» سنة 192ه، وقد بدأ مرضه.
مات سنة 193ه بعد أن قضى في الولاية 23 سنة وشهرين و18 يوما.
شجرة هارون الرشيد من جده عبد الله بن عباس بن عبد المطلب جد النبي محمد
صلى الله عليه وسلم .
ميلاد دولة
للدول عمر كالذي للأفراد ... طفولة، ومراهقة، وشباب، وكهولة، وشيخوخة، وهي كالأفراد أيضا ... بعضها يولد هزيلا مريضا يموت في مهده، أو بعد مهده بقليل، وبعضها يولد صحيحا معافى تمتد حياته، ويطول عمره، وهي كذلك كالأفراد ... يعتريها أحيانا موت الفجاءة، وأحيانا يدب الفناء فيها، وتموت عضوا فعضوا حتى ينتهي أجلها، وهي أيضا قد يطول عمرها وقد يقصر، والملاحظ أن الدول في أول نشأتها كانت قصيرة العمر، ثم تعلم الخلف من السلف، واتقوا أخطاءهم ... فطال عمرها؛ فنجد مثلا أن عمر دولة الخلفاء الراشدين كان نحو ثلاثين عاما.
فجاءت الدولة الأموية فعاشت نحو مائة عام، ثم جاءت الدولة العباسية فعاشت أكثر من خمسمائة سنة.
والدول الغربية الحديثة تعلمت من أسباب سقوط الدولة اليونانية والرومانية، واحترست من أن تقع في مثل أمراضها ... فطال عمرها كثيرا، ولا يعلم إلا الله منتهاها، ولكنها على كل حال إلى النهاية المحتومة للأفراد والأمم، وهي الفناء، والدولة الأموية التي سبقت الدولة العباسية أخذت في الفناء من بعد وفاة عمر بن عبد العزيز، واستمرت في طلوع الروح نحو ثلاثين سنة. (1) أسباب سقوط الدولة الأموية
ولسقوط الدولة الأموية أسباب، منها: أن الأمويين شددوا النكير على العلويين، وساموهم الخسف، وكان أولاد الحسين بعد مقتل أبيهم صغارا، فلما مضى الزمن شبوا، وحاولوا أن يأخذوا بثأر أبيهم، وكان أول حجر في سقوط بني أمية قتل سليمان بن عبد الملك لأبي هاشم، وقد عهد أبو هاشم عند قتله إلى محمد بن علي رأس العباسيين، وكان الأمويون يحذرون العلويين أكثر مما يحذرون العباسيين، وذلك أمكن العباسيين أن يبثوا دعوتهم ضد الأمويين في اطمئنان.
والثاني: أن الدولة الأموية كافأت رجالها العظام أسوأ مكافأة - والرجال العظام في الدول قليل - فلما فقدت الدولة الأموية رجالها فقدت جانبا عظيما من قوتها، فكان من رجال الدولة الأموية المخلصين: موسى بن نصير فاتح الأندلس، وخالد بن عبد الله القسري، ويزيد بن المهلب، وقتيبة بن مسلم، ومن خطأ الخلفاء الأمويين ظلمهم لأمثال هؤلاء الرجال، فقتلوا بعضهم؛ كخالد بن عبد الله، وقتيبة بن مسلم، ويزيد بن المهلب، وزج بموسى بن نصير في السجن.
وسبب ثالث؛ وهو: تباعد أطراف المملكة بسبب الاتساع في الفتوح، فبلغت دائرة ملكهم ما لم تبلغه قبلهم غير دولة الرومان؛ فما بين النهرين المعروف بالجزيرة، وإيران، وقسم من الأفغان، والتركستان، والقوقاز، وأرمينيا، وشبه جزيرة العرب، وسوريا، ومصر، والمغرب، والأندلس كلها دخلت في حوزة سلطانهم، وضبط هذه الأقطار المختلفة المترامية الأطراف صعب جدا، وخصوصا إذا كان الخلفاء ليسوا بالأقوياء الحازمين، بل من الضعفاء الذين يجرون وراء شهواتهم، ولذلك كان من حزم الدولة العباسية ، ومن قواعدها الأساسية عدم التوسع في الفتوح.
يضاف إلى ذلك: ما حبا الله به العباسيين من أمثال أبي مسلم الخراساني الذي نجح نجاحا باهرا في الثورة على الأمويين، والدعوة للعباسيين فاستطاع بذلك أن ينتقم من العرب جزاء وفاقا لما انتقم العرب من الفرس في مبدأ الإسلام.
وكان رجلا عظيم الشخصية جبارا، أدار الحرب على الأمويين في مهارة ونشاط وقسوة حتى نجح، ومع ذلك كافأه أبو جعفر المنصور أسوأ مكافأة بقتله بعد أن مهد له الطريق، وأزال منه كل ما اعترضه من عقبات ... شأن الأمويين في نوادر رجالهم، وشأن الرشيد - فيما بعد - فيما فعله مع البرامكة.
كل هذه الأسباب تجمعت، وكانت سببا في سقوط الدولة الأموية، وقيام العباسيين بعدهم ينكلون بهم، ويفتكون بكل من عثروا عليه منهم. (2) الأمويون والعباسيون
على كل حال ما أكبر الفرق بين الدولة الأموية والدولة العباسية ... كان الأمويون يحكمون البلاد حكما عربيا فيه بساطة وفيه عيوب القبلية، أما العباسيون فكانوا يحكمون البلاد حكما فارسيا، وكانت قصور الخلفاء الأمويين قصورا فخمة بسيطة كالذي نشاهده من آثارهم، وكانت قصور العباسيين فخمة معقدة، وكان المثل الأعلى للأمويين أمراء غسان وأمثالهم، أما المثل الأعلى للعباسيين فالأكاسرة.
وكان الولاة في العهد الأموي ذوي عقلية عربية أمثال زياد ابن أبيه، والحجاج، وخالد بن عبد الله القسري، أما في الدولة العباسية فوزراؤهم أمثال البرامكة ممن ينزعون نزعة فارسية، وهكذا ...
وربما اتفق الأمويون والعباسيون على أشياء أهمها شيئان: أولا: حصر الخلافة في بيت واحد ... هؤلاء يحصرونها في الأمويين، وهؤلاء يحصرونها في العباسيين، وتجري الخلافة على قانون الوراثة لا على قانون الشورى، ورأي أهل الحل والعقد، وكذلك: يتفقون في أنهم قلبوا الخلافة إلى ملك عضوض.
الملك العضوض
والفرق بين حكم الشورى والملك العضوض: أن الأول لا ينحصر في بيت ولا في ولي عهد، ولكن يستشار أهل الحل والعقد فيمن يصلح، ولذلك قالوا: إن بيعة عمر لأبي بكر كانت فلتة، وقى الله المسلمين شرها.
أما الثاني فكان الخليفة يعمل على تولية من رأى أن يخلفه، ولو كان غير أهل للخلافة، كما فعل معاوية مع يزيد، وكما فعل الرشيد مع الأمين.
ثانيا: أن كلا من الأمويين والعباسيين خافوا العلويين وكرهوهم، وسلطوا عليهم سيوفهم، مما ألف سلسلة طويلة كالتي رواها أبو الفرج الأصبهاني في كتابه «مقاتل الطالبيين.»
ولقد تكاتف العباسيون والعلويون على إسقاط الدول الأموية ... ثم انفرد العباسيون بالدعوة على أساس آخر. (3) نشأة الدولة العباسية
ذلك أن الذي قام بهذه الدعوة أبو العباس عبد الله بن محمد، وكان على جانب عظيم من الدهاء والسياسة.
فأسس نظرية جديدة خلاصتها: أن زعامة الإسلام الروحية بعد مقتل الحسين لم تنتقل إلى علي بن الحسين، إنما انتقلت إلى محمد ابن الحنفية، الذي أوصى بهذه الزعامة إلى ابنه عبد الله أبي هاشم، وهذا أوصى عند وفاته إلى محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، وهذا أوصى إلى أبي العباس عبد الله بن محمد، ومن بعده إلى أبي جعفر المنصور، فراجت هذه الدعوة في بعض البلاد، وعاونهم في ذلك أبناء فاطمة أنفسهم؛ ظنا منهم أن تعاون البيتين أولا يكسبهم قوة، حتى إذا أسقطوا جميعا الدولة الأموية سهل تغلبهم على بني عبد الله بن عباس.
وكانوا في ذلك مخطئين ... بل كان الأمر هو العكس؛ فإنه لما استطاع البيتان إسقاط الدولة الأموية تغلب بيت العباس على بيت فاطمة، وأصبح للعباسيين خصمان كبيران: الأمويون والعلويون، فأخذوا ينكلون بهم جميعا، وقلما خلا خليفة عباسي من قتل إمام علوي، ولما حضرت الوفاة محمد بن علي بن عبد الله بن عباس، أوصى بالخلافة لأولاده: إبراهيم المعروف بإبراهيم الإمام، وأبي العباس عبد الله، وأبي جعفر الملقب بالمنصور فتولى أبو العباس الخلافة، ووضع للدولة بعض أسسها، ونكل بأعدائها، وجاء أبو جعفر المنصور فسار سيرة أخيه، وأكمل الأسس، وأتم تشريد الأعداء.
وجاء بعده المهدي فصادف جماعة ينقمون على الإسلام نجاحه، ويودون إرجاع الدولة الفارسية كما كانت، وديانة الفرس الوثنية كما كانت، فقتلهم المهدي تحت ستار أنهم زنادقة، وعهد بالخلافة إلى ابنه الهادي ثم الرشيد ... فجاء الهادي يريد أن يخلع الرشيد، ويحمل الناس على البيعة لابنه جعفر، وكان الهادي شرسا قويا جبارا، وكان الرشيد لينا مطواعا، فلما علم من أخيه ذلك مال إلى إجابته.
ولكن عصاه يحيى البرمكي - وكان ولي أمره إذ ذاك - ولما اشتد الهادي على يحيى البرمكي والرشيد، نصح يحيى للرشيد بأن يسافر إلى مكان بعيد؛ ليختفي عن أعين الهادي فلا يذكر هذه المسألة إلا لماما.
على أريكة الخلافة
تولية الرشيد
كان من حسن حظ الرشيد أن لم تطل خلافة الهادي فمات سريعا، ومات فجأة ... فلم يغير البيعة، وتولى الرشيد مكانه، وجلس على العرش، ونال حظوة عظمى، فلم يعرف الغرب عن الشرق كما عرف عن الرشيد، وذلك لأسباب كثيرة، أولها: شدة العلاقة التجارية والسياسية بين الرشيد وملوك أوروبا في ذلك العهد، وثانيها: ما صورته كتب الأدب والشعر عن مجالس الرشيد، ثالثها: القصص والحكايات التي روتها عنه ألف ليلة وليلة، من صور رائعة جذابة ... هذه صورة له يتعسس بالليل مع جعفر البرمكي، ومع خادمه مسرور في أزقة بغداد، وهذه صورة أخرى يمتحن فيها الفتيات، وهذه صورة ثالثة في المنادمة على الشراب والغناء، وهذه صورة رابعة ينصف فيها المظلوم، ويحقق العدالة، وعلى الجملة، فقد صور ألف ليلة وليلة الرشيد تصويرا بديعا لطيفا، كما صور لنا أسواق بغداد، وكيف تزخر بالسلع، وكيف تتوارد عليها من كل مكان، وحركة التجارة نشيطة مليئة.
هارون الرشيد على أريكة الخلافة.
وتصور لنا مجالس الرشيد، وما فيها من بذخ وترف، إلى غير ذلك مما يعد دعاية واسعة للرشيد.
الرشيد وألف ليلة
وهنا نتساءل: لماذا كانت ألف ليلة وليلة داعية للرشيد من دون غيره من كبار خلفاء بني أمية كعبد الملك بن مروان، وهشام بن عبد الملك، أو من كبار بني العباس كعبد الله بن محمد، وأبي جعفر المنصور؟ وكلهم في الحقيقة أعظم من الرشيد وأفخم وأعدل ...
فكرت في ذلك طويلا ... فاهتديت إلى جواب - قد يكون صحيحا - وهو: أن ألف ليلة وليلة ترجم في عصور مختلفة، وزيد عليه في عصور مختلفة ، فكان أول ما ترجم عن الفارسية هذا القسم البغدادي في عصر الرشيد، فتملقه المؤلفون لظهور الكتاب في أيامه، واتقاء لما حدث لعبد الله بن المقفع حين ترجم كليلة ودمنة، وقد أومأ إيماءة خفيفة إلى ظلم الخلفاء والحكام، وذلك بوصفه للملك العادل، وما ينبغي أن يكون عليه، ونقمته على الملك الظالم، وكيف يكون ... مما دعا إلى قتله بتهمة الزندقة.
وكانت ترجمة ألف ليلة وليلة على كل حال مسايرة لترجمة كليلة ودمنة، ترجمة من نوع خاص؛ لا هي بالحرفية، ولا هي بالمعنى فقط، ولكن ترجموا المعاني مصبوغة بالصبغة الإسلامية؛ من اعتقاد في القضاء والقدر، ومن تقدير للحظ، ونحو ذلك.
فلما رأى القاص المترجم ما حدث لابن المقفع اتقاه، وبالغ في الحفاوة بالرشيد ... ليتقي القتل. •••
وقد يكون هناك سبب آخر؛ وهو أن الرشيد لما علم بمترجم الكتاب أفاض على المترجم من عطائه، وفهم أن هذه خير دعاية له كما تفعل بعض الهيئات السياسية من شراء بعض الجرائد بالمال، وربما يكون السببان جميعا صحيحين.
وربما ترجم جزء آخر من ألف ليلة وليلة في عهد الخليفة العباسي المعتضد فمدح أيضا، وخلعت عليه صفات عمر بن الخطاب والرشيد.
أما القسم المؤلف في مصر فقد وقف موقفا آخر، واصطبغ بصبغة أخرى ليست موضوع حديثنا هنا.
على كل حال أشادت ألف ليلة وليلة بذكر هارون الرشيد إشادة عظيمة في علمه وعدله ولهوه، وغير ذلك. •••
وكان من حسن حظ الرشيد رواج ألف ليلة وليلة رواجا عظيما في الغرب، ووقوفهم على قيمتها، عكس ما كان ينظر الشرقيون إليها قديما؛ فقد وصفها ابن النديم بأنها قصص تافهة، ولكن الغربيين رأوا فيها خير ما يمثل الحياة الاجتماعية، فيما تروي من عقائد، ومن حوار، ومن مكر نساء، ومن لعب شطرنج إلى غير ذلك، ورأوا أنها تمثل الشرق من جميع نواحيه، فعنوا بها من نواح مختلفة ...
فأولا:
من جهة نشر نصوص الكتاب التي عثروا عليها.
وثانيا:
من جهة ترجمتها إلى لغات غربية مختلفة.
وربما كان أول من ترجمها إلى الفرنسية الأديب الفرنسي «جالان» ثم «إدوارد لين» إلى الإنجليزية، ثم «لتمن» بالألمانية.
وقد راجت هذه الترجمات رواجا منقطع النظير، وكان في رواجها رواج للرشيد معها، فلما رآها المترجمون قد راجت، وقرأها الكثيرون شغفوا بالرحلة إلى البيئات التي نشأت فيها ألف ليلة وليلة، ودعاهم ذلك إلى تعلم اللغة العربية، ووضع كتب فيما شاهدوه على أثر هذه الرحلات.
ثم كانت الخطوة الثالثة، وهي استغلال هذه الترجمة باستيحائها، ووضع قصص أحيانا للأطفال، وأحيانا للكبار، وأحيانا تمثيلية، وأحيانا غير تمثيلية، وهكذا.
وكلها عملت لهارون الرشيد عمل السحر، مما لم تعمله أية دعاية لأي ملك آخر.
الخليفة العباسي
ولم يكن الخليفة العباسي حاكما مدنيا فحسب؛ بل هو أيضا حاكم روحي يحاط بهالة من ضروب الشرف والتوفير والاحترام، فلما مات الهادي بويع الرشيد كما تجري المراسم، فجلس على سرير الملك، وامتلأت الأبهاء على سعتها بكبار رجال الدولة، ومن يسمون عادة أهل الحل والعقد، وبدأت البيعة أولا بالأمراء الذين يتقدمون إلى العرش، ويقرأون صحيفة البيعة، وينفذون الأيمان التي أخذت عليهم من قبل، وبايع بعدهم الوزراء وأولادهم، ثم أصحاب الشرطة.
وبعد أن تم ذلك، انعطف إخوة الخليفة والوزراء والأشراف على شكل دائرة بجانبي العرش، ووقف الحاجب بالباب يأخذ البيعة من الناس، وكتب إلى أمراء الأمصار ليأخذوا البيعة من كبار الرجال في دائرتهم، فلما تم ذلك تمت الصبغة القدسية للرشيد، وتمت له السلطة المدنية والروحية، وهي حالة لا نستطيع أن ندركها في عصرنا اليوم. •••
فمما فعله الرشيد أن سمى بغداد مدينة السلام تشبيها لها بدار السلام، وسمى قصر الخلافة بالحريم تلميحا إلى البيت الحرام، وجلب بعضا من أبناء الأنصار، وسماهم بالأنصار، وجعل بابا من أبواب بغداد قليل الارتفاع، لكي ينحني الداخل منه تشبيها بالسجود احتراما للخليفة ... كما يفعل الداخل إلى الكعبة، وسمى الخيزران أم الخلفاء تشبيها بما سمى به الرسول عائشة أم المؤمنين.
واستكتب العلماء في وضع الأحاديث التي تمجد بيت بني العباس؛ كالذي رواه الطبراني عن ابن عمر كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم
في نفر من المهاجرين والأنصار، وعلي بن أبي طالب عن يساره، والعباس عن يمينه، فتلاحى العباس ونفر من الأنصار فأغلظ الأنصاري للعباس.
فأخذ النبي
صلى الله عليه وسلم
بيد العباس وبيد علي، وقال: «سيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض جورا وظلما، وسيخرج من صلب هذا فتى يملأ الأرض قسطا وعدلا، فإذا رأيتم ذلك فعليكم بالفتى التميمي، فإنه يقبل من قبل المشرق، وهو صاحب راية المهدي.»
ويظهر أن واضع هذا الحديث ماكر زائد في المكر؛ فإنه جعل روايته ذات وجهين، حتى إذا غلب فريق ادعى أنه هو المراد؛ لأنه لم يعين المشار إليه في كل مرة فأخذه دعاة بني العباس وأولوه لهم؛ لأنهم أصحاب الرايات.
وأغرب من هذا ما رواه الحاكم عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال مجاهد: قال لي ابن عباس: «لو لم أسمع أنك من أهل البيت ما حدثتك بهذا الحديث» قال: فقال مجاهد: «فإنه في ستر لا أذكره لمن يكره»، قال: فقال ابن عباس: «منا أهل البيت أربعة: منا السفاح، ومنا المنذر، ومنا المنصور، ومنا المهدي»، قال: فقال مجاهد: بين لي هؤلاء الأربعة، فقال ابن عباس: «أما السفاح؛ فربما قتل أنصاره، وعفا عن عدوه، وأما المنذر؛ فإنه يعطي المال الكثير، ولا يتعاظم في نفسه، ويمسك القليل من حقه، وأما المنصور؛ فإنه يعطى النصر على عدوه، ويرهب منه عدوه على مسيرة شهر، وأما المهدي فإنه الذي يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا، وتامن البهائم السباع، وتلقي الأرض أفلاذ كبدها، قال: قلت: «وما أفلاذ كبدها؟» قال: «أمثال الأسطوانة من الذهب والفضة».»
قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد، ومنه إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، وقد خرج له مسلم، والحديث كما يظهر مصنوع حكي بمهارة كما يحكى الحديث الصحيح.
وكلها أحاديث وضعت لخدمة البيت العباسي، والإشاعة بين الناس أنه بيت مؤيد من الله مقدر على العباد فلا معنى لمقاومته.
يحيى البرمكي
ولما تربع الرشيد على كرسي الخلافة الذي كان متربعا عليه من قبل أخوه الهادي، وأبوه المهدي، كان أول ما فعل أن أسند الوزارة إلى يحيى البرمكي؛ اعترافا بجميله ... فقد كان مربيا له في صغره، وكان المدافع عن ولايته للعهد في شبابه، وكان الرشيد يناديه: يا أبت! دلالة على حبه والوفاء له، وكان يستشيره في جميع الأمور ما صغر وما كبر، ومنحه سلطة مطلقة لتسيير أمور الدولة كما يرى.
وكانت وزارته وزارة تفويض، والوزارة في الدولة الإسلامية تنقسم إلى قسمين؛ وزارة تفويض، ووزارة تنفيذ ... فوزير التفويض يستطيع أن يفعل ما يشاء من غير أن يرجع إلى خليفته، وله الحق أن يولي من يشاء، ويعزل من يشاء، وأما وزير التنفيذ فليس له أن يفعل أمرا ابتداء من عند نفسه، إنما يفعل ما يأمر به الخليفة. وكان ليحيى هذا أبناء أربعة: الفضل، وجعفر، وموسى، ومحمد ... وكلهم على جانب عظيم من الحنكة السياسية، وولوا أعمالا عظيمة في الدولة، واشتهر منهم الفضل بن يحيى، وجعفر بن يحيى.
اشتهر الفضل بالكرم الذي لا حد له، وكان في ذلك يفوق كل أهل بيته، واشتهر جعفر بالقرب الشديد من الرشيد، وبالكرم دون كرم الفضل، وبالبلاغة فوق بلاغة الفضل.
وكان الخليفة في هذا العصر حاكما مستبدا برأيه، يهيمن على كل شئون الدولة، وفي يده جميع السلطات، ويشرف على الرسائل الرسمية، وعلى تعيين أمراء الأمصار وعزلهم، ووزيره ينوب عنه في ذلك، وكانت كل الأعمال التي يتولاها الوزير يتولاها إما برأيه أو منفردا عنه، ولم تكن شئون الدولة مقسمة إلى وزارات، كل وزارة لها اختصاص، فإن بغداد لم تعرف هذا النظام، بل كان الوزير وزير كل شيء؛ وزيرا للمال، ووزيرا للشئون الاجتماعية، ووزيرا للأشغال، إلى غير ذلك، كما كان الخليفة كل شيء، وإنما عرف نظام التخصيص، وإسناد كل طائفة من الأعمال إلى وزير، وتعدد الوزراء الأندلس لا الشرق ... وهذا ما جعل الوزير في الشرق واسع السلطان، يحمل كل المسئوليات. •••
وبجانب الوزير والخليفة، كان هناك مجلس استشاري، يتألف من الوزير وبعض العائلة المالكة، وهذا المجلس يستشار في المسائل العامة الكبيرة؛ كإيرادات الدولة ومصروفاتها، وتعيين كبار الموظفين وعزلهم، ومن الأسف أن ليس لدينا تفصيل كبير عن عدد أعضاء هذا المجلس ، ولكنا نعلم أنه مجلس استشاري، للخليفة والوزير أن يأخذا برأيه أو يخالفاه، لا كما كان نظام الشورى في عهد النبي
صلى الله عليه وسلم
والخلفاء الراشدين، ولا كما كان مجلس الشورى في الأندلس؛ إذ كان له من السلطان ما يستطيع به أن يقضي على الخليفة ويلزمه بحكمه.
وبجانب ذلك كان صاحب البريد، وكان ذا شأن عظيم في الدولة؛ فهو بطبيعة عمله يجمع الأخبار من كل قطر بواسطة أتباعه، ويتجسس بواسطتهم على من بيدهم السلطة، وإذا كانت هنالك مؤامرة أو دسيسة، أو حض على الثورة أخبر بها الخليفة سريعا، وكانت إدارة البريد منظمة تنظيما دقيقا، وإذا استطاع الخليفة أن يحجب كل إنسان فلا يصح له أن يحجب صاحب البريد؛ لأن تأخير ساعة واحدة ليلا أو نهارا قد يجعل الأمر الخفيف مستفحلا، ويجعل ما كان يتغلب عليه باليسير لا يتغلب عليه بالكثير. وكان من شأن صاحب البريد التجسس في الداخل وفي الخارج جميعا، ومن المتجسسين رجال ونساء، ومنهم تجار متخفون، وغير تجار، مما يشبه ما عليه الأمم الغربية في هذا العصر.
توزيع الأمراء
وهناك أمير على كل قطر ينوب عن الخليفة؛ يضرب الضرائب، ويحصل الأموال، ويصرف مما تحصل على الإصلاحات العامة، وما بقي منها يرسله إلى الخليفة في بغداد، وقد بلغ ما دخل خزانة الخليفة كل سنة في عهد الرشيد حوالي 411 مليون دينار، وكانت الإمارات في عهد الرشيد تتألف من الجزيرة، وأذربيجان، وأرمينيا، ومكة، والمدينة، واليمامة، واليمن، والكوفة، والبصرة، والبحرين، والسواد، وعمان، وعراق العجم، وخراسان، وما وراء النهر، والبنجاب، والسند، والأهواز، وجنوبي فارس، والموصل، والشام، ومصر، وعلى كل إمارة من هذه الإمارات أمير يتولى أمورها، وهو مسئول عن شئونها المادية والروحية أمام الخليفة، وإذا حصلت ثورة أخبر الخليفة، وكان عليه أن يخمدها.
وبجانب ذلك أيضا كان أستاذ الدار - أو كما يقال مختصرا الأستاذ - أو كما يسمى اليوم: ناظر القصر، وهو يقوم بكل شأن من شئون الدار، ومراعاة زواره، وما يأمر به الخليفة من تنظيم حفلات كما يقوم على طعام الخليفة وشرابه، وطعام حاشيته وشرابها، إلى غير ذلك.
ثم كان ديوان الرسائل يتولى تدوين توقيعات الخليفة، وإعداد المراسيم، وما يصدر عن الخليفة، وما يرد إليه.
وكان بكل مدينة شرطة يحملون ألقابا عسكرية خاصة ... ثم كان المحتسب الذي يشرف على كثير من الشئون الاجتماعية؛ فيؤدب السكير، والمطفف في الكيل والميزان، ومن احترف حرفة ليس أهلا لها، ويستوثق من صلاحية السلع التي تباع، وعدم بهرجة النساء، ونحو ذلك.
أبهة الدولة في عصر هارون الرشيد
أحيط الرشيد بأبهة الدولة ومباهجها مما أخذته الدولة العباسية عن الفرس؛ ذلك أن مجالس الخلفاء الراشدين كانت ساذجة بسيطة، في المسجد، أو في المنزل، يقعدون على حصير أو جلد، ويلتفون بعباءة أو نحوها، ولا حرس ولا حجاب، وإذا بعثوا قائدا مشى الخليفة في وداعه بلا حرس ولا طبول، ولم تكن هناك حجابة ولا حجاب، بل كان من أراد الاستئذان على الخليفة يقف على الباب، ويقول: «السلام عليكم ... أدخل؟» يكررها ثلاثا، فإن قيل له: «ادخل» دخل، وإن لم يجب لم يدخل، ثم اضطر الخلفاء الراشدون أنفسهم للحجاب للازدحام، فلما فتحوا الفتوح من أقطار كان يحكمها الرومانيون، وأقطار كان يحكمها الفرس، قلدهم الأمراء والخلفاء في مظاهر الأبهة، واتخاذ الحجاب.
وقد بدأ ذلك معاوية بن أبي سفيان في دمشق، وأشاروا عليه بضروب من الفخفخة، فرتبوا الناس مراتب في الدخول على الخليفة أو الأمير، يؤذن أولا للأشراف نسبا، فإذا تساووا في النسب قدموا أكبرهم سنا، فإذا تساووا في السن قدموا أكثرهم أدبا، وقلد الأمويون ملوك الروم، وقلد العباسيون أكاسرة الفرس في مجالسهم ومظاهر أبهتهم.
أبهة واستبداد
فلما جلس الرشيد كانوا ينصبون له في الساحة الكبيرة في القصر سريرا وكراسي، ويفترشون له الطنافس والمصليات، والوسائد تطوى طيتين، وكانت الستور تقام لتحجب الخليفة إذا أراد، وتزاح إذا أراد، ثم عينوا الحجاب على الأبواب ليمنعوا الدخول على الخليفة إلا بإذن، فإذا أذن الخليفة أو الأمير لأحد تقدم بالسلام، وربما أضافوا إليها السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته، وربما قبلوا يد الخليفة عند التحية إذا أحس القادم رغبة من الخليفة في ذلك، فلما ازدادوا عظمة ترفعوا عن مد يدهم للداخلين.
وفي عهد العباسيين اخترعت بدعة تقبيل اليد أو الكم، فإذا استعظموا قائدا منعوه من تقبيل يدهم أو كمهم، ثم يجلسون في مجلس الخليفة حسب مرتبتهم، يتولى إجلاسهم في مجالسهم الحاجب، وهذه تختلف باختلاف الدول ...
فكان الأمويون في عهد بني أمية يجلسون الأمويين أقرب مجلس للخليفة، أما العباسيون فكانوا يجلسون بني هاشم أقرب مجلس إليهم؛ لأنهم أنفسهم من بني هاشم، وإذا أجلسوا بني هاشم أجلسوهم على الكراسي، وأقعدوا بني أمية أعداءهم على الوسائد، وقلما كان يكون ذلك، وقد منع الخلفاء العباسيون الكلام، ومخاطبة الزائرين بعضهم لبعض في مجلس الخليفة، ولا ينهض أحد لداخل إلا إذا نهض الخليفة، ثم هم لا يبدأون الخليفة بكلام إلا أن يبدأ، فإذا لم يكلمه ظل ساكتا. •••
ولم يشذ عن ذلك إلا المأمون؛ لرغبته في سماع الجدل والمناظرة، وغلبة ذلك عليه أكثر مما يميل إلى التقاليد المرعية، وربما قلده فيه غيره من بعض الخلفاء الذين أتوا بعده، ومنعوا أن يؤمر أحد في حضرة الخليفة بأمر ليكون هو الآمر وحده، وطلبوا إلى الداخل أن يصغي بكل جوارحه إلى الخليفة، وينتبه كل انتباهاته إلى إيماءات الخليفة وإشاراته، ومنعوا أن يعزى الخليفة، وأن يسأل كيف أصبح، وكيف أمسى، وإنما يجوز ذلك لطبيبه الخاص، وبالغوا في الحجاب.
وكان لكل خليفة كلمة أو إشارة يقولها عند الإذن من حضرته بالانصراف، فكان السفاح - مثلا - يتثاءب، ويلقي المروحة من يده، وكان المأمون يعقد الإصبع الوسطى بإبهامه، وكان من انصرف يوجه وجهه نحو الخليفة حتى يصل إلى الباب بظهره ثم ينصرف، وكان على باب قصر الخلد في عهد الرشيد مكان يجتمع فيه الوفود من شعراء ومغنين ومضحكين، لعله يخطر ببال الخليفة طلب نوع منهم، وتكون له الحظوة، وشجع على ذلك كثرة ما كان يعطيه للوافدين، أو مما يعرضه تجار الجاريات والسلع، وكثيرا ما تصطدم عطاءاته برغبة الوزير، كالذي حكي أنه أمر مرة بشراء جارية مغنية بآلاف من الدراهم، فاستكثرها يحيى البرمكي ... فأحضر المبلغ، وكومه في مكان يطلع عليه الرشيد في ذهابه إلى الوضوء وجيئته.
فلما رأى الرشيد المبلغ استكثره، ومع ذلك صمم على تنفيذه إرادته، وانتقد يحيى البرمكي في سره حتى قالوا: إن هذه الحادثة أيضا من أسباب نكبتهم ... •••
ولقد كان المظهر مظهر أبهة وفخفخة واستبداد وتقاليد دقيقة، في الجلوس والحديث والانصراف، مما ورثوه عن الأكاسرة من قبل، ولا يعرفها الإسلام، وهذه كلها خلعت قلوب الناس، وأماتت روحهم، وجعلتهم كأنهم أحجار شطرنج مفقودة الإرادة، كما أن هذه السلطة الواسعة للخليفة مكنت للرشيد أن يتصرف في الناس تصرف الحاكم المستبد المطلق الحرية، ولولا ذلك ما أمكنه أن يقبل - مثلا - كل الإقبال على البرامكة، فتكون لهم السلطة المطلقة ... ثم ينقلب عليهم، وينكل بهم، ويصادر أموالهم، ومن يلوذ بهم.
فالنظام السائد إذ ذاك كان نظاما منسجما يناسب بعضه بعضا؛ ففي حكم الرشيد - مثلا - استبداد لا إلى حد أحيانا، وسماحة لا إلى حد، ولا يدري من يطلبه الخليفة أذاهب هو إلى القبر؟ أم راجع بآلاف الدنانير؟ إذ لا قوانين ولا اتهام، ولا دفاع للمتهم عن نفسه، ولا عمل بقانون شرعي أو قانون وضعي، فرقاب الناس كلهم معلقة بفم الخليفة ... قد يأمر بالسعد كله، وقد يأمر بالشقاء كله، وكل الأمور من معاملة الولاة للرعية، والرعية للوالي، وعلاقات الناس بعضهم ببعض تتشابه، وقديما قالوا: «الناس على دين ملوكهم.»
ومع هذا فيجب أن ننظر للرشيد على أنه حاكم شرقي مستبد له كل مزايا الحاكم المستبد من إغناء من شاء، وإسعاد من شاء، وسرعة التنفيذ فيما يرى، والخضوع والطاعة من غير تعب، وفيه رزايا الحاكم المستبد من سفك دماء من شاء، وسلب الناس حقوقهم وحرياتهم، وخضوع الناس للهوى الذي لا يعرف أين يتجه، لا لقانون معروف، ونحو ذلك.
ميزانية الدولة
وقد عثر على ميزانية للدولة العباسية من إيرادات ونفقات، شأن الميزانيات في هذا العهد، وإن كانت الميزانية التي عثرنا عليها ميزانية لعصر بعد عهد الرشيد بقليل. نكتفي ببعضها، فمنها:
1000 دينار في اليوم أرزاق أصحاب النوبة من بوابين ومماليك.
1500 دينار في اليوم أرزاق الفرسان.
600 دينار في اليوم أرزاق المختارين من الجند .
333 دينارا في اليوم نفقات المطابخ الخاصة والمخابز.
4 دنانير في اليوم أرزاق السقايين بالقرب في القصر.
100 دينار في اليوم أرزاق الحشم من المستخدمين لخزائن الكسوة والصناع والرفائين والمطربين.
44 دينارا في اليوم أرزاق الجلساء، وأكابر الملهين، ومن يجري مجراهم.
400 دينار في اليوم ثمن علوفة للخيول في الاصطبلات.
20 دينارا في اليوم أرزاق مشايخ بني هاشم، والخطباء في المساجد.
33 دينارا في اليوم أرزاق لبني هاشم من العباسيين والطالبيين.
4 دنانير في اليوم ثمن النفط للنفاطات والمشاعل ومن يخدمها.
50 دينارا في اليوم نفقات السجون.
15 دينارا في اليوم نفقات البيمارستانات ... إلخ.
وقد جمعت النفقات كلها فكانت جملتها 6974 دينارا في اليوم، أما الدخل فكان من الصدقة، والزكاة، والجزية، والخراج، والمكوس، وأعشار السفن، وأخماس المعادن، والمراصد «الجمارك»، وغلات ضرب النقود، وضرائب الصناعة ... إلخ.
وكان فضل خليفة على خليفة، وعهد على عهد في الموازنة بين الدخل والخرج، أما إذا اختلت الميزانية فقد اختلت شئون الدولة، ويكون ذلك من قلة الدخل مع كثرة الخرج، أو من كثرة الدخل مع قلة الخرج، وضياع المصالح. •••
وكانت مراسيم التعيين في غاية من الروعة والبهاء؛ فكان من يستوزر يأتي إلى القصر بعد أن يصله الكتاب الرسمي يحمله إليه أميران من أمراء الدولة، وعند خروجه إلى باب الخليفة يقدمه الحاجب إليه، فيتحدث إليه قليلا ثم يذهب إليه قليلا، ثم يذهب إلى حجرة أخرى، فيلبس لباس التشريف، ثم يعود فيقبل يد الخليفة، وينصرف إلى الديوان ممتطيا فرسا مطهمة، وبين يديه كبار الموظفين والجيش والأمراء وموظفو البلاط، وعندما يصل إلى ديوانه يقرأ عليهم مرسوم التعيين.
مجلس الخليفة
وكان مجلس الخليفة - ويسمى مجلس العزيز - يقابل الباب العالي في الدولة العثمانية، وكان من أهم الدواوين: ديوان الخراج، وديوان الضياع السلطانية، أو كما نسميه اليوم ديوان الخاصة الملكية، وديوان الزمام، وهو ما يقابل اليوم مراقبة الحسابات، وديوان الجند، وديوان الموالي والغلمان، وديوان البريد، وديوان زمام النفقات، وديوان التوقيع، وديوان الأحداث والشرطة، وديوان العطاء، وديوان المظالم، وهو ديوان أعلى من المناصب القضائية ؛ لأنه كان ينظر في المظالم التي يتهم فيها الملوك أو الخلفاء أو الأمراء أو الولاة على العهد أو أولاد الخلفاء، أو نحو ذلك ممن لا يستطيع القاضي العادي أن ينفذ فيهم كلمته، فكان هذا الديوان يسمع الشكاوى من هؤلاء الخاصة، ويستطيع بواسطة رياسة الخليفة أن ينفذ كلمته.
وقد كان الرشيد - ومن بعده المأمون - يرأسان هذه المجالس، وكانوا يفردون يوما خاصا للنظر في أقوال المتظلمين، ويقولون: إن أول من فعل ذلك عبد الملك بن مروان في الدولة الأموية، ثم عمر بن عبد العزيز، ثم وقف العمل إلى أن استقرت الدولة العباسية ورأسه المهدي، ثم الهادي، ثم الرشيد، ثم المأمون.
واستمر العمل به إلى زمن المهتدي بالله، ثم عهد الخلفاء النظر في المظالم إلى قاضي القضاة، أو إلى بعض عظماء الدولة. وكان يعرف أن المأمون كان يجلس للمظالم يوم الأحد من كل أسبوع، ولسنا نعلم أي يوم كان يجلس الرشيد فيه للقضاء في هذه المظالم.
دار الضرب
وكانت هناك دار تسمى دار الضرب، تضرب فيها النقود ... أنشئت في بغداد، والقاهرة، ودمشق، والبصرة، وكان على دور الضرب هذه ضريبة على ما يضرب فيها من النقود، مقدارها درهم عن كل مائة درهم، وربما اختلفت الضريبة باختلاف المدن، وتجمع من ذلك دخل كبير للدولة، أما مقدار ما كان يضرب فلم نعرفه بالضبط. غير أننا رأينا بعض المؤرخين يقول: إن دار الضرب في الأندلس على عهد بني مروان كانت تضرب مائتي ألف دينار في السنة.
وكانت صناعة الضرب هذه صناعة ساذجة بدائية ... قالب من حديد تنقش فيه الكلمات التي يراد ضربها على النقود مقلوبة، يسيحون الذهب والفضة بمقدار، ويصبونها في هذه القوالب، ويطرقونها بمطرقة ثقيلة، ويسمون هذه الحديدة «السكة»، وهناك عمال كثيرون في هذه الدار ... من وازن وضارب، ونحو ذلك.
القضاء
ولكل ديوان اختصاصاته، بعضها إداري وبعضها قضائي، كديوان القضايا، وكان على جانب عظيم من الأهمية، وكانت كل القضايا لغير المسلمين توكل إلى رؤساء ديانتهم، أما المسلمون فكان يفصل بينهم القضاء، وكان في كل حاضرة قاض يتبعه قضاة في النواحي التابعة للمدينة، وكان قاضي بغداد يسمى قاضي القضاة، وهو في الواقع رئيس قضاة المملكة الإسلامية كلها، أما القضايا الخاصة بين الناس فتعهد إلى صاحب ديوان المظالم كما ذكرنا، وأحيانا يرأس الجلسة الخليفة نفسه، وينوب عنه في غيابه أحد كبار الموظفين، وأعضاؤها: قاضي القضاة، والحاجب، وكبار رؤساء الدواوين، وكان من العادة المألوفة ألا تقبل شهادة كل شاهد، وإنما يختار جماعة من حسني السيرة، أو على الأقل مستوري الحالة يسمون عادة بالعدول، ولا تقبل الشهادة إلا منهم، فمن أراد أن يثبت حادثة حدثت تحرى أن تؤدى أمامهم، وكانت على العموم محاكم بدائية لم تنظم تنظيما تاما إلا في عهد نور الدين محمود زنكي.
الزراعة والصناعة
وعني في عهد الخلفاء العباسيين بالزراعة، وخاصة في الولاية التي بين دجلة والفرات؛ فامتدت شبكة من القنوات في الترعة لا تزال آثارها المطمورة باقية إلى اليوم، والترع الكبيرة تمخر فيها السفن الكبيرة، هذا القسم الذي بين دجلة والفرات هو الذي يسمى سواد العراق لكثرة خصبه. وعنوا عناية كبيرة بفحص المواد المعدنية، واستخراج الحديد والرصاص والفضة من فارس وخراسان، كما استخرجوا الزمرد من تبريز، والملح والكبريت من شمالي فارس، والقير والنفط من كورجيا، ومن ثم أنشأوا إدارة للمناجم، وولوا عليها مديرين أكفاء.
كما كانوا يشجعون الصناعات: كصنع الصابون والزجاج، وشيدت لهما مصانع في بغداد وسامرا، واشتهرت مصر وسمرقند وبغداد بصنع الورق، وأتي إلى بغداد بطائفة من مهرة هذه الصناعة، وأسست مصانع للتطريز، وتفوقوا في صناعة الحرير والأطلس والأنسجة الحريرية والسجاجية الفاخرة، وقد اشتهرت الكوفة بكوفياتها الحريرية، وغيرها.
واشتهرت صناعة العباءات النفيسة من حرير الخز، وعلى الجملة اشتهرت كل مدينة بصناعة، وعلقت المصابيح البلورية في المساجد ومساكن الأغنياء، وكانت مزدانة بالنقوش الجميلة والآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية، وكانت تصنع هذه المصابيح على أشكال مختلفة، وتباع إما للاستعمال أو للزينة، وقد بقيت منها بقية أثرية إلى اليوم، ويصف لنا بشار - الأعمى - كأسا عليها صورة كسرى بقلنسوته، ورسم حد للخمر الصرف، ورسم حد آخر للماء الممزوج به .
ازدهار التجارة
وازدهرت التجارة في عهد هارون الرشيد، وكانت أول الأمر في يد اليهود والنصارى، ثم انتقلت إلى المسلمين، وقد كثرت أسواقها، واتسعت مناحيها، حتى وصلت إلى الصين، وهم يتجرون في الحرير، والأحجار الكريمة، والأقمشة المزخرفة، والزجاج الملون، ونحو ذلك.
وكانوا ينقلون بضائعهم على قوافل متعددة تسلم كل قافلة ما بعدها كمراحل البريد.
وقد هم الرشيد بحفر قناة السويس قبل ديلسبس بألف عام، وامتدت تجارتهم شرقا إلى إندونيسيا، وغربا إلى مراكش وإسبانيا، ويدل على ازدهار التجارة في عهد الرشيد وخلفائه كثرة الدخل الذي كان يجبى من الأقطار الإسلامية.
الجيش
واشتهرت الدولة العباسية بمهندسين يشيدون العمارات الفخمة، وبعضهم اختص ببناء الحصون، وبعضهم ألف الكتب في الهندسة الحربية؛ كالتعبئة وطرق الاستيلاء على الحصون، وتشييد القلاع والفروسية والحصار، وصفات الخيول وأنواع الخيالة، وكان النظام السائد هو نظام الإقطاع، وهو جمع قطيعة، وسميت أماكن كثيرة بقطيعة فلان، وكان مرتب الجندي مائة درهم شهريا - وزيد بعد ذلك في العصر العباسي - وهذا للجندي الراجل، أما الفارس فكان مرتبه ضعف ذلك، عدا ما يمنحه الخليفة للجنود في المناسبات المختلفة.
واشتهر نظام في الجيش يسمى نظام الموالي؛ فكان لكل خليفة جيش ينتمي إليه، وكان من مقتضى هذا النظام تعلق الجنود بمولاهم والاعتزاز به والتحصن به.
وكان هناك ديوان يسمى ديوان العرض ملحقا بديوان الحرب، من وظيفته استعراض الجند، ومعرفة كفايتهم.
ولذلك نجد أناسا كثيرين يلقبون بالعارض، وكان لكل مرفق من مرافق الدولة مفتش يسمى بالمشرف، وكان مفتش الري والزراعة يسمى مفتش الأقرحة، ومن وظيفة هؤلاء المفتشين التفتيش، كل في دائرة اختصاصه، ورفع التقارير عنها إلى الخليفة.
النظام الاجتماعي في عهد هارون الرشيد
(1) التقاليد الفارسية
انقلب النظام الاجتماعي الأموي في العصر العباسي رأسا على عقب؛ فبعد أن كانت الدولة الأموية تقيم نظامها على العنصر العربي والدم العربي، أصبحت الدولة العباسية تقيم أساسها على الدم الفارسي والتقاليد الفارسية؛ ولذلك قال الشاعر:
إن أولاد السراري
كثروا يا رب فينا
رب أدخلني بلادا
لا أرى فيها هجينا
وكان الخلاف بين الأمين والمأمون في الحقيقة خلافا بين عنصرين: عنصر العرب، وعلى رأسه هرثمة بن أعين، وعنصر الفرس، وعلى رأسه طاهر بن الحسين، ولكن مهما اختلف العنصران فقد تمازجا، وتزوج العرب بالفرس، والفرس بالعرب، ونشأت حركة عنيفة تسمى حركة الشعوبية تنادي بتساوي الأجناس، وساعد على ذلك كثرة السراري، والإماء اللاتي كن يملأن البيوت، فكان كل رجل يتزوج بحرة أو حرتين إلى أربع، وتحت يده من شاء من الجواري بملك اليمين، وهؤلاء الجواري كن أكثر حرية؛ بفضل تعرضهن للبيع والشراء، والانتقال من يد إلى يد عكس الحرائر، وذلك عكس المظنون؛ فقد كان المظنون أن تكون الحرائر أكثر حرية، كما ساعد على ذلك أيضا كثرة العلماء من الموالي، ونفورهم من سيادة العرب عليهم.
تعدد الزوجات
ولكن مع الأسف كان تعدد الزوجات وكثرة الجواري سببا في انحلال البيوت؛ فقد كان هذا النظام محمودا يوم كان مرتبطا بالجهاد؛ مما أدى إلى كثرة النساء دون الرجال، واقتضى ذلك اختصاص عدد من النساء برجل واحد، ولكن لما قل الجهاد أو بطل على توالي الزمان، وظل التشريع كما هو نتج عن ذلك انحلال الأسر.
فطبيعي أن البيت الواحد إذا كان فيه حرائر متعددات وملك يمين متعددات، كثر الخلاف بين الحرائر بعضهن وبعض، أو بين الحرائر والإماء، وبين الأولاد لتعدد أمهاتهم، خصوصا وأن من طبيعة الرجل أن يفضل بعضهن على بعض، إما لجمالهن أو لأخلاقهن، أو لغير ذلك، فإذا فضل بعضهن دبت الغيرة في الباقيات، وكثرت الشحناء والدسائس والمؤامرات.
وعلى الجملة انحل البيت، وقع بين الإخوة من أمهات مختلفة في العادة أشد أنواع العداء، وفي التاريخ حوادث كثيرة من هذا القبيل كالذي حدث بين الأمين والمأمون؛ فالأمين أمه حرة عربية، والمأمون أمه جارية فارسية، ويعلل ابن خلدون انحلال البيت بكثرة الترف، ولكن لم يكن الترف حظ كل المسلمين، ولا أغلبهم ... إنما هو حظ الخلفاء والأمراء وكبار التجار وأضرابهم، أما سائر الشعب ففقراء. •••
يضاف إلى ذلك أن الرجال - وقد قعدوا عن الجهاد - اتسع وقتهم فتفرغوا للشهوات، والإفراط في الشهوات يضعف الهمة، ويقصر العمر ، ولذلك كان متوسط أعمار الخلفاء قصيرا بالنسبة لمن عداهم، وكذلك إذا فضل الرجل إحدى زوجاته فضل أولادها أيضا، فكرهه الآخرون كما في قصة يوسف وإخوته.
وإذا شعر الابن بأنه ابن جارية تباع في الأسواق، كان عنده مركب النقص بالنسبة لولد الحرة، كالذي كان بين الأمين والمأمون، وكلما كان الخليفة أغنى وأترف كانت الجواري عنده أكثر عددا، وكان النزاع في البيت أشد، وفسد الأولاد من رؤيتهم أمام أعينهم عددا كثيرا من الشابات الجواري في القصر الذي يعيشون فيه.
وكان الغرام وتبادل النظرات إلى غير ذلك كالذي يحدثنا به ابن حزم في كتابه طوق الحمامة، ولولا لطف الله، وتغلب الإسلام عليه لانهارت أخلاقه كما انهارت أخلاق كثير من الناس، وكما حكي أن المأمون كان يغازل جارية بعينه، وهي تصب الماء على يد أبيه، فلاحظ ذلك الرشيد، واستنكر فعلته، وإذا كانت الأمة مؤلفة من أسر متعددة متنافرة فإنها تنحل بانحلال هذه الأسر. •••
وشيء آخر هام، وهو: أن البيت إذا فسدت أخلاقه بما فيه من تفضيل بعض على بعض، وحسد وغيرة، ومنافسة وعداء بين الأولاد، وعداء بين الأمهات ... أصبح هؤلاء الأمهات غير قادرات على تربية الأولاد تربية صحيحة، وخرجوا إلى الأمة ضعاف العقول، ضعاف الأخلاق، كثيري الدسائس والمؤامرات، ضعيفي الهمة، والقارئ لكتاب الأغاني عن بيت ابن رامين الذي يقول الشاعر فيه:
هل من شفاء لقلب لج محزون
صب يغيب إلى ريم بن رامين
إلى ربيعة إن الله فضلها
بحسنها وسماع ذي أفانين
وهاج قلبي منها مضحك حسن
ولثغة بعد في زاي وفي سين
أنت الطبيب لداء قد تلبس بي
من الجوي فانفثي في في وارقيني
يا رب إن ابن رامين له بقر
عين وليس لنا غير البراذين
لو شئت أعطيته مالا على قدر
يرضي به منك عين الربرب العين
نمشي وأرجلنا مطوية شللا
مشي الإوز التي تأتي من الصين
أو مشي عميان عم لا دليل لهم
سوى العصي إلى يوم الشعانين
لولاك تؤنسني بالقرب ما بقيت
نفسي إليك ولو مثلت من طين
ولما حج ابن رامين، وحج بجواريه معه حزن أهل بغداد عليه وعلى جواريه، وقال قائلهم:
حججت بيت الله تبغي به ال
بر ولم ترث لمحزون
يا راعي الذود لقد رعتهم
ويلك من روع المحبين (2) السفور والحجاب
والقارئ لكتاب الأغاني يرى الحجاب في ذلك العهد لم يكن له شأن يذكر؛ فالمرأة تقابل الرجال وتجالسهم، وتسمر معهم كما رأينا في الخيزران وزبيدة، بل قد تقود الجنود للقتال كأخت طريف بن الوليد، وبكثرة الجواري وشعر بشار وأبي نواس وأمثالهما كثر التهتك، ووجدت بيوت القيان، وكان الفتيان يغشون هذه الأماكن، وأنت تقرأ وصفها فإذا هي أشبه بالكباريهات في هذا العصر، واشتهرت المرأة كما يصورها كتاب ألف ليلة وليلة بالمكر والدسيسة، وتدبير المؤامرات، حتى شاع في هذا الوقت «دفن البنات من المكرمات.»
وكانت المرأة - وخصوصا الحرة - تجيد الغزل والحياكة؛ لكثرة قرارها، ومع هذا فقد ظلت المرأة سافرة، وإنما دخل الحجاب على النساء تقليدا للفرس بالتدريج، فبدا في عهد الوليد الثاني الأموي؛ لأن أخلاقه، وطباعه، واستهتاره جعل الناس يحتاطون من الاعتداء عليهن، فأنشئت الأسوار في القصور، والحراس لضمان حماية الحرائر. •••
ولكن المرأة على الرغم من ذلك كانت تتمتع بقسط كبير من الحرية والسفور، وكان الرجال ينتسبون إلى النساء كأبي سلمى وأبي ليلى، وكانوا في الحروب يذكرون نساءهم وحبيباتهم، وكان الفتيات المثقفات يجالسن الرجال، ويناقشنهم، ويستقبلن الأضياف كالذي حكي في كتاب «اعتلال القلوب»: أن رجلا حج، فلما عاد عطش في الطريق فرأى خباء في ناحية منه، فأناخ بفنائه، قال: فقلت: «أأنزل؟» فقالت ربة البيت: «نعم!» فقلت: «وأدخل؟» فقالت: «أجل!» قال: فدخلت، فإذا جارية أحسن من الشمع، فجلست أحدثها، وكأن الدر ينتثر من فيها، فبينما أنا كذلك إذ دخلت عجوز مؤتزرة بعباءة مشتملة بأخرى، فقالت: «يا عبد الله! ما جلوسك ها هنا عند هذا الغزال النجدي الذي لا تأمن جماله، ولا ترجو نواله»، فقالت لها الجارية: «أي جدة! دعيه يتعلل» فكانت الحرة إذن تقابل، وتتحدث، وتضيف، وتتعفف، كالذي يقول الشريف الرضي:
عفافي من دون التقية زاجر
وصوتك من دون الرقيب رقيب
ثم كثرت الجواري، وكثر التهتك، فازداد الحجاب على مر الزمان حتى كثف، وأصبح لا يسمح فيه إلا بعين تنظر الطريق، وكان لبس المرأة غطاء على الرأس، اخترعته علية بنت المهدي أخت هارون الرشيد، له إطار من تحته قابل للترصيع بالأحجار الثمينة، وكان النساء يتحلين بالخلاخيل والأساور والأقراط والخواتيم، والرجل يلبس قلنسوة قد اخترعها المنصور، أما لباس الجسم فسروال وقميص وقفطان تشملها عباءة، والفقهاء كانوا يلبسون عمامة على الرأس وطيلسانا، وقد اخترع هذا الإمام أبو يوسف، واختاره لبسا للقضاة.
الجمال
وكان للجمال في أيامهم مثل أعلى هو: استدارة الوجه مع حمرته، وشاع في أيامهم كلمة «الحسن أحمر»، ويزيد الخد حسنا الخال فيه، وشبهوه بنقطة عنبر في صحن، ويحبون من العين ما كانت واسعة كعيون المها متكسرة الجفون متكحلة بالكحل الطبيعي لا الصناعي، وشبهوا الأسنان باللؤلؤ، أو بالبرد، والنهدين برمانتين، والخصر بالقضيب، والردف بالكثيب، والقد بالخيزران، وهم يعنون في بيوتهم بديوان للجلوس، وشيت جدرانه بالسجاجيد الأعجمية، وصفت حوله الكراسي، وخيرها الكراسي ذات المسندين، ويسمونها الكراسي المجنحة، وقد فرشت أرضية الغرفة بالطنافس، والطراريج يتربع الجالس عليها، والأطباق في بيوت الأغنياء قد صنعت من الفضة، وصففت الموائد من الخشب المطعم بالأبنوس واللؤلؤ وأنواع الصدف كالذي تراه في مصنوعات القاهرة ودمشق، وطعامهم السكباج، وهو مرق يصنع من اللحم والخل والماء أو من الفراخ أو نحوها، والفالوذج وقد بشر أبو حنيفة صاحبه - أبا يوسف: بأنه سيأكل الفالوذج بدهن الفستق. (3) مظاهر الترف
ومن بدعهم أنهم - لترفهم - كانوا يؤكلون الدجاج الجوز واللوز، ويسقونه الحليب، ويتفننون في الأطعمة، وقد وصف ابن الرومي وصفا بديعا مائدة متعددة الألوان فقال:
جاءوا بفرني
1
لهم ملبون
قد بات يسقى خالص السمون
مصومع أكرم ذي غضون
قد حشيت بالسكر المطحون
ولونوا ما شئت من تلوين
من بارد الطعام والسخين
ومن شرانيف ومن تردين
ومن هلام ومصيص جون
2
ومن إوز فائق سمين
ومن دجاج فت بالعجين
والشحم في الظهور والبطون
وأتبعوا ذلك بالجوزين
وقال بعضهم: «دعيت إلى بيت أحد المغنين، فجئته، فأدخلني بيتا نظيفا فيه فرش نظيف، ثم دعا بمائدة عليها خبز وخل وبقل وملح، وجدي مشوي، فأكلنا منه، ثم دعا بسمك مشوي، فأصبنا منه حتى اكتفينا، ثم دعا بحلواء فأصبنا منها، وغسلنا أيدينا، وجاءونا بفاكهة وريحان، وألوان من الأنبذة، وقال: اختر ما يصلح لك منه فاخترت وشربت»!
وفي وصف مجلس للشراب يقول الشاعر:
اسقني واسق خليلي
في مدى الليل الطويل
لونها أصفر صاف
وهي كالمسك الفتيل
في لسان المرء منها
مثل طعم الزنجبيل
ريحها ينفح منها
ساطعا من رأس ميل
من ينل منها ثلاثا
ينس منهاج السبيل
فمتى ما نال خمسا
تركته كالقتيل
ليس يدري حين ذاكم
ما دبير من قبيل
إن سمعي عن كلام ال
لائمي فيها الثقيل
لشديد الوقر إني
غير مطواع ذليل
أنت دعها وارج أخرى
من رحيق السلسبيل
تعطش اليوم وتسقى
في غد نعت الطلول
وكانت المنازل في الصيف تبرد بالثلج، أو بخيش مبلل بالماء عليه من يشده، ويرطبه لتكون منه مراوح، ويتعاطون الماء مذابا فيه السكر بعد أن يعطر بماء البنفسج، أو سائر الزهور، ويتعاطى الناس الشراب ألوانا، فأحيانا من نبيذ التمر، وأحيانا من عصير العنب، وقد ألف ابن قتيبة بعد ذلك العصر كتابا في أنواع الشراب، وما قيل فيه، وكيفية صنعه، ولم يقل أحد في الخمر ما قاله شعراء هذا العصر كأبي نواس، وابن سيابه.
واتخذ المترفون الندمان، واشترطوا فيهم شروطا دقيقة من خفة الروح، وحسن الحديث، وحفظ السر، وقوة المروءة، والمبالغة في السماع، وكانت عادة فارسية نقلوها فيما نقلوا إلى العباسيين، وكان للرشيد مجالس عامرة.
وصاحب البيت إذ ذاك يعطر لحى ضيوفه بالمسك، أو ماء الورد، وكانوا يعطرون مجالس الشراب برائحة العنبر أو المسك. (4) الألعاب الرياضية
وانتشرت الألعاب الرياضية والصيد، وكثيرا ما وصفه الشعراء، وجعلوا من شعرهم بابا يسمى: الطرد كما فعل أبو نواس، وعنوا بحيوانات الصيد وطيوره، حتى جعلوه علما سموه: البيزرة، وانتشرت في أيام الرشيد لعبة الشطرنج والنرد، كما انتشر لعب الصولجان واللعب بالسيف والترس وسباق الخيل.
وقد وصف المسعودي يوما للرشيد كان فيه سباق للخيل أمامه، وجلس هو في صدر الميدان يشرف على السباق.
وانقسم الناس إلى طبقات لا تتعدى إحداها الأخرى، وكان ذلك تقليدا للفرس في تقسيمهم الشعب إلى طبقات؛ فالخليفة على رأس الطبقات، ويليه كبار الموظفين من وزراء وأمثالهم، ثم البيت الهاشمي ثم جند الدولة والحرس، وكثرت الأعياد في الدولة العباسية تقليدا في بعضها للفرس كالنيروز، وفي بعضها للنصارى كيوم الشعانين، أما حياة البؤساء الفقراء في مأكلهم، فعبر عنها خير تعبير أبو العتاهية في قوله:
رغيف خبز يابس
تأكله في زاويه
وكوز ماء بارد
تشربه من صافية
وغرفة ضيقة
نفسك فيها خاليه
أو مسجد بمعزل
عن الورى في ناحيه
تدرس فيه دفترا
مستندا لساريه
معتبرا بمن مضى
من القرون الخاليه
خير من الساعات في
فيء القصور العاليه
فهذه وصيتي
مخبرة بحاليه
طوبى لمن يسمعها
تلك لعمري كافيه
فاسمع لنصح مشفق
يدعى أبا العتاهيه (5) حرية الأديان
وبجانب المسلمين في المملكة الإسلامية كان أهل الذمة، وكان من أكبر دخل الدولة الجزية التي كانت تجبى منهم، وكثيرون منهم كانوا موظفين كبارا كجبريل بن بختيشوع.
وقد عرف أن الرشيد كان شديد الوطأة عليهم ... فقد ألزمهم بنوع من اللبس يخالفون به المسلمين، وأمر بهدم الكنائس التي بنيت بعد الفتح الإسلامي، وألزم النصارى بلبس الزنار، ومع ذلك كان لهم قدر كبير من الحرية في المجادلة والمناقشة والأبحاث الدينية، وقد ترجمت التوراة والإنجيل ترجمة جديدة في عهد الرشيد، وكان النصارى يتبعون كنيستين سريانيتين: الكنيسة اليعقوبية، والكنيسة النسطورية، والأكثر يتبعون الكنيسة النسطورية، ورئيسهم كان يعرف بالجاثليق، وقد منح حق السكنى في بغداد.
وكان في بغداد حي يطلق عليه حي الروم، وله أيضا حق إرسال المبشرين في النواحي المختلفة، حتى كان من أتباعه المبشرون في الصين، وكم لعبت الأديرة ورهبانها بعقول الشعراء أمثال أبي نواس.
أثر الأديرة
وكانت الأديار مثارا لشيئين متناقضين: حياة الزهد عند الرهبان، ينقل عنهم الزهاد وصاياهم ونصائحهم، والغزل عند الأدباء؛ وذلك لأنه كان يوجد في هذه الأديار بعض الجميلات والوسيمين من الفتيان والفتيات، وكانت الأديار أيضا - في الغالب - تقع في أمكنة النزهة والبساتين البديعة، فأكثر فيها المجان والشعراء من شعرهم، فقال الشاعر:
فتنتنا صورة في بيعة
فتن الله الذي صورها
زادها الناقش في تحسينها
فضل حسن أنه نضرها
وجهها لا شك عندي فتنة
وكذا هي عند من أبصرها
أنا للقس عليها حاسد
ليت غيري عبثا فسرها
وقد وصف ابن المعتز ليلة في دير وصفا بديعا فقال:
سقى المطية ذات الظل والشجر
ودير عبدون أهطال من المطر
فطالما نبهتني للصبوح بها
في غرة الفجر والعصفور لم يطر
أصوات رهبان دير في صلاتهم
سود المدارع نعارين في السحر
مزنرين على الأوساط قد جعلوا
على الرؤوس أكاليلا من الشعر
كم فيهم من مليح الوجه مكتحل
بالسحر يطبق جفنيه على صور
لاحظته بالهوى حتى استقاد له
طوعا وأسلفني الميعاد بالنظر
وجاءني في قميص الليل مستترا
يستعجل الخطو من خوف ومن حذر
فكنت أفرش خدي في الطريق له
ذلا وأسحب أذيالي على الأثر
ولاح ضوء هلال كاد يفضحني
مثل القلامة قد قدت من الظفر
وقد روي في الأغاني من ألوان هذا الشعر الشيء الكثير، وبجانب هؤلاء اليهود والنصارى كانت الصابئة في حران، وقد عوملوا معاملة أهل الذمة، وفشت بينهم الفلسفة اليونانية كما كانت هناك صابئة في العراق لا تزال بقاياهم إلى اليوم يسمون الصبة، كما كان كثير من الرعية من أتباع زرادشت، وأتباع ماني، وقد عدوا أيضا من أهل الكتاب، وعوملوا معاملتهم، والحق أنه وإن انتصر أهل الذمة بإثارة عقائدهم في الجو الإسلامي ونشاطهم، وانتصر الفرس بتقاليدهم، فقد انتصر العرب بشيئين عظيمين، وهما: دينهم ولغتهم. (6) الكتاب
وكان للعباسيين طريقة في تعليم أولادهم، فهم يرسلونهم إلى الكتاب - وكان معروفا في ذلك العهد - وقد وصفه أبو نواس في بعض شعره إذ قال:
إنني أبصرت شخصا
قد بدا منه صدود
جالسا فوق مصلى
وحواليه عبيد
فرمى بالطرف نحوي
وهو بالطرف يصيد
ذاك في مكتب حفص
إن حفصا لسعيد
قال حفص اجلدوه
إنه عندي بليد
لم يزل مذ كان في الدر
س عن الدرس يحيد
كشفت عنه خزوز
وعن الخز برود
ثم هالوه بسير
لين ما فيه عود
عندها صاح حبيبي
يا معلم لا أعود
قلت يا حفص اعف عنه
إنه سوف يجيد
وهذا يدلنا على أنه كان في عهد أبي نواس كتاب، وكان فيه بعض الأغنياء بجوار أولاد الفقراء، وكان فيه ضرب شديد، وكان معلمو الكتاتيب مشهورين بالغفلة والسذاجة، حتى وضع فيهم الجاحظ رسالة لطيفة يستخف بهم، وإلى جانب الكتاتيب كان الأغنياء يعلمون أولادهم بالمعلمين الخصوصيين.
ويروي الأغاني أن التلاميذ في الكتاب كانوا إذا أتموا حفظ القرآن سير بهم في الشوارع، ونثر عليهم اللوز، وقد حدث مرة أن أصابت لوزة عين تلميذ ففقأتها، وكانت الكتاتيب هذه مقصورة على الذكور دون الإناث.
وكان من أهم مصادر الثقافة حوانيت الوراقين، وقد روى لنا الجاحظ أنه استفاد كثيرا من دكان وراق كان يجلس فيه، ويغلقه عليه، ويستوعب ما فيه، وكان يرد على هؤلاء الوراقين بعض العلماء واللغويين يتجادلون فيما بينهم في المسائل العلمية. •••
ولم يمنع المسلمين نهي الإسلام لهم عن التصوير من ازدهار التصوير، ومنه الخطوط الجميلة والموسيقى والغناء، فقد تفننوا فيها كل التفنن، وكانت مجالس الرشيد وبلاطه مثلا أعلى للغناء والموسيقى، وكانت هناك مدارس لهم - كما كان هناك أصحاب الموسيقى النظرية والعلمية - فهم ينقلون فلسفة الغناء عن أرسطو، وفلسفة جالينوس، وفلسفة إقليدس كالذي فعله الفيلسوف الكندي بعد ذلك بقليل.
بغداد
عروس الأقطار الإسلامية
عظمة بغداد
هذا النظام الإداري والاجتماعي الذي ذكرناه كان له مركز خاص هو بغداد، وعلى منواله تسير سائر الأقطار الإسلامية. وبغداد هذه مدينة خطها المنصور مدورة، وجعل لها أربعة أبواب، سماها بأسماء المدن التي تتجه نحوها، وهي أبواب: البصرة، والكوفة، والشام، وخراسان، وحفر حولها خندقا، وبنى على كل باب قبة عالية تسمح بدخول الفارس وهو شاهر رمحه، وسورها بثلاثة أسوار، وبنى في الوسط قصرا ذهبيا يعرف بقصر الذهب.
وبنى على مقربة من هذا القصر المسجد الجامع، وقصور الأمراء والأشراف، ودواوين الحكومة، وكانت ضواحي المدينة مليئة بالحدائق والمتنزهات، والأسوار العامرة، والحمامات الجميلة، والجوامع الفخمة على جانبي النهر، وقد بلغ سكانها في أوج عظمتها نحو مليونين، وتخترق المدينة على جوانب النهر شوارع فسيحة تبلغ أحيانا أربعين ذراعا، وقد قسمت إلى مربعات، ويقوم على حراستها ليل نهار حراس يقفون في الأبراج المشيدة، والماء يصل إلى الدور في جداول، وتكنس الشوارع، وتنظف على نظام معين، فكان يعلو قصر الذهب قبة خضراء، ويبلغ ارتفاعها ثمانين ذراعا، وعلى القبة تمثال فارس، وبيده رمح طويل، ويعد هذا القصر بزينته رمز العباسيين. •••
وكانت بغداد مدينة زاخرة بكل العلوم والفنون، بناها المنصور، وما لبثت أن ازدهرت واحتوت على كل أسباب الترف والنعيم، وبعد مدة قصيرة من بنائها، كانت عروس الأقطار الإسلامية والأوروبية، فلم يكن على وجه الأرض أزهر منها، وليست تقاس عاصمة البيزنطيين، ولا عاصمة شارلمان بها في الصناعة أو في العلم، ولم تساوها الشام ولا فارس في عهد الدولتين الرومانية والفارسية، ويحدثنا مؤرخو بغداد بعظمة هذه الحضارة، حتى إذا قرأناها فكأنما نقرأ وصفا للحضارة العصرية.
وكثرت الرحلات منها إلى البلاد الأخرى: كالبلقان، والصين، وسيبيريا؛ يدعوهم إلى هذه الرحلات حب التجارة، والتبشير بالإسلام، وكانوا إذا وصلوا إليها احتقروها بالنسبة لمدينتهم مستسهلين الصعاب والمخاطرة بالنفس، فإذا قورنت هذه المدنيات بمدنية المسلمين - وخاصة في بغداد - سادت المدنية الإسلامية، وكانت هي موضع التقليد للغربيين حتى إنهم كانوا يستمدون في تشريعهم من التشريع الإسلامي، وكان العالم الأوروبي وقتئذ في جهل كبير.
ويقول الخطيب البغدادي: إنه أحصى السميريات - وهي نوع من القوارب بدجلة - فكانت ثلاثين ألفا، تدر على ملاحيها في كل يوم تسعين ألف درهم، وكان عدد الحمامات ستين ألف حمام، وبإزاء كل حمام خمسة مساجد. •••
وكانت بغداد تنقسم إلى محلات، كل محلة بقعة من الأرض بها مبان وقصور وشوارع ومساجد وأسواق وجوامع، وكل محلة عليها باب كبير يقف عليه الحراس يمنعون دخول المحلة ليلا إلا بإذن، كما كان هناك أسواق متعددة ... فسوق القطن، وسوق السلاح، وسوق الثلاثاء، إلى آخره ... كما أقيمت فيها القصور الضخمة العالية، ويتبعها بيوت صغيرة للحاشية، وكل قصر فيه بستان، وقد يكون فيه مسجد لأهله ... واشتهر في بغداد أسماء قصور كثيرة، منها قصر الخلد، وقصر زبيدة، وقصر التاج، وقصور البرامكة، وقصر الخصيب، وقصر المهدي.
المذاهب الدينية
وانتشرت في بغداد المذاهب الدينية والفرق، قال المقدسي: قلما رأيت في بغداد من فقهاء أبي حنيفة إلا رأيت أربعة: الرياسة مع لباقة فيها، والحفظ، والخشية، والورع. وفي أصحاب مالك أربعا: الثقل، والبلادة، والديانة، والسنة. وفي أصحاب الشافعي: النظر، والشغب، والمروءة، والحمق.
وفي أصحاب داود: الكبر، والحدة، والكلام، واليسار.
وفي أصحاب المعتزلة: اللطافة، والدراية، والفسق، والسخرية.
وفي الشيعة: البغضة، والفتنة، واليسار، والصيت.
بساتين بغداد
كما انتشرت فيها البساتين ... استجلبوا أشجارها من كل الأقطار، واختاروا منها ما يصلح لجو بغداد، وعرفوا موسم كل نبت وكل شجرة، وانتشرت بينهم الزهور، وأعجبوا بها أيما إعجاب، وكان بعضهم يهيم بالورد، وبعضهم يهيم بالنرجس، حتى كان بعضهم يغلق دكانه في موسم الورد، وبعضهم يهيم بالورد الأبيض الخالص أو الأحمر الخالص فتعددت أنواع الورد، وكثر عشاقه، وبعضهم يميل إلى الورد الملون نصفه أحمر ونصفه أصفر، وسموه الورد الموجه.
وكانت في بغداد حدائق للورد خاصة، وحدائق خاصة للأزهار الأخرى، وعرفت لديهم لغات الورد، فلكل نوع منه لغة خاصة للعشيق أو العشيقة، كما اشتهرت بغداد في تلك الأيام برقة أهلها وظرفهم، كما تشتهر باريس في فرنسا اليوم، وأصبح للظرف عندهم قوانين، وأصيب أهل بغداد بالغرور والإدلال ببلدتهم، حتى قالوا: فلان تبغدد أي تلطف وترقق، وشاعت هذه الكلمة إلى عصرنا هذا، قال المقدسي: «ولا أحسن حسانا من أهل بغداد»، وقال أيضا: «هي مصر للإسلام»، ولهم خصائص من ظرافة وقرائح ولطافة ... هواء رقيق، وعلم دقيق، وكل صيد بها، وكل حسن فيها، وكل حاذق منها، وكل قلب إليها، وكل حرب عليها، وقال غيره في وصف أهلها: ندماء ظرفاء نظاف يتناشدون الأشعار، ويتجاذبون أهداب الآداب، ويقولون على من ليس بغداديا إذا كان ظريفا: «فلان ليس من الرقعة، ويتظرف بظرفهم.» •••
وجاء في وصف عريب - المغنية البغدادية - قول بعضهم فيها: «وكانت عريب مغنية محسنة، وشاعرة صالحة للشعر، وكانت مليحة الحفظ والمذهب في الكلام والظرف، وحسن الصورة، والرواية للشعر والأدب، والملاحة والمماجنة مما لم يتعلق به أحد من نظرائها، ولا رئي في النساء نظير لها»، وهذا وصف يكاد يكون المثل الأعلى للبغداديات، وكان يكثر فيهم لثغة الراء بالغين كلثغة الباريسيين اليوم، وصارت لثغتهم لغة من بعدهم، ويعدون هذه اللثغة علامة الرقة.
وقال الجاحظ في وصف البغداديين: «إنهم يستملحون اللثغاء إذا كانت حديثة السن، ومقدودة مجدولة»، وقد رويت لهم الأمثال الكثيرة الظريفة، يقولون: فلان كبش من كبش، مجلس بلا ريحان، كشجرة بلا أغصان، مواعيد الفتيان الآل في الفيافي، كلام يكتب بالغالية على خدود الغانية، من كلام النساء ما يقوم مقام الماء ... إلخ.
الغزل والزينة
ونشر بشار فيما بينهم الغزل المتهتك، ونشر أبو نواس الغزل بالمذكر، وقيدوا قوانين الظرف بوصفهم الظريف بأنه: لا يتدخل في حديث بين اثنين، ولا يتكلم فيما لا يفهمه، ولا يتثاءب، ولا يستنثر، ولا يتجشأ، ولا يتمطى في المجالس، ولا يمد رجليه، ولا يمس أنفه، ولا يسرع في المشي، ولا يجلس إلا حيث يجلس أمثاله، ولا يأكل مما يتخذ في الأسواق، ولا يأخذ شعره في دكان حلاق، ولا يماكس في الشراء، ولا يشارط صانعا، ولا يصاحب وضيعا، وأن يكون طيب الرائحة نظيف البدن، ولا يطول له ظفر، ولا يسيل له أنف. ومن أثر بغداد ما وصف به ابن جرير الطبري فقيل: كان إذا جلس لا يكاد يسمع له تنخيم أو تبصق، وإذا أراد أن يمسح ريقه أخذ ذؤابة منديله، ومسح جانب فيه، ومن قولهم:
لا خير في حشو الكلا
م إذا اهتديت إلى عيونه
والصمت أجمل بالفتى
من منطق في غير حينه
ويساوي ابن بغداد ما يسمي عندنا اليوم بابن البلد، وهم يكثرون من التزين: زينة الشعر، وقد تفننوا فيه، وكان للجواري تفنن في شعرهن: فمنهن من يجعلنه فوق رأسهن كالتاج، ومنهن من يجعلنه كالعناقيد، ومنهن من تسدل شعرها على أذنها، وتقطع ما بينها وبين وجنتيها، ومنهن من يستعمل الطرة الهلالية: وهي أن يسدل جميع الشعر فوق الجبهة ثم يقطع منه مثال نصف دائرة فتكون كأنها الهلال.
واستكثروا من الدهن للشعر ، قال الجاحظ في أيامه: «ذهبت الفتيان، فما ترى فتى يفرق الشعر بالدهن»، وغلف النساء شعورهن بعد غسلها بالمسك، والعنبر، واستعملن الحناء والخضاب، وكتبن على الأكف والأيدي بالحناء، قال الماوردي: قرأت على راحة قائد جارية لبعض جواري المأمون على اليمنى بالحناء:
فديتك قد جبلت على هواكا
فقلبي ما ينازعني سواكا
وعلى اليسرى:
أحبك لا ببعضي بل بكلي
وإن لم يبق حبك من جواكا
وكتبت سيدة على كف جاريتها بالحناء:
أبى الحب إلا أن أكون معذبا
ونيرانه في الصدر إلا تلهبا
فواكبدا حتى متى أنا واقف
بباب الهوى ألقى الهوان وأنصبا
واستكثروا من التعطر والطيب ... فاستعملوا المسك الممزوج بماء الورد المحلول، والعود المعنبر بالقرنفل، والعنبر البحراني ... إلخ، كما استعملوا بخار العود، وخشب الصندل، وكذا البخور المندلي، وهو خليط من العود والمسك واللبان، واشترطوا لجودته أن يكون فحمه الذي يحرق فحما خشبيا من شجر الغضا؛ لأنه عديم الدخان، والمتأنقون منهم يستعملون فحما يسمى فحم بختيشوع الطبيب؛ وهو الذي اخترع تركيبه.
كثرة الدعابة
وكثرت فيهم الدعابة، وروي لهم فيها الشيء الكثير في أخبار الجاحظ وغيره، وكان في بغداد كثير من المضحكين، وحفاظ النوادر كأبي العبر، وابن المغازي، من ذلك ما حكي أن ابن المغازي هذا وقف على باب دار الخلافة يوما يضحك الناس ويتنادر، وأخذ يوما في نوادر الخدم حتى ضحك الخادم، ودخل على الخليفة وهو يضحك، فأنكر الخليفة ذلك، وقال: «ويلك ما بك؟» فقال: «على الباب رجل يتكلم بحكايات ونوادر مضحكة» فأمر الخادم بإحضاره، فاشترط الخادم أن يكون له نصف الجائزة، فقال الخليفة: بلغني أنك مليح الفكاهة، وعندك نوادر مجونية مضحكة، فقال: «يا أمير المؤمنين الحاجة تفتق الحيلة» قال الخليفة: «هات ما عندك! فإن أضحكتني أعطيتك ألفي درهم، وإن لم تضحكني فما لي عليك؟» قال: «افعل بي ما أردت»، قال الخليفة: «أنصفت، أصفعك بهذا الجراب خمس صفعات»، وكان هذا الجراب من أديم لين، فظن المضحك أنه منفوخ، وليس فيه إلا هواء.
فقال: «قبلت » ثم أخذ في النوادر والحكايات، فما ترك حكاية إلا أتى بها، ولم يترك حكاية لعربي ولا نحوي ولا نبطي ولا زنجي ولا شاطر إلا قصها، والخدم يكادون يهلكون من الضحك، والخليفة مقطب لا يبتسم فقال المضحك: «قد نفد ما عندي» فقال: «أهذا كل ما عندك؟»
قال: «نعم ... بقيت نادرة واحدة، وهي أن تجعل الصفعات عشرا بدلا من خمس» فأراد الخليفة أن يضحك فأمسك، فمد المضحك قفاه فصفع صفعة كادت أن تقطع أنفاسه؛ إذ كان الجراب مملوءا بالحصى، فصاح المضحك: «يا سيدي نصيحة» قال الخليفة: «ما هي؟» قال: «ليس أحسن من الأمانة، ولا أقبح من الخيانة، إن لي شريكا في الجائزة قد ضمنت له نصفها، أرغب أن يحضره أمير المؤمنين.»
قال: «من هو شريكك؟» قال: «الخادم الذي أحضرني، وقد أخذت حقي فأعطوه حقه» ... فضحك الخليفة حتى استلقى على قفاه!
انتشار الزندقة
وانتشرت في هذا العصر الزندقة ... اشتدت في عهد المهدي، واشتهر بقتله للزنادقة، واستمرت إلى عهد الرشيد، وكانت كلمة الزندقة - ككلمة الشيوعية اليوم - غير محدودة المعنى عند العامة، وهي تهمة يتهم بها الشخص عدوه لينال السلطان منه، فكانوا يطلقونها على معان كثيرة: (1)
كانوا يطلقونها على المجان كحماد عجرد، وآدم بن عبد العزيز لإمعانهما في اللهو. (2)
وكانوا يطلقونها على المرشحين للخلافة حتى يكرههم الناس، وحتى يسهل للخليفة عزلهم، وتولية أولاده بدلهم، أو على الشخص العظيم الذي يريد الخلفاء أن يتخلصوا منه كما أطلقوها على أبي مسلم الخرساني، وعلى البرامكة. (3)
وكانوا يطلقونها أيضا بحق على الذين يلحدون في أقوالهم كقول أبي نواس:
فدعي الكلام لقد أطعت رواية
وصرفت معرفتي إلى الإنكار
ورأيت إتياني اللذاذة والهوى
وتعجلا من طيب هذي الدار
أحرى وأحزم من تنظر آجل
علمي به رجم من الأخبار
ما جاءنا أحد يخبر أنه
في جنة من مات أو في نار
وقوله:
يا ناظرا في الدين ما الأمر
لا قدر صح ولا جبر
ما صح عندي من جميع الذي
تذكره إلا الموت والقبر
وقوله:
قلت والكأس على كفي تهوى الالتثام
أنا لا أعرف ذاك اليوم في ذاك الزحام
وقول ابن سيابه:
قل لمن يلحاك فيها
من فقيه أو نبيل
أنت دعها وارج أخرى
من رحيق السلسبيل
ونحو ذلك ... ومن كانوا يسمعون مثل هذا القول كانوا طائفتين: طائفة متزمتة تسخط على قائل مثل هذا القول، وترميه بالإلحاد وبالزندقة، وطائفة متسامحة ترى أن هذه الأقوال قيلت على سبيل الفكاهة والتملح. (4)
وكانوا يستعملون كلمة زنديق أحيانا للدلالة على الظرف والتملح كالذي يقول:
تزندق معلنا ليقول قوم
إذا ذكروه زنديق ظريف
فقد بقي التزندق فيه وسما
وما قيل الظريف ولا اللطيف (5)
وأحيانا يطلقونها بحق على طائفة من الفرس كانوا يظهرون الإسلام، ويبطنون أديانهم الأولى من مانية وغيرها، وكان هذا الصنف كثيرا في هذا العصر، يرمون إلى إعادة الدولة الفارسية، كما كانت في العصور الأولى قبل الفتح الإسلامي.
وأيا كانت فقد طبقت الكلمة ظلما على قوم عرفوا بأصالة الفكر وحرية القول، ولكن خشي بأسهم فاتهموا بالزندقة، وقتلوا كالذي حدث مع عبد الله بن المقفع.
عناصر متعددة
وكان السكان في ذلك العهد يتكونون من عناصر مختلفة تختلف في دمها وفي عقليتها وعاداتها وتقاليدها ومنهج تفكيرها ... وامتزجت كلها في أتون واحد؛ ذلك لأنها كانت تتكون من أمم مختلفة على أثر الفتوح الأموية، فكان منها العنصر البربري الوارد من بلاد المغرب، والعنصر الفارسي الوارد من بلاد فارس، والعنصر العربي الوافد من جزيرة العرب، واليمنيون الآتون من اليمن، والنبطيون، والروم الذين كانت تسوقهم الحرب بين المسلمين والبيزنطيين، وغيرهم من العناصر والأجناس الأخرى.
وكان لكل من هذه العناصر عقلية خاصة، ودم خاص، وأخلاق خاصة، ولكل عنصر مزاياه، وقد عدد الجاحظ مزايا العناصر في عصره فقال: «ميزات أهل الصين: الصناعة فهم أصحاب السبق، والصياغة، والإفراغ، والإذابة، والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط، والنحت، والتصاوير، والنسيج، واليونانيون يعرفون العلل، ولا يباشرون العمل، وميزتهم الحكم والآداب، والعرب لم يكونوا تجارا، ولا صناعا، ولا أطباء، ولا حسابا، ولا أصحاب فلاحة ... فيكونون مهنة، ولا أصحاب زرع؛ لخوفهم من صغار الجزية، ولا طلبوا المعاش من ألسنة المكاييل ورؤوس الموازين، ولا عرفوا الدوانيق والقراريط، وإنما ميزتهم قول الشعر، وبلاغة المنطق، وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآثار، وتعرف الأنواء، والبصر بالخيل والسلاح وآيات الحروب، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، وميزة الأتراك في الحروب، والزنج أطبع الخلق على الرقص، والضرب بالطبل، وعلى الإيقاع الموزون من غير تأديب ولا تعليم، وليس في الأرض أحسن حلوقا منهم، وليس كل يوناني حكيما، ولا كل صيني في غاية من الحذق، ولا كل أعرابي شاعرا فائقا، ولكن هذه الأمور في هؤلاء أعم وأتم، وفيهم أظهر وأكثر.»
كذلك كانت هذه العناصر تختلف في الأهواء والسياسة، ولذلك قالوا: اشتهرت الكوفة بالتشيع لعلي وأولاده، والبصرة بالتشيع لعثمان وأهل بيته، واشتهرت الجزيرة بأنها تضم الخوارج، وأهل الشام لا يعرفون إلا آل أبي سفيان، وطاعة بني مروان، واشتهر أهل مكة والمدينة بالميل إلى أبي بكر وعمر، لا يعدلون عنهما.
كما كان في هذه البلاد نصارى حافظوا على شعائر دينهم، ويهود كذلك، ومجوس يوقدون نيرانهم.
ولكل من هؤلاء جميعا أدب وعلم، وهؤلاء كلهم يتزاوجون، فيخرج منهم مولدون يحملون جزءا من طبائع آبائهم، وجزءا من طبائع أمهاتهم، وجزءا من شخصياتهم، وخير مثل على ذلك قصور الخلفاء؛ فالمنصور كان له أمة كردية، ولدت له جعفرا الأصغر، وأمة رومية، ولدت له ابنا يسمى صالحا المسكين، وامرأة أموية، أولدها بنتا تسمى العالية، وهكذا.
وكان للرشيد زهاء ألفي جارية غير الحرائر ... فله جارية فارسية، أولدها المأمون، وأخرى أولدها المعتصم، ويقال: إنه كان للمتوكل أربعة آلاف سرية ... إلخ. •••
وكما كان هناك توالد بين الأجسام كان هنالك توالد مثله بين العقول ... فعقل عربي مع عقل يوناني يكون منه نتاج خاص، وكذلك العقل المتولد بين فارسي وعربية، أو بين عربي وهندية، أو بين مسلم ونصرانية، أو بين مسلم ويهودية.
ومع هذا الاختلاف في العناصر والأديان والعرف والتقاليد، كانت كلها تصب في قالب واحد نتيجة للبيئة الطبيعية والاجتماعية، كالذي تراه إذا ذهبت إلى أوروبا فنظرت إلى وجه حكمت بأنه مصري، ولا عبرة في ذلك بين أبيض وأسمر وجعد الشعر ومرسله؛ لأن لكل أمة وحدة يتساوى فيها الأفراد مع اختلافهم في الدم والدين ، وغير ذلك، وكان العنصر المتميز في عصر الخلفاء الراشدين والأمويين هو العنصر العربي، وسائر الأجناس كانت تبعا لهم، رووا أن رجلا من الموالي خطب بنتا من أعراب بني سليم وتزوجها، فركب محمد بن بشير الخارجي إلى المدينة، وقابل الوالي فأرسل الوالي إلى المولى، وفرق بينه وبين زوجته، وضربه مائتي سوط، وحلق رأسه ولحيته وحاجبه عقابا له على أنه تزوج أعرابية، فقال محمد بن بشير للوالي:
قضيت بسنة وحكمت عدلا
ولم ترث الحكومة من بعيد
وفي المئتين للمولى نكال
وفي سلب الحواجب والخدود
إذا كافأتهم ببنات كسرى
فهل يجد الموالي من مزيد
فأي الحق أنصف للموالي
من اصهار العبيد إلى العبيد
ولما نزل الحجاج واسطا نفى النبط منه، ووسم أيديهم بالمشرط، وكتب إلى عامله بالبصرة: إذا قرأت كتابي فانف من قبلك من النبط، فإنهم مفسدة للدين والدنيا، وأمر الحجاج ألا يؤم الناس في الكوفة إلا عربي، وكان العرب في الدولة الأموية إذا أقبل العربي من السوق، ومعه شيء ثقيل فرأى مولى دفعه إليه ليحمله عنه، ولو كان العربي راكبا والمولى ماشيا، فلما جاء الفرس انتقموا من العرب، وخلقوا فكرة الشعوبية يطلبون فيها المساواة، ويدعون أن في كل أمة مزايا وعيوبا، وألفوا في ذلك الكتب يحقرون من شأن العرب، ويذكرون مثالبهم، كالذي يقوله أبو نواس:
ومن تميم ومن قيس وغيرهما
ليس الأعاريب عند الله من أحد
الشعوبية
ولم يستسلم العرب - أول الأمر - لهذه الدعوة الشعوبية بل قاوموا، وكانت المقاومة بالحرب أحيانا، وبالدس أحيانا، وربما كانت نكبة البرامكة نتيجة لهذه الخصومة الشديدة بين الفرس والعرب في السر والعلن، قال ابن خلدون: كان بنو قحطبة أخوال جعفر، وهم عرب من أعظم الساعين عليهم، وأخيرا انتصر الفرس على العرب بهزيمة الأمين، وذهب ريحهم كما ذهب ريح الفرس على يد الأتراك فيما بعد.
وزاد الشعوبية انتصارا أن الخلفاء تعصبوا للإسلام، ولم يتعصبوا للعرب، وظهر على لسان أبي نواس، والخريمي، ومهيار الديلمي، وبشار الاعتزاز بالنسب الفارسي، يقول بعضهم:
ولست بتارك إيوان كسرى
لتوضح أو لحومل فالدخول
وضب في الفلا ساع وذئب
بها يعوي وليث وسط غيل
ويقول الخريمي:
إني امرؤ من سراة الصغد ألبسني
عرق الأعاجم عرقا طيب الخبر
ويقول:
أبالصغد بأس إذ تعيرني جمل
سفاها ومن أخلاق جارتها الجهل
فإن تفخري يا جمل، أو تتجملي
فلا فخر إلا فوقه الدين والعقل
أرى الناس شرعا في الحياة ولا يرى
لقبر على قبر علاء ولا فضل
إذا أنت لم تحم القديم بحادث
من المجد لم ينفعك ما كان من قبل
ويقول المتوكل:
أنا ابن المكارم من نسل جم
وحائز إرث ملوك العجم
معي علم الكابيان الذي
به أرتجي أن أسود الأمم
فقل لبني هاشم أجمعين
هلموا إلى الخلع قبل الندم
ملكناكم عنوة بالرما
ح طعنا وضربا بسيف حذم
وعلى العموم حارب الفرس العرب بالشعوبية من طرق مختلفة: من طريقة وضع شأن العرب بما ألفوا من الكتب، ومن عيبهم آلاتهم في الحرب، ووضعهم الكتب في مناقب العجم، ومثالب العرب، وكثرت في هذه الآونة الكتب المعروفة بكتب المثالب، ووضع القصص الشنيعة في مثالب العرب، ومفاخر الفرس ... إلخ.
المدن الزاهرة
وإلى جانب بغداد كانت مدن أخرى عامرة زاهرة - وإن كانت أقل منها - وهي أيضا يتدفق المال فيها، وإن كان تدفقا أقل من تدفقها في بغداد، فقد جرت العادة أن تصرف المدينة على نفسها، وعلى ما يتبعها، وعلى عمارة ما خرب منها، ثم يرسل الباقي إلى الخليفة في بغداد، فمن أهم المدن في عصر الرشيد: البصرة، عني العرب بتخطيطها فجعلوا شارعها الأعظم ستين ذراعا، وجعلوا عرض كل زقاق سبعة أذرع، وجعلوا أوسط كل خط ميدانا فسيحا لمرابط خيولهم، وقبور موتاهم، وقد اشتهرت بالتجارة الواسعة بين الهند والصين والمغرب والحبشة.
واشتهر أهل البصرة كذلك بالأسفار البحرية حتى قالوا: «أبعد الناس نجعة في الكسب بصري»، وبالغ الواصفون في كثرة أنهارها، وكثرة الزوارق فيها، ولعلهم لكثرة ما رووا من عدد الأنهار أنهم كانوا يعدون الجداول أنهارا، واشتهرت بالنخيل الكثير المتعدد الأنواع إلى يومنا هذا، واشتهرت كذلك من مدن العراق الكوفة، وقد عرفت بتشيعها؛ لأن الإمام عليا جعلها عاصمة خلافته إلى أن قتل، وناظرت الكوفة البصرة في المذاهب النحوية، فكان للكوفيين مذهب وللبصريين مذهب، وكان بينهما خلافات كثيرة ... وكل يدلي بحجته، كذلك اشتهرت مذاهب المعتزلة البصريين، ومذاهب المعتزلة من غيرهم، وقد كان منشأ مدرسة الاعتزال هي البصرة في حلقة من حلقات الحسن البصري. •••
واشتهرت من مدن مصر الفسطاط، وهي أول مدن المسلمين في مصر ... اتخذها العرب معسكرا لهم حين فتحوها، ثم أخذت تزدهر حتى فاقت البصرة والكوفة، وزودت في أيام العباسيين بكل ما تحتاج إليه المدن، وزاد من جمالها وقوعها على النيل، ثم كانت القيروان بالمغرب، ودمشق وحمص في الشام، والموصل بالعراق، والأهواز بفارس، ومكة والمدينة في جزيرة العرب، ولا نطيل في وصفها؛ لأن ذلك يحتاج إلى كتاب وحده، وكلها كانت سببا في ثروة الخلفاء العباسيين، وإغداقهم المال على الولاة والعمال والأدباء والفنانين.
وقد اختلفت مزايا كل قطر من ناحيته المادية والمعنوية، فلكل بلد حاصلاته، وما يتقنه كالكاغد، والنسيج، والتمر من البصرة، والثلج من جبال لبنان، والسكر من الفرس إلى غير ذلك، كما كان الشأن في العلوم؛ فحركة صوفية تنشأ في مصر، وحركة اعتزالية تنشأ في بغداد، وأدب يتأقلم بكل إقليم، ومما قاله المقدسي في ذلك: «إن إقليم العراق إقليم الظرفاء، ومنبع العلماء ... لطيف الماء، عجيب الهواء، مختار الخلفاء، أخرج أبا حنيفة فقيه الفقهاء، وسفيان سيد القراء، وأبا عبيدة، والفراء، وبه البصرة التي قوبلت بالدنيا، وبغداد الممدوحة في الورى، وكوفة الجليلة، وسامرا، وقد لون كل أدب وعلم بلون أهله، ونبغ من كل بلد نابغون هم نتاج إقليمهم.»
ازدهار التصوف
وفي عهد الرشيد نما في العراق التصوف، والدعوة إلى الاهتمام بباطن النفس لا بظواهرها، وبحقيقة الشريعة لا مجرد أعمال الجوارح، ورياضة النفس عن طريق الزهد والعبادة، والوصول إلى المعرفة عن طريق الوحي والإلهام، وإدراك الحقيقة بالذوق والشعور لا بالمنطق والتجارب والقياس، واشتهر من المتصوفة: إبراهيم بن أدهم سنة 162، وشقيق البلخي سنة 195، ومعروف الكرخي سنة 200، وهو القائل: «التصوف الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الناس»، ثم بشر الحافي سنة 222، وهو القائل للمحدثين: «أدوا زكاة هذا الحديث» قالوا: «ما زكاته؟» قال: «أن تعملوا بخمسة أحاديث من كل مائتين ...»
وأخذ المتصوفون يضعون الكتب في التصوف كما كان يفعل الفقهاء في تأليف الفقه.
وثار الخلاف بين الفقهاء والمتصوفة؛ لاختلاف النزعتين، فالمتصوفة يعتمدون على القلب وعلى الذوق، وعلى المعرفة من طريق الإلهام، والفقهاء يعتمدون على ظاهر القرآن والسنة، وعلى الاستنباط العقلي.
وكانت الخصومة أشد ما تكون بين المتصوفة والحنابلة؛ لشدة تمسك الحنابلة بظاهر النصوص، ورميهم الصوفية بالزندقة.
الرشيد في قصر الخلد
تولية الرشيد
في هذا الوضع، وفي هذا الجو، وفي بغداد هذه، وعلى هذا النظام الذي ذكرنا بعضه تولى الرشيد ... وقد جلس على العرش في قصر فسيح يسمى «قصر الخلد»، بناه جده المنصور، وجعله في الجانب الغربي من دجلة - وهو يقع في منحنى نهر دجلة بإزاء باب خراسان - حتى إذا شبت نار الثورة كان في استطاعته أن يفر إلى خراسان، وهي أهم مؤسس للدولة العباسية، وفي ناحية من نواحيه على الشاطئ الآخر قصور البرامكة ... هذا قصر يحيى، وهذا قصر جعفر، وهذا قصر الفضل.
وله فناء واسع قد ملئ بالجواري والغلمان على مختلف الأشكال والألوان، وقد كان الرشيد يغالي في أثمانهن، وخصوصا إذا كانت الفتاة جميلة أو متعلمة الغناء، أو أديبة. واشتهر من جواري القصر اللاتي غلبن على الرشيد: ماردة، وهي التي ولدت منه المعتصم، وهيلانة، وهي يونانية كما يدل عليها اسمها، وقد ماتت، وحزن عليها الرشيد حزنا شديدا، وقال الشعر فيها:
أف للدنيا وللزينة فيها والإناث
إذ حثا الترب على هيلان في الحفرة حاث
ويقول فيها أبان اللاحقي على لسان الرشيد:
بت ضجيع الحزن ما أغفى
لحادث جل عن الوصف
حزنان حزن منهما ظاهر
وأوجع الحزنين ما أخفي
أنت أهل الترب من فوقها
مواريا تحت الثرى أنفي
لهفي على هيلان لو أنه
يرد شيئا فاتنا لهفي
وهذا القصر كأنه مدينة صغيرة له أجنحة متعددة ... هذا جناح للخيزران أم الرشيد بكتبها وغلمانها وجواريها .
وكانت مواكب الأمراء تأتي إلى بابها فنهاها الهادي عن ذلك ، وقال لها: «متى وقف ببابك أمير ضربت عنقه، أما لك مغزل يشغلك، أو مصحف يذكرك، أو سبحة؟!» فقامت الخيزران، وهي ما تعقل من الغضب، وقد ذكروا أنها كان لها شأن في الدسيسة التي حيكت حول ابنها الهادي حتى قتل، فلما تولى الرشيد أعاد لها سطوتها وسلطانها.
ولكنها لم تطل مدتها ... فماتت بعد ثلاث سنوات من خلافته، وكان يوم وفاتها يوما ممطرا فمشى الرشيد في جنازتها، وكانت امرأة عاقلة قوية السلطان كبيرة الشخصية تتدخل في شئون الدولة وتسيرها، يعينها على ذلك يحيى البرمكي وأولاده، وقد خاف ابنها الهادي من سطوتها، وتدخلها وشخصيتها، فحجر عليها فكرهته ...
وهذا جناح زبيدة زوج الرشيد، وهي كذلك شخصية قوية خيرة، لها خدمها الخاصون، وغلمانها، وجواريها، وكانت كالخيزران في تدخلها السياسي، غير أنها لم تكن مثلها في دس الدسائس، بل كانت بارة محسنة، تنفق الأموال على الملاجئ والمستشفيات، ومن آثارها الخالدة عين الماء المسماة باسمها، والتي أنشأتها في الحجاز، ومدت بها الماء إلى مكة، ثم كان في حجرها ابنها محمد الأمين.
وهذا جناح علية أخت الرشيد، وكانت شاعرة جميلة مفتنة لها عشاقها، وزوارها، ومجالس أنسها، وسرورها.
وهذا جناح العباسة أخت الرشيد، فتاة جميلة أيضا، شاعرة تحب جعفر البرمكي وتراسله.
وأخيرا جناح الرشيد، وهو أعظم الأجنحة، فيه جواريه الكثيرة، وغلمانه الكثيرون، وأطباؤه، ومضحكوه، ومغنوه إلى آخر ما هنالك.
وعلى الجملة فكان القصر يموج بالفتيان والفتيات، والكبار والصغار ... هذه جارية فارسية تتكلم بالفارسية، وهذه يونانية تتكلم باليونانية، وهذه حبشية تتكلم بالحبشية، وهذه بربرية تتكلم بالبربرية ... إلخ، ثم كانت تموج في القصر تيارات مختلفة ... تيارات سياسية من الخيزران وزبيدة، فالخيزران توالي البرامكة وتؤيدهم، وتكره الفضل بن الربيع وتبعده، وتيار من زبيدة تكره البرامكة وتعاكسهم، وتؤيد الفضل بن الربيع وتقربه، ثم تيارات أخرى غرامية بين شابات القصر وشبانه، والعباسة وعلية، والجواري والغلمان.
وكانت جواري الرشيد فيما يقولون تبلغ نحو ألفي جارية مختلفة الأجناس ... منهن الروميات، والسنديات، والفارسيات، وقد قال خبير بالرقيق وأنواعه: إن لكل نوع من أنواع الرقيق ميزات خاصة يعرف بها، فالهنديات وديعات لينات الجانب، هادئات قادرات على حسن ورعاية الطفل، ولكن سرعان ما يعرض لهن الذبول، واشتهرت السنديات بالخصر النحيف، والشعر الطويل، واشتهرت مولدات المدينة بالدلال، والميل إلى السرور، والفكاهة والمجون، وبحسن الاستعداد للنبوغ في الغناء، وعرفت مولدات مكة بدقة المعصم والمفصل، والعيون الناعسة، وعرفت الإماء البربريات المغربيات بأنهن لا يبارين في حسن الإنتاج، وهن لدماثة خلقهن، ولين عريكتهن صالحات لأن يتعودن القيام بمختلف الأعمال.
والمثل الأعلى للجارية - كما يقول أبو عثمان الدلال - أمة تكون من أصل بربري فارقت بلادها في التاسعة من عمرها، ومكثت ثلاث سنين في المدينة، ومثلها في مكة، ثم رحلت إلى العراق في السادسة عشرة من عمرها لتتثقف بثقافته ... فإذا بيعت في الخامسة والعشرين كانت قد جمعت من جودة الأصل، ودلال المدنيات، ورقة المكيات، وثقافة العراقيات.
والسودانيات كن يغمرن الأسواق، وقد عرفن بقلة الثبات، والإهمال، كما عرفن بالميل إلى الضرب بالدف والرقص، وهن أحسن خلق الله بياض أسنان، ولكن يعاب عليهن نتن الإبط، وخشونة الملمس، والحبشيات عرفن بالضعف والترهل، والاستعداد لمرض الصدر، وهن على عكس السودانيات لا يحسن الغناء ولا الرقص، ولكنهن قويات الخلق موضع للثقة أهل للاعتماد عليهن.
قصر الخلد
ولا يخلو قصر كهذا من العلاقات الغرامية، ولذة الوصال، وألم الخصام، ونحو ذلك من ضروب العواطف؛ حتى ليحكون أن سبب اتصال الرشيد بأبي يوسف أن الرشيد رأى مرة منظرا غراميا لم يعجبه، فاستدعى أبا يوسف لسؤاله: هل على الخليفة إذا رأى هذا المنظر أن يحد الجناة؟ فأفتاه بلا؛ لأن القاضي لا يقضي بعلمه، فسري عن الرشيد، وأجزل لأبي يوسف الصلات، وتوثقت الصلة بينه وبين أبي يوسف من ذلك الحين، حتى عينه قاضي القضاة.
تضيف إلى عظمة قصر الخلد عظمة بغداد؛ فقد كانت مملوءة بالقصور الفخمة، والميادين الفسيحة، والأسواق الحافلة بالدكاكين الممتلئة بالسلع، وكان يأتيها من مصر البلسم، والكتان، والقمح، والنحاس، والذهب، وزمرد النوبة، ويأتيها من الحبشة العاج، ومن الأندلس الحرير، والصيني، والجلود، والأسلحة الصلبة ، ومن اليونان النباتات ذات العطر الطيب، والصمغ، ومن سوريا الزجاج ، والبللور، والأصداف ... •••
ومن بلاد العرب البخور، ومن سوماطرة البخور الجاوى والزعفران والقرفة، ومن جاوى الماس، والعاج، والأخشاب الثمينة، والصندل، ومن خليج فارس اللآلئ، والصدف.
ومن سيلان الياقوت، واللازورد، ومن فارس الأصواف، ومن سيراز الفيروز، والعقيق، والمرجان، ومن أصفهان الأقمشة المختلفة، ومن بخارى الأصواف، والسجاجيد، والأقمشة، ومن مرو الزبرجد، ومن الموصل صفائح الصلب. ومن سمرقند الأطلس، والفضة، والأقمشة الناعمة، ومن الصين الصيني، وحجر الشب، والحرير الخام، والصمغ، ومن التبت المسك، وهذه كلها تحول أحسن ما يرد إلى قصر الخلد، والقصور حوله، وأحيانا كثيرة يسير الشابان هارون الرشيد وجعفر ووراءهما مسرور الخادم متخفين للوقوف، وشراء خير ما في الأسواق ... كما تروي لنا ألف ليلة وليلة. •••
ويقول الاقتصاديون: إن الدينار والدرهم ليس لهما قيمة ذاتية، وإن قيمتهما بقدرتهما الشرائية، وكانت قيمتهما في عهد الرشيد كبيرة لا تقاس بما نحن عليه اليوم؛ فقد عثرت على قائمة بتثمين بعض الأشياء فيها أن الكبش كان يباع بدرهم، والجمل بأربعة دنانير، والتمر ستون رطلا بدرهم، والزيت ستة عشر رطلا بدرهم، والسمن ثمانية أرطال بدرهم، وكان الرجل يعمل في سور بغداد كل يوم بخمس حبات، وكان ينادى على لحم البقر في جبانة كندي تسعون رطلا بدرهم، ولحم الغنم ستون رطلا بدرهم، والعسل عشرة أرطال بدرهم، والأستاذ البناء بخمس حبات، ومن المعلوم أنه في أيامهم كانت الحبة ثلث درهم، والدانق سدس درهم، والدينار كانت تختلف قيمته تبعا لنقاء فضة الدراهم، أو عدم نقائها؛ فكان يساوي مرة عشرة، ومرة خمسة عشر، ومرة عشرين، وكان مقدار الدينار ذهبا يساوي ستين قرشا مصريا تقريبا ...
ثقافة الرشيد
وكان الرشيد مثقفا ثقافة عربية واسعة، علمه الأدب المفضل الضبي، والنحو الكسائي، وملأه الأصمعي طرفا من طرائفه الأدبية، وملحا من ملحه العربية.
وكان نديمه في الغناء إسحاق الموصلي، وتدلنا مناقشاته الكثيرة للعلماء والأدباء على بحر واسع في العلم والأدب.
وقد روي عنه أنه كان ينقد الشعراء في أشعارهم، وينقد المغنين في غنائهم، ويحصي غلطات هؤلاء وهؤلاء ، ومزايا هؤلاء وهؤلاء، كما كان من أدلة ذلك ما جمع له من الأصوات الممتازة التي اختارها أبو الفرج الأصفهاني، وبنى عليها كتابه الأغاني.
ولعل أكبر ما يدل على ثقافته وصيته المشهورة التي تقدم بها إلى الأحمر معلم ولده محمد الأمين، إذ قال: «يا أحمر، إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه، وثمرة قلبه، فصير يدك عليه مبسوطة، وطاعته لك واجبة، وكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين؛ أقرئه القرآن، وعرفه الأخبار، وروه الأشعار، وعلمه السنن، وبصره بمواقع الكلام وبدئه، وامنعه من الضحك إلا في أوقاته، وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه، ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه، ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة»، وهي وصية حكيمة، وضع فيها الرشيد منهج التعليم، ومنهج الأخلاق ... واتخذت على مر العصور مرشدا لكل من حاول التعليم، وأراد ممارسته. •••
ويروون أن الرشيد مرة دعا المفضل الضبي، والمأمون عن يمينه ومحمد الأمين عن يساره، قال المفضل فسلمت فأومأ إلي بالجلوس فجلست، فقال لي: «يا مفضل!» قلت: «لبيك يا أمير المؤمنين!» قال: «كم من الأسماء في فسيكفيكهم الله؟» فقلت: «ثلاثة أسماء يا أمير المؤمنين» قال: «وما هي؟» قلت: «الياء لله عز وجل، والكاف الثانية لرسول الله
صلى الله عليه وسلم ، والهاء والميم والواو للكفار» قال: «صدقت»، كذا أفادنا هذا الشيخ؛ يعني الكسائي، ثم التفت إلى الأمين، فقال له: «فهمت؟» قال: «نعم» قال: «أعد المسألة» فأعادها كما قال المفضل، قال الرشيد: «يا مفضل! هل عندك مسألة؟» قلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ قول الفرزدق:
أخذنا بأطراف السماء عليكم
لنا قمراها والنجوم الطوالع
قال الرشيد: «هيهات قد أفادنا هذا قبلك، فقد أخبرنا الشيخ - يعني الكسائي - أن لنا قمريها يعني الشمس والقمر، كما قالوا سنة العمرين يريدون أبا بكر وعمر.»
وذلك أنه إذا اجتمع اسمان من جنس واحد، وكان أحدهما أخف على أفواه القائلين غلبوه فسموا الأخير باسمه، فلما كانت أيام عمر أكثر من أيام أبي بكر، وفتوحه أكثر غلبوه، وسموا أبا بكر باسمه، وقد قال الله عز وجل:
بعد المشرقين فبئس القرين ، وهو المشرق والمغرب، قال المفضل: «بقيت مسألة» قال: «وما هي؟» قلت: «أراد بالشمس إبراهيم
صلى الله عليه وسلم
خليل الرحمن، وبالقمر محمدا
صلى الله عليه وسلم ، والنجوم الخلفاء الراشدين من آبائك الصالحين، وهو تفسير يرمي إلى نوع من النفاق، قال: «يا فضل بن الربيع احمل إليه مائة ألف درهم ومائة ألف لقضاء دينه»، إلى كثير من أمثال هذه الحكايات التي تدل جملتها على ثقافة واسعة، واستفادة من المفضل والأصمعي والكسائي وأمثالهم.»
ويروي المفضل أيضا أن الرشيد استدعاه، وسأله عن بيت من الشعر فأجاب وفق ما توقع الرشيد، فنزع الرشيد من يده خاتما قيمته ألف وستمائة دينار، فلما علمت الخيزران بذلك أعطته الألف والستمائة، وأخذت الخاتم منه، وردته إلى الرشيد؛ لأنه كان يعجب به، فرده الرشيد إلى المفضل، وقال له: «لا يليق بالخليفة أن يسترد ما أعطى»، فصفا له الألف والستمائة.
امتزاج الثقافات
وإلى جانب ذلك كان في عهد الرشيد اختلاط الثقافات كأنها جداول صغيرة تكون منها نهر كبير ... فأولا: كان من هذه الثقافات الثقافة الفارسية، وهي التي عظمت في الدولة العباسية مما ألفها عبد الله بن المقفع وأمثاله، وقد كسبت الثقافة الإسلامية العباسية من الفرس أشياء كثيرة منها الألفاظ اللغوية، وخاصة ما ليس للعرب عهد بمدلولاتها، مثل ألفاظ المأكولات الفارسية، والنباتات االفارسية، وضروب الملابس، والأثاث، والرياش ...
روي أن فارسيا ناظر عربيا بين يدي يحيى بن خالد البرمكي ... فقال الفارسي: «ما احتجنا إليكم قط في عمل ولا تسمية، ولقد ملكتم فما استغنيتم عنا بأعمالكم ولا لغتكم، حتى إن طبيخكم وأشربتكم ودواوينكم، وما فيها على ما سمينا ما غيرتموها كالاسفيداج، والسكباج، والدوغياج، وكالسكنجين، والخلنجين، والجلاب، وأمثالها، وكالروزنامج، والاسكدار وأمثالها» فسكت عنه العربي، فقال له يحيى بن خالد: قل له: «اصبر لنا نملك كما ملكتم ألف سنة، بعد ألف سنة كانت قبلها لا نحتاج إليكم، ولا إلى شيء كان لكم»، ونقرأ في كتاب البيان والتبيين للجاحظ، فنراه يستعمل ألفاظا كثيرة من أصل فارسي ... فيسمي الطريق إذا التقى فيها أربعة طرق «جهارسو»، والجهارسو فارسية، ويسمي السوق وازار، والوازار فارسية، وهكذا.
وثانيا: نقلوا كثيرا من كتب الأدب الفارسية الأصل ... وكثيرا من القصص الفارسية، ويحكون أن كتاب ألف ليلة وليلة أصله فارسي، وقد ترجم عبد الله بن المقفع كتاب كليلة ودمنة عن الفارسية، كما ترجموا عن الفارسية كتاب زرادشت المسمى افستا، ترجموه هو وما عليه من شروح، وقد ترجم الحسن بن سهل كتاب «جاويدان خرد» عن الفارسية. •••
هذا إلى أن كثيرا من الفرس كانوا قد أسلموا وتعلموا العربية، فكانوا ينقلون إلى العربية ما تعلموه من أفكار فارسية، كما نقل كثير من التوقيعات والحكم إلى العربية من غير نص عليها، بل لعل من كان من أصل فارسي كله أو بعضه - كبشار بن برد وأبي نواس - لهم معان مأخوذة من أصل فارسي، ومن رأي ابن خلدون: أن كثيرين من واضعي العلوم كسيبويه واضع النحو، وأبي حنيفة واضع الفقه، ونحوهما من أصل فارسي، وأن الفارسيين في هذا الباب أكثر من العرب، وسواء صح هذا أو لم يصح، فأقل ما يدل عليه أن كثيرا من الفرس وضعوا كثيرا من العلوم.
بل ذهب بعضهم إلى أن شعر أبي العتاهية لا يمت إلى العرب بصلة؛ لأنه ليس مناسبا لحياة الملوك وترفهم ونعيمهم في الحياة، وإنما هو شعر مستمد من الفارسية، وخصوصا من مذهب ماني الزاهد.
كذلك انتشرت الثقافة الهندية بدخول كلمات من الأصل الهندي إلى اللغة العربية، وقد سموا السيف مهندا أخذا من الهند، ومن أسمائهم النسائية: هند، وكليلة ودمنة الذي ترجم إلى العربية من الفارسية من أصل هندي، وكان هناك علماء من أصل هندي تثقفوا بالثقافة العربية، ونشروا الأفكار الهندية كابن الأعرابي؛ فقد رووا أن أباه زيادا كان من أصل هندي، كذلك نقل إلينا أن التجارة بين المسلمين في العهد العباسي والهند كانت واسعة النطاق في التوابل وأنواعها، وقد نقلت إلى العربية مدلولاتها وأسماؤها، وحكى لنا البيروني أنهم كانوا مهرة في الحساب والهندسة، وأن لهم طريقة تخالف طريقة اليونان، هذا إلى أن كثيرا من عقائدهم في الحلول ووحدة الوجود دخلت في التصوف الإسلامي. •••
وهناك ثقافة يونانية دخلت في الدول العربية منها ألفاظ كثيرة، كما دخلها الطب والفلسفة، وكان في بلاد العرب كثير من المثقفين بالثقافة اليونانية كعلماء حران والإسكندرية، وغير ذلك. نعم! إن العرب لم يستسيغوا الأدب اليوناني في القديم؛ لأنه يبعد كثيرا عن الأدب العربي، فلم يأخذوا منها كثيرا، وإن أخذوا منها الطب والمنطق والفلسفة.
والثقافة الرابعة الثقافة الرومانية من مثل ألفاظ التقطوها من الجواري الرومانيات ومن الرومانيين أثناء حروب المسلمين معهم، وأسرهم الأسارى منهم، وكان مما عني به في عهد الرشيد وخلفاء العباسيين عامة: الطب والتنجيم، فاتخذوهما من الوظائف الرسمية، وكان لكل خليفة طبيب خاص، ومنجم خاص. أما حاجة الخلفاء للطب فواضحة؛ إذ كان أكثر الخلفاء مرضى يحتاجون إلى طبيب يداويهم، ورووا أن المنصور كان مريضا بمعدته، ولم يستطع أطباؤه معالجته، فاستدعى طبيبا من جنديسابور هو جرجيس بن بختيشوع، وكانت مدرسة جنديسابور مدرسة عظيمة، وتعد مصدرا للثقافة اليونانية، ومركزا لنشر فلسفتها وعلومها، أسسها كسرى أنو شروان، وبناها على شكل القسطنطينية، واستجلب لها أطباء من الروم، ثم خلفهم من بعدهم من حل محلهم من أهل البلاد، وكان الذي أنشأه فيه بيمارستانات لمعالجة الفقراء، فلما جاء الرشيد استطب جبريل بن بختيشوع، وأمره بإنشاء بيمارستان ببغداد على نمط ما لجنديسابور، وكانت عائلة بختيشوع كلها نصارى نساطرة. •••
وطبيب الرشيد هو جبريل بن بختيشوع، وقد أراد الرشيد أول الأمر أن يمتحنه فأحضر له بولا مجهولا فقال جبريل: ليس هذا بول إنسان؛ لأنه ليس له قوام بول الناس ولا لونه ولا رائحته، وكان جبريل بن بختيشوع هذا مشهورا بالفضل، جيد التصرف في المداواة، علي الهمة، سعيد الجد، حظيا عند الخلفاء، رفيع المنزلة عندهم، تأتيه منهم الأموال العظيمة، ولما مرض جعفر بن يحيى بن خالد البرمكي - أيام رضاء الرشيد عنهم - استدعى جبريل بن بختيشوع هذا فعالجه، وشاء الله أن يبرئه في مدة ثلاثة أيام، ومرة تمطت حظية من حظايا الرشيد، ورفعت يدها فبقيت منبسطة، ولم ينفعها علاج الأطباء، ولا الأدهان ... فاستدعى جبريل فاستحضرها، وأراد أن يكشف عن ساقها فانزعجت الجارية، وحركت يدها، وبرئت، وكان الرشيد ينتصح بقوله فيما يأكل، ومقدار ما يشرب، وبلغ عنده منزلة عالية حتى قالوا: إنه كان كل من تقلد عملا من الرشيد لا يخرج إلى عمله إلا بعد أن يمر على جبريل، وقد ثار عليه العلوية لقربه من الرشيد حتى أرادوا أن يقتلوه، وعلى العموم كان طبيب القصر، وقد قال فيه أبو نواس:
سألت أخي أبا عيسى
وجبريل له عقل
فقلت: الراح تعجبني
فقال: كثيرها قتل
فقلت له: فقدر لي
فقال وقوله فصل
وجدت طبائع الإنسا
ن أربعة هي الأصل
فأربعة لأربعة
لكل طبيعة رطل
وقال له المأمون يوما:
أخي طبك يا جبري
ل ما يشفى ذوي العله
غزال قد سبا عقلي
بلا جرم ولا زله
الإيمان بالتنجيم
وأما التنجيم فكان الخلفاء يعتقدون أن للنجوم أثرا في أحداث الكون من موت وحياة وسعادة وشقاء وصحة ومرض وسعة وتقتير في الرزق، وغير ذلك، ونشأ في الناس الاعتقاد بهذا.
وكان من أكبر من أشاعه الشيعة، فنسب إليهم كثير من التنبؤ بالحوادث، وربما كان من أكبر الأسباب في ذلك دعايتهم لأنفسهم عن طريق التنبؤات، ونسب لعلي بن أبي طالب كثير من أخبار بني أمية وسقوطهم، وظهور بني العباس، وغير ذلك من الأحداث استنادا إلى قوله: «سلوني قبل أن تفقدوني.»
وقد نسبوا إليه تنبؤات بأحداث في الدولة الأموية والدولة العباسية، ومقتل الحسين، وخروج عائشة يوم الجمل، وخروج الأمر من العلويين إلى العباسيين، وأحداث السفاح، وبعض أحداث بني بويه، ونحو ذلك، ولكن يظهر أن أكثرها وضع بعد ظهور الحوادث، ثم أسندت إليه على أنها من التنبؤات.
وشاع بين الشيعة لأجل ذلك علم الجفر، وهو الذي حرف فيما بعد إلى «الشيفرة»، وسواء صحت هذه الأخبار أو لم تصح فإن الناس والخلفاء والأمراء كانوا يعتقدون فيها، ويبنون أعمالهم عليها، وكتاب الجفر هذا كان أصله أن هارون بن سعيد العجلي - وهو رأس الفرقة المعروفة بالزيدية - كان له كتاب صغير يعرف بالجفر، يرويه عن جعفر الصادق، وفيه أخبار عما سيقع لأهل البيت على العموم، ولبعض الأشخاص منهم على الخصوص، وكان مكتوبا عند جعفر على جلد ثور صغير، فرواه عنه هارون العجلي، وسماه الجفر، والجفر في اللغة هو الصغير، فصار هذا الاسم علما على هذا الكتاب عندهم، وشاع في الناس وتناقلوه، وزادوا عليه، وأنشأوا في ذلك ما يسمى بالملاحم، وهي أشعار تروى في أخبار دولة على الخصوص، أو دول على العموم، وأكثرها موضوع ... تروى فيه الحوادث الماضية صحيحة، ويرجع تاريخها إلى ما قبلها للدلالة على التنبؤ، أما ما يدل على المستقبل فغير صحيح غالبا. •••
ويروون أنه عثر في عهد المهدي على كتاب في الجفر يروي أن مدة حكم المهدي عشر سنوات، وشاع ذلك في الناس، فلما علم الربيع - وزير المهدي - قال: إن الخليفة المهدي لو علم ذلك لقتلنا، فاستدعى الوراقين، وأمرهم أن يكتبوا الكتاب، ويجعلوا بدل العشر أربعين، حتى يطمئن المهدي إلى مدة حكمه، وهكذا من باب طرق الوضع، وسبب ذلك على ما يظهر لي أن لبعض الناس قدرة على معرفة الغيب، ويسمون بالملهمين، إما عن طريق ما يسميه الإفرنج بالتليباثي، أو بالتنويم المغناطيسي، أو نحو ذلك مما لم يكتشفه العلم إلى اليوم ... وهذا لمعرفة الماضي والحاضر أو قراءة أفكار الإنسان. •••
أما معرفة المستقبل فلا أظن أن أحدا يعرفه؛ إذ قد استأثر الله بعلمه، والقرآن الكريم يقول على لسان النبي
صلى الله عليه وسلم : «ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء» فكيف بغيره، ولكن الناس تزيدوا، وابتدعوا طرقا كثيرة من قراءة الكف والودع، ونحو ذلك، واعتقدوا بتأثير النجوم، وكان بعض العلماء معتدلين في ذلك، فقد كان بعض الفلاسفة يعتدل في الاعتقاد بالتنجيم، ويعلل بعضه تعليلا معقولا، وذلك أن للشمس والقمر والنجوم أحداثا في الدنيا لا شك فيها كأثر الشمس في الفصول الأربعة، وأثر القمر في المد والجزر، وأثرهما معا في الرياح والسحاب والرعد والبرق، ثم لا ينكر أيضا أثر هذه البيئة الطبيعية في أبدان الناس، وأثر الأبدان في النفس ... •••
غاية الأمر أن بعض هذه الأحداث ناشئ عن حسابات بسيطة لحركات هذه الكواكب كخسوف القمر، وكسوف الشمس، وحساب المد والجزر، ونحو ذلك، وبعضها صعب الاستنتاج لصعوبة المشاهدات التي نبني عليها احتمالنا.
فإن بعض الأوضاع للنجوم لا يتكرر مرة ثانية في عمر الإنسان الواحد، ومرة واحدة لا تكفي لحكم صحيح، وحساب الحادثة الواحدة تسبقها إلى البروج كلها، وتأثير كل منها حساب عسير، فقد يحدث خطأ بسيط في حساب برج من البروج فيخطئ التنبؤ. •••
وعلى كل حال فقد شاعت بين الناس حوادث التنجيم والإيمان بها، واستغل المنجمون الناس حتى الخلفاء، وقد رووا أن المنصور تخير وقتا معينا لوضع الحجر الأساسي لبناء بغداد، وتخير الفاطميون بعد ذلك وقتا مناسبا لوضع الحجر الأساسي للقاهرة، وليست حادثة المعتصم بعيدة عن الأذهان؛ فقد نصح له المنجمون بالخروج إلى الحرب أيام نضج التين والعنب حتى يكون النصر، ولكن الحالة الحربية اضطرته إلى الخروج في غير هذا الوقت فانتصر، وقال أبو تمام في ذلك قصيدته البائية المشهورة:
السيف أصدق أنباء من الكتب
في حده الحد بين الجد واللعب
وكان الرشيد يؤمن بهذا التنجيم أحيانا، ويستمع إلى أخبار المنجمين، وتنبؤاتهم حتى رووا أن منجما يهوديا قال للرشيد: «إني أرى في أحكام النجوم أنك ستموت سريعا.»
فاغتم لذلك اغتماما شديدا، وأحضر جعفرا البرمكي ليسري عنه، فحضر ووجده كئيبا حزينا، فقال جعفر للمنجم: «أترى أن الخليفة يموت سريعا؟» قال: «نعم!» قال له: «وماذا تراه في نفسك؟» قال: «أرى عمري طويلا» قال: «اقتله يا أمير المؤمنين حتى يتبين كذبه» فقتله، واستراح الرشيد. •••
ولقد كان هذا التنجيم وسيلة لعلم الفلك، كما كان تحويل المعادن إلى ذهب سببا في تعرف قوانين الكيمياء الصحيحة، فقد رووا لنا أن محمد بن إبراهيم الفزاري صنع زيجا، ورووا أنه قدم على الخليفة المنصور رجل من الهند عالم بالحساب المعروف بالسند هند في حركات النجوم، وأمر المنصور بترجمة ذلك الكتاب إلى اللغة العربية، وأن يؤلف منه كتاب يتخذه العرب أصلا في حركات الكواكب، وبذلك ابتدأوا العلم بكثير من التخريف، وانتهوا به إلى التصحيح والتدقيق.
وظل أمر التنجيم إلى اليوم في التنبؤ بالسعادة لمن ولد في شهر كذا، والشقاء لمن ولد في شهر كذا، وفي اختلاف أخلاق من ولد في بعض الشهور عمن ولد في شهور أخرى، ونحو ذلك.
ولو كان هذا صحيحا لاطردت النتائج فيمن ولدوا في شهر واحد من سعادة أو شقاء أو سلوك، مع أنا نجد كثيرا من الفوارق بينهم ... ولكن هي طبيعة الإنسان تريد أن تخترق حجب الغيب، ويستغل الدجالون غريزة الاستطلاع عند الناس، والله أعلم.
تقدم العلوم
ولتسرب هذه الثقافات المختلفة والعناصر المختلفة إلى المسلمين ظهر أثر واضح هو تحول العلوم من أشكالها البسيطة الدائمة إلى قواعد علمية، وتسابق العلماء في ذلك، كل يريد أن يؤسس علما، وتشارك في هذا العمل علماء من العرب كالخليل بن أحمد الفراهيدي، وعلماء من الفرس كسيبويه، وأبي حنيفة، ومن الهنود كابن الأعرابي، وعلماء من المسلمين، وعلماء من النصارى، فكانت حركة غريبة حقا؛ فهذا النحو يتحول من نظرات بدائية ومسائل جزئية كالتي تروى عن أبي الأسود الدؤلي إلى علم تام وقواعد منظمة كالذي كان من الخليل وتلميذه سيبويه.
وهذا الفقه يتحول من مذهب مكون من جمع للحديث، واستنتاج منه إلى مذهب قياسي منطقي كالذي يضعه أبو حنيفة، وصاحباه أبو يوسف، ومحمد.
وهذه اللغة التي كانت تجمع كلمة فكلمة قد تم جمعها، وأخذوا يضعون معاجم في موضوعات خاصة كالخيل والإبل، ثم جاء الخليل بن أحمد هذا فوضع بكتابه «العين» أساس المعاجم اللغوية، وهذا الأدب الذي كان يروى قصيدة أو قطعة قطعة، أخذ يجمع في الكتب المطولة كالمفضليات للضبي، والأصمعيات للأصمعي، والنقائض لأبي عبيدة.
وهذا النقد الذي كان يعتمد على الذوق الفطري، فتنقد الكلمة إذا كانت نابية مثل كلمة بوزع، أو ينقد المعنى إذا كان سخيفا، كقول القائل:
هذا ابن عمي في دمشق خليفة
لو شئت ساقكم إلي قطينا
فينتقده عبد الملك بأن هذا يقال لعامل من عماله، وأن الشاعر لو قال لو شاء ساقكم ... لكان أحسن، فينقلب إلى نقد بقواعد، وقوانين كالذي فعل ابن سلام في طبقاته.
وهذا التاريخ الذي يعتمد على مجرد جمع الأخبار حيثما اتفق، يؤلف وينظم فيجعل لكل أمة موضعا، ولكل أمة حوادث حسب السنين، وما جرى فيها منظمة مرتبة.
وهذه الأنساب التي كانت في الصدور كتبت في السطور، ودونت تدوينا منظما كالذي فعل الكلبي في كتابه الجمهرة في الأنساب.
وهؤلاء رجال المحدثين الذين كان يكتب عنهم كلمة في تعديلهم أو تجريحهم كانت سببا في كتب التراجم الواسعة، يعتمد فيها على الأخبار، ومعرفة حياة كل مترجم له، ونحو ذلك، حتى لو قلنا إن كل طائفة من المعلومات انقلبت علما، ووضعت في قواعد، لم نكن بعيدين عن الصواب، فربما كانت معيشتنا في القرون التي أتت بعد، ليس إلا تردادا لما ذكروا، أو تعبيرا عنه بلغة العصور المختلفة، أو تفريقا لمجتمع، أو تجميعا لمفترق من غير كثير ابتكار.
يضاف إلى ذلك اختلاف المذاهب والنحل، وأخذها أيضا شكلا علميا؛ حتى إن المذاهب التي كانت سياسية: كالمرجئة، والخوارج، وأهل السنة، والشيعة، انقلبت إلى مذاهب دينية علمية تعلل تعليلا علميا، وتحلل تحليلا فلسفيا ... وتعددت المذاهب حسب العقليات، ومقدار الثقافة، والميول السياسية والدينية.
فهذا حر العقل واسع التفكير يذهب مذهب الاعتزال، وهذا يتقيد بالنص وينهج منهج الرواية والجمع فيكون محدثا، وهذا يحب عليا ويترحم على ابنه الحسين ويعطف بقلبه على من اضطهد من العلويين فيكون شيعيا، وهذا يحب أبا بكر وعمر ويمجد أعمالهما ويفضلهما على علي فيكون سنيا، وهذا يميل إلى منصب وجاه، وتقرب إلى الخلفاء بالمذهب فيكون عباسيا، وهذا بدوي لا يحب الرياسة ولا يميل إلى التأقلم ومتابعة الظروف فيكون خارجيا، وهذا يعتنق الإسلام ظاهريا والوثنية باطنيا ويكره العرب من صميم قلبه ويود رجوع دولة الفرس إلى حالتها الأولى، قبل أن يهزمهم العرب ويأخذوا بلادهم فيكون وثنيا، وهكذا، وهكذا ... من تعدد المذاهب، وتنوعها مما ليس له نظير في مجتمع آخر.
الأدب والأدباء
الأدب والشعراء
أوجدت العوامل التي ذكرناها في الفصل السابق نشاطا عقليا غريبا، وتناحرا بين الأديان المختلفة يشبه التناحر على العصبيات المختلفة، وأخذ العلماء يشرحون أنواع الأدب، ويرون أن الأدب والنقد نتيجة لبيئات مختلفة ... فصبها العلماء في العراق كلها صبا واحدا؛ فمثلا كان أدب الحجاز غير أدب الشام، غير أدب بغداد.
كان أدب الحجاز - بحكم تنحية الحجازيين عن السياسة في أيام العهد الأموي، وبحكم كثرة الغنائم وكثرة الفراغ - مجالا للترف والنعيم، ولذلك كان رافع لواء ذلك الأدب: عمر بن أبي ربيعة، وغزله، ثم ما تبعه من مدرسته تعمل عمله وتنقده.
وكان أدب الشام متأثرا ببيئته؛ إذ كانت دمشق عاصمة الخلفاء يأتيها الناس من كل فج عميق للمديح، وفيها التناصر السياسي، لهذا كان أغلب الشعر فيها مديحا وسياسة.
وكان العراق على حدود البادية؛ فكان الشعر فيها امتدادا للشعر الجاهلي، وأنشأوا فيها المربد يتسابقون فيه إلى الشعر كعكاظ، ويتحلقون حول جرير والفرزدق، فكان أدبهم من جنس الأدب الجاهلي: هجاء، وفخرا، واعتدادا بالعصيان، ونحو ذلك، فلما تحولت الحاضرة من دمشق إلى بغداد في العهد العباسي تغير الأدب؛ فأخذ الأدباء العباسيون يقفون في بغداد موقف الأمويين من دمشق والعكس، وكل الأدب الذي نتج من هذه البيئات صب جميعه في العراق بفضل ما جمعه العلماء، فكان كل ذلك أدبا عربيا يتولاه النقد.
ثم كانت الحياة الاجتماعية في العصر العباسي حياة جديدة تخالف الحياة في الحجاز والشام والعراق قبل العباسيين، وكان لا بد من زعماء جدد يشعرون بمواجهة الحياة الاجتماعية الجديدة، وهذا ما قام به بشار بن برد، وأبو نواس، وأمثالهم، وكما تأثروا بالحياة الاجتماعية تأثروا أيضا بالثقافات المختلفة التي فشت في عصرهم، فرأينا شعرا عن الأديرة، وشعرا عن عيد النيروز، وشعرا عن يوم الشعانين، وشعرا عن الأزهار الجديدة وغير ذلك، ولما ألبست زبيدة بعض الفتيات لبس الشبان أنشد أبو نواس شعر الغزل في المذكر استجابة لهذه الدعوة.
وحتى البيئات الخاصة كان لها أدب خاص؛ فقد كان جزء من العراق يعيش فيه الخوارج ... فشعروا شعرا على مذهبهم ، وقال قائلهم:
أيها المادح العباد ليعطي
إن لله ما بأيدي العباد
فاسأل الله ما طلبت إليهم
وارج فضل المقسم العواد
لا تقل في الجواد ما ليس خيرا
وتسم البخيل باسم الجواد
وسموا أحد شعرائهم شاعر المؤمنين، وشعراء الخليفة العباسي شعراء الكافرين ... فشعراء الخوارج يزنون الشعر بميزان الدين والأخلاق، بينما يزنه شعراء الخلفاء والأمراء بالميزان الفني البحت، ويجعلون أمامهم الشعر الجاهلي والنزعات الداخلية، كل هذا صب في العراق صبا، وتعدد المقلدون حسب هذه المذاهب المختلفة، فكان لنا العباس بن الأحنف يشبه عمر بن أبي ربيعة، وأبو نواس يشبه الوليد بن يزيد الأموي، والخوارج الأخيرون يشبهون الخوارج الأولين، وهكذا ...
التقدم اللغوي
وبلغت اللغة الذروة في عهد الرشيد؛ لنمو الثقافة والحضارة في عهده، وقد كان هارون ظلها الظليل، والمغدق على العلماء والشعراء والموسيقيين، ولقد أخذت علوم العربية في عهده نهضة جديدة اقترنت بأسماء الأصمعي، وأبي عبيدة، وأبي زيد، والفراء، والكسائي، وهؤلاء جميعا اتخذوا لغة البدو هي المثل الأعلى، والنموذج الرفيع، وكانوا دائما يقاومون لغة العامة في لحنهم، حتى أنكروا على الفراء أنه لحن بمحضر الرشيد، وأنه اعتذر عن ذلك بأن اللحن عند سكان المدن لازم لهم كالأعراب عند أهل البادية.
ولقد كان محببا إلى الخليفة أن يجالس النحاة، ويستمع إلى جدلهم ... وكان يقدر سلامة اللغة حق قدرها، ويدقق فيما لم يفهمه؛ فقد سمع الأصمعي يقول: «ما لاقتني بعدك أرض»؛ أي لم تمسكني، فلم يرتح حتى استفسر عنها، وكان مما حبب زبيدة إلى الرشيد فصاحتها وبلاغة أسلوبها، كالذي رؤي لها من خطابها للمأمون عندما قتل ابنها الأمين مما عد خير الكتب وأبلغها.
وكان الرشيد دقيق الفهم للعربية حتى كان يستطيع أن يفرق بين ماذا قلت أنا قاتل غلامك على سبيل الإضافة بمعنى قتلت غلامك، وبين أنا قاتل غلامك بالتنوين على معنى سأقتل غلامك، وكان يفرق بين قولك أنت طالق طالق طالق، وقولك أنت طالق وطالق وطالق، مما يدل على دقة الذوق.
وكان العلماء إذا اختلفوا في شيء، رجعوا إلى البدو يستفسرونهم، ويحكمون بينهم، وكانوا يصححون كثيرا مما يجري من اللحن على ألسنة العوام، وقد نسبوا إلى الكسائي كتابا في لحن العامة عمله لهارون الرشيد، وهو - وإن لم تكن نسبته صحيحة - فإنه يعد أقدم الآثار الأدبية في تنقية اللغة العربية، وهو يحتوي على نحو 102 غلطة من الغلطات التي تجري على ألسنة العوام، وقد بلغت تنقية اللغة العربية هذه ذروتها في لغة أبي نواس، نعم، كانت تأتي في شعره صيغ غريبة التصريف كتنوينه سنون وبنون ... واستعماله أحيانا جمع المذكر السالم بكسر النون بدل فتحها، وأخذ النحاة عليه قوله:
يا خير من كان ومن يكون
إلا النبي الطاهر الميمون
فقالوا: كان من الواجب نصب إلا النبي، وأكثر من ذلك تركه الإعراب أحيانا، واستعمال صيغ ماضية أحيانا، وقوله في بعض شعره يأتك بسكون الكاف على الوقف، وقوله:
كأن صغرى وكبرى من فقاقعها
حصباء در على أرض من الذهب
فانتقدوا صغرى وكبرى، على أنه - فيما يظهر - يأتي بهذه الأشياء لا على أنها لحن، بل يتعمدها تعمدا استصغارا لقواعد النحو، وكان في إمكانه تجنبها، ولكنه كان يهزأ بالنحو كما يهزأ بالعرب، وعلى العموم كان من كثرة الاحتكاك بين البدو والحضر في عهد الرشيد، ومجادلات العلماء، والمكافأة عليها بسخاء منه، وما منح من ذوق لغوي دقيق، حتى إن الأدوار الغنائية التي اختيرت له كانت كلها باللغة الفصحى.
وفي عصر الرشيد رويت لنا بعض القوالب الشعبية كالتي تسمي المزدوجة، وهو قالب شعري يؤلف فيه بيتان قصيران متحدا القافية ... وقد نظم عليه أبو العتاهية أرجوزته المشهورة في ذات الأمثال، قالوا: إنها تشتمل على أربعة آلاف حكمة ومثل، لم يصلنا منها إلا جزء صغير، واختار أبان بن عبد الحميد اللاحقي - معاصر أبي العتاهية - نفس القالب المطابق للمثنوي الفارسي، عندما نظم كليلة ودمنة، وافتتحه بقوله:
هذا كتاب أدب ومحنه
وهو الذي يدعى كليلة ودمنه
فيه احتيالات وفيه رشد
وهو كتاب وضعته الهند
وفي عهد الرشيد ظهر شاعر ثالث ... هو بشر بن المعتمر المعتزلي الذي زج به الرشيد في السجن بعض الوقت لتشيعه ... إذ نهج نهجا لم يسبق إليه في وضعه قصيدتين، قالهما في الإشادة بحكمة الله المتجلية في الحيوان، وقد رواهما الجاحظ في كتاب الحيوان، إلى غير ذلك ... كما ظهر في عصر المأمون المواويل كما سنذكر ...
على كل حال اختلطت هذه الثقافات كلها، وصبت في بغداد، وتأثر بهما المسلمون إلى حد كبير، وكانت الزينة العقلية في بغداد في عصر الرشيد، واختلف الناس في الاستفادة منها بمقدار عقولهم وظروفهم، هذا يميل إلى الفرس، وهذا يميل إلى الهند، وهذا يميل إلى اليونان، وهذا يميل إلى الرومان.
دروس وتجارب
وبعد هذه المرحلة كان هناك من المسلمين من يصح أن يسموه كتاب دوائر المعارف مثل الجاحظ وأمثاله، وكانت هذه الثقافات سببا كبيرا من أسباب ازدهار الحضارة الإسلامية، وحسن سمعة الرشيد، على أن للرشيد بجانب هذه الدروس العربية التي كان يتلقاها دروسا أخرى من النظام الفارسي، كان يتلقاها باللغة العربية من يحيى بن خالد البرمكي، والفضل بن يحيى، وجعفر، وأمثالهم، وكان يتلقى بالعربية من اليونانية عن جبريل بن بختيشوع طبه وفلسفته، إذ كان الطب ملونا باللون اليوناني.
وكانت هناك ثقافة تفوق ذلك كله، وهي تجاربه في الحياة مما كان يرى في قصر أبيه، وما كان يراه من الجواري المختلفة الأجناس حوله، ومن حروبه المختلفة، ومما كان يشاهده من أبيه المهدي أيام حروبه للزنادقة، وامتحانه لهم، وتوجيه التهم إليهم ومحاكمتهم، ومن الأيام القاسية التي قاساها أيام كان أخوه الهادي يريد حرمانه من ولاية العهد، وتولية ابنه. •••
وإذا كانت الحياة كلها دروسا؛ فقد كانت دروسه كثيرة من كثرة ما لاقى، وما شاهد، وما سمع، وتمت تجاربه بعد أن نكل بالبرامكة، وتولى هو ما كان لهم من سلطان، وما كانوا يحملون من تبعات، وكان له ذوق في الشعر حاد شديد، وكان ذواقا يطرب للشعر، فيجلس من اتكاء، أو يقف من جلوس، وإذا كره شاعرا غضب منه غضبا شديدا، وكان له مذهب خاص في الشعر؛ يقول أبو الفرج الأصفهاني في الأغاني: إن منصورا النمري ظفر بحظوته عند الرشيد؛ لأنه عرف مذهبه في الشعر، وهو أن يصل مدحه إياه بنفي الإمامة عن ولد علي، والطعن عليهم، وقد تعلم ذلك مما كان يبلغه من تقديم الرشيد لمروان بن أبي حفصة، وتفضيله إياه على الشعراء في الجوائز، فسلك في ذلك مسلك مروان، ونحا نحوه، وذلك مثل قوله:
خلوا الطريق لمعشر عاداتهم
حطم المناكب كل يوم زحام
ارضوا بما قسم الإله لكم به
ودعوا وراثة كل أصيد حام
أنى يكون وليس ذاك بكائن
لبني النبي وراثة الأعمام
الترجمة في عهد الرشيد
وفي عهد الرشيد عني العلماء أكثر مما كانوا من قبل بترجمة الكتب؛ ذلك أنه بدأت بشائر قليلة في الترجمة في عهد المنصور، فكان من جهة ممعودا يحتاج إلى أطباء ليعالجوه، ومن جهة أخرى كان ميالا إلى التنجيم؛ من كثرة ما خالط الشيعة، فلا يكاد يعمل عملا إلا استشار فيه المنجمين ... لذلك عني بالطب والنجوم، وقد كانت مدينة جنديسابور مشهورة بالطب من عهد كسرى، فاستقدم المنصور أحد أطبائها، وحمله على أن يقيم معهدا ببغداد كمعهد جنديسابور، كان هذا الطبيب يعرف اللغة اليونانية، والسريانية، والفارسية، والعربية، فلما رأى المنصور يقربه نقل له كتبا طبية من اليونانية غير التي ألفها باللغة السريانية، وعكف الناس على هذه الكتب، وقد قالوا: إن ابن المقفع نقل أيضا من كتب الفرس إلى العربية كتبا في المنطق والطب، كان الفرس قد نقلوها من اليونان.
فلما جاء المهدي كان الناس قد نضجوا بعض النضج في الترجمة؛ بفضل ما وضع في عهد المنصور، ولكنه شغل بحركة الزندقة؛ لأن المترجمين لم يقتصروا على ترجمة كتب الطب والتنجيم وغيرها، بل ترجموا أيضا كتب الزنادقة.
فلما فشت الزندقة في أيامه تفرغ لها، وقتل من اعتنقها من جهة، وأمر المتكلمين من جهة أخرى بالرد عليهم، وخصوصا المعتزلة.
وقد كانت نزعة الرشيد أقوى، وزمنه أهدأ، وماله أكثر، خصوصا وقد توافد على بغداد كثير من العلماء العارفين باللغات من السريان، والفرس، والهنود، والروم، وكان منهم من تعلم اللغة العربية؛ لأنها اللغة الرسمية للدولة، فحملهم على ترجمة الكتب، وقد توسعوا في الترجمة، وترجموا غيرها من فروع الفلسفة ... إذ كان الطب والتنجيم يعدان فرعين من فروعها، بجانب المنطق وما وراء الطبيعة، والطبيعة، وغير ذلك. •••
وكان الرشيد في حروبه الكثيرة مع البيزنطيين يفتح بلادا ومدنا تحتوي كتبا يونانية ورومانية كثيرة، فلم يكن يحرقها أو يبددها؛ بل ينقلها إلى بغداد في عناية ... من ذلك أنه عثر أثناء حروبه في أنقرة وعمورية على كثير من الكتب، فحملها إلى بغداد، وأمر طبيبه يوحنا بن ماسويه بترجمتها إلى العربية، كما أمر الحجاج بن مطر بترجمة كتاب إقليدس في الهندسة، وكانت ترجمته إلى العربية هذه لأول مرة، ثم ترجم فيما بعد ترجمة ثانية، وميزوا الأولى بأن أطلقوا عليها الترجمة الهارونية نسبة إلى هارون الرشيد.
وشاركه العظماء في ذلك؛ فيحيى بن خالد البرمكي أمر أيضا بترجمة كتاب المجسطي، ثم جاء بعد ذلك المأمون فاستغل ما ترجم قبله، وزاد عليه كثيرا، والناس على دين ملوكهم ... فلما رأوا المأمون يميل إلى ترجمة الكتب، وينفق على ترجمتها عن سخاء اتبعوا مذهبه، وقد ساعده على ذلك نضوب الحركة التي بدأت قبله، كما ساعده أيضا وجود جماعة من أحرار الفكر من المعتزلة حوله كأبي الهذيل العلاف والنظام.
وقد أبلى بلاء حسنا في هذه الترجمة السريانيون ... فقد كانوا أكثر اتصالا بالفلسفة من قبل العرب، وكانوا قد نقلوا كثيرا من الكتب اليونانية إلى اللغة السريانية، وكانوا يعلمون اللغة اليونانية في مدارسهم وأكثرها في العراق، فلما انتقل كرسي الخلافة إلى بغداد، ورأوا حاجة المتكلمين بالعربية إلى هذا العلم، حولوا ما نقلوا من السريانية إلى العربية؛ طلبا للرزق، وحبا في التقرب إلى الناطقين بالعربية.
حدة مزاج الرشيد
ولقد كان الرشيد مثقفا ثقافة واسعة، وكان كبير العقل عالي الهمة كريم النفس ... ولكنه من ناحيته العاطفية كان حاد المزاج؛ يكون في مجلس وعظ ودين فيتدين، ويفرط في التدين، ويصلي مائة ركعة في اليوم، ويحج ماشيا، ويكون في مجلس غناء أو شراب فيملكان عليه قلبه، ويرضي عن البرامكة فلا حد لرضاه، ويغضب عليهم فلا حد لغضبه، ويعفو حتى ليظن الظان أنه لا يعاقب، ويحلم حتى يعفو في مواضع العقاب، ويغضب فيخاف من حوله من الحديث معه؛ كالذي روي أنه لما عاد من حروب الروم بلغه أن نقفور نقض العهد الذي عهده، فخاف وزيره من إلقاء الخبر عليه، فأوعز للشعراء أن يخبروه بالخبر، فقال عبد الله بن يوسف:
نقض الذي أعطيته نقفور
فعليه دائرة البوار تدور
أبشر أمير المؤمنين فإنه
غنم أتاك به الإله كبير
فتح يزيد على الفتوح مؤيد
بالنصر فيه لواؤك المنشور
فلقد تباشرت الرعية أن أتى
بالغدر منه وافد وبشير
ورجت يمينك أن تعجل غزوة
تشفي النفوس مكانها مذكور
نقفور إنك حين تغدر إن نأى
عنك الإمام لجاهل مغرور
أظننت حين غدرت أنك مفلت
هبلتك أمك ما ظننت غرور
وقال أبو العتاهية:
تجلبت الدنيا لهارون بالرضى
وأصبح نقفور لهارون ذميا
وقال غيره:
لجت بنقفور أسباب الردى عبثا
لما رأته بغيل الليث قد عبثا
فلما علم عاد من وقته يحاربه، وهكذا العاطفة الحادة تكون كجو أمشير؛ هادئة في لحظة، ثائرة في لحظة ...
حظه أكبر من صفاته
وربما كانت شهرته أكبر منه، وحظه أكبر من صفاته، ولكنها الدنيا إذا أقبلت على أحد وهبته محاسن غيره، وإذا أدبرت عنه سلبته محاسن نفسه، والحق أن العشرة الأولين من الخلفاء العباسيين كانوا كلهم عظاما إذا استثنينا الأمين.
وكان لكل منهم ميزة في تأسيس الدولة العباسية، ورفع شأنها ... ولكن لم ينل أحد من الحظ ما نال الرشيد، وحتى الأمين لا نستطيع أن نصدق كل ما روي عن بلاهته وغفلته.
فقد وضع عليه القصاصون حكايات كثيرة لا تتفق مع ترشيحه للخلافة في ذلك العصر، ومع تربيته تربية دقيقة رباه بها الرشيد.
ولكن المؤرخين دائما مولعون بالاستهانة بمن سقط في الميدان، وإعلاء شأن من نجح فيه، ولو كان الأمين قد تغلب على المأمون لانعكست الآية من عصر إلى عصر ... خصوصا وأن التاريخ الأول للأمين وضع في عهد خصمه المأمون، وانتقل بعد ذلك.
مأساة البرامكة
البرامكة
وقد حمل أعباء الخلافة عن الرشيد في أول عهده البرامكة؛ فكان يرجع إليهم في كل أمر، ويحملون التبعات في كل شأن ... واتسع سلطانهم، وعلا شأنهم ، وقصدهم جميع الشعراء بالمدائح، وكانوا من حسن السياسة ما حببهم إلى الرعية، وكل من هذه الأسرة اتخذ له صنائع بما غمرهم من أموال.
والبرامكة هؤلاء ينتسبون إلى برمك، وبرمك هذا كان كاهن بيت النار في مدينة بلخ المسمى النوبهار، وهو معبد للديانة الزرادشتية، وكانت هذه الديانة مملوءة بالطقوس المعقدة وبالسحر وبالأسرار، فلما انتقلوا إلى الإسلام لم تخل صدورهم من آثار هذه العقيدة.
ولمرانتهم على النظم الفارسية الدقيقة، خدموا المدنية الإسلامية خدمة كبرى؛ بما نقل إليهم ولهم من كتب الفرس القديمة وعاداتهم وتقاليدهم، كالتي نقلها الجاحظ في كتاب التاج.
ووضعوا أيديهم على مال الدولة كله ... حتى كان من شأنهم إذا أرادوا أن يتصرفوا في شيء منه، وجدوه تحت أيديهم، وإذا أراد الرشيد وقصره أن يتصرف رجع في ذلك إليهم، وكان أول من ظهر منهم في الإسلام خالد البرمكي، وعلا شأنهم في عهد الرشيد على يد يحيى بن خالد.
ثم كان أن دخل في القصر عدوهم اللدود الفضل بن الربيع، وقد جهدت الخيزران في إبعاده عن القصر، وهو رجل نشأ على الدس، وإعمال الحيلة ... وورث الدس عن أبيه الربيع؛ فقد كان الربيع سببا في أن يقتل المنصور أبا أيوب المورياني، وقد جاء القصر فوجد البرامكة قد وضعوا أيديهم على كل شيء في الدولة.
فكيف الخلاص منهم والرشيد نفسه خاضع لإرادتهم؟ ولكن لا بأس ... فليعمل الفضل الحيلة في إغضاب الرشيد عليهم، وكان الفضل شديد الكبر، شديد الغيرة من البرامكة، لا يبلغ مبلغهم في علم ولا نبل ولا فضل ... فحسدهم، وتمنى زوال نعمتهم، فكان يوما يدس إلى الرشيد أن البرامكة يعملون للوصول للخلافة، ويوما يدس إليه أن البرامكة ملاحدة وثنيون، يحنون إلى دين أبيهم القديم؛ بدليل أن قصورهم فيها مخابئ تحت الأرض، تحوي الشعائر القديمة الزرادشتية، فهم يتعبدون فيها خفية عن الناس، ويوما يحذره من البرامكة بأنهم يؤيدون العلويين سرا، ويودون نقل الخلافة إليهم، ويوما يوعز إلى مغن أن يغني الرشيد بهذين البيتين:
ليت هندا أنجزتنا ما تعد
وشفت أنفسنا مما تجد
واستبدت مرة واحدة
إنما العاجز من لا يستبد
ويوما يوعز إلى من يرسل إليه قصيدة من غير توقيع يقول فيها:
هذا ابن يحيى قد غدا مالكا
مثلك ما بينكما حد
أمرك مردود إلى أمره
وأمره ليس له رد
وهكذا، وهكذا من أساليبه الخفية الشريرة، تعاونه على ذلك السيدة زبيدة زوجة الرشيد بأحاديثها في الليل مع زوجها، والطعن على البرامكة؛ وقد كانت تكرههم، وتود زوال سلطتهم؛ حبا في الرشيد، ورجوع السلطة إليه وإليها.
نكبة البرامكة
فلما اعتزم الرشيد أن ينكب البرامكة، كان قد قرر بعد طول التفكير أن لا يظهر ذلك لأحد ... نادى جعفر بن يحيى - كالمعتاد - وسلم عليه فرد السلام أحسن رد، ورحب به، وضحك في وجهه، وأجلسه في مرتبته، وكانت مرتبته أقرب المراتب إلى أمير المؤمنين، ثم حدثه وضاحكه، فأخرج جعفر الكتب الواردة عليه من النواحي فقرأها عليه، وأخذ رأي الرشيد فيها، وقضى حوائج الناس، ثم استأذنه جعفر في الخروج إلى خراسان في يومه هذا، فدعا الرشيد بالمنجم - كالعادة - فقال المنجم: هذا يوم نحس، وهذه ساعة نحس. ولا يبعد أن يكون الرشيد اتفق مع المنجم على ذلك ليصده عن السفر.
ومع ذلك فكان جعفر يعلم أيضا شيئا من التنجيم، فأخذ الإسطرلاب من يد المنجم، وقام وحسب النجوم فرآها حقا ساعة نحس، ثم قام وانصرف إلى منزله، والناس والقواد والخاصة والعامة يعظمونه من كل جانب، إلى أن وصل إلى قصره في جيش عظيم، فلم يستقر به المجلس حتى بعث إليه الرشيد مسرورا الخادم، وقال له: «امض إلى جعفر، وائتني به الساعة، وقل له: وردت كتب من خراسان، والخليفة يريد رأيك فيها، فإذا دخل الباب الأول فأوقف الجند، وإذا دخل الباب الثاني فأوقف الغلمان، وإذا دخل الباب الثالث فلا تدع أحدا يدخل عليه من غلمانه، بل يدخل هو وحده، فإذا دخل صحن الدار فمل به إلى القبة التركية، ثم اضرب عنقه، وائتني برأسه. ولا توقف أحدا من خلق الله على ما أمرتك به ، ولا تراجعني في أمره، وإن لم تفعل أمرت من يضرب عنقك» فمضى مسرور، واستأذن على جعفر، ودخل عليه، وقد نزع ثيابه يستريح، فقال له: «يا سيدي أجب أمير المؤمنين!» فانزعج، وقال: «ويلك يا مسرور! أنا خرجت من عنده في هذه الساعة فما الخبر؟» قال: «وردت كتب من خراسان تحتاج إلى النظر السريع» ... فطابت نفسه، ودعا بثيابه فلبسها، وتقلد سيفه، وذهب معه ... وفي قلبه بعض الشك.
فلما دخل من الباب الأول أوقف مسرور الجند، وفي الباب الثاني أوقف الغلمان، فلما مر من الباب الثالث التفت فلم ير أحدا من غلمانه فندم على ركوبه، وزاد الخوف في نفسه، وأدخل القبة فقال لمسرور: «ما الخبر؟!» قال له: «قد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك، وحمل رأسك إليه الساعة» فبكى جعفر، وجعل يقبل يدي مسرور، ويقول: «قد علمت كرامتي لك دون جميع الغلمان، وأنت تعرف موضعي ومحلي من أمير المؤمنين؛ فلعل أمير المؤمنين أن يكون قد بلغه عني باطل فدعني أهيم على وجهي» فقال: «لا سبيل إلى ذلك» ... قال: «فاحملني إليه، وأوقفني بين يديه؛ فلعله إذا وقع نظره علي أن تدركه الرحمة فيصفح عني» قال: «لا سبيل إلى ذلك أيضا» قال: «فتوقف عني ساعة، وارجع إليه، وقل له: قد فرغت مما أمرتني به» فقبل منه ذلك بعد أن حل سيفه ومنطقته وأخذهما، ومضى مسرور، ووقف بين يدي الرشيد فرآه غاضبا أشد الغضب، فلما رآه قال متلهفا: «ماذا فعلت بأمر جعفر؟» قال «يا أمير المؤمنين أنفذت أمرك فيه» قال الرشيد «فأين رأسه؟» قال: «في القبة» قال: «فأتني برأسه الساعة.»
وقال مسرور لجعفر: «قد أمرني أمير المؤمنين بضرب عنقك ...»
فرجع مسرور، وجعفر يصلي؛ فسل سيفه الذي أخذه منه، وضرب عنقه، وأخذ رأسه بلحيته، وطرحه بين يدي أمير المؤمنين، فتنفس الصعداء؛ لأنه أنفذ تدبيره الذي أحكمه، وبكى بكاء شديدا على الصداقة الوثيقة التي كانت بينهما، وجعل ينكث الأرض، وقبض على أبيه وأخيه وجميع أولاد البرامكة، وغلمانهم ومواليهم، واستباح ما عندهم، ووجه مسرورا إلى المعسكر فأخذ جميع ما فيه من مضارب وخيام وسلاح، وقد أحصوا من قتله الرشيد من غلمانهم ومواليهم بنحو ألف إنسان، وأمر أن لا يرجع أحد من صنائعه إلى وطنه خوف أن يشبوا ثورة، وشتت شمل من بقي في البلاد.
وأتي بصبيين كانا ولدي جعفر، وكانا حسنين جميلين، فاستنطقهما فوجدهما فصيحين يتكلمان بلغة مدنية جميلة، وينطقان بفصاحة هاشمية، ثم أمر بضرب عنقهما، وأمر أن لا تذكر البرامكة في مجلسه، ولا يستعان بمن بقي منهم في بغداد، ولكن زبيدة والفضل بن الربيع وغيرهما لم يطمئنوا إلى ذلك، ويحيى باق والفضل يعيش، فإذا خرجا من السجن فربما دبرا الانتقام ممن كان السبب، فدسوا - وخصوصا زبيدة - ورقة تحت مصلى الرشيد، وفيها مدح للرشيد على عمله مع البرامكة، وتحريض على المضي في هذه السبيل إلى آخرها؛ فشدد على يحيى - وكان شيخا كبيرا - وزاد في حديده وأغلاله، وأحضر الفضل، وضربه سياطا حتى كاد أن يهلكه. •••
وتذكر يحيى مرة صلته القديمة بالرشيد فكتب إليه:
بسم الله الرحمن الرحيم ... إلى أمير المؤمنين، ونسل المهديين، وإمام المسلمين، وخليفة رسول رب العالمين، من عبد أسلمته ذنوبه، وأوقعته عيوبه، وخذله شقيقه، ورفضه صديقه، وخانه الزمان، وأناخ عليه الخذلان، ونزل به الحدثان ... فصار إلى الضيق بعد السعة، وعالج الموت بعد الدعة، وشرب كأس الموت مترعة، وافترش السخط بعد الرضا، واكتحل بالسهر بعد الكرى.
يا أمير المؤمنين ... قد أصابتني مصيبتان: الحال والمال؛ أما المال فمنك ولك، وكان في يدي عارية منك، ولا بأس برد العواري إلى أهلها، وأما المصيبة بجعفر؛ فبجرمه وجرأته، وعاقبته بما استخف من أمرك، وأما أنا فاذكر خدمتي، وارحم ضعفي، ووهن قوتي، وهب لي رضاك؛ فمن مثلي الزلل، ومن مثلك الإقالة، ولست أعتبر ... ولكني أقر، وقد رجوت أن أفوز برضاك، وتقبل عذري، وصدق نيتي، وظاهر طاعتي، ففي ذلك ما يكتفي به أمير المؤمنين، ويرى الحقيقة فيه، ويبلغ المراد منه.
فوقع الرشيد على هذا الخطاب بالآية الآتية: بسم الله الرحمن الرحيم
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ، فيئس يحيى، وظل في السجن حتى مات ... ولئن كانت هذه الرواية أشبه أن تكون موضوعة، فهي تمثل الحال تمام التمثيل. •••
وقد يكون الفضل بن الربيع والرشيد معذورين في بعض ذلك؛ لأنهما رأيا أن الدولة العربية تزول شيئا فشيئا، حتى لم يبق للعرب في المملكة سلطان، وأن السلطة تزيد في الفرس يوما فيوما حتى قبض البرامكة على كل ما للدولة من شئون.
قد يضاف إلى ذلك ما يروي بعض المؤرخين من أن الرشيد كان لا يستغني عن جعفر والعباسة، فعقد له عليها؛ حتى يحل اجتماعهما، وأمر أن لا يمسها فتعهد له بذلك، ثم طغى عليهما سلطان الغرام، ولسنا نذهب إلى ما ذهب إليه ابن خلدون من استبعاد هذا؛ فهذه عاطفة إنسانية يقع فيها الشريف والوضيع، والغني والفقير، وكم سمعنا بمثل ذلك في كل العصور، وسلطان الحب فوق كل سلطان، إنما نستبعد ذلك من ناحية أخرى، وهي أن هذا لو كان السبب ... لفتك الرشيد بجعفر البرمكي وحده دون يحيى الشيخ، ودون إخوة جعفر.
فلا بد أن يكون السبب مشتركا، ولسنا نجد سببا مشتركا إلا حيازتهم للسلطة، خصوصا وأن مسرورا الخادم قد سأله بعض الخلفاء بعد ذلك عن حادث جعفر والعباسة، فنفاها نفيا باتا، ولمح إلى أن السبب هو السلطة، وقد كان الرشيد تنازل لهم عن كل سلطان، فولي جعفر الغرب كله من الأنبار إلى إفريقية، وقلد الفضل المشرق كله من النهروان إلى أقصى بلاد الترك، وهما ينيبان عنهما من أرادا ... والناس إذا رأت السلطان في يد توجهت إليها بالاستجداء والمديح والملق، وكذلك كان شأن البرامكة.
فكان الشعراء يقفون ببابهم أكثر من الشعراء الذين يقفون على باب الرشيد، وقد منح البرامكة سماحة وكرما، وصفهم إبراهيم الموصلي فقال: «أما الفضل فيرضيك بفضله، وأما جعفر فيرضيك بقوله، وأما محمد فيفعل بحسب ما يجد، وأما موسى فيفعل ما لا يجد»، وكما أسروا الناس بحسن صنيعهم أسروهم ببلاغتهم، ومأثور كلامهم، وحسن توقيعهم، حتى تناقلت كتب البلاغة عباراتهم.
إشاعات مغرضة
وقد فكر الرشيد طويلا في الإيقاع بهم؛ لعظم مكانتهم ، وخوفه من الثورة عليه من أجلهم، فكان مما احتاط أن يشيع بين الناس كفرهم وزندقتهم، وأنهم يظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر، وأن عندهم بعض بقايا من الآثار الوثنية ونحو ذلك حتى تكرههم العامة، فأوعز - مثلا - إلى الأصمعي أن يقول فيهم ما يحط من شأنهم كالذي قال:
إذا ذكر الشرك في مجلس
أضاءت وجوه بني برمك
ولو تليت بينهم آية
أتوا بالأحاديث عن مزدك
وأشاع في الناس أنهم زنادقة، حتى إن يحيى بن خالد لما نقل من سجن إلى سجن، اعتدى عليه رجل، وأظهر له الاحتقار، فخاف يحيى أن يكون قد ظلمه، أو بخل عليه ... فبعث إليه من يسأله، فلما علم أنه يرميه بالزندقة اطمأن إلى ذلك؛ لأنه علم أنها دسيسة عليه، وبذلك وأمثاله أوجد الرشيد حول البرامكة جوا مسمما.
وربما كان من ذلك ما أشاعه عن علاقة جعفر بالعباسة، ووعد جعفر للرشيد بأن لا يقربها؛ لأنه إلى ذلك العهد كانت الغيرة فاشية في الناس، فلما نكل بهم الرشيد لم يثر الناس وقابلوا الأمر بالهدوء.
ولولا نشاط الدعاية ضدهم لثار الناس على الرشيد، وفتكوا به إن استطاعوا، وكان يحيى البرمكي يحذر هذه النتيجة، ويعمل على قصر سلطان جعفر؛ فقال للرشيد غير مرة: «يا أمير المؤمنين، إنني أكره مداخل جعفر، ولست آمن أن ترجع العاقبة علي في ذلك منك، فلو أعفيته، واقتصرت على ما يتولاه من جسيم أعمالك لكان أحب إلي، وأولى بتفضلك» فلم يقبل الرشيد هذا، وكثيرا أيضا ما كان يحيى يقول: «الحكيم من توقع الشر»، ويقول: «لا أرحام بين الملوك وبين أحد» خصوصا وأنه علم أن الرشيد يصغي إلى الفضل بن الربيع. وقد أحكم الرشيد فعلته، ونشر الجواسيس يتجسسون على من يمدحون البرامكة، ويبكون عليهم، ويقطع رأس من بلغه شيء عنه، حتى خشي الناس، وأنكروا الصنيع.
وأسدل الستار على هذه القتلة الشنعاء ... هذا في نظري أهم سبب لقتل البرامكة، وهو غيرة الرشيد من سلطانهم وتحكمهم فيه، وعلو شأنهم على شأنه، أما ما عداه من الأسباب فأسباب ثانوية، وقد أولع المؤرخون أن يجعلوا لكل شيء كبير سببا واحدا؛ فلا بد أن يكون لغضب الرشيد على البرامكة سبب واحد، وإذا كان أبو العلاء المعري في شعره كافرا أحيانا مؤمنا أحيانا، فلا بد أن يكون كافرا فقط، أو مؤمنا فقط، فلذلك وقعوا في العناء والأخطاء.
وماذا يجري للدنيا لو كانت هناك أسباب مختلفة تنتج سببا واحدا؛ فقد عمل على إسقاط الدولة الأموية أسباب عديدة، وأبو العلاء بكل بساطة مؤمن حينا كافر حينا، شأنه في ذلك شأن أكثر العقلاء في الحياة؛ يرون من مظاهر الدنيا ما يحملهم على الكفر أحيانا، ويرون منها ما يحملهم على الدين أحيانا، بل حكى لنا الغزالي في كتابه «المنقذ من الضلال» أنه آمن إيمان العجائز أحيانا، وشك أحيانا، وآمن بالكشف أحيانا، فلم لا تكون نكبة البرامكة ناتجة من جملة أسباب لا سبب واحد، أولها: غيرة الرشيد من سلطانهم، وثانيها: عطفهم على العلويين، وثالثها: علاقة جعفر بالعباسة، إلى غير ذلك، على أنه ما يدرينا لعل الرشيد نشر في الناس علاقة جعفر البرمكي بأخته ليستثير كره الناس لهم، ويستخرج غضبهم ومقتهم، وإلا فلو نظرنا إلى المسألة بالعين العادية لم نجد فيها محلا للغضب والمقت.
حتى ولو صح فما في هذا مأخذ على شاب يألف زوجته، ويتصل بها.
قاتل الله السياسة
وليس قدر جعفر ولا أصوله بأقل من قدر الرشيد نفسه وأخته، إلا أن الرشيد فخور بعربيته، وجعفرا فخور بفارسيته، والرشيد فخور بابن عباس ... وجعفر فخور بجده برمك، والإسلام يقول: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم»، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى، ولو خطب الرشيد لأخته ما عثر على مثل جعفر، ولكنها السياسة أرادت أن تكره الشعب في البرامكة؛ فاخترعت لها اختراعات متعددة من مثل هذا الزواج الذي ليس فيه ما يؤخذ عليه، ورميهم البرامكة بالزندقة، ونحو ذلك ... وكلها خوفا من الناس أن يثوروا على الرشيد لفتكه بقوم عدول في حكمهم، كرماء لقصادهم، محبين لمن يتصل بهم ... وقاتل الله السياسة! •••
على كل حال غضب الرشيد عليهم من كثرة ما سمع من الفضل بن الربيع، ومن زبيدة وأنصارهما، ونوى أن يسلبهم سلطانهم، ويسترد تصرفه كما يشاء، وأخذ يستشير غيرهم من مثل يزيد بن مزيد الشيباني، وهرثمة بن أعين، فأخذ الرشيد يتغير قلبه على البرامكة، ويستقبح منهم ما كان يستحسن، فحدثنا الجهشياري، أن الرشيد سمع مرة ضجة شديدة، فقال: ما هذا؟ فقيل له: يحيى بن خالد ينظر في أمور المتظلمين، فدعا له الرشيد، وقال: «بارك الله فيه، وأحسن جزاءه ... فقد خفف عني، وحمل الثقل دوني، وناب منابي»، ثم ذكره ذكرا جميلا ... وأمن الحاضرون على قوله، وزادوا في ذكر محامده.
هذا أيام الرضا ... أما حين تغير قلبه فقد ارتفعت ضجة شديدة كتلك، فقال الرشيد: ما هذا؟ فقيل: يحيى بن خالد ينظر في أمور المتظلمين ... فذمه، وسبه، وقال: «فعل الله به، وفعل ... استبد بالأمور دوني، وأمضاها على غير رأيي، وعمل بما أحبه دون محبتي، فأمن الحاضرون على رأيه، وزادوا في ذكر المساوئ.»
ودخل يحيى مرة أخرى على الرشيد، وهو خال فانتظر قليلا ... فلم يفتح له حديثا فاستأذن وخرج، فقال الرشيد لبعض الخدم: الحق بيحيى ... فقل له: «خنتني فاتهمتني» فقال للرسول: «تقول له يا أمير المؤمنين، إذا انقضت المدة كان الحتف في الحيلة ... ووالله ما انصرفت عن خلوتك إلا تخفيفا عنك.» •••
ومما يؤيد رأينا في أن السبب الأكبر في نكبة البرامكة غيرة الرشيد منهم، وحبه لاسترجاع سلطانهم وأموالهم ... ما رواه الجهشياري من أن يحيى لما أحس من الرشيد تغيره عليه ركب إلى صديق له من الهاشميين، فشاوره في هذا الموقف، فقال له الهاشمي: إن أمير المؤمنين قد أحب جمع المال، وقد كثر ولده ... فأحب أن يجمع لهم الضياع، فلو نظرت إلى ما في أيدي أصحابك من ضياع وأموال فجعلتها لولد أمير المؤمنين، وتقربت بها إليه رجوت لك السلامة.
فهذا يدل على أن من أكبر أسباب غضب الرشيد على البرامكة أيضا حسده لهم وطمعه في أموالهم.
وليس المال يقصد لذاته، وإنما يقصد للسلطان والعظمة ... فإذا طمع الرشيد في مالهم فطمعه في سلطانهم أشد، وهذا يؤيد ما ذهبنا إليه، خصوصا وأن الرشيد قد كبر وفهم المسئولية وقدر عليها، فأراد أن يزحزحهم عن سلطانهم، ويحل محلهم.
وقد أخذ الرشيد من كل ما فكر وشاور يقضي على البرامكة قضاء شنيعا؛ فقتل بعضهم، وسجن بعضهم إلى أن يموت، وقتل من تولاهم من الشعراء، ومن كان يقف ببابهم، وتنتهي بذلك دولة البرامكة، ويسترد الرشيد سلطانه، ويعيد إلى نفسه سلطانهم وعظمتهم.
الناس قسمان!
والناس في كل زمان ومكان ينقسمون إلى قسمين: قسم - وهم الأغلب - يميلون مع الريح كيف تميل، لهم قدرة على شمها من أين تأتي، فهم يتجهون معها كلما هبت من ناحية، لا بأس أن يتجهوا في الصباح اتجاها وفي المساء اتجاها آخر مناقضا، لا يحركهم إلا ترقبهم لمصلحتهم الشخصية، فإذا قال رئيسهم: أسود قالوا: أسود ... وإذا قال: أبيض قالوا أبيض، لا يقمعهم ضمير، ولا تصدهم أخلاق، وقسم - وهو القليل - وفي ثابت على مبدأ ... يحتمل العذاب في سبيل ثباته، ليس عبدا للمال، ولكنه عبد للضمير.
وقد كان هذا شأن الناس مع البرامكة ... فمنهم من جحد فضلهم، وانقلب عليهم بمجرد أن أحسوا غضب الرشيد عليهم، أو تملقا للفضل بن الربيع؛ لأنه كان يتوقع انتصاره، كالذي يقول:
قل للخليفة ذي الصنا
ئع والعطايا الفاشيه
وابن الخلائف من قري
ش والملوك العاليه
رأس الأمور وخير من
ساس الأمور الماضيه
إن البرامكة الذي
ن رموا لديك بداهيه
عمتهم لك سقطة
لم تبق منهم باقيه
فكأنهم مما بهم
أعجاز نخل خاويه
صفر الوجوه عليهم
خلع المذلة باديه
مستضعفون مطردو
ن بكل أرض قاصيه
ومنازل كانوا بها
فوق المنازل عاليه
أضحوا وكل مناهم
منك الرضا والعافيه
وكالذي يقول على لسان الرشيد:
يا آل برمك إنكم
كنتم ملوكا عاتيه
فعصيتم وطغيتم
وكفرتم نعمائيه
أجرى القضاء عليكم
ما خنتموه علانيه
من ترك نصح إمامكم
عند الأمور الباديه
أما الآخرون فكالذي يقول:
إن البرامكة الكرام تعلموا
فعل الكرام فعلموه الناسا
كانوا إذا غرسوا سقوا وإذا بنوا
لم يهدموا مما بنوه أساسا
وإذا هم صنعوا الصنائع في الورى
جعلوا لها طول البقاء لباسا
ومن هذا القسم الثاني ما روي عن أبي زكار الأعمى - وكان شاعرا مغنيا - وقد ذكروا أنه كان منقطعا للبرامكة يشعر فيهم ويغنيهم ... وكم بكى على مقابرهم بعد موتهم، وقد روى الأغاني أنه لما أمر الرشيد بقتل جعفر بن يحيى، دخل عليه مسرور الخادم فوجد عنده أبا زكار الأعمى، وكان يغنيه بالأبيات الآتية:
فلا تبعد فكل فتى سيأتي
عليه الموت يطرق أو يغادي
وكل ذخيرة لا بد يوما
وإن بقيت تصير إلى نفاد
وهل يغني من الحدثان شيء
فديتك بالطريف وبالتلاد
فلما أراد أن يقبض على جعفر قال له أبو زكار: «ناشدتك الله إلا ألحقتني به» فقال له مسرور: «وما رغبتك في ذلك؟» فقال: «إنه أغناني عمن سواه بإحسانه، فما أحب أن أبقى بعده»، وحكى مسرور ذلك للرشيد فقال: «هذا رجل فيه مصطنع، فاضممه إليك فانظر ما كان يجريه عليه جعفر فأتممه له»، وهي رواية تخالف بعض الشيء الرواية السابقة في مقتل جعفر.
كما كان من الأوفياء كثير من الصالحين والشعراء، فيروون أنه لما بلغ سفيان بن عيينة - الإمام المشهور - خبر جعفر وقتله وما نزل بالبرامكة، حول وجهه إلى القبلة، وقال: «اللهم إنه كفاني مؤنة الدنيا، فاكفه مؤنة الآخرة.»
ورثاهم كثير من الشعراء، فقال الرقاش:
هدأ الخالون من شجو فناموا
وعيني لم يلامسها منام
وما سهري لأني مستهام
إذا أرق المحب المستهام
ولكن الحوادث أرقتني
فلي سهر إذا هجد النيام
أصبت بسادة كانوا نجوما
بهم نسقى إذا انقطع الغمام
على المعروف والدنيا جميعا
ودولة آل برمك السلام
فلم أر قبل قتلك يا ابن يحيى
حساما فله السيف الحسام
أما والله لولا خوف واش
وعين للخليفة لا تنام
لطفنا حول جذعك واستلمنا
كما للناس بالحجر استلام
وقال دعبل الخزاعي:
ولما رأيت السيف صبح جعفرا
ونادى مناد للخليفة يا يحيى
بكيت على الدنيا وأيقنت أنما
قصارى الفتى فيها مفارقة الدنيا
وقال صالح بن طريف:
يا بني برمك واها لكم
ولأيام لكم مقتبله
كانت الدنيا عروسا بكم
وهي اليوم شلول أرمله
وقد صودرت أموالهم، وأصبح من لم يقتل منهم يستجدي، وشوهدت أم جعفر تستجدي غنيا يوم الأضحى؛ فسألها عن حالها، فقالت: «والله لقد جاء علي يوم مثل هذا وعندي أربعمائة وصيفة، وأنا أستقلهن، وأذبح الذبائح الكثيرة، وأوزع اللحوم، واليوم لا أملك إلا فروتين أفترش إحداهما وألتحف بالأحرى، وهكذا تعامل الأيام!»
وكان للبرامكة حفيد اشتهر بالشعر والظرف يلقب جحظة البرمكي، وهو أحمد بن جعفر بن موسى بن يحيى البرمكي، وكان يستجدي الأمراء بعد أن كان الشعراء يستجدون آباءه، ويعتز بالنسب إليهم، ويبكيهم على ما فعلت الدنيا بهم كقوله:
أنا ابن أناس مول الناس جودهم
فأضحوا حديثا للنوال المشهر
فلم يخل من إحسانهم لفظ مخبر
ولم يخل من تقريظهم بطن دفتر
وقوله:
أصبحت بين معاشر هجروا الندى
وتقبلوا الأخلاق من أسلافهم
قوم أحاول نيلهم فكأنما
حاولت نتف الشعر من آنافهم
هات اسقنيها بالكبير وغنني
ذهب الذين يعاش في أكنافهم
واشتد الرشيد على البرامكة شدة ليس فيها تسامح، ولا لين، ولا كرم؛ فقد نهى عن ذكر اسمهم، وعن وقوف الشعراء ببابهم أو مقابرهم، وعن رثائهم، ولعل عذره في ذلك أن البرامكة كانوا قبضوا على زمام كل الأمور، واصطنعوا كثيرا من الشعراء والفنانين، وكان لهم أنصار من الفرس يأتمرون بأمرهم، وينتهون بنهيهم، ويعتزون بعزتهم، فلعل هذا كله يسبب ثورة تطيح بعرش الخلافة نفسها.
ومن أجل ذلك أيضا خشي أبو جعفر المنصور أبا مسلم الخراساني، ومع هذا بلغ من بعض الناس الوفاء حتى عرضوا أنفسهم للقتل من حسن ما فعل البرامكة معهم.
مآثر البرامكة
ومن ذلك ما يروى أن بعض الحرس وجد إنسانا واقفا في بعض الخرابات وفي يده رثاء للبرامكة، فأخذ الحارس الرجل، وأتى به الرشيد، فقال له: «أما سمعت تحريمي لرثائهم؟» فقال الرجل: «إن أذنت لي يا أمير المؤمنين في حكاية حالي حكيتها، ثم بعد ذلك أنت ورأيك» فقال: «قل!» قال: «كنت من أصغر كتاب يحيى بن خالد وأرقهم حالا»، فقال لي يحيى: «أريد أن تضيفني في دارك يوما!» فقلت: «يا مولانا أنا دون ذلك! ... فداري لا تصلح لهذا» قال يحيى: «لا بد من ذلك»، قلت: «فإن كان لا بد فأمهلني مدة حتى أصلح من شأني ومنزلي، ثم بعد ذلك أنت ورأيك» قال: «كم أمهلك؟» قلت: «سنة»، قال: «كثير»، قلت: «فشهور»، قال: «نعم.»
فمضيت وشرعت في إصلاح المنزل، وتهيئة أسباب الدعوة، فلما تهيأت أعلنت الوزير بذلك، فقال: «نحن غدا عندك» فمضيت، وتهيأت في الطعام والشراب، وما يحتاج إليه، فحضر الوزير في غده، ومعه ابناه: جعفر والفضل، وعدة يسيرة من خواصه وأتباعه، فنزل عن دابته، وقال: «يا فلان إني جائع فعجل لي بشيء»، وقال لي الفضل ابنه: «الوزير يحب الفراريخ المشوية فعجل منها ما حضر» فدخلت، وأحضرت منها شيئا فأكل الوزير، ثم قام يمشي، وقال: «يا فلان فرجنا في دارك.»
فقلت: «يا مولانا هذه داري ليس لي غيرها» قال: «بل لك غيرها» قلت: «والله ما أملك سواها» فقال الوزير: «هاتوا بناء» فلما حضر قال له: «افتح في هذا الحائط بابا» فمضى ليفتح، فقلت: «يا مولانا كيف يجوز أن يفتح باب إلى بيوت الجيران، والله أوصى بحفظ الجار؟» قال: «لا بأس في ذلك»، ثم فتح الباب، فقام الوزير وابناه فدخلوا فيها، وأنا معهم، فخرجوا منها إلى بستان حسن كثير الأشجار والماء يتدفق فيه، وبه من المقاعد والمساكن ما يروق كل ناظر، وفيه من الأثاث والفرش والخدم والجواري كل جميل بديع، فقال: «هذا المنزل وجميع ما فيه لك!»
فقبلت يده ودعوت له، فقال لابنه جعفر: «يا بني هذا منزل وعيال، فالمادة من أين تكون له؟» فقال جعفر: «قد أعطيته الضيعة الفلانية بما فيها، وسأكتب بذلك كتابها»، والتفت إلى الفضل، وقال له: «يا بني فمن الآن إلى أن يدخل دخل هذه الضيعة ما الذي ينفق؟» فقال الفضل: «علي عشرة آلاف دينار أحملها إليه»، فقال: «فعجلا له ما قلتما.»
فكتب لي جعفر الضيعة، وحمل الفضل المال إلي فأثريت، وارتفع حالي، وكسبت بعد ذلك معه مالا طائلا أنا أتقلب فيه إلى اليوم، فوالله - يا أمير المؤمنين - ما أجد فرصة أتمكن من الثناء عليهم والدعاء لهم إلا انتهزتها؛ مكافأة لهم على إحسانهم، ولن أقدر على مكافأتهم، فإن كنت قاتلي على ذلك فافعل» فرق الرشيد لذلك وأطلقه.
قسوة الترك
ولما نكب الناس بالبرامكة، وعاش من عاش منهم حتى رأوا سلطان الترك؛ أنشدوا قول القائل:
رب يوم بكيت منه فلما
صرت في غيره بكيت عليه
فإن شدة الأتراك وقسوتهم مكنتهم من أن يقتلوا الخليفة بعد اثنتي عشرة سنة من سلطانهم.
وقد أكثر الترك من مصادرة الناس لأموالهم ... وكان من مصائب الرجل أن يكون غنيا، وقد صادروا الكتاب، وصادروا الأمراء الكبار، وأخيرا تجرأوا فصادروا أم الخليفة المتوكل؛ لكثرة أموالها، حتى اضطرت إلى الهرب إلى مكة، وكانت تدعو وهي في مكة على التركي الذي سلبها أموالها، وهو صالح بن وصيف التركي، وتقول: «اللهم اخز صالحا كما هتك سترى وقتل ولدي، وشتت شملي، وأخذ مالي، وغربني عن بلدي» مما لم يفعله - ولا بعضا منه - الفرس في أيام سلطتهم، حتى إن البحتري لما شاهد قتل الترك للمتوكل خرج هائما على وجهه إلى إيوان كسرى، وفي ذلك إشارة إلى تفضيله حكم الفرس على حكم الترك، وقال قصيدته السينية المشهورة يصرح فيها بأن الفرس ليسوا بقومه، ولكن لهم فضل بما أيدوا من ملكهم، وخدموا دولتهم ... مع أنه ليس من جنسهم، وعلى العكس من ذلك كان الترك، وإنما دعاه إلى ذلك - كما يقول - أنه كان يألف الأشراف من كل جنس، ويحب الأصول من كل قوم؛ يقول:
ذاك عندي وليست الدار داري
باقتراب منها ولا الجنس جنسي
غير نعمى لأهلها عند أهلي
غرسوا من ذكائها خير غرس
أيدوا ملكنا وشدوا قواه
بكماة تحت السنور حمس
وأراني من بعد أكلف بالأش
راف طرا من كل سنخ وإس
وهكذا شتان بين سلطة العرب في عهد الأمويين، وسلطة الفرس في عهد الدولة العباسية الأولى، وعهد الأتراك في الدولة العباسية الثانية؛ فحكم البرامكة الذين نكبهم الرشيد لم يعوض في عدلهم وكرمهم، والمحافظة على الخليفة الذين يعملون تحت سلطانه ...
تدهور الدولة العباسية
وقد ذكر أحد المستشرقين أن عهد الرشيد كان مبدأ انحطاط الدولة العباسية، وقد فكرت في ذلك، وأطلت التفكير: هل هذا صحيح؟ وما هو السبب؟ لأنه لم يذكر سببا؛ هل لأنه في عهد الرشيد انقطعت بلاد المغرب عن المملكة؟ ولكن هذا وحده لا يكفي سببا للانهيار؛ وإلا كان خروج الأندلس - وهي أعظم من المغرب - هي بدء الانهيار، أو يريد انتشار اللهو انتشارا كبيرا كالذي كان عند الرومانيين من أسباب سقوطهم ... وهذا أيضا غير صحيح؛ فإن اللهو والترف كان حظ الخلفاء، ومن يتصل بهم فقط، أما الشعب كله فأغلبه بائس فقير جاد ... أو يريد تحقيق قول الشاعر:
ما طار طير وارتفع
إلا كما طار وقع
وهذا أيضا غير صحيح؛ لأن عظمة الحضارة في عصر المأمون، كانت أكبر منها في عهد الرشيد.
وإنما السبب الذي يجعل هذا الرأي صحيحا - في نظري - هو أنه في عهد الرشيد تجلت العصبيات، وبلغت فيه الذروة ... فالأمويون كانوا متعصبين تعصبا عربيا؛ فالولاة عرب وكل شيء عربي، أما الموالي فأذلاء خافتو الأصوات، حتى ليظن العربي أن أخاه المولى لا يستحق أن يرث كما يرث، وكان العربي أحيانا لا يريد أن يصلي وراء الإمام المولى.
فلما جاءت الدولة العباسية انتقلت العصبية للعرب إلى عصبية للفرس؛ فكانت التقاليد والأعياد، وغير ذلك فارسية، وانحط شأن العرب؛ لأن الدعوة العباسية قامت بأهل خراسان فحفظ العباسيون لهم جميلهم، وجاء البرامكة فزادوا هذه العصبية قوة، فهم كانوا ينشرون الثقافة الفارسية، ويؤيدون كل ما هو فارسي، حتى روي أن الرشيد مرة أراد أن يهدم إيوان كسرى فارتاع من ذلك البرامكة ... وقال له يحيى: «لا تهدم بناء دار دل على فخامته شأن بانيه الذي غلبته، وأخذت ملكه» قال الرشيد: «هذا من ميلك إلى المجوس، لا بد من هدمه» فقدر للنفقة على هدمه شيئا استكثره الرشيد فأمر بترك هدمه، فقال له يحيى: «لم يكن ينبغي أن تأمر بهدمه، أما وقد أمرت فليس يحسن أن تظهر عجزا من هدم بناء بناه عدوك» فلم يقبل قوله، ولم يهدمه .
فلما نكب البرامكة - وكانوا فرسا - ضعفت العصبية للفرس أيضا كما ضعفت للعرب من قبل، وكان القتال بين الأمين والمأمون - الذي سببه غلط الرشيد في توليتهما العهد من بعده - سببا آخر في ضعف العصبيتين ... فقد تعصب العرب للأمين، وتعصب الفرس للمأمون، فضعفت العصبيتان معا؛ لأن القتال العنيف يضعف الغالب والمغلوب، ولذلك لما جاء المعتصم لم يستطع أن يعتمد على العرب ولا على الفرس، وأتى بعنصر ثالث وهو الأتراك، واعتمد عليهم، وقد تعصبوا لعنصرهم، وحاولوا إذلال العرب والفرس جميعا، ورفع شأن العنصر التركي عليهم، فنكلوا بالعرب ثم بالفرس، ثم نكلوا بالخلفاء أنفسهم ... فمنهم من قتلوه، ومنهم من سملوا عينيه، وكلهم قد سلبوا سلطته، وجردوه من حوله.
وهذا ما يصح من أجله أن يعد عهد الرشيد أول عهد بدأت فيه عناصر انحطاط الدولة العباسية، ويكون كلام المستشرق صحيحا بهذا المعنى؛ فالأتراك نتيجة لنكبة البرامكة، والأتراك هم الذين أضعفوا شأن الخلفاء وأذلوهم، وما زالوا بهم حتى سلبوهم كل سلطة ... ثم ختمت المأساة بغزوة التتار.
نقطة سوداء
وعلى الجملة كانت نكبة البرامكة نقطة سوداء في تاريخ الرشيد؛ فقد أعلى البرامكة، ثم فتك بهم، وقد زلزلت الحادثة الشرق والغرب معا؛ لأن البرامكة كانوا يحسنون معاملة الرعية، ويتولون كل شؤونهم، ويتقربون إلى الشعراء حتى قل أن نرى شاعرا لم يقل فيهم شعرا، كالذي قاله بعضهم:
ألم تر أن الشمس كانت سجينة
فلما ولى هارون أشرق نورها
بيمن أمين الله هارون ذي الندى
فهارون واليها ويحيى وزيرها
وقول الآخر:
أتانا بنو الأملاك من أرض برمك
فيا طيب أخبار ويا حسن منظر
إذا نزلوا بطحاء مكة أشرقت
بيحيى وذي الفضل بن يحيى وجعفر
فتظلم بغداد وتجلو لنا الدجى
بمكة ما حجوا ثلاثة أقمر
فما خلقت إلا لجود أكفهم
وأقدامهم إلا لأعواد منبر
وقول الآخر:
رأيت يحيى أتم الله نعمته
عليه يؤتي الذي لم يؤته أحد
ينسى الذي كان من معروفه أبدا
إلى الرجال ولا ينسى الذي يعد
وقول الآخر:
أجدك هل تدرين إن زرت ليلة
كأن دجاها من قرونك ينشر
صببت لها حتى تجلت بغرة
كغرة يحيى حين يذكر جعفر
إلى كثير من أمثال ذلك.
فالنقمة عليهم روعت الناس، من تقريب شديد إلى تنكيل شديد، من غير ما ذنب معروف جنوه.
وأما الغربيون فقد روعهم الحادث؛ لأنه لم يكن في نظرهم عادلا؛ فلم يحاكموا بتهمة معينة، ولا سمعت أقوالهم، ولا عرفت أسباب النقمة عليهم، وتجلى المنظر عن قوم في السماء وضعوا في الحضيض، ومن أيد تقبل إلى خدود ترغم ... فنقموا على الرشيد فعلته.
دفاع عن الرشيد
والحق أن هذا عيب الحاكم المستبد دائما؛ فهو عرضة لأن يفعل أقصى الخير وأقصى الشر، وهذه الحادثة مما شهرت الرشيد، فالإنسان العظيم يشتهر بما يأتي من خير وشر، ولكن عيب هؤلاء المؤرخين أنهم يقيسون دائما الزمن الماضي السحيق في القدم بزمنهم، غير مقدرين فروق الزمان والمكان، وبهذه النظرة عابوا على الإسلام - مثلا - إقراره الرقيق وتعدد الزوجات، ونحو ذلك.
ولم ينظروا إلى الرقيق قبل الإسلام، وما فعله الإسلام، ولا إلى تعدد الزوجات قبل الإسلام وبعده، كذلك لم ينظروا إلى كل ظروف الرشيد، وما يحيط به من شئون عائلية واجتماعية وغير ذلك، وقد كان الرشيد في أيامه مثالا للملك الحاكم بأمره ... فيه مزاياه، وفيه عيوبه، وما كان لأي رجل من رجال العصر الحاضر أن يفعل غير ما فعل لو عاش في زمنه، وتخلق بأخلاقه، وأحيط بالبيئات التي أحاطت به.
فلنأخذ الأمور كما جرت، ولنقسها بمقياس زمانها لا بمقياس زماننا نحن، خصوصا وأننا لم نسمع من الرشيد حججه فيما فعل، كما لم نسمع من البرامكة دفاعهم عن أنفسهم، وقد فعل أبو جعفر المنصور مثل ذلك في أبي مسلم الخراساني، وهو الذي قامت الدولة العباسية بفضله وفضل أمثاله، وكذلك قتل وزيره أبا أيوب المورياني، ووكل المهدي بمن سماهم الزنادقة، وهي أمور خفية جدا لا يعلمها إلا الله، والمتهم، وكثيرا ما يكون الشخص حر التفكير نوعا ما فيتهم بالزندقة، ويقضى عليه.
نعم، إن الخطأ لا يبرر الخطأ ... ولكن سقنا هذا لنبين أن ما فعله الرشيد بالبرامكة هو طبيعة العصر وسنة ذلك الزمان، بل نجد في عصرنا الحاضر أمثال ذلك ... فقد نكل ملك فرنسا بالمسيو فوكيه، ونكل هتلر باليهود، ونحو ذلك كثير.
على أن المؤرخين يروون عن الرشيد ندمه على فعلته، وضيق صدره مما كان، حتى ربما كان ذلك سببا من أسباب رحيل الرشيد بعد قليل من النكبة من قصر الخلد ببغداد إلى الرقة بالجزيرة ... لئلا تقع عينه على مساكنهم، ولا تثير الحزن في نفسه المناظر التي كان يراها، والمجالس التي كان يجلسها مع جعفر البرمكي، ونحو ذلك، يضاف إلى سبب انتقاله ثورات الشام المتوالية، وحاجته الشديدة إلى القرب منها لسهولة قمعها. •••
ولا شك أنه كانت من مزايا البرامكة أنهم تحملوا عبء الدولة كله عن الرشيد أيام كان غضا طريا لم ينضج بعد، فلما نكل بهم كان في سن ناضجة يستطيع أن يتحمل العبء الكبير الذي خلفوه؛ فقد كان في يدهم مناصب الوزارة، ومناصب الجيش الكبرى والإدارة، فحمل الرشيد كل ذلك.
وقد صمم الرشيد على قتل جعفر، وسجن يحيى، وبقية أولاده، فصادر أموالهم الكثيرة، ونكل بمن مدحهم، أو ظل يمدحهم بعد نكبتهم إلا القليل، وأصبحت هذه الأسرة أسرة بائسة ذاقت من البؤس والشقاء بمقدار ما ذاقت من النعيم والرفاهية.
وتوفي يحيى، وهو في السجن ... ولحق به ابنه الفضل.
المواليا
وكان مما يؤثر أنه في عهد الرشيد ظهر نوع جديد من الشعر يقال له المواليا، ظهر في بغداد بعد الفتك بالبرامكة؛ فقد ذكروا أن الرشيد لما قتل جعفرا البرمكي أمر أن لا يرثى بشعر، فرثته جارية له في بيتين على وزن خاص، وجعلت تنشدهما، وتقول: يا مواليا يا مواليا ... إلخ ... فلا كان شعرا ولا كان نثرا، وهما:
يا دار أين ملوك الأرض أين الفرس
أين الذين حموها بالقنا والترس
قالت تراهم رمم تحت الأراضي الدرس
سكوت بعد الفصاحة ألسنتهم خرس
وهذا النوع هو الذي تطور فيما بعد، وتطور اسمه من مواليا إلى مواويل، جمع موال.
الثورات في عهد الرشيد
وقد تعددت الثورات في عهد الرشيد لأسباب مختلفة، أوقعت الدولة أحيانا في أزمات حرجة لولا حزم الرشيد وهمته ورجاله ... منها: غيظ الروم من عظمة المملكة الإسلامية وتفوقها، والاهتمام بدس الدسائس لإضعافها، ومنها: ميل الشاميين للدولة الأموية وحزنهم عليها، وغضبهم من الإيقاع بالأمويين، وتمنيهم أن تعود السلطة للعرب، يدل على ذلك ما عرف عن الدولة العباسية من غلبة سلطان الفرس عليها ... حتى ليروون أن رجلا من الشاميين صرخ في المأمون عند زيارته للشام يقول له: انظر إلينا كما نظرت إلى الفرس، ومنها: الحزب العلوي الذي كان يكره العباسيين أشد الكره بعد أن ضحك العباسيون عليه، ثم تخلوا عنه.
وقد ظلوا يحافظون على بيتهم، ويتطلعون إلى الحكم، وكلما مات إمام مستتر، أو قتل، خلفه إمام آخر ينتظر للوقت المناسب.
ومنها: خروج الخوارج الذين ظلوا من عهد أن تكونوا في عصر علي يحافظون على مذهبهم، ويخرجون من حين إلى آخر، يودون تحقيق أمنياتهم، واستيلاء أحد من رجالاتهم على الدولة فيقضي فيها بكتاب الله وسنة رسوله، ولو كان عبدا حبشيا، لا يرضون عن أمويين ولا عن عباسيين؛ لأنهم في نظرهم كافرون، أو على الأقل ظالمون، أسرفوا في الشراب، وأسرفوا في النساء والغناء، وما إلى ذلك من بذخ ... فوجبت إزالتهم عن الملك وتولية من يصلح لهذا الغرض على مبادئهم.
ومنها أن بعض البلاد البعيدة رغبت في الاستقلال عن الخلافة، وحكم نفسها بنفسها، وعدم الخضوع للسيطرة العباسية عليها، إلى غير ذلك ... •••
كل هذا كانت تواجهه الدولة العباسية ... وبكلمة أوجز كان يواجهه الرشيد من حين إلى حين؛ فما نشبت ثورة وخمدت إلا قام غيرها، وبجانب ذلك كان الرشيد نفسه يريد أن يضعف الروم حتى لا يدسوا له الدسائس؛ فأنشأ مدينة تسمى العواصم للإعداد لغزو الروم منها، وكان يدبر لهم غزوة في الصيف تسمى الصائفة قد يقود جيشها بنفسه فيغنم الغنائم الكثيرة التي كانت تعد بابا كبيرا من أبواب الدخل، وغزوة في الشتاء تسمى الشاتية، ونحو ذلك.
فمن النوع الأول:
مثلا - أن ثار أهل الخزر في أيام الرشيد بتحريض من البيزنطيين، وعقدوا معهم شبه تحالف، وأغاروا على أرمينية، وأفسدوا في البلاد، وأعملوا فيهم السيف، ومثلوا بالسكان الآمنين على نحو لم يسبق له نظير، فاضطر الرشيد أن يبعث إليهم حملات قوية تعاملهم بالقسوة والرعب، فانتصروا عليهم، وأخمدوا ثورتهم.
ومن النوع الثاني:
ما قام به أهل الشام من ثورات متعددة، ثورة بعد ثورة، مما جعل الرشيد يفضل انتقاله من بغداد وسكناه في الرقة كما ذكرنا.
ومن النوع الثالث:
ما قام من ثورات علوية تريد الاستيلاء على الخلافة، وقد ظهر في أيام الرشيد الإمام موسى الكاظم الذي سمي كاظما لصبره وكظم غيظه ودماثة خلقه، ومقابلته الإساءة بالإحسان، وكان محبوبا من جميع أهل المدينة، فخشي منه الرشيد، وأمر بالقبض عليه، وأتى به إلى بغداد، وسلمه إلى أخت السندي بن شاهك ... وكانت امرأة فاضلة عاملت سجينها بالعطف والإحسان، فظل مسجونا حتى توفي في منزل سجينته، وخلفه في إمامة الشيعة ابنه علي الرضا، وكان أعلم أهل بيته في الفقه والآداب.
ومن النوع الرابع:
ما ظهر من الوليد بن طريف الشاري الشيباني، وقد كان زعيم الخوارج في أيامه، وكان شجاعا فتاكا يقيم بنصيبين والخابور، فخرج في خلافة الرشيد في حشد حاشد، فأرسل إليه هارون يزيد بن مزيد الشيباني فظهر عليه يزيد وقتله.
وكان للوليد هذا أخت تسمى الفارعة تجيد الشعر، وتسلك سبل الخنساء في مراثيها لصخر، وقد رثت أخاها الوليد في قصيدة من قصائدها بقولها:
فيا شجر الخابور ما لك مورقا
كأنك لم تجزع لموت طريف
فتى لا يحب الزاد إلا من التقى
ولا المال إلا من قنا وسيوف
حليف الندى ما عاش يرضى به الندى
فإن مات لا يرضى الندى بحليف
فقدناك فقدان الشباب وليتنا
فديناك من فتياتنا بألوف
وما زال حتى أزهق الموت نفسه
شجى لعدو أو ندى لضعيف
ألا قاتل الله الحشا حيث أضمرت
فتى كان للمعروف غير عيوف
فإن يك أرداه يزيد بن مزيد
فرب زحوف لفها بزحوف
عليك سلام الله وقفا فإنني
أرى الموت وقاعا بكل شريف
وكان الوليد يوم الوقعة ينشد:
أنا الوليد بن طريف الشاري
قسورة لا يصطلى بناري
جوركم أخرجني من داري
وقد تزعمت الفارعة حركة الثوار بعد مقتل أخيها، وتولت القيادة بنفسها، واشتبكت مع جيش الرشيد في معركتين داميتين حتى نهرها أحد أقاربها ... فأمرها أن تلقي السلاح، وتعود إلى خدرها، وكانت وسيمة الطلعة، رشيقة القوام، أديبة ظريفة، تحفظ الشعر وتقوله.
ومن النوع الخامس:
أن بلاد تلمسان بالمغرب أرادت أن تنفصل عن الدولة العباسية فثارت، وحملت الدولة مبالغ طائلة لإخضاعها، وكانت مصر تدفع نحو مائة ألف دينار سنويا من إيرادها الخاص لسد عجز حكومة أفريقيا، حتى تمكن إبراهيم بن الأغلب من الاتفاق مع الرشيد على تهدئة الثورة، وتحمل المبلغ الذي تدفعه مصر، وتقديم أربعين ألف دينار سنويا إلى حكومة بغداد.
ومن النوع السادس:
أن الرشيد كان يهتم أكبر اهتمام بالروم، خصوصا بعد أن أخلوا سنة 180 بشروط الهدنة التي كانت إيريني قد عقدتها مع المنصور؛ إذ أغاروا على البلاد الإسلامية فبعث إليهم الرشيد من هزمهم، واستولى على مدينة لهم بقرب أنقرة، وعلى أنقرة نفسها، وأعاد احتلال قبرص بعد أن خرجت من أيدي المسلمين ... وألزم الروم بدفع الجزية، وتبادل الأسرى، ولكن نقفور ملك الروم كتب إلى الرشيد - فيما يرويه مؤرخو المسلمين - رسالة غير مؤدبة يقول فيها:
من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب.
أما بعد ... فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق؛ فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقا بحمل أمثاله إليها، ولكن ذلك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي، فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك بما تقع به المصادرة لك ... وإلا فالسيف بيننا وبينك.
فغضب الرشيد من هذا الكتاب غضبا شديدا، حتى لم يجرؤ أحد على النظر إليه من غضبه ... وكتب إليه كتابا غير مؤدب أيضا - والبادي أظلم - يقول فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم ... من هارون الرشيد إلى كلب الروم.
قد قرأت كتابك، والجواب ما تراه لا ما تسمعه.
وقد بر الخليفة بإيعاده، وشخص بنفسه على رأس جيشه، حتى وصل إلى «هرقلة» - إحدى البلاد البيزنطية - فدارت بين الفريقين معركة حامية؛ أسفرت عن هزيمة الروم هزيمة منكرة، وقد تبين من هذه الحروب أن الفنون الحربية عند المسلمين كانت أرقى منها عند الروم، وتوسل نقفور إلى الرشيد أن يقبل منه جزية أكثر من تلك التي قبلها من إيريني، فأجابه الخليفة إلى ذلك، وقد كانت تنشأ ثورات أخرى، منشؤها محاولة إرجاع الدولة العباسية إلى عهد الفرس الماجد الزاخر، وهذا داء قديم.
وكثير ممن اتهموا بالزندقة، وقتلوا عليها في عهد المهدي، كانوا أشخاصا حاولوا مثل هذه المحاولة، وكانت ثورات سياسية ... إنما صبغت بالصبغة الدينية لاستمالة الرأي العام. وقد اتهم البرامكة بمثل هذه التهمة بجانب التهم التي عددناها، وذلك مثل ثورة الخرمية في طبرستان ... فقد تحركوا بناحية أذربيجان تدعوهم إلى ذلك القومية - على ما يظهر - فوجه إليهم الرشيد عبد الله بن مالك في عشرة آلاف فارس فأسر وسبى حتى انتهى أمرهم.
الشعر والغناء
مجالس الرشيد
على كل حال لم يخلد اسم هارون تلك الحروب ولا الانتصارات، وإنما خلدته مجالس الأدب والعلم ومجالس الغناء.
نعم، قال أبو تمام: «السيف أصدق أنباء من الكتب».
وقد يكون ذلك كذلك، ولكن لسان الكتب أطول وأدوم، وإنما كان سبب خلوده الأسباب التي ذكرناها من قبل، وهي: أن الرشيد من حسن حظه أن جاء والمدنية الإسلامية قد بدأت في النضوج، وتم نضجها فيما بعد في عهد المأمون، فكانت مدنية عظيمة تفوق مدنية الأوربيين في ذلك العهد، فتدفقت الأموال على بغداد، وازدهرت التجارة بطرف الدنيا، والعلوم والفنون بشتى أنواعها مزدهرة، لم يجتمع على أحد غير الرشيد ما اجتمع من أهلها، وبيت المال يتكدس بالمال، والرشيد يغدق بغير حساب، ومجالس الغناء يزينها إبراهيم بن المهدي، وإسحاق النديم، وإبراهيم الموصلي، والنصارى مثل جبريل بن بختيشوع يمهرون في الطب، وينشرون كثيرا من الفلسفة اليونانية؛ إذ كان الطب أحد فروعها، ويهتم الخلفاء من عهد المنصور بعلم الفلك؛ لاعتقادهم أن حوادث الدنيا متأثرة بحركات النجوم، ويشتهر في ذلك إمامان عظيمان: ما شاء الله اليهودي، وأحمد بن محمد النهاوندي، والفقه يعظم في ذلك العهد على يد أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة ... وتؤلف الكتب على هذا المذهب، وتنتشر في الأمصار، واللغة تقيد في عصره فيؤلف الخليل بن أحمد البصري المعجم، ويضع أصول اللسان العربي، وأصول تصريف الكلمات، ويتوسع في ذلك بعد الكسائي مؤدب الأمين فالمأمون، وسيبويه النحوي المشهور، ويضع أبو عبيدة معمر بن المثنى كتابا في فقه اللغة في المترادفات، وكيفية استعمالها في مواضعها، والحركة بين البدو والحضر حركة قوية شديدة، يأتي البدو إلى الحضر فيأخذ عنهم الحضريون لغتهم وشعرهم وأدبهم، ويرققون أشعارهم، ويخرج الحضريون إلى البدو فيأخذون عنهم ذلك.
وارتفعت بلاغة الشعر في مثل علي بن الجهم، وأبي نواس، وأبي العتاهية ... وحتى النساء كن يقلن الشعر كما روينا من قبل عن الفارعة ... حتى إذا أنصفنا حكمنا بأن الشعر الحضري الذي روي لنا في عهد الرشيد وأمثاله كان أرقى من الشعر الجاهلي، والفرق بينهما كالفرق بين قول امرئ القيس إذ يقول:
تقول وقد مال الغبيط بنا معا
عقرت بعيري يا امرئ القيس فانزل
وقول علي بن الجهم:
فبتنا جميعا لو تراق زجاجة
من الخمر فيما بيننا لم تسرب
وكان كثير من الشعراء يلازمون الرشيد؛ كالذي حكي عن أبي العتاهية أنه كان لا يفارقه في سفر ولا حضر، وكان ينتصح الرشيد بشعره، ويبكي من مواعظه كقوله:
كأن كل نعيم أنت ذائقه
من لذة العيش يحكي لمعة الآل
ومن الناحية الأخرى كان مثل أبي نواس على عكس مذهب أبي العتاهية؛ يتغزل في الذكور والنساء والزهر والخمر، فكان يذكر في شعره إبليس والخمر، كما يذكر أبو العتاهية في شعره الجنة والنار؛ كالذي يقوله أبو نواس:
وليلة طال سهادي بها
فجاءني إبليس عند الرقاد
وقوله:
هل لك في قهوة معتقة
عتقها العاصر من عهد عاد
وقوله:
رق الزجاج وراقت الخمر
وتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر
إلى كثير من أمثال ذلك ...
والرشيد يستجيب لنصح ذاك، وتهتك هذا ... ولإمعان الناس في عهد الرشيد في الشراب فلسفوه، وأكثروا القول فيه، حتى لم يقل شعراء في لغة ما قالوه في هذا العصر، وتفننوا فيه فأخذوا لونا من الشراب من الروم، وهو خمر ممزوج بالعسل، ونقلوا اسمه الرومي - وهو الرساطوني - ولم يأتمروا بأمر الإسلام؛ إذ يقول:
إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون .
ومن أجل الهروب من هذا الأمر أخذوا يتفننون في الأسئلة؛ ما المراد بالخمر؟ أهو يشمل النبيذ أو لا يشمله؟ وما القدر الذي يحل والذي يحرم، وما النوع الذي يحرم وما النوع الذي يحل؟
ويظهر أن الإمام أبا حنيفة كان يتبع عبد الله بن مسعود في تحليله لنبيذ التمر، والزبيب، إذا طبخ، أو في شرب قدر منه لا يسكر، وكذلك نبيذ العسل والتين والبر.
وأخذ الشعراء يتفكهون في شعرهم بحرمة الخمر كالذي قال:
من ذا يحرم ماء المزن خالطه
في جوف خابية ماء العناقيد
إني لأكره تشديد الرواة لنا
فيه ويعجبني قول ابن مسعود
وقد اشتهر بينهم أن الفقيه الحجازي يحرم النبيذ، والفقيه العراقي يحلله؛ ولذلك قال شاعرهم:
رأيه في السماع رأي الحجاز
وهو في الشرب رأي أهل العراق
ويقول آخر:
أباح العراقي النبيذ وشربه
وقال حرامان المدامة والسكر
وقال الحجازي الشرابان واحد
فحل لنا من بين قوليهما الخمر
سآخذ من قوليهما طرفيهما
وأشربها لا فارق الوازر الوزر
وطائفة أخرى لا تحب أن تتحمل أو تتمحك؛ فإما أن يتركوها تركا تاما، أو يهجروها هجرا تاما.
قال أبو نواس:
فإن قالوا حرام قل حرام
فإن لذاذة العيش الحرام
ويقول:
ألا فاسقني خمرا وقل لي هي الخمر
ولا تسقني سرا إذا أمكن الجهر
وهكذا أصبح النبيذ والخمر أمرين شائعين بين الناس لا يخلو منهما بيت من بيوت العظماء والأغنياء.
وتسربت عوائد الفرس والروم والعرب إلى الناس ...
وكان من ذلك كله أدب غزير في الخمر وأوصافها، والندمان وأوصافهم وعيوبهم ومحاسنهم، حتى ملأ الأدب العربي، وحتى إن الصوفية كابن الفارض وغيره قلدوا الماجنين في قولهم في الشراب، وغزل المذكر، وغزل المؤنث، وإن لم يكن هناك خمر ولا نساء ولا ذكر.
إبراهيم الموصلي
وبجانب الشعر الغناء ... جاءت طبقة من المغنين أخذت أصول الغناء عن ابن سريج، وابن محرز المكيين، ومالك ، ومعبد المدنيين، واشترك النساء في الغناء، وغنين الغناء العربي والفارسي، ووجدت مدارس للغناء تتناحر وتتسابق، وقد شجع البرامكة الغناء الفارسي، وإلى جانب الغناء الرياضة، وهناك القصص اللطيف الذي يحكي أمور الماضين والحاضرين، ويسجل أحداثهم، ولم يقف في التاريخ عند حد الروايات عن الماضين؛ فقد ركبوا البحار، ودونوا الرحلات، وأدخلوا في التاريخ ما شاهدوه وما سمعوه، وكما اشتهرت بغداد أم الحضارة بهذه الأشياء كلها، كانت دمشق ومصر صورة مصغرة.
ولم يكتف الأمر بهذا، بل أفسحوا صدورهم اعتزازا بمدينتهم إلى الوفود تأتيهم من الروم وغير الروم، يعجبون بما يرون من حضارة لا قبل لهم بها، ويذهبون إلى بلادهم فيتحدثون بما شاهدوا وما سمعوا، ويقلدون ما يستطيعون تقليده، وقد روى التاريخ كلمات كثيرة عن القساوسة والمستشرقين يحضون قومهم على أن يفعلوا فعل المسلمين. •••
هذه - لا الحروب ولا الانتصارات - هي التي أعلت شأن الرشيد في نظر الشرقيين والغربيين، وخلدت ذكره، وأعلت مقامه، وجعلته على كل لسان، فقد نقل إليهم كتاب بطليموس وإقليدس، وعربت رسائلها، ولم تكن دراساتهم لها نظرية بحتة، بل كانت تطبق عمليا: مثل البوصلة البحرية التي مكنتهم من السير في البحار، والمهارة في التجارة، حتى ساروا إلى سواحل الهند، وجزيرة الملايا، وتوغلوا في بلاد الصين، وصارت البصرة ثغرا تجاريا هاما، وكالساعة الدقاقة التي اخترعها العرب، ويصفونها بأنها كانت إذا جاء موعد الساعة دقت، وخرج منها رجال على الخيل بعدد الساعات، فإذا انتهت الدقات دخل الخيالة.
وكان مما خلد الرشيد مجالسه المتنوعة المتعددة؛ فمجلس غنائه كان عماده إبراهيم الموصلي، ثم من بعده ابنه إسحاق، وزلزل الدفاف، وبرسوم الزامر، وإبراهيم الموصلي هذا كان زينة مجلس الرشيد، وإطارا لشخصيته كما تصوره لنا ألف ليلة وليلة، وهو فارسي الأصل أبا وأما، رزقه الله حسن الصوت على خير ما يرزق المغنين في جميع العصور، ورزق إلى حسن صوته جودة إنشائه للشعر وحسن تلحينه.
يروى عنه أنه أنشأ ولحن وغنى قوله:
ربما نبهني الإخ
وان والليل بهيم
حين غارت وتدلت
في مهاويها النجوم
ونعاس الليل في عي
ني كالثاوي مقيم
للتي تعصر لما
أينعت منها الكروم
أنا بالري مقيم
في قرى الري أهيم
ما أراني عن قرى الري
ي مدى دهري أريم
وكان من أصل فقير هرب من فارس، ونشأ يتسكع في البلاد، وكان في كل بلد طائفة من الشبان الخليعين، لا ميل لهم إلى الجد يقضون حياتهم في شراب ونساء وغناء، وقد شهروا بالمروءة والنجدة، خصوصا إذا نزل عليهم ضيف من أمثالهم.
وهؤلاء الطائفة تسمى «الفتيان»، وهي كالتي نسميها اليوم بالبوهيميين، وذلك قبل أن تتطور كلمة «الفتيان» إلى المعنى التركي، فتأخذ شكلا دينيا، وشكل اتحاد عمال معا، وقبل أن يتخذها الصوفية في لغتهم فيطلقونها على جماعة الصوفية المتدينين ذوي المروءة.
واشتهر إبراهيم بينهم بحسن الصوت فأعجبوا به، وكان في إحدى مراحله بالموصل فسمي «إبراهيم الموصلي»، ثم ذاع ذكره وحسن تلحينه وغنائه، فاستدعاه الخليفة المهدي، ولكن كان به آفة، وهي أنه كان لا يكاد يفيق كزملائه الفتيان، والمهدي لم يكن يشرب، ولا يحب الشاربين، إلا ما كان أجازه لجبريل بن بختيشوع إذ كان لا بد أن يشرب، والمهدي لا يستطيع الاستغناء عنه فأباح له أن يشرب هو، فطلب المهدي من إبراهيم الموصلي ألا يشرب فلم يستطع، ووجدت عقدة في بيت المهدي، وهي أن في البيت ابنين، وهما الهادي والرشيد، ويخاف عليهما الانغماس في الشراب، ويخاف عليهما من مخالطة الموصلي، ويخاف أن يجتمع عليهما حسن شعر الموصلي وحسن تلحينه وحسن غنائه، منضما ذلك كله إلى شباب الهادي والرشيد وغناهما وترفهما، فإذا هما سكيران لا يصلحان للخلافة.
ورعب من تلك النتيجة التي تخيلها بحق، فأخذ الأيمان الموثقة على إبراهيم الموصلي ألا يشرب بحضرة الهادي والرشيد، وكيف ينفع التحذير، وكل العوامل ممهدة لهذه النتيجة ... جاذبية الموصلي، وقابلية الهادي والرشيد لهذه الجاذبية ...
فأتت الجواسيس المهدي يوما تقول: إنه غناهما وفتنهما فشربا معا، فجن جنون المهدي من هذه الفعلة؛ خصوصا بعد أن استوثق منه، فضربه ضربا مبرحا، ثم نهاه، ثم عاد فأقصاه عن القصر، ووضعه في السجن، وأمر بتعذيبه فيه تعذيبا شديدا، ولكن كان من حسن حظه أن مات المهدي، وجاء الهادي الذي حبس الموصلي من أجله، فاستنجد به فأنجده، ومنحه الهادي مالا كثيرا حتى أصبح ثريا، واتخذه نديما له حتى مات.
مدرسة الموصلي
وبلغ الموصلي ذروته في عهد الرشيد ... فقد كان الرشيد أحب للموصلي، وأحب لغنائه فقربه إليه، وجعله زينة مجلسه، وصار يتكسب من الرشيد، ومن مدرسة أخرى اهتدى إليها، وهو أنه كان يأتي بالفتيات الجميلات فيعلمهن التلحين، ويعلمهن الغناء، وأقبل الناس على تلميذات مدرسته إقبالا شديدا؛ إذ كان قد اجتمع لهن جمال الشكل، وجمال التلحين، وجمال الصوت.
وكان الناس قبله يعلمون الفتيات غير الجميلات؛ حرصا على الفتيات الجميلات، وتنحية لهن من هذا المأزق، فجاء الموصلي بحسن ذوقه، فأدرك أن تجارته لن تروج إلا إذا علم الفتيات الجميلات، فدر ذلك عليه مبلغا من المال طائلا، وقد نجحت مدرسته نجاحا باهرا ... فانتشرت تلميذاته في بيوت الأغنياء من أمراء وتجار، فكنت إذا مشيت في شوارع بغداد أو في شوارع المدن سمعت أصواتهن تتجاوب في كل مكان. •••
وشيء آخر عظيم الفائدة، كان أيضا من برنامج مدرسته يعلمه في جد واتقان، وهو فن الظرف، وهذا فن واسع ربما يمثله خير تمثيل «كتاب الوشاء»، وإن كان قد ألفه بعد ذلك العهد بقليل.
فكان يعلمهن درسا في ألوان الملابس، ومناسباتها للحفلات، ومناسبة بعضها لبعض، ومناسبتها للنعال.
ودرسا ثانيا فيما يصلح أن ينقش على الخواتيم والفصوص، ودرسا ثالثا في التعطر والتطيب، ودرسا رابعا في تصفيف الموائد والأطعمة، وكيفية الأكل من وجوب تصغير اللقم والتحرز من الشره، وعدم تلطيخ الأصابع، وعدم تجاوز ما بين أيديهن، وعدم إفساد رائحتهن بأكل الثوم والبصل، ونحو ذلك، وعدم التخلل على المائدة قبل أن تفرغ، ونحو ذلك.
ودرسا خامسا في الزهور والورد، وكيف تنظم الطاقات، ثم ينتقل في الدروس الأخيرة من الماديات إلى المعنويات: فكيف يتحدثن فيحسن الحديث، وكيف يجب أن لا يداخلن أحدا في حديثه، ولا يتطلعن إلى مكتوب يقرؤه قارئ، ولا يقطعن على متكلم كلامه، ولا يحاولن أن يستمعن إلى أحد يتحدث في سر، ولا يسألن عما ووري عنهن علمه، ولا يتكلمن فيما حجب عنهن فهمه، ولا يتثاءبن في المجلس، ولا يتمطين، ولا يمددن أرجلهن، ولا يمسسن أنوفهن بأيديهن، ثم يعلمهن أنهن إذا أهدين أهدين الشيء اللطيف الخفيف، كالتفاحة المنقوشة الواحدة، والأترجة الواحدة، والغصن من الريحان، والطاقة من النرجس، ونحو ذلك، ويعلمهن أيضا كيف يكتبن الكتب الظريفة لمن يحببن، أو لمن يشكون، ونحو ذلك، وكيف ينقشن على قمصانهن، وأرديتهن، وأكمامهن، وعصائبهن، ومناديلهن، ونعالهن، وما يكتبنه بالحناء على راحتهن وأبدانهن، وما ينقشنه على أواني الفضة والذهب والكاسات والأقداح، وعلى آلات الموسيقى من العيدان والطبول والدفوف والنايات.
وعلى الجملة فكان يعلمهن قوانين الظرف بجانب قوانين الغناء، ويعلمهن ما نسميه اليوم ب «الإتيكيت».
ويؤلف فيه المسلمون قبل ما يؤلف فيه الغربيون اليوم بعد أكثر من ألف سنة، وكان له في ذلك فضلان: فضل نشر الغناء في العالم الإسلامي، ونشر طرق الإتيكيت، وكانت هذه الأشياء كلها تغلي ثمن الجارية أضعاف ما كانت، وبفضل هذه المدرسة فاقت العراق الشام والحجاز، فقد كان الشام مركز اللهو والظرف في عهد الأمويين.
أما في العهد العباسي ففاقته العراق، والسبب في ذلك أمران: الأمر الأول أن العراق كان مصب أموال الدولة فكل قطر يبعث للخليفة ما تبقى من الصرف عليه، والمال هو عصب الحياة يتبعه اللهو حيث كان؛ فالغناء والشراب إنما يكونان حيث يكون الترف، والترف يكون حيث يكون المال، والعراق أكثر البلدان وأعزها جاها، وكل نابغ في فن - ومنه الأدب - إنما تنفق سوقه في العراق، ومن نبغ في غيره، ولم يذهب إليه خمد ذكره وضاع فنه؛ فأي مغن مشهور لم يكن في العراق، وأي نابغة في الشعر لم يكن في العراق، وأي لؤلؤة كبيرة، أو ياقوتة عظيمة، أو عقد مرصع بديع لم يرسل إلى الخليفة في بغداد.
والأمر الثاني أن العراق كان أكثر بلاد الله خليطا؛ فقديما تعاقبت عليها الأمم والمدنيات، وفي العصر العباسي كان حاضرة الخلافة ومقصد الناس، وكان مسكن العنصر الأرستقراطي من الفرس، وعلى مقربة من بغداد إيوان كسرى ، وبغداد محط الراحلين من الهنود والعرب والروم وغيرهم، وكل جنس من هذه الأجناس يعرض خير ما عنده، وإن أدركت سائر الأقطار طرفا من زينة ولهو وغناء وشعر، فمن بغداد تقتبس.
وكان من حسنات إبراهيم الموصلي زرياب المغني؛ فقد كان تلميذا لإسحاق، وكان يحضر معه مجلس الرشيد، ثم اختلف معه ففر إلى الأندلس، وكانت سبقته شهرته إليها، فاستقبل فيها استقبالا حسنا، ولم يكن زرياب مغنيا فقط، بل كان عالما أديبا أيضا، فنشر في بلاد الأندلس موسيقاه التي تلقاها عن إبراهيم الموصلي وعلمه فنه؛ فكان أيضا من حسنات الرشيد بالوساطة.
وزان زرياب مجالس عبد الرحمن الداخل، كما زان أستاذه الموصلي مجالس الرشيد، واجتهد زرياب أن يجعل من قرطبة ما رآه في بلاط الرشيد في بغداد من فخفخة وعظمة، وأن يحمل عبد الرحمن على البذخ والترف كما كان الرشيد، وينقل حضارة بغداد إلى قرطبة، فنجح في ذلك إلى حد كبير؛ لأنه كان عظيم الشخصية، وقد أجرى عليه عبد الرحمن الداخل ثلاثة آلاف دينار في السنة، وأعطاه عقارا بقرطبة قيمته أربعون ألف دينار، وقربه إليه وجعل مرتبته مرتبة عظيمة.
وقد قالوا عنه: إنه كان يعرف عشرة آلاف لحن بأشعارها ونغماتها، ولم يقتصر على الغناء والشعر، بل كان يعلم الفلك والجغرافيا، وكان قد أخذ عن أستاذه الموصلي فن الظرف واللباقة الذي كان يعلمه الموصلي في بغداد للجواري الحسان، ونشر أيضا الذوق في قرطبة، وغير من زي الرجال؛ فقد كان الرجال يرسلون شعورهم طويلة، ويفرقونها في مقدم الرأس، فابتدع لهم طريقة جديدة، فأصبح الزي الرائج بعده أن يحسر الرجل شعره بعد أن يقصره، وكان الأندلسيون يشربون الماء بآنية معدنية، فعلمهم أن يشربوه بأقداح من زجاج، ونشر في الأندلس نوعا من الطعام كان محببا إليه هو الهليون، وابتدع أيضا أنواعا من الأطعمة اللطيفة تنسب إليه؛ منها النوع المعروف بالزريابية ... فلعله هو الذي حرفه العوام فيما بعد إلى زلابيا. •••
وعلى الجملة، فقد كان من حسنات الرشيد - وإن لم يعلم - نقل حضارته ومجالسه وترفه إلى الأندلس بوساطة زرياب.
وكان الموصلي - كما قلت - بلدي البرامكة يغنيهم كما يغني الرشيد، ويضع الأصوات في مدحهم مثل قوله:
ويفرح بالمولود من آل برمك
بغاة الندى والسيف والرمح والنصل
وتنبسط الآمال فيه لفضله
ولا سيما إن كان من ولد الفضل
ولا يبعد أن يكون أبو إسحق الموصلي بحكم بلديته للبرامكة، كان ينقل إليهم ما كان يدور في مجلس الرشيد مما يتصل بهم من قريب أو بعيد، ولكن الرشيد أبقى على رأسه لما طاح برؤوسهم؛ لأنه لم يكن يتدخل في سلطة الرشيد، ولا سلطة البرامكة، ولأن الرشيد كان في حاجة إليه؛ إذ كان لا يستغني عن صوت جميل، ولحن جميل، وليس للموصلي في ذلك نظير.
وعلى الجملة كان للرشيد ذوق مرهف في سمع الغناء ونقله، حتى ليحكون أنه سمع الموصلي مرة فقال له: إنك أخطأت في لحنك مرتين ... فعجب الموصلي من ذلك، وخرج يتحدث به، وكان مما عرف عنه أنه أمر بأن يختار له مائة صوت «لحن» أو«دور»، وهي التي بنى عليها أبو الفرج الأصفهاني كتابه الأغاني، ثم أمرهم أن يختاروا منها عشرة، ثم أمرهم أن يختاروا من العشرة ثلاثة، فكانت هذه الثلاثة لحنا لمعبد، ولحنا لابن سريج، ولحنا لابن محرز.
الأصمعي وأبو عبيدة
ومجلس آخر هو مجلس جد ولغة وشعر، يكون عماده الأصمعي وأبا عبيده والكسائي؛ فأما الأصمعي فكان رجلا عربي الأصل محتفظا بعربيته في ملبسه ونبرات صوته، وقد رحل إلى البادية وسمع من أهلها لغة وأدبا، وعلى الأخص «ملحا» ونوادر، فكان يتخير منها ما يناسب مجلس الرشيد، ويتحدث إليه، ويسأله الرشيد عما يجهله، ويسمع منه ملحه ونوادره، ويتفقده الرشيد حين يغيب عنه.
وأما أبو عبيدة فيهودي الأصل، ليس له خفة روح الأصمعي ولا ملحه ولا نوادره، وإنما كان له مهارة في ناحية أخرى يمتاز بها، وهي معرفته بأخبار الأمم من عرب وغيرهم، وكان يسر الرشيد بذكره مثالب بني أمية، هذا إلى علم باللغة واسع، وإن لم يبلغ مبلغ الأصمعي؛ سأله الفضل بن الربيع يوما: «كيف يعبر الله سبحانه عن شيء لم تعرفه العرب ولم تره؛ إذ قال:
طلعها كأنه رءوس الشياطين ؟» فقال: إن العرب إذا عرفت شيئا ولو لم تره ذكرته في كلامها؛ كالشاعر الذي يقول: «ومسنونة زرق كأنياب أغوال.»
والغول شيء لم تره العرب، ثم وضع كتابا في مجاز القرآن.
وأما الكسائي فقد تعوده الرشيد من صغره؛ إذ كان هو مربيه، وكان فارسي الأصل عربي الولاء، ويمتاز عن الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو، وكان النحو في أيامهم واسع المدلول؛ فهو يشمل الصرف والمعاني والبيان والبديع، ونحو ذلك، ويظهر أنه كان جادا كل الجد ليس كالأصمعي مرحا كل المرح، ولم يكن له علم بالشعر كالذي للأصمعي، فكان الأصمعي يغلبه في الشعر، والكسائي يغلبه في النحو. •••
ولقد كانت مجالسهم مجالس جد من لغة ونحو وأخبار، وما إلى ذلك، وقد استفاد الرشيد كثيرا من علمهم ونحوهم.
ومجلس آخر كان عماده الشعر يجلس فيه أبو العتاهية وأبو نواس ومنصور النميري ومسلم بن الوليد وأمثالهم، فينشدون له الشعر أحيانا في مديحه ومدح آبائه إلى نحو ذلك.
وهو يتخذهم دعابة له، ومظهر ترف وأبهة، ويجزل لهم العطاء بقدر ما يجزلون له من الثناء.
وأحيانا يكون المجلس مجلس فقه ومحاولة لخروج من مأزق من مآزق القصر، حول جارية أو حول مشادة بينه وبين زبيدة ... وعماد ذلك أبو يوسف القاضي، كالذي روي أن أميرا من أمراء البيت العباسي اشترى جارية جميلة، فطلبها منه الرشيد، فحلف بالأيمان المغلظة أن لا يبيعها، وحلف الرشيد أيضا الأيمان المغلظة أن يشتريها، وتحرج الأمر بينهما.
فاستدعى أبا يوسف، فحل الإشكال؛ بأن يهب الأمير نصفها للرشيد، ويشتري الرشيد نصفها الآخر، فكان ذلك، وكان واسع العلم متفنن الحيلة لبقا، مما جعل الرشيد يعينه قاضي بغداد، وهذا يجعله قاضي القضاة فينتشر بذلك مذهب أبي حنيفة شيخ أبي يوسف.
تنظيم الضرائب
وكان إلى جانب ذلك يهديه إلى نظم الضرائب، وهو الذي وضع له كتاب الخراج، فنظم له فيه الضرائب، وكيف يجبيها، وذكر الرشيد في أول كتابه هذا، وقدمه له مع نصائح حكيمة وقورة مثل ما يخاطبه به فيقول: «لا تؤخر عمل اليوم إلى غد ... فإنك إن فعلت ذلك أضعت»، و«إن الأجل دون الأمل ... فبادر الأجل بالعمل، فإنه لا عمل بعد الأجل»، «إن الرعاة مؤدون إلى ربهم ما يؤدي الراعي إلى رعيته، فأقم الحق فيما ولاك الله وقلدك ولو ساعة من نهار، فإن أسعد الرعاة عند الله يوم القيامة راع سعدت به رعيته»، و«لا تزغ فتزيغ رعيتك»، و«إياك والأمر بالهوى والأخذ بالغضب»، و«إذا نظرت إلى أمرين أحدهما للدنيا والآخر للآخرة، فاختر أمر الآخرة على أمر الدنيا؛ فإن الآخرة تبقى والدنيا تفنى»، و«كن من خشية الله على حذر، واجعل الناس عندك في أمر الله سواء القريب والبعيد، ولا تخف في الله لومة لائم، واحذر فإن الحذر بالقلب وليس باللسان.» •••
ويذكر أبو يوسف أن رجلا نصرانيا كان يأتي الحسن البصري، ويغشى مجالسه؛ فمات، فسار الحسن إلى أخيه ليعزيه فقال له: «أثابك الله على مصيبتك ثواب من أصيب بمثلها من أهل دينك، وبارك لنا في الموت، وجعله خير غائب ننتظره ... عليك بالصبر فيما نزل بك من مصائب»، وهكذا نرى في ثنايا الكتاب دررا غالية، ونصائح عالية.
ومثل: «يا أمير المؤمنين! إن الله - وله الحمد - قد قلدك أمرا عظيما ثوابه أعظم الثواب، وعقابه أشد العقاب؛ قلدك أمر هذه الأمة، فأصبحت وأمسيت، وأنت بغية لخلق كثير قد استرعاكهم الله، وائتمنك عليهم، وابتلاك بهم، وولاك أمرهم، وليس يلبث البنيان إذا أسس على غير التقوى أن يأتيه الله من القواعد فيهدمه وأعان عليه، فلا تضيعن ما قلدك الله من أمر هذه الأمة والرعية، فإن القوة في العمل بإذن الله.»
والكتاب ليس مقصورا على الضرائب ... ففيه - مثلا - نصائح متعددة غالية؛ كحسن معاملة الأسارى، وإنه إذا أمن المحارب لم يؤخذ منه شيء، وكالأمر بحسن معاملة اليهود والنصارى، وإن أبا يوسف سأل أبا حنيفة عن اليهودي أو النصراني يموت له ولد ... فهل يعزى؟ وبم يعزى؟ فقال: «نعم يعزى، ويقال له: إن الله كتب الموت على خلقه، نسأل الله أن يجعله خير غائب منتظر، وإنا لله وإنا إليه راجعون، عليك بالصبر فيما نزل بك، لا أنقص الله لك عددا.»
وكان على باب قصر الخلد حجرة واسعة يجلس فيها الشعراء والمغنون والفقهاء، تدور بينهم الأحاديث المختلفة في الموضوعات المختلفة، وجميعهم ينتظر دعوة الحاجب لطائفة منهم حسب مزاج الرشيد في وقته، وحسب ما يعرض له من أحداث، وأحيانا لا يجد الحاجب من يطلبه في هذه الحجرة فيذهب إليه في بيته.
وإذ كان الرشيد حاكما بأمره فهو أحيانا يرضى لا إلى حد، وأحيانا يغضب لا إلى حد؛ فكان من دعي يغتسل ويتكفن قبل ذهابه إليه، مما يعطينا صورة سيئة للحكام في هذا العهد.
مجلس العظة والاعتبار
ومجلس آخر يرجع فيه الرشيد إلى نفسه، ويدعو من يعظه، أو يذهب إليه إذا كان الواعظ لا يغشى مجالس الأمراء؛ كالذي روي أنه استدعى ابن السماك الواعظ المشهور فلما دخل عليه قال له: «عظني!»
فقال: «يا أمير المؤمنين ... اتق الله، واحذره، لا شريك له، واعلم أنك واقف غدا بين يدي الله ربك، ثم مصروف إلى إحدى منزلتين لا ثالثة لهما: جنة أو نار.»
فبكى هارون حتى اخضلت لحيته ... فأقبل الفضل بن الربيع على ابن السماك، وقال: «سبحان الله! هل يخالجك شك في أن أمير المؤمنين مصروف إلى الجنة إن شاء الله لقيامه بحق الله وعدله في عباده؟»
فقال: «يا أمير المؤمنين: إن هذا - يعني الفضل بن الربيع - ليس والله معك ولا عندك في ذلك اليوم، فاتق الله، وانظر لنفسك»، فبكى هارون حتى أشفق الموجودون عليه.
وأفحم الفضل بن الربيع، ولم ينطق بحرف حتى خرج من بحضرته، ويأتي الرشيد الفضيل بن عياض فيفتح له الباب هو والفضل بن الربيع، ثم يصعد الفضيل إلى أعلى الغرفة مسرعا، ويطفئ السراج، ويتجه إلى زاوية من زوايا الغرفة، فيبحث عنه الرشيد حتى يجده، فيقول الفضيل، وقد جس يده: «ما ألينها من يد إن نجت غدا من عذاب الله»، ثم يسأله: «لم جئت؟ ... لقد حملت على نفسك، وجميع من معك حملوا عليك، ولو سألتهم عند انكشاف الرقاب عنك وعنهم أن يحملوا عنك نقصا من ذنب ما فعلوا، ولكن أشدهم حبا لك أشدهم هربا منك.»
ثم قال: «إن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبد الله بن عمر، ومحمد بن كعب القرظي، ورجاء بن حيوة، وقال لهم: «إني قد ابتليت بهذا البلاء فأشيروا علي» - فعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة - فقال له سالم: «إن أردت النجاة غدا من عذاب الله فصم عن الدنيا، وليكن إفطارك فيها على الموت»، وقال له محمد بن مطعم: «إن أردت النجاة غدا من عذاب الله فليكن كبير المسلمين لك أبا، وأوسطهم لك أخا، وأصغرهم لك ولدا؛ فبر أباك، وارحم أخاك، وتحنن على ولدك».»
وقال له رجاء: «إن أردت النجاة غدا من عذاب الله فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، واكره لهم ما تكره لنفسك»، فبكى هارون الرشيد بكاء شديدا حتى غشي عليه ... فقال الفضل بن الربيع: «ارفق بأمير المؤمنين»، فقال الفضيل: «يا ابن الربيع قتلته أنت وأصحابك وأرفق أنا به؟!» فلما أفاق قال: «زدني» ...
فقال: «يا أمير المؤمنين! ... بلغني أن عاملا لعمر بن عبد العزيز شكا إليه السرف فكتب إليه عمر يقول: «يا أخي اذكر سهر أهل النار، وخلود عباد الله فيها» فلما قرأ كتابه طوى البلاد حتى قدم عليه، فقال له عمر: «ما أقدمك؟» قال: «خلعت قلبي بكتابك، لا وليت لك ولاية أبدا حتى ألقى الله».»
وعاد الرشيد أيضا فبكى بكاء شديدا، ثم قال: «زدني»، فقال: «يا أمير المؤمنين! إن جدك العباس عم النبي
صلى الله عليه وسلم
جاء فقال: «يا رسول الله! أمرني على إمارة»، فقال له النبي
صلى الله عليه وسلم : «يا عم! نفس تحييها خير من إمارة لا تحصيها ... إن الإمارة حسرة وندامة يوم القيامة، فإن استطعت أن لا تكون أميرا فافعل».»
فبكى الرشيد، ثم قال: «زدني»، فقال: «يا حسن الوجه، إن استطعت أن تقي هذا الوجه من النار فافعل، وإياك أن تصبح أو تمسي وفي قلبك غش لرعيتك.»
فبكى الرشيد أيضا، ثم قال للفضيل: «أعليك دين ؟» قال: «دين لربي يحاسبني عليه»، فقال هارون: «إنما أعني دين العباد» فقال: «إن ربي لم يأمرني بهذا، وإنما أمرني أن أصدق وعده وأطيع أمره» فقال له الرشيد: «هذه ألف دينار خذها لعيالك، وتقو بها على عبادة ربك.»
فقال الفضيل: «سبحان الله! أنا أدلك على النجاة، وتكافئني بمثل هذا؟! سلمك الله»، ثم صمت.
لهو الرشيد
صورتان
هناك فرق كبير بين صورة الرشيد التي يمثلها المؤرخون أمثال: الطبري وابن خلدون وأبي يوسف - في الخراج - وصورته التي يصورها ألف ليلة ليلة، والأغاني، وإعلام الناس فيما وقع للبرامكة مع بني العباس ... إلخ.
فصورة المؤرخين تصور الرشيد رجل جد فيه شيء من اللهو، والكتب الأخيرة تمثله رجل لهو فيه شيء من الجد.
وربما كانت صورة المؤرخين أعدل؛ لأن الآخرين أكثر حرية وتساهلا في الرواية، وأميل إلى اللهو، ودعوة الناس إليه، وأميل إلى التزايد من ذكر عطاءات الرشيد والبرامكة ونحوهم، لعلهم يستفيدون من أمراء عصرهم بعض ما أعطي من يحكون عنه، فإنا لو حسبنا حساب المال الذي أعطاه الرشيد والبرامكة - على قولهم - لما كفت الدنيا لتحقيق ما قالوا ... فكيف ومالهم محدود!
على كل حال كان للرشيد - من غير شك - جانب من اللهو، وللهو ذلك العصر تاريخ طويل يبتدئ من الدولة الأموية، ولكن الأمويين كانوا يعملون الملاهي لأذواقهم البسيطة العربية ... كالذي روي أن الحجاج أولم في اختتان بعض ولده؛ فاستحضر بعض الدهاقين يسأله عن ولائم الفرس، وقال له: «أخبرني بأعظم صنيع شهدته»، فقال له: «نعم أيها الأمير ... شهدت بعض مرازبة كسرى، وقد صنع لأهل فارس صنيعا، وأحضر فيه صحاف الذهب على أخونة الفضة ... أربعا على واحد، وتحمله أربع وصائف، ويجلس عليه أربعة من الناس، فإذا طعموا أتبعوا أربعتهم المائدة بصحائفها ووصائفها.»
فقال الحجاج: يا غلام انحر الجزور؛ كأنه كره هذا الوصف واستعظمه.
وكان الأمويون - على كل حال - يعدلون العادات الفارسية، والأغاني الفارسية، ونحو ذلك بذوقهم العربي، أما العباسيون فكانوا يأخذون عادات الفرس كما هي بحذافيرها ... اتخذوا النيروز لهم عيدا، ولم يكن له في عصر الأمويين شأن له بال، وفي عصر العباسيين كانت تهدى فيه الهدايا، وتوزع فيه اللطائف، ويحتفلون به كما يحتفلون بالعيد الكبير والصغير ... فلما جاءت الدولة العباسية كانت الأمور تحتاج إلى جد لا لهو فيه، ولولاه لضاعت الدولة من أيديهم، فكان أبو العباس السفاح - مثلا - أول الخلفاء العباسيين جادا لا يلهو، ولما تزوج أم سلمة حلف لها أن لا يتزوج عليها ولا يتسرى.
وحاول بعض المقربين إليه أن يحملوه على اللهو فأبى وأبعدهم؛ لأنه شعر بكثرة ما عليه من تبعات لا تمكنه من أن يلهو ساعة.
وجاء بعده رجل الدولة أبو جعفر المنصور، فكان مثل أخيه جادا لا يلهو؛ فيروي الطبري أنه لم ير في دار المنصور لهو قط، ولا شيء يشبه اللهو واللعب والعبث، ولما سمع شعر طريف بن تميم العنبري:
إن قناتي لنبع لا يؤيسها
غمز الثقاف ولا دهن ولا نار
متى أجر خائفا تأمن مسارحه
وإن أخف آمنا تقلق به الدار
إن الأمور إذا أوردتها صدرت
إن الأمور لها ورد وإصدار
قال: «أنا أحق بأبياته هذه»، وأمر أن يحدو الحادي له بهذه الأبيات، فأمر بإعطائه درهما واحدا.
فقال الحادي: «يا أمير المؤمنين حدوت بهذه الأبيات لهشام بن عبد الملك فأمر لي بعشرين ألف درهم، وتأمر لي أنت بدرهم.»
قال: «إنا لله ... ذكرت ما لم نحب أن تذكره، ووصفت رجلا طالما أخذ مال الله من غير حله، وأنفقه في غير حله ... يا ربيع! اشدد يديك به حتى يرد المال.»
فما زال الحادي يبكي، ويتشفع، حتى كف يده، وكان لا يشرب، ولا يحب الشراب، وكل ما فعل أنه أذن لبختيشوع الطبيب أن يشرب بحضرته، واشتد الأمر بالناس من كثرة جده وقسوته، ولما رأوا المهدي يلهو بعض الشيء، ويلعب سري عنهم كما سري عن الناس بموت عمر وتولية عثمان.
وقد كان المهدي كريما لا يكتنز، ويحب الفنون الجميلة من غناء وشعر، وبدأ يسمعهم من وراء الستار حفظا لهيبة الخلافة، ثم جره السمار إلى أن يحضر مجلس المغنين؛ بدعوى أن اللذة في مشاهدة السمر أدعى إلى السرور، كما كان يكثر من الجواري ويحب شراءهن، ولم يكن يشرب النبيذ، ولكن يسمح للناس أن يشربوا في حضرته، وملأ بشار بغداد وغيرها بشعره الخليع من مثل:
عسر النساء إلى مياسرة
ومثل:
قد عشت بين الريحان والراح والمز
هر في ظل مجلس حسن
وقد ملأت البلاد ما بين قيفو
ر إلى القيروان فاليمن
شعرا تصلي له العواتق والشبي
ب صلاة الغواة للوثن
ثم نهاني المهدي فانصرفت
نفسي صنيع الموفق اللقن
فالحمد لله لا شريك له
ليس بباق شيء على الزمن
إسراف الرشيد
ثم انتقل اللهو في عهد الرشيد نقلة جديدة؛ فأسرف فيه إسرافا لم يعرفه خليفة من قبله، وقد منحه الله عاطفة ينسى بها نفسه متى وجدت دواعي الأنس، وساعده على ذلك سلطان البرامكة في زمنه، ونقل عادات الفرس، وما نقل عنهم من ترف ونعيم، وكان صديق الرشيد جعفر البرمكي شابا مسرفا على نفسه يلهو ما شاء له اللهو، وكلاهما كان إذا نحا ناحية يصل فيها إلى نهايتها، حتى ليخيل لمن يقرأ مثل كتاب الأغاني أنه لا يعرف إلا اللهو، ويخطو خطوة أخرى، فيشرب ويسرف في الشراب لا كما كان يفعل أبوه.
على أنه - والحق يقال - لم يكن لاهيا كل اللهو كما تصوره الأغاني، ولا جادا كل الجد كالذي يصوره بعض الناس، وإنما كان جادا لاهيا معا، تثور عاطفته الدينية أحيانا فيصلي مائة ركعة، ويبكي من الوعظ، ويحج ماشيا، وتثور عاطفته الدنيوية حينا فيسمع الغناء ويشرب الشراب.
ويقول الشعر، وتثور عاطفته الحربية أحيانا فيتولى قيادة الصائفة والشاتية، فمن الناس من يجد ويلهو ... فإذا جاء وقت الجد أسرف فيه، وإذا جاء وقت اللهو أسرف فيه، ويقول مع القائل:
ولله مني جانب لا أضيعه
وللهو مني والخلاعة جانب
فكان الرشيد من هذا الصنف يحارب فيحسن الحرب، ويلهو فيحسن اللهو، وكان أبو نواس يعجب الرشيد حين تشعشع الخمر في رأسه، فيسمعه يصف الخمر ويصف لعبها بالعقول كالذي يقوله:
اسقني يا ابن أدهما
واتخذني لك ابنما
اسقنيها سلافة
سبقت خلق آدما
فهي كانت ولم يكن
ما خلا الأرض والسما
رأت الدهر ناشئا
وكبيرا مهرما
فهي روح مخلص
فارق اللحم والدما
فاسقنيها، وغن صو
تا لك الخير أعجما
أو يقول:
يا نديمي رد بالله
مشاشي وعظامي
اسقني بالكأس والطا
س جميعا وبجام
واسقني حتى تراني
لا أرجى للقيام
فالرشيد يستخدمه كنديم على الشراب يطري له شرابه، ويحضه على الإكثار منه، فهو كالنغمة المرحة المستهترة على الوتر المرح الطروب.
وأما منصور النميري فيطرب الرشيد حين تثور عاطفته على الأمويين والعلويين، فيحتاج إلى من يغنيه بذمهم جميعا، ومدح آل العباس عامة، ومدحه خاصة وهكذا، مما نوع الشعر وفرعه، وجعل باب المديح في الأدب من أكبر الأبواب وأطولها.
وكان يجيز من شرح له مسألة نحوية أو فقهية أو أدبية كما يجيز الكثير لمن غنى فأجاد، ومن غنت فأحسنت، يسمع قول أبي العتاهية:
خانك الطرف الطموح
أيها القلب الجموح
لدواعي الخير والشر
ر دنو ونزوح
هل لمطلوب بذنب
توبة منه نصوح
كيف إصلاح قلوب
إنما هن قروح
أحسن الله بنا أن
ن الخطايا لا تفوح
بين عيني كل حي
علم الموت يلوح
كلنا في غفلة وال
موت يغدو ويروح
لبني الدنيا من الدن
يا غبوق وصبوح
رحن في الوشي وأقبل
ن عليهن المسوح
كل نطاح من الده
ر له يوم نطوح
نح على نفسك يا مس
كين إن كنت تنوح
لتموتن وإن عم
مرت ما عمر نوح
فأبو العتاهية يعجب الرشيد شعره؛ إذ كان به نزعة إلى الزهد، واحتقار ما عليه من ترف ونعيم ... فيسمعه يقول:
إذا ما خلوت الدهر يوما فلا تقل
خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ما مضى
ولا أن ما يخفى عليه يغيب
لهونا لعمر الله حتى تتابعت
ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى
ويأذن في توباتنا فنتوب
وإن امرءا قد سار خمسين حجة
إلى منهل من ورده لقريب
فأحسن جزاء ما اجتهدت فإنما
بقرضك تجزى والقروض ضروب
وهكذا من نصائح يميل إليها الرشيد في بعض الأوقات فيتعظ بها، وقد يبكي منها فيكون أبو العتاهية في ذلك كالنغمة الحزينة على وتر حزين، فيبكي الرشيد وينتحب، ويسمع نكتة من ابن أبي مريم فيضحك حتى يستلقي على قفاه، وهكذا.
ويقوم خارجي عليه فيقتل أبطاله، وينتهب أمواله مرارا، ويجهز إليه الرشيد جيشا قويا فيحاربونه ويغلبونه، ويأمر الرشيد بإحضاره، فلما يمثل بين يديه، يقول الرشيد: «ما تريد أن أصنع بك؟» قال: «ما تريد أن يصنع الله بك إذا وقفت بين يديه»، فيأمر بإطلاقه ... فلما خرج قال بعض جلسائه: «يا أمير المؤمنين ... رجل قتل أبطالك، وانتهب أموالك، تطلقه بكلمة واحدة، فهذا مما يجرئ عليك أهل الشر»، فقال الرشيد: «ردوه» فعلم الرجل أنه قد تكلم في أمره، فقال: «يا أمير المؤمنين لا تطعهم؛ فلو أطاع الله فيك الناس ما ولاك عليهم.»
فيعفو ثانية ...
ويخرج خارجي آخر ليس له مثل حججه وبراعته، فيقتل أبطاله ويدوخ جيوشه، فيحضر إليه، والرشيد على سرير الموت، فيأمر بقتله، ويقول: «والله لأقتلنك، ولو كنت في النفس الأخير»، وهكذا تتجاذبه عواطف الخير والشر، والانتقام والعفو، والناس يقلدونه.
قدوة الرعية
فما صدقوا أن رأوا الرشيد يقيم مجالس اللهو، ويستمع إلى إبراهيم الموصلي وغيره، ويشهد حفلات الرقص حتى قلدوه في ذلك؛ فالغني الكبير، والوسط الحال، والتاجر الواسع الثراء، يقيمون حفلات على قدرهم مثله، وقد رزق الله بني العباس كثرة في العدد؛ من كثرة ما يصلون إلى الأحرار والإماء، حتى لقد أحصي عدد أولاد العباسيين فكانوا أكثر من ثلاثين ألفا، كانوا - أو أكثرهم - أغنياء مترفين، يقلدون رئيسهم الرشيد، ويفعلون فعله في اللهو والترف.
وقد حدثونا أن عبد الله بن العباس ابن الوزير الفضل بن الربيع كان مغنيا ماهرا وماجنا مستهترا ... يصطبح في حدائق النرجس، ويعيش عيشة لهو وخلاعة، وأمثاله كثيرون يطول ذكرهم.
وسرت العدوى من أولاد الأغنياء إلى الطبقة الوسطى، وبالغوا في الموائد وتنسيقها، وألوان طعومها، ولكن الحق يقال: إن الحياة الاجتماعية في بغداد كانت أشبه شيء بالحياة الاجتماعية الآن في مصر؛ غنى مفرط، وفقر مفرط؛ فالأمراء وكبار التجار يجري المال في أيديهم جري الماء، والعلماء وصغار الفلاحين وصغار التجار لا يجدون ما يأكلون إلا أن يتصل عالم بخليفة أو أمير فيدر عليه الرزق، فالمعيشة لم تكن ديمقراطية على النحو الذي نألفه اليوم في الديمقراطية، يستطيع أن يتكسب فيه العالم من الشعب.
إنما كانت حياة أرستقراطية، إن لم يستعن العالم أو الشاعر بأمير مات من الجوع؛ ولذلك اشتهر قول القائل في بغداد:
بغداد دار طيبها آخذ
نسيمها مني بأنفاس
تصلح للموسر لا لامرئ
يبيت في فقر وإفلاس
لو حلها قارون رب الغنى
أصبح ذا هم ووسواس
هي التي توعد لكنها
عاجلة للطاعم الكاسي
حور وولدان وكل ما
تطلبه فيها سوى الناس
ويقول آخر:
أذم بغداد والمقام بها
من بعد ما خبرة وتجريب
ما عند سكانها لمختبط
1
خير ولا فرحة لمكروب
يحتاج باغي المقام بينهم
إلى ثلاث من بعد تثريب
كنوز قارون أن تكون له
وعمر نوح وصبر أيوب
ولذلك زهد الناس في هذه الحالة السيئة، ونزع بعضهم إلى الزهد والتصوف، وقد شكا أبو العتاهية من سوء هذه الحالة، وصور بؤس الشعب في شعره تصويرا لطيفا فقال:
من مبلغ عني الإما
م نصائحا متواليه
إني أرى الأسعار أس
عار الرعية غاليه
وأرى المكاسب نزرة
وأرى الضرورة فاشيه
وأرى غموم الدهر را
ئحة تمر وجائيه
وأرى اليتامى والأرا
مل في البيوت الخاليه
من بين راج لم يزل
يسمو إليك وراجيه
يشكون مجهدة بأص
وات ضعاف عاليه
يرجون رفدك كي يروا
مما لقوه العافيه
من يرتجى للناس غي
رك للعيون الباكيه
من مصبيات جوع
تمسي وتصبح طاويه
من يرتجى لدفاع كر
ب ملمة هي ما هيه
من للبطون الجائعا
ت وللجسوم العاريه
يا ابن الخلائف لا فتن
ت ولا عدمت العافيه
إن الأصول الطيبا
ت لها فروع زاكيه
ألقيت أخبارا إلي
ك عن الرعية شافيه
وحتى الأغنياء والمترفون لم يكونوا منعمين بغناهم وترفهم كما ينبغي؛ لأنهم كانوا عرضة في كل وقت للقتل والمصادرة.
وقد صدق العتابي إذ قيل له: «لم لا تقترب بأدبك إلى السلطان؟» فقال : «لأني رأيته يعطي عشرة آلاف في غير شيء، ويرمي من السور في غير شيء، ولا أدري أي الرجلين أكون.»
ويصف لنا المؤرخون لهذا العصر فرقة تسمى المتطوعة تنكر ما فشا من الفسق في بغداد، وتروي لنا «طبقات الصوفية» انتشار الزهد والفقر بين المتصوفين في هذا العصر، وذلك رد فعل لحياة اللهو بين الأغنياء والمترفين، ومن أراد أن يعيش ولم يتصل - من العلماء - بأمير أو وزير عاش فقيرا بائسا؛ كالخليل بن أحمد يقول: «إذا أغلق علي باب حجرتي كفيت هموم الدنيا»، وجاءه يوما رسول الخليفة فأراه الخليل كوزا مملوءا بالماء وكسرة خبز جافة، وقال: «من كان عنده هذان لم يحتج إلى خليفة أو أمير.»
وحكت لنا كتب التراجم أخبارا كثيرة عن علماء زهدوا في الأمراء وعطايا الخلفاء، فكان مصيرهم الفقر المدقع ... كالذي حكوا عن عبد الوهاب المالكي أنه كان يجتمع على بابه المئات من العلماء، ولما أراد الرحيل إلى مصر، ودعه عدد كبير ... فقال: «والله لو وجدت في بغداد من الخبز ما يكفيني ما انصرفت عنكم وعنها» فلما وصل إلى مصر، وتيسرت حاله، حضرته الوفاة فقال: «سبحان الله ... إذا عشنا متنا»، وفي كتاب الفلاكة والمفلوكين أمثلة كثيرة من هذا القبيل.
الإسراف في المديح
وهذا هو السبب في أن الشعر الكثير في الأدب العربي هو شعر المديح، أو بعبارة أخرى هو شعر الاستجداء، وأما غيره من الشعر فقليل بالنسبة إليه، وهذا أيضا هو السبب في أن الظاهرين من الشعراء والأدباء هم شعراء بغداد.
وأما من عداهم فمغمورون؛ ولذلك أيضا كان العالم الديني يكاد يكون أفقر العلماء؛ لأن الدين يمنعه عن الابتذال، ولذلك تقرأ تراجمهم فترى فقرا مدقعا، وبؤسا واضحا، ورضا بالقليل مع الإفراط في الجوع واحتمال الفقر.
وقد سبب الإفراط في الغنى، والإفراط في الفقر، حركة تشبه الاشتراكية اليوم؛ فقد روى المسعودي أن محمد بن سليمان - قريب الرشيد - كان يغل كل يوم مائة ألف درهم، فكان يركب يوما بالبصرة، وسوار القاضي يسايره في جنازة ابنة عم له، فاعترضه رجل وقال له: «يا محمد! أمن العدل أن تكون غلتك في كل يوم مائة ألف درهم، وأنا أطلب نصف درهم فلا أقدر عليه؟»
ثم التفت إلى سوار فقال: «إن كان هذا عدلا فأنا فأكفر به»، فأسرع إليه غلمان محمد وكفوه عنه، وأيا ما كان، فنحن لو نظرنا إلى الرشيد بعين زماننا لمقتناه؛ يفعل ما يشاء، ولا يسأل عما يفعل، حاكم مستبد، لا يقيده برلمان، ولا يتقيد بعدل دائم ... يكثر من مصادرة الأموال، ويوزعها بالهيل والهيلمان على من لها بأهل، ومن ليس لها بأهل، وإلا فما بال أموال الرعية الفقراء المساكين ... تصرف منها آلاف من الدنانير على بيت من الشعر قيل في مدحه، أو صوت جميل لحن له، أو على مسألة نحوية تافهة لا تساوي شيئا، أو على جارية جميلة تحسن الغناء.
شارلمان والرشيد
تجاوز الدين وأوامره
وكان الخلفاء من عهد معاوية ومن بعده قد تعدوا الإسلام وأوامره إلى رغباتهم وميولهم، ولم يشذ عن هذا إلا عمر بن عبد العزيز؛ حيث أحاط نفسه بعشرة من كبار التابعين والفقهاء العالمين بأصول الإسلام، حتى لا يفعل فعلا إلا استشارهم وعمل برأيهم، أما من عداه من عهد معاوية فكانوا يعملون برأيهم هم، وافق روح الإسلام أو خالفه.
فليس الرشيد بدعا من الخلفاء، وإنما هو نتاج كل من قبله، يسير سيرتهم، ويتبع ما تمليه عليه بيئته ... فلو أن خليفة في العصر الحاضر أمر بقتل رجل من رعيته لكان جرما شنيعا يحز في صدور الناس ولا ينسونه.
نعم، يجب أن تقاس الأخلاق في كل زمان ومكان بحسبها؛ فلو خرجت امرأة سافرة في عصرنا ما عد هذا جريمة، بل لو خرجت محجبة لعد حجابها جريمة، والأمر على العكس منذ خمسين عاما؛ فلو خرجت امرأة حرة سافرة لانتقدها الناس، وعدوا ما تأتي به منكرا كبيرا، وهكذا تتطور الأخلاق بتطور الزمان.
وكان الرجل يعير بأنه لم يعرف أبوه ... كم لاقى زياد من العناء لمثل هذا، وهو اليوم في بعض بلدان أوروبا يعامل كمعاملة من عرفت آباؤهم.
كل هذا يخفف من الحملة على الرشيد وأمثاله في زلاتهم، كسفكه دماء البرامكة من غير محاكمة ولا معرفة بجرم، ومثل مصادرته للأموال وبعثرته مما صادر ونحو ذلك، والله لا يؤاخذ الناس إلا حسب ظروفهم وبيئاتهم ومقدار عقولهم.
علاقة الرشيد بشارلمان
ومما زاد في شهرة الرشيد علاقته بالدول الغربية، وتوارد الوفود عليه وإرسالها؛ فقد تحالف - مثلا - مع شارلمان إمبراطور فرنسا وألمانيا وإيطاليا، وسفرت بينهما سفارات طويلة الأمد مرتين: الأولى استغرقت ما بين عامي 798 و801، وكانت السفارة في المرة الأولى مؤلفة من سفيرين إفرنجيين، ومعهما مترجم يهودي يعرف العربية يقال له إسحاق، وكانت السفارة تتضمن أشياء ثلاثة: أن يعهد الرشيد إلى شارلمان بالقيام بمصالح العباسيين فيما يفتحه شارلمان من بلاد الأندلس، وأن يثير شارلمان الحزب القائم بالدعوة العباسية في الأندلس؛ وذلك لاشتراك الطرفين في عداء الأندلس؛ الرشيد لخروج بني أمية عليه، وشارلمان لأن الأندلس اقتطعها المسلمون من دولته؛ ذلك أن السفاح لما شدد النكير على الأمويين وقتلهم فر عبد الرحمن - الملقب فيما بعد بالداخل - هائما على وجهه هو وأخوه، واختفى في بعض البلاد، فلما أحس عبد الرحمن وأخوه بالعباسيين يقدمون فرا وعبرا النهر، فوعدهما العباسيون بالنجاة، وصدق أخوه، ورجع فذبح.
ولم يصدق عبد الرحمن، وسار إلى فلسطين، ومنها إلى إفريقية، ثم إلى الأندلس، وأمكنه أن يخضعها لأمره منتهزا فرصة وجود الخلاف في البلاد والنزاع القبلي بين اليمنيين والمضريين.
وأخيرا استولى على قرطبة، ثم بقية الأندلس، ونشر الأمن في أرجائها، وغاظ ذلك المنصور، ثم الرشيد من بعده؛ إذ كانت الأندلس قد خرجت من أيدي العباسيين.
وفي سنة 777 ائتمر زعماء العرب في الشمال الشرقي من الأندلس، وألفوا كتلة قوية، وانتقضوا على عبد الرحمن، وتعاقدوا مع شارلمان الذي كان مهادنا للرشيد، ومناصرا له، فرحب الرشيد بهذه الفكرة.
ولكن زحف شارلمان، سنة 778 باء بالفشل عندما أغلقت مدينة سراقوسطة في وجهه، وهجم على جيشه سكان الجبال، حتى فقد كثيرا من أتباعه ومتاعه، واستعان عبد الرحمن على الانتصار على شارلمان بجيش منظم أحسن تنظيم، ومدرب أحسن تدريب، وكان يبلغ نحو أربعين ألف مقاتل من البرابرة الذين استجلبهم من أفريقيا، فلما خذل شارلمان يئس الرشيد منه ومن الاستيلاء على الأندلس.
وكان الرشيد كأبيه وجده شديد العداوة للأمويين، ومنهم بنو أمية في الأندلس، وشارلمان لحبه في الفتح وأمنيته في رد الأندلس إلى مملكته بعد أن اغتصبت من المملكة المسيحية.
والأمر الثاني أن يسهل الرشيد لزوار بيت المقدس من المسيحيين الكاثوليكيين، ويعفيهم من القيود والتكاليف التي وضعها الرشيد إذ ذاك على أهل الذمة.
أما السفارة الثانية فقد أوفدها شارلمان إلى الرشيد، ولقد أحصيت التحف والهدايا التي بعث بها الرشيد إلى شارلمان، فكانت بوقا من العاج، وهو محفوظ للآن في مدينة آج، وسيفا وصينية من الذهب محلاة بقطع من الزجاج المختلفة الألوان، وعليها صورة لكسرى الأول مصنوعة من البللور محفوظة في دير «سنتدفيس»، وقطعة من قطع شطرنج شرقي محفوظة في الدير نفسه، وإبريقا من الذهب محفوظا في دير كنتون فللس، وثماني شوكات من التاج الذي يقال: إنهم ألبسوه رأس المسيح عليه السلام عند صلبه.
كما يحدثوننا أن الرشيد أرسل إلى شارلمان في السفارة الأولى هدية فيها فيل يسمى أبا العباس، وهدايا أخرى، وقد أخذ هذا الفيل شهرة واسعة؛ لأن الفرنج لم يكونوا رأوا فيلا قط.
وكان الرشيد قد أتى به من الهند، وبعد ذلك أرسل شارلمان وفدا إلى بلاط الخليفة هارون الرشيد، وقد قالوا: إنه مر في طريقه بالأراضي المقدسة، ثم سار إلى بلاط الخليفة في بغداد.
وقد أرسل الرشيد وفدا آخر إلى شارلمان يحمل هدايا ثمينة منها رخام ملون بألوان متنوعة جميلة، ومنسوجات من الحرير والكتان، وروائح عطرية وبلسم، وساعة مائية، وأوان نحاسية، وقد أقام السفراء عند الإمبراطور مدة، ثم أرسلوا إلى إيطاليا حيث أبحروا من هناك إلى المشرق.
وقد أنكر بعض الباحثين من الفرنج حكاية هذه الوفود بدعوى أن مؤرخي العرب لم يذكروها في كتبهم، ولكن هذه الحجة لا تقنع؛ لأن كثيرا من الحوادث حدثت في أوروبا ولم يذكرها مؤرخو العرب لجهلهم بها، خصوصا وأن بقايا هذه الهدايا محفوظة إلى اليوم، ومن المؤكد أنها مصنوعة في الشرق، وليس من المعقول أن يشتريها إسحاق اليهودي من ماله وينسبها إلى الرشيد ... فإسحاق أعجز وأحزم من أن يفعل هذا.
وأحيانا كانت تصفو العلاقات بين الرشيد والبيزنطيين؛ فقد روى سفير بيزنطي أن إمبراطور القسطنطينية أوفد إلى الرشيد وفدا فاستقبل على بضعة فراسخ من بغداد، ومر الوفد أمام جيش مؤلف من مائة وثمانين ألفا مدججين بالسلاح، وقدم للوفد أفخم الهدايا من الخليفة الرشيد، منها مائة جواد أصيل مجهزة، وثياب فاخرة، وفرش له في الطريق ثمانية وعشرون ألف طنفسة تغطي أرض الطريق، وزين عدد كبير من السفن كانت تمخر عباب نهر الدجلة، وأنه سمع بداخل القصر زئير الأسود، ورئي معها حراسها الأفريقيين مما أدهش الوفد.
وكانت هذه الوفود سواء في القسطنطينية، أو عند شارلمان، تنشر الأحاديث العجيبة عما شاهدوه ... فيعظم في عينيهم شأن الرشيد وشأن الشرق.
وكانت عقلية الرشيد إذ ذاك أنضج وأوعى من عقلية الغرب، وكانت صناعتهم أدق وأجمل، حتى ليحدثونا أن الغربيين عجبوا عجبا شديدا عند رؤيتهم البوصلة، والساعة الدقاقة، وظنوا من عجبهم أن فيهما شيطانين يحركانهما، ويأتيان بهذه الأعاجيب.
وكان من مقتضى هذه الحضارة التي شاهدناها في القصور والعمارات والأسواق والهدايا أن تصل إلينا آثارها مما يدلنا عليها، ولكن غزوة التتار التي جاءت في آخر الدولة العباسية، وقضت عليها أذهبت آثارها، وأضاعت كنوزها.
الإمبراطور شارلمان يستقبل وفد هارون الرشيد الذي جاءه بالهدايا.
فقد كانت غزوة عنيفة جامحة لم يسبق لها في التاريخ مثيل ... قال السيد أمير علي:
إن هولاكو أصدر عند زحفه على بغداد أمره بنهب المدينة وذبح أهلها، حتى خرج الشيوخ والأطفال والنساء من المنازل حاملين المصاحف على أكفهم وهم يتوسلون ويتضرعون إلى الجنود بشكل يفتت الأكباد، ولكن الغزاة لم يعبأوا باستغاثتهم، ووطئوا أجسامهم بحوافر خيولهم، وهجموا على نساء الأشراف والنبلاء.
أما الكنوز الأدبية والفنية ومخلفات المدنية الإسلامية فقد دمرت تدميرا في خلال بضع ساعات، وطفقت شوارع المدينة تجري فيها الدماء ثلاثة أيام، حتى اصطبغ ماء دجلة بالدم لعدة أميال، وظل التخريب والذبح وانتهاك الحرمات ستة أسابيع، وتقوضت القصور والجوامع إما بالنار أو بالمعاول؛ لأنه كان يغيظهم ما فيها من قبابها الذهبية، وأشعلوا النار في نتائج قرائح العلماء والأدباء، وألقيت الكتب بعضها في النار وبعضها في نهر دجلة.
وهكذا فقدت كنوز خمسة قرون، وفنيت زهرة الأمة فناء تاما ...
عهد الرشيد لولديه
واهتدى الرشيد أخيرا إلى أن يعهد بالخلافة للأمين والمأمون، ويقسم البلاد بينهما، وبعدهما إلى المعتصم، وفاته أن الملك لا يحتمل الاشتراك ... فلا بد أن يتخاصم الشريكان أو الشركاء، ويتغلب أحدهم، وهذا ما كان بعده.
ففي سنة 186 هجرية حج الرشيد، ومعه المرشحان للخلافة الأمين والمأمون وقواده ووزراؤه وقضاته، فبعد أن قضى مناسك الحج كتب كتابين، أجهد الفقهاء والقضاة أنفسهم فيهما ليزيدوا الكتابة توثيقا؛ أحدهما على محمد الأمين يشترط عليه الوفاء بأن يولي المأمون خراسان وما إليها، ويوصي للمأمون فيه بأموال وضياع وغلات وأدوات الحرب.
والثاني يحوي صورة البيعة لهما، وهي التي أخذها من الخاصة والعامة، وجعل الكتابين في البيت الحرام تأكيدا لهما، وعليهما توقيع الوزراء والقادة والأمراء ووجوه بني هاشم والقضاة والفقهاء، بعد أن أمر الرشيد بقراءة الكتابين، ووقع عليهما، واعترضت زبيدة يوما أم الأمين بإعطاء أدوات الحرب للمأمون فقال لها: «إني أخاف على المأمون من الأمين، ولا أخاف على الأمين من المأمون.»
واطمأنت نفس الرشيد بعض الشيء.
كتاب المأمون للرشيد
وهذا نص الكتاب الذي كتبه المأمون لأبيه الرشيد؛ يتعهد فيه بتنفيذ العهود التي أعطيت له ما نفذ الأمين العهود عليه:
بسم الله الرحمن الرحيم ... هذا كتاب كتبه عبد الله ابن هارون - أمير المؤمنين - في صحة من عقله، وجواز من أمره، وصدق نيته فيما كتب في كتابه هذا، ومعرفته بما فيه من الفضل والصلاح له ولأهل بيته وجماعة المسلمين.
إن أمير المؤمنين ولاني العهد والخلافة، وجميع أمور المسلمين في سلطانه، بعد أخي محمد بن هارون - أمير المؤمنين - وولاني في حياته وبعد موته ثغور خراسان وكورها وجميع أعمالها، من الصدقات والعشر والبريد والطرز وغير ذلك.
واشترط لي على محمد بن هارون - أمير المؤمنين - الوفاء بما عقد لي من الخلافة والولاية للبلاد والعباد بعده، وولاية خراسان وجميع أعمالها، لا يعرض لي في شيء مما أقطعني أمير المؤمنين، أو ابتاع لي من الضياع والعقد والدور والرباع، أو ابتعت لنفسي من ذلك، وما أعطاني أمير المؤمنين هارون من الأموال والجوهر والكساء والمتاع والدواب لا يحاسبني في شيء، ولا يدخل علي، ولا على أحد كان معي ومني، ولا عمالي ولا كتابي، ومن استعنت به من جميع الناس مكروها في نفس ولا دم ولا شعر ولا بشر ولا مال ولا صغير ولا كبير، وكتب بذلك كتابا وكتبه على نفسه.
وشرطت لعبد الله هارون أمير المؤمنين، وجعلت له على نفسي أن أسمع لمحمد بن أمير المؤمنين وأطيعه ولا أعصيه، وأنصحه ولا أغشه، وأوفي ببيعته وولايته، ولا أغدر ولا أنكث، وأنفذ كتبه وأموره، وأحسن مؤازرته ومكاتفته.
وأجاهد عدوه في ناحيتي ما وفى لي بما شرط لي، ولعبد الله هارون أمير المؤمنين، ورضي له به وقبلته، وإن احتاج محمد بن أمير المؤمنين إلى جند وكتب إلي يأمرني بإشخاصهم إليه أو إلى ناحية من النواحي، أو عدو من أعدائه خالفه وأراد نقص شيء من سلطانه الذي أسنده هارون أمير المؤمنين إلينا وولاناه؛ أن أنفذ ولا أخالفه، ولا أقصر في شيء كتب به إلي.
وإن أراد محمد بن أمير المؤمنين أن يولي رجلا من ولده العهد من بعدي؛ فذلك له ما وفى بما جعل لي أمير المؤمنين هارون، واشترط لي عليه، وشرطه على نفسه في أمري، وعلي إنفاذ ذلك والوفاء به، ولا أنقض ذلك ولا أغيره ولا أبدله، ولا أقدم قبله أحدا من ولدي، ولا قريبا ولا بعيدا من الناس أجمعين، إلا أن يولي هارون أمير المؤمنين أحدا من ولده العهد بعدي، فيلزمني ومحمدا الوفاء بذلك.
وجعلت لأمير المؤمنين هارون - ولمحمد بن أمير المؤمنين - جميع ما اشترط لي هارون أمير المؤمنين في نفسي، وما أعطاني أمير المؤمنين من جميع الأشياء المسماة في الكتاب الذي كتبه لي، وعلي عهد الله، وميثاقه ، وذمة أمير المؤمنين، وذمتي، وذمم آبائي، وذمم المؤمنين، وأشد ما أخذ الله على النبيين والمرسلين وخلقه أجمعين من عهوده ومواثيقه، والأيمان المؤكدة التي أمر الله بالوفاء بها؛ فإن أنا نقضت شيئا مما شرطت، وسميت في كتابي هذا أو غيرت أو بدلت أو نكثت أو غدرت؛ فبرئت من الله ومن ولايته ومن دينه ومن محمد رسول الله، ولقيت الله يوم القيامة كافرا به مشركا، وكل امرأة هي اليوم لي أو أتزوجها إلى ثلاثين سنة طالق ثلاثا البتة ... طلاق الحرج، وكل مملوك لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة أحرار لوجه الله، وعلي المشي إلى بيت الله الحرام الذي بمكة ثلاثين حجة نذرا واجبا علي، وفي عنقي، حافيا راجلا لا يقبل الله مني إلا الوفاء به، وكل مال هو لي اليوم أو أملكه إلى ثلاثين سنة هدي بالغ الكعبة، وكل ما علي لعبد الله أمير المؤمنين ما في هذا الكتاب لا أضمر غيره ولا أنوي سواه ...
وشهد الشهود الذين شهدوا على أخيه محمد ابن أمير المؤمنين، وقد كانت هذه غلطة كبرى لم يسبق إليها؛ فلم يعهد أحد قبل الرشيد لاثنين يتوليان في وقت واحد؛ لأنه كان من البداهة أن الخليفة لا يمكن أن يتسع صدره لمنافس له، وتلك حال طبيعية، ولكنه كان تحت ضغط عقله وعاطفته؛ فهو يحب الأمين، وتطن في آذانه نغمة زبيدة والفضل بن الربيع باستمرار ليعهد إلى الأمين.
وعقل الرشيد يدعوه لأن يبايع أكفأ أولاده، وكان المأمون من غير شك أكفأهم، فسمع لعقله ببيعة المأمون، وسمع لعاطفته ببيعة الأمين، ولو خضع لعقله الأعلى لبايع المأمون وحده، واعتمد على الكفاية وحدها، وعلم أن الملك لا يتسع لرجلين كالألوهية، والله تعالى يقول:
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا .
ولم يعتبر هارون الرشيد بتجارب الأمم وأحداث الزمان؛ فكان من أشهر الحوادث التي فيها عبرة ما حدث للإسكندر؛ فقد كان ملكه أكبر من ملك الرشيد، ولما مات اقتسم قواد أربعة ملكه، فملك بطليموس مصر، وجزءا من سوريا، وملك آخر مقدونيا وبلاد اليونان ، وملك الثالث بعض أجزاء آسيا الصغرى، وملك الرابع من البحر الأسود إلى نهر السند، ومع ذلك ظلوا يتنافسون ويتقاتلون، حتى انحطت مقدونيا لهذه الفتن الداخلية، وانتهت هذه المأساة باستيلاء الرومانيين على بلاد اليونان، وضمها إلى أملاكها ... حتى أصبحت اليونان جزءا من مملكة الرومان تفقد استقلالها، وتعيش تحت حكمها، وهكذا أحداث التاريخ. •••
وشيء آخر جره هذا التصرف، وهو أن أبناءه هؤلاء لما طمعوا في الملك استثقلوا حياته، وتمنوا موته، حتى شكا الرشيد لبعض خاصته من أولاده وقال: «إنهم يحصون علي أنفاسي، إنني الساعة أدعو ببرذون فيجيئوني به أعجف؛ ليزيدوا في علتي.»
ومما زاد الطين بلة أمران:
أولاهما:
أنه أحيا العصبية البغيضة إلى أقصى حد؛ فتعصب العرب للأمين، وتعصب الفرس للمأمون، وتقاتل قتالا عنيفا شديدا تذكيه هذه العصبية، حتى إذا انتهت الحرب العنيفة لم يعد العنصران نافعين كما ذكرنا.
وثانيهما:
أنه وضع القوة الحربية كلها في يد المأمون، وكانت القوة الحربية التي في يد الأمين مصطنعة؛ لا تمدها إلا العصبية العربية؛ ولذلك انتصر المأمون، يضاف إلى ذلك أن العرب قد غلبهم الفرس وأخضعوهم وأذلوهم من أول بدء الخلافة العباسية إلى عهد المأمون، فلم تكن فيهم بقية صالحة.
ويروون أن الكتاب لما رفع ليعلق، وقع ... فقيل: إن هذا الأمر سريع الانفضاض، وكذلك كان، فلم تنفع المواثيق والأيمان بجانب ما في النفس البشرية من طمع وحرص وكراهية للمشاركة في الملك والسلطان، وقد حدثت الرشيد نفسه بهذا، وتوقع الشر بينهما علما بالطبيعة البشرية فروى الكسائي قال:
دخلت على الرشيد، فلما قضيت حق التسليم والدعاء، وثبت للقيام، فقال: «اقعد!» فلم أزل عنده حتى خف عامة من كان في مجلسه، ولم يبق إلا الخاصة، فقال لي: «يا علي، ألا تحب أن ترى محمدا وعبد الله؟» قلت: «ما أشوقني إليهما يا أمير المؤمنين، وأسرني بمعاينة نعمة الله على أمير المؤمنين فيهما»، فأمر بإحضارهما، فلم ألبث أن أقبلا ككوكبي أفق يزينهما هدوء ووقار، قد غضا أبصارهما، وقاربا خطوهما، حتى وقفا على باب المجلس فسلما على أبيهما بالخلافة، ودعوا له بأحسن الدعاء، فأمرهما بالدنو منه، فصير محمدا عن يمينه، وعبد الله عن يساره، ثم أمرني أن أستقرئهما، وأسألهما، ففعلت، فما سألت عن شيء إلا أحسنا الجواب فيه، والخروج منه، فسر بذلك الرشيد حتى تبينته فيه، ثم قال لي: «يا علي! كيف ترى مذهبهما وجوابهما»، فقلت: يا أمير المؤمنين هما كما قال الشاعر:
أرى قمري مجد وفرعي خلافة
يزينهما عرف كريم ومحتد
يا أمير المؤمنين! هما فرع زكا أصله وطاب مغرسه، وتمكنت في الثرى عروقه، وعذبت مشاربه، أبوهما أغر، نافذ الأمر، واسع العلم، عظيم الحلم، وسيحكمان بحكمه، ويستضيئان بنوره، وينطقان بلسانه، ويتقلبان في سعادته.
فما رأيت أحدا من أولاد الخلفاء وأعضاء هذه الشجرة المباركة؛ أعذب ألسنا، ولا أحسن ألفاظا، ولا أشد اقتدارا على تأدية ما حفظ منهما، ودعوت لهما دعاء كثيرا، وأمن الرشيد على دعائي، ثم ضمهما إليه، وجمع يديه عليهما، فلم يبسطهما حتى رأيت الدموع تنحدر على صدره، ثم أمرهما بالخروج.
فلما خرجا أقبل علي فقال: «كأنك بهما، وقد حم القضاء، ونزلت مقادير السماء، وبلغ الكتاب أجله، قد تشتتت كلمتهما، واختلف أمرهما، ثم لم يبرح ذلك حتى تسفك الدماء، وتقتل القتلى، وتهتك ستور النساء، ويتمنى كثير من الأحياء أنهم في عداد الموتى»، قلت: «أيكون ذلك يا أمير المؤمنين لأمر رئي في أصل مولدهما، أو لأمر وقع لأمير المؤمنين في مولدهما»، فقال: «لا والله، إنما بأثر حمله العلماء عن الأوصياء عن الأنبياء.»
ومرة أخرى قال لمروان الخادم: «علي بحيى»، فما لبث أن أتاه، فقال: «يا أبا الفضل! إن رسول الله مات في غير وصية، والإسلام جذعة، والإيمان جديد، وكلمة العرب مجتمعة؛ فقد آمنها الله تعالى بعد الخوف، وأعزها بعد الذل، فما لبث أن ارتد عامة العرب على أبي بكر، وكان من خبره ما قد علمت، وإن أبا بكر صير الأمر إلى عمر، فسلمت الأمة له، ورضيت بخلافته، ثم صيرها عمر شورى، فكان بعده ما قد بلغك من الفتن، حتى صارت إلى غير أهلها، وقد عنيت بتصحيح هذا العهد، وتصييره إلى من أرضى سيرته، وأحمد طريقته، وأثق بحسن سياسته، وآمن ضعفه ووهنه، وهو عبد الله «المأمون»، وبنو هاشم مائلون إلى محمد «الأمين» بأهوائهم، وفيه ما فيه من الانقياد لهواه، والتصرف مع طويته، والتبذير لما حوت يده، ومشاركة النساء والإماء في رأيه، فإن ملت إلى عبد الله أسخطت بني هاشم، وإن أفردت محمدا بالأمر لم آمن تخليطه على الرعية، فأشر علي في هذا الأمر برأيك، فلك مشورة يعم فضلها ونفعها، فإنك بحمد الله مبارك الرأي لطيف النظر.»
فقال: «يا أمير المؤمنين! إن كل زلة مستقالة، وكل رأي يتلافى خلا هذا العهد، فإن الخطأ فيه غير مأمون، والزلة فيه لا تستدرك، وللنظر فيه مجلس غير هذا، فعلم الرشيد أنه يريد الخلوة، قال الأصمعي: «فأمرني بالتنحي ... فقمت، وقعدت في ناحية بحيث أسمع كلامهما، فما زالا في مناجاة ومناظرة طويلتين حتى مضى الليل وافترقا على أن عقد الرشيد الأمر لعبد الله مع محمد.»
وهكذا كان الرشيد كأنه يقرأ حجب الغيب، وكان يتخوف من النتائج التي قد تنجم من هذا العهد، ويفكر ويطيل التفكير، ويستشير ويكثر الاستشارة.
فما مات الرشيد حتى نقض الأمين العهد، وأراد أن يخلع المأمون، وينفرد بالسلطان، فكان بينهما من الحروب ما لا نتعرض له الآن.
وعلى كل حال، كانت هذه عقدة نفسية عند الرشيد ... حلها بهذا الشكل الذي لم ينجح.
نهاية الرشيد
مرض الرشيد وموته
وفجأة أحس الرشيد مرضا ... فبال في قارورة، ودس قارورته في قوارير المرضى بعد أن أعلمها، ثم عرضت القوارير على الطبيب، وكان فحص البول معروفا في عصر الرشيد، فلما نظر الطبيب إلى قارورة الرشيد، قال: «عرفوا صاحب هذا الماء أنه هالك ... فليوص، فإنه لا برء له من هذه العلة» ... فبكى الرشيد، وجعل يردد هذين البيتين:
إن الطبيب بطبه ودوائه
لا يستطيع دفاع محذور أتى
ما للطبيب يموت بالداء الذي
قد كان يبري مثله فيما مضى
واشتد ضعفه وأرجف الناس بموته ... فدعا بحمار ليركبه، فهدلت فخذاه، فلم يثبت على السرج، فقال: «أنزلوني، صدق المرجفون.» وأثرت في نفسه هذه النبوءة، حتى كان يحلم بها.
يحدثنا جبريل بن بختيشوع، فيقول: «كنت مع الرشيد في قصره في الرقة، وكنت أول من يدخل عليه في كل غداة، ويتعرف حاله ... فإن كان أنكر شيئا وصفه، ثم يتبسط فيحدثني بحديث جواريه، وما عمله في مجلسه، ومقدار شربه، وساعات جلوسه، ثم يسألني عن أخبار العامة وأحوالهم، فدخلت عليه في هذا اليوم، فلم يكد يرفع طرفه، ورأيته مفكرا مهموما، فوقفت بين يديه مليا، فلما طال ذلك أقدمت عليه، فقلت: «يا سيدي! جعلني الله فداك، ما حالك هكذا؟ أعلة فأخبرني بها؛ فلعله يكون عندي دواؤها، أو حادثة في بعض من تحب، فذلك ما لا يدفع، ولا حيلة فيه إلا التسليم، والغم لا درك فيه، أو فتق ورد عليك في ملكك فلم تخل الملوك من ذلك، وأنا أولى من أفضيت إليه بهذا الخبر.»
فقال الرشيد: «ليس غمي وكربي بشيء كما ذكرت، ولكن لرؤيا رأيتها في هذه الليلة وقد أفزعتني.»
فقلت: «أذلك الغم كله لرؤيا؛ وهي إما تكون من خاطر، أو من بخارات رديئة، أو من تهاويل السوداء، وإنما هي أضغاث أحلام؛ فما هي إذا؟»
قال: «رأيت كأني جالس على سريري هذا؛ إذ بدت من تحتي ذراع أعرفها وكف أعرفها، وفي الكف تربة حمراء، قال لي قائل أسمعه ولا أرى شخصه: «هذه هي التربة التي تدفن فيها.» فقلت: «وأين هذه التربة؟» قال: «في طوس.» وغابت اليد، وانقطع الكلام.» فقلت: «يا سيدي هذه - والله - رؤيا بعيدة ... أحسبك أخذت مضجعك ففكرت في خراسان وحروبها، وما قد ورد عليك من انتقاض بعضها.»
قال: «لقد كان ذلك» ... قلت: «فلذلك الفكر خالطك في منامك فولد هذه الرؤيا، فلا تحفل بها، وأتبع هذا الغم سرورا يخرجه من قلبك.»
فسري عنه، وأمر بإعداد ما يشتهيه، ويزيد في لهوه، ونسينا تلك الرؤيا، وما خطرت لنا بعد على بال، ثم سار إلى خراسان، فلما كان في بعض الطريق ابتدأت به العلة، فلم تزل تتزايد حتى دخلنا طوس.
فذكر الرشيد تلك الرؤيا فوثب متحملا؛ يقوم ويسقط، فاجتمعنا إليه كل يقول: «يا سيدي ... ما حالك؟ وما دهاك؟» فقال: «يا جبريل أتذكر رؤياي بالرقة ؟» ثم رفع رأسه إلى مسرور، وقال: «جئني من تربة هذا المكان»، فمضى مسرور فأتى بتربة حمراء، فقال الرشيد: «هذه - والله - هي التربة التي رأيتها في منامي»، وأقبل على البكاء والنحيب، ثم مات بها، وذكر وهو يجود بنفسه قول الشاعر:
وإني من قوم كرام يزيدهم
شماسا وصبرا شدة الحدثان
ومات وهو ابن خمس وأربعين سنة، ويحدثنا المؤرخون أنه كان جميلا، وسيما، أبيض، جعد الشعر، وقد وخطه الشيب في آخر أيامه.
خاتمة
ونحن إذا أحصينا عمر الخلفاء الأمويين والعباسيين، وجدنا متوسط حياتهم بين الخمسة والأربعين والخمسين، وبعبارة أدق حول 48 سنة، وإنما قصر عمرهم لشدة مشاغلهم، وإفراط أكثرهم في الشهوات، وتحملهم أكبر المسئوليات، وتناسلهم من أصل قصر عمره.
وذكر المسعودي عن محمد بن علي العبدي العباسي الخراساني الأخباري أن الخليفة القاهر - وكان شديدا متقلبا متلونا يهابه الناس، ويخشون صولته - قال للعبدي هذا: «أخبرني عن بني العباس أخلاقهم وشيعهم من أبي العباس إلى من دونه» فقال العبدي: «على أن لي الأمان يا أمير المؤمنين» قال: «ذلك لك»، قلت: «أما أبو العباس عبد الله فكان سريعا إلى سفك الدماء، واتبعه عماله في الشرق والغرب، واستنوا بسيرته، أما المنصور فكان - والله - أول من أوقع الفرقة بين ولد العباس بن عبد المطلب، وبين آل أبي طالب، وقد كان أمرهم قبل ذلك واحدا، وكان أول خليفة قرب المنجمين، وعمل بأحكام النجوم، وكان معه نوبخت المجوسي المنجم، وأسلم على يديه، وإبراهيم الفزاري المنجم، وعلي بن عيس الإسطرلابي المنجم، وهو أول خليفة ترجمت له الكتب من اللغات الأعجمية إلى العربية؛ منها كتاب كليلة ودمنة، وكتاب السند هند، وترجمت له كتب أرسططاليس من المنطقيات وغيرها، وترجم له كتاب المجسطي لبطليموس، وكتاب الأرثماطيقي، وكتاب إقليدس، وسائر الكتب القديمة من اليونانية والرومية والفهلوية والفارسية والسريانية، وخرجت إلى الناس فنظروا منها، وتطلعوا إلى علمها، وفي أيامه وضع محمد بن اسحاق كتاب المغازي والسير وأخبار المبتدأ، ولم تكن قبل ذلك مجموعة ولا معروفة ولا مصنفة، وكان أول خليفة استعمل مواليه وغلمانه وصرفهم في مهماته، وقدمهم على العرب، فاتخذ ذلك الخلفاء من بعده من ولده، فسقط العرب وزال بأسهم، وذهبت مراتبهم.
ولما أفضت الخلافة إلى المنصور نظر في العلوم، وقرأ المذاهب، وارتاض في الآراء، ووقف على النحل، فكثرت في أيامه روايات الناس، واتسعت عليهم علومهم، وجاء بعده المهدي فكان سمحا سخيا كريما جوادا، فسلك الناس في عصره سبيله، وذهبوا في أمرهم مذهبه، واتبعوه في مساعيهم.
وكان من فعله في ركوبه أن يحمل معه بدر الدراهم والدنانير، فلا يسأله أحد إلا أعطاه، وأمعن في قتل الملحدين والمداهنين لظهورهم في أيامه، وإعلانهم اعتقاداتهم في خلافته؛ لما انتشر من كتب ماني وديصان، مما نقله عبد الله بن المقفع وغيره.
وترجمت في أيامه كتب من الفارسية والفهلوية إلى العربية، فكثر بذلك الزنادقة، وظهرت آراؤهم في الناس، وكان المهدي أول من أمر الجدليين من أهل البحث من المتكلمين بتصنيف الكتب للرد على الملحدين وإقامة البراهين على المعاندين، وشرع في بناء المسجد الحرام، ومسجد النبي - عليه السلام - وبنى بيت المقدس، وقد كانت هدمته الزلازل.
وجاء بعده الهادي، فكان جبارا عظيما، وكان أول من مشت الرجال بين يديه بالسيوف المرهفة، والأعمدة المشهورة، والقسي الموتورة، فسلكت عماله طريقته، ويمموا منهجه، وكثر السلاح في عصره.
وجاء بعده الرشيد، فكان مواظبا على الغزو والحج، واتخاذ المصانع والآبار والبرك والقصور في طريق مكة، ومنها عرفات ومدينة النبي
صلى الله عليه وسلم
فعم الناس إحسانه مع ما قلده به من حوله، ثم بنى الثغور، ومدن المدن، وحصن الحصون مثل طرسوس وأذنة، وعمر المصيصة ومرعش، وأحكم بناء الحرمين وغير ذلك من دور السبيل، والمواضع للمرابطين، واتبعه عماله، وسلكوا طريقته، وقفته رعيته مقتدية بعمله مستنة بإمامته، فغمط الباطل، وأظهر الحق، وأنار الإسلام، وبرز على سائر الأمم، وكان أحسن الناس في أيامه أم جعفر زبيدة بنت المنصور؛ لما أحدثته من دور السبيل بمكة، واتخاذ المصانع والبرك والآبار بها، وطريقها المعروف إلى هذه الغاية، وما أحدثته من الدور للتسبيل بالثغر الشامي وطرسوس، وما وقفت على ذلك من الوقوف، وما ظهر في أيامها من فعل البرامكة وجودهم، وأفضالهم، وما اشتهر عنهم من اتصالهم.
وكان الرشيد أول خليفة لعب بالصولجان في الميدان، ورمى بالنشاب في البرجاس، ولعب بالكرة والقبقاب، وقرب الحذاق في ذلك، فعم الناس ذلك، وقلدوه في فعله، وكان أول من لعب بالشطرنج والنرد من خلفاء بني العباس، وقدم اللعاب، وأجرى عليهم الرزق، فسمى الناس أيامه لنضارتها وكثرة خيرها وخصبها أيام العروس، إلى كثير مما يجاوز النعت، ويفاوت الوصف.»
قال القاهر: «أراك قد قصرت في تفصيل أعمال زبيدة أم جعفر»، قلت: «يا أمير المؤمنين ميلا إلى الاختصار، وطلبا للإيجاز» قال: «زدني فيها»، قلت: «نعم يا أمير المؤمنين، كان من فعلها وحسن سيرتها في الجد والهزل ما برزت فيه على غيرها، فأما الجد: فالآثار الجميلة التي لم يكن في الإسلام مثلها، مثل حفر العين المعروفة بعين المشاش بالحجاز، وإنفاقها الألوف على ذلك عدا ما كان في وقتها من البذل، وما عم أهل الفاقة من المعروف والخصب، وأما الوجه الثاني: فمما تتباهى به الملوك في أعمالها، وينعمون به في أيامهم، فهي أنها أول من اتخذ الآلات من الذهب والفضة المكللة بالجواهر، وصنع لها الرفيع من الوشي، حتى بلغ الثوب الذي اتخذ لها خمسين ألف دينار، وهي أول من اتخذ الشاكرية من الخدم والجواري يختلفون على الدواب في جهاتها ويذهبون في حوائجها برسائلها وكتبها، وأول من اتخذ القباب من الفضة والأبنوس والصندل وكلاليبها من الذهب والفضة، ملبسة بالوشي والسمور والديباج، وأنواع الحرير من الأحمر والأصفر والأخضر، واتخذت الخفاف المرصعة بالجوهر وشمع العنبر، ولما أفضى الأمر إلى ولدها الأمين، ورأت شدة شغفه بالخدم واشتغاله بهم، اتخذت الجواري المقدودات الحسان الوجوه، وعممت رؤوسهن، وجعلت لهن الطرر والأصداغ والأقفية، وألبستهن الأقبية والقراطق والمناطق فبانت خدودهن وبرزت أردافهن، وبعثت بهن إليه، فاختلفن في يديه، واستحسنهن واجتذبن قلبه إليهن، وأبرزهن للناس، واتخذ الناس من الخاصة والعامة الجواري المطمومات، وألبسوهن الأقبية والمناطق وسموهن الغلاميات.»
الخلاصة
ونحن إذا لخصنا أوصاف الرشيد من كل ما رأينا، عرفنا أنه كان في جسمه: أبيض جميلا، جعد الشعر، قد وخطه الشيب، وفي عقله: مثقفا، واسع الثقافة في العربية والفارسية، وفي أخلاقه: حاد العاطفة؛ قد يغضب لأتفه سبب، ويقتل لأتفه سبب، ويعفو لأتفه سبب، يجد لأبعد حد؛ فيحارب حروب الأبطال، ويتغلب على كل الثورات، ويصلي ويحج، ويقود الصائفة أحيانا، والشاتية أحيانا، ويتباهى فيأتي بالعجب العجاب أمام الوفود والزائرين، ويتخاشع فيبكي بكاء مرا، ويلهو فتكون له المجالس الرائعة في الغناء والرقص، وما إلى ذلك ...
وهذه كلها نتيجة العاطفة الحادة، وله إلى جانب ذلك ضمير حي؛ يقتل البرامكة أحيانا، ثم يحزن لفقدهم، ويقتل الطالبي ويحزن لقتله، ويحبس ثم يندم فيطلق، ويقول فيحسن القول، ويشرف على أولاده فيحسن تربيتهم، ويسمع الشعر فيتذوقه.
ويظهر أنه كان متدينا شديد التدين، ولكن ليس واسع الصدر في دينه سعة ابنه المأمون؛ بلغه مرة أن بشرا المريسي يقول بخلق القرآن، فقال: «والله لئن وجدته لأقتلنه»، فإيمان الرشيد كإيمان العجائز، وكان وديعا حتى ليصب الماء على يد ضيفه إذا كان من العلماء، وقد روى أبو معاوية قال: أكلت مع الرشيد يوما، ثم صب على يدي رجل لا أعرفه، ثم قال الرشيد: أتدري من يصب على يديك؟ قال: لا، قال الرشيد: أنا؛ إجلالا للعلم!
وكان قريب الدمع مما يدل على شدة عاطفته، حتى قال منصور بن عمار: «ما رأيت أغزر دمعا عند الذكر من ثلاثة: الفضيل بن عياض، والرشيد، وآخر.»
وكان كريما؛ فكم روى من عطائه مئات الألوف؛ إما لمغن يجيد الغناء، أو لواعظ يحسن الوعظ فيبكيه، أو لشاعر يمدحه فيعرف كيف يمدحه، أو غير ذلك.
وقد قالوا: إنه كان يقتفي أثر جده المنصور في حزمه وشدته وإحساسه بالتبعة إلا البخل ... فقد عرف المنصور ربه، وعرف الرشيد بالكرم، وزاد الرشيد قوة وعظمة كثرة النابغين حوله في مختلف العلوم والفنون؛ فالأصمعي في اللغة، وأبو يوسف في الفقه، وإسحاق الموصلي في الغناء، والبرامكة للوزارة، مما جعل قصره كعبة يحج إليها، وعروسا تتباهى بجمالها.
ولم نجد له نظيرا في الخلفاء ؛ يجد فيحسن الجد، ويلهو فيجيد اللهو، بل هو في الأغلب الأعم إما جاد لا يلهو كجده المنصور، أو لا يجد كابنه الأمين.
والمظنون من جميع الأوصاف التي ذكروها أنه مات بالسرطان، وقد قالوا: إنه لما حضرته الوفاة غشي عليه، ففتح عينيه فرأى الفضل بن الربيع فقال: يا فضل:
أحين دنا ما كنت أخشى دنوه
رمتني عيون الناس من كل جانب
فأصبحت مرحوما، وكنت محسدا
فصبرا على مكروه أمن العواقب
أحين دنا ما كنت أخشى دنوه
رمتني عيون الناس من كل جانب
فأصبحت مرحوما، وكنت محسدا
فصبرا على مكروه أمن العواقب
فرحمة الله عليه.
جدول بأهم الأحداث التي وقعت في عهد الرشيد من سنة 173 إلى سنة 193 الهجرية.
السنة
الحدث
173
موت الخيزران
175
موت الليث بن سعد
175
عهد الرشيد لابنه محمد بولاية العهد
176
هاجت الفتنة بدمشق بين اليمنية والمضرية
177
ولاية هرثمة بن أعين بلاد إفريقية
178
فتنة أهل الحوف بمصر
179
موت الإمام مالك
179
سير جعفر بن يحيى البرمكي إلى الشام لإخماد العصبية بين اليمنية والمضرية فسكنها
184
موت يزيد بن مزيد الشيباني أحد قواد الرشيد
186
حج الرشيد ومعه وليا عهده الأمين والمأمون
187
مبايعة الرشيد لابنه القاسم بولاية العهد بعد المأمون
187
نقض نقفور العهد للرشيد
187
عودة الفتنة بين المضرية واليمنية في الشام
187
نكبة البرامكة
189
سير الرشيد إلى الري لعدم اطمئنانه إلى أهل خراسان
193
موت الفضل بن يحيى
193
خروج الرشيد إلى طوس
193
موت الرشيد
Shafi da ba'a sani ba