فقال الحاج علي وهو محملق لا يزال: عجيبة!
وقبل أن يتكلم أحد صعد إلى الشرفة الشيخ عبد الودود منهوك القوى بادي الهزال شاحب الوجه مأخوذا، ترك عليه الحادث آثار هلع لا يزايله، فقام إليه العمدة: مرحبا بك يا شيخ عبد الودود، الحمد لله على سلامتك. - سلمت اليوم فقط يا حضرة العمدة. علمت اليوم بما كان فأحسست روحي تعود إلى جسدي هونا، فقمت إليك أبارك لك بهذا النصر.
وقدم الشيخ حسن مع ابنه فخري، وكان الشيخ حسن يبدو وكأنه قفز من الحياة سنين عدة، واستقبل العمدة الشيخ حسن وابنه وفي عينيه حب لهما عميق، وما كادا يجلسان حتى طلب العمدة إلى فخري أن ينتقل إلى جانبه وهمس في أذنه: فخري، أنا أريدك في حديث خطير قد يغير مستقبلك، ولكن لا بد لك أن تقبله. - وما هو يا حضرة العمدة؟ - لا ليس الآن، ولكن عندما يحين الوقت، سآتي إليك أنا في القاهرة وأخبرك به. - أمرك يا حضرة العمدة ... - ولكن لا تخبر أحدا، لا تخبر أحدا على الإطلاق، اكتم هذا الحديث حتى عن أبيك ... فإن سألك فيم كان حديثي؟ فقل له إنني كنت أريدك أن تحضر معي عند المحامين الذين سأوكلهم ليترافعوا عن والدة أحمد أبي خليل وإخوته. - أمرك يا حضرة العمدة، وإن كنت أنا الآخر أريدك في شيء خطير، ولكن ليس الآن على أية حال.
ولما رأى الشيخ حسن أن الهمس قد طال بين فخري والعمدة كان يدرك أن العمدة يحادث فخري في أمر درية، ولكنه استبعد هذا الظن، فما كان يعتقد أن العمدة يحادث الفتى دونه في هذا الشأن، كما كان يرى أن الوقت غير مناسب، ولكنه لم يتعمق الفكر في هذا الشأن، فقد كان يعلم أن ابنه سيخبره عن تفاصيل الحديث. قال الشيخ حسن: أظن أن الوقت قد حان يا شيخ زيدان.
فقال الشيخ رضوان: نعم أظن، فها هي ذي طبلة كمال تعلو مرة ثانية.
وقام الجميع إلى الجنازة يشيعونها يتقدمهم العمدة والشيخ حسن، تعانقت أذرعهما واعتمد كل منهما على صاحبه. •••
أقبل المساء على قرية السلام، وانتظر القمير بعض الحين ثم حبا إلى السماء واهنا، يرى بعضهم وهنه من الصغر فساقاه ما زالتا غضتين، ويرى بعض آخر وهنه من الشيخوخة ومن طول ما جاب السماوات منذ خلقت السماوات، ويراه بعض آخر واهنا لا يدركون لماذا ولا يفكرون، ويراه الباقون طالعا في السماء فلا يرون وهنه، وإنما كل شأنهم منه أن يطلع فينظروا إليه أو لا ينظروا، فما يعنيهم في شيء.
إلا أن قرية السلام لم تفكر في شيء من هذا، فقد ذهب الرجال إلى مأتم أحمد متفرقين وعادوا جماعات، ثم تفرقوا ثانية إلى بيوتهم، فأقفلوا أبوابها على أنفسهم بالقصور الذاتي، فمع أن الطمأنينة قد عاودتهم شيئا، إلا أنهم لا يزالون يقفلون الأبواب ويحكمون الرتاج ويذودون الضياء عن القرية بألواح الضلف الغليظة التي يضعونها على نوافذهم.
وحينئذ طلبت درية إلى أمها أن تخرج لتعزي والدة أحمد أبي خليل في مصابها، وقد كانت الأم تريد أن ترافقها، ولكن سهر الأمس وكبر السن قعدا بها في ليلتها تلك، فهي تقول لابنتها: أتظنين أن الرجال قد انفضوا عن المأتم الآن؟ - أظن ذلك، فهم في هذه الأيام يبكرون في النوم. - أخاف أن تذهبي وهم لا يزالون هناك فيغضب أبوك. - إذا رأيت الرجال لا يزالون قاعدين عدت. - حسنا فاذهبي إذن، ولكن لا تتأخري، خذي معك فاطمة وعبد الهادي الخفير. - أمرك يا أم.
وخرجت درية في موكبها الصغير قاصدة بيت أحمد أبي خليل، واخترق الموكب الظلام الأزرق والسكون المطبق الذي تعانيه القرية، إلى أن بلغ جرن القرية حيث اتخذ كل فلاح مكانا يضع فيه روث بهائمه في شكل كومة ليجعل منه سمادا لأرضه، وتتقارب هذه الأكوام حتى لا يسمح الطريق بينها لغير راجل واحد أن يمر، ولا حارس ثمة على هذه الأكوام، فكل فلاح يعرف كومه ولا يعدو أحد منهم على الآخر.
Shafi da ba'a sani ba