فابتسمت سعدية وتابعت حديثها: ذهب اليوم إلى المديرية ليتفق مع أبي عليوة على أن يسلمه القطن في المديرية بعد غد صباحا، وسيذهب إلى النمايلة ويستأجر منها جملين حتى لا يعرف أحد هنا ما ينوي أن يفعله، وسينقل القطن في مساء الغد دون أن يحس به أحد. - ولكن ألن تعرف الجماعة أنه باع قطنه في الصباح؟ - إنه هو من سيحمل القطن ويخرج به في المساء، ثم يقفل المخزن، فلا يعرف أحد أنه سلم القطن. - ومن أين عرف أن النمايلة ليس فيها عيون للجماعة؟ - لن يخبر أصحاب الجمال بما ينوي أن يفعله، وإنما سيطلب إليهم أن يسلموه الجمال ليردها إليهم في اليوم التالي لنقل القطن، وسيضاعف لهم الأجر. - والله لئيم. النهاية أنا سأغنيك عن قطنه وقراريطه وكل ماله، ما قولك؟ - أشوف يا زهار. أمهلني أسبوعا أفكر فيه. - وهو كذلك يا سعدية. سيكون أطول أسبوع في حياتي. أتركك بخير يا سعدية. - وأنت من أهل الخير يا زهار. •••
لم يكن الزهار صاحب القلب الوحيد الذي يتصل أمله بجماعة الخير، وإنما كان هناك قلب آخر اتصل أمله بهذه الجماعة، أو هو في الحقيقة أمل ظل يراود صاحبه وخشي حين تألفت الجماعة ألا يتحقق. ذلك الأمل الذي ظل يتردد في قلب وطنية السنين الطوال: أن تتزوج من كمال، والذي ضعف بعض الشيء حين أنبأها كمال أنه صائر إلى الغنى، والذي ازداد ضعفا حين أهدى إليها كمال الجلباب الأحمر والمنديل، والذي لا يزال يضعف كلما رأت الأموال تتدفق في يد كمال. وكلما ازداد ضعف الأمل ازداد تشبث صاحبه به، وفي غمرة هذا التشبث قصدت وطنية إلى كمال في بيته شأنها كل يوم منذ تألفت الجماعة، إلا أنها اليوم وفي هذه الغمرة قد انتوت أن تطالبه بأن ينفذ ما وعدها به يوما. - صباح الخير يا كمال. - صباح الخير يا وطنية. - هل ستخرج الآن؟ - لا، ما الأخبار في البلدة؟ - كما هي، يدعو لك بعضهم من لسانه ويدعو عليك جميعهم من قلبه.
فينتفض كمال جازعا: أعرفوني؟ - لا، وكيف لهم أن يعرفوك وأنت أمامهم كما أنت: تلبس أثواب المسكنة، حتى إذا خلا بجماعتك مجلسك خلعت الستار وارتددت إلى طبيعتك، تدبر القتل والخوف والجزع وإصابة أموال الناس بالباطل؟ - فكيف يدعون لي أو علي؟ - يقولون جماعة الخير، ألست الجماعة؟ - أعوذ بالله، أبهذا تصبحينني؟ - إن لم أقل أنا لك الحق فلن يقوله أحد. - ومن قال لك إني أريد الحق منك أو من غيرك، وعلى كل حال لماذا يدعون علي من قلوبهم؟ - ألم تحرم عليهم أن يبيعوا أقطانهم إلا بالإتاوة، وفرضت على بهائمهم الإتاوات، وفرضت الإتاوة أيضا على بيع الأطيان؟ - كل من يملك أقطانا وبهائم وأطيانا غني، والفقراء أكثر من الأغنياء. - من قال لك ذلك؟ من قال إن كل من يملك بهيمة أو قطنا أو أرضا غني؟ ومن قال إن هؤلاء كثرة؟ ليس في قريتنا إلا قلة نادرة لا تملك شيئا، وحتى هذه القلة غير راضية عنك؛ فالأجراء أصبحوا لا يستأجرون، وأصحاب الأرض جميعا وقف حالهم، ثم هم يقولون إنك فرضت الإتاوات لتأخذ معظمها لك وتعطيهم منها الفتات الذي لا يغني ... لا يغني أبدا بعد أن وقف عنهم الخير الذي كان يأتيهم ممن يستأجرونهم. - والله أصبحت فصيحة، ولكن كلامك فارغ، فإن كل من يعمل خيرا في هذه الدنيا لا بد أن يجد من ينتقده، ولا بد أن يجد الناس وسيلة ليجلعوا هذا الخير الذي يقوم به صادرا عن غرض في نفسه غير الخير؛ ولذلك يجب أن يعمل الإنسان الخير ولا يهتم بالناس. - حكم، والله حكم، ولكنها للأسف صادرة عن ضال، أتدعي أن السرقة خير؟ عجيبة! يا كمال ارجع؛ فإني والله أخشى عليك إن لم ترجع. - وما لك أنت رجعت أم لم أرجع؟ - ما لي أنا يا كمال؟ ما لي أنا؟ أنسيت كل شيء يا كمال؟ - كلامك يثير الغضب والخوف يا وطنية. - من خوفي عليك يا كمال، ألا تعلم يا ابن الكلب أنه ليس لي في الدنيا غيرك؟ - أما آن لك أن تنتهي عن الشتيمة، لم أصبح كمالا الذي كنت تعرفين. - نعم أنت محق، لم تصبح كمالا الذي كنت أعرف، وأين أنا منك الآن؟ أنت لص يملأ الدنيا ذعرا وأنا وطنية ما أزال. - لا، أنا لا أقصد هذا، ولكن لسانك تعود شتمي، وأنا الآن محترم أمام الجماعة إلا منك. - وطبعا احترام الجماعة لك يمنعك أن تنفذ وعدك. - وعدي ... أي وعد تقصدين؟ - ذلك الوعد الذي كان الفقر يمنعك من تحقيقه، ألا تذكره؟ ألا تذكر يا ابن ال... نسيت؟ فأنت تمنعني من لذتي الوحيدة في الحياة، تمنعني من شتيمتك. - أي وعد؟ ذكريني. - والله لا أذكرك به أبدا، إن كنت لا تذكره فلا جعله الله يتم. - آه! تقصدين الزواج؟ وهل هذا يحتاج إلى تذكير يا وطنية؟ وهل لي غيرك؟ - نعم، نعم، اشتغل علي أنا الأخرى، اشتغل، كأني فرد من جماعة الخير، يا كمال طالما قلت إني بنت حرام، وهذا اللف لا ينطلي علي، فأنا أعلم أن لك غيري، ولكن نجوم السماء أقرب إليك منها، وأنا أعلم أنك تصانعني؛ لأني أعرف أسرارك جميعا ولأنك تحتاج لي. ولكن اسمع يا كمال، سأتظاهر بأنني أصدقك؛ لأني لا أملك إلا هذا التظاهر، ولكن لا بد لك أن تصنع لي سببا مقنعا يجعل تأجيل زواجك مني معقولا. - إن هذا لا يحتاج إلى صنعة، أخشى إن أنا تزوجتك أن تتجه إلينا عيون الناس ويتساءلون: من أين لكمال أو وطنية بالمال؟ ولكن قولي لي، من هي غيرك هذه التي تجدينها أبعد عني من نجوم السماء؟ - كمال! ألا تعرفها؟! - من تقصدين؟ - ستك درية.
ويسكت كمال لحظة ذاهلا ثم يقول: عجيبة! - وما العجيبة؟ - أن تفكري هذا التفكير. - أهكذا، لعلي مخطئة، سأنتظر يا كمال، سأنتظر يا ابن ال...
وقبل أن تكمل وطنية وصف أبي كمال يطرق الباب فتفتحه وطنية ليدخل الزهار، الذي ما يلبث أن يقص على كمال ذلك الخبر الذي خرج به من مغامرته الغرامية، ويقول كمال في صوت حازم وهو يتهيأ للقيام: ادع أفراد الجماعة، سنجتمع في بيت النمرود.
15
الفجر يطلع على قرية السلام بطيئا شاحبا حين صحا العمدة من نومه ينادي الخادمة أن تحضر إليه ماء الوضوء، وما كاد يفعل حتى سمع صوتا من دون الشباك عاليا أنكره أول أمره ثم ما لبث أن تبينه، إنه كمال وإن كان صوته قد اكتسى قوة، وزايله وهن واستعطاف: أطال الله عمرك يا حضرة العمدة. - أهلا كمال، أترى الوقت وقتك يا كمال؟ - إنه وقتي يا حضرة العمدة، لم أتقدم عنه ولم أتأخر. - خير؟ ماذا تحمل إلينا من أخبار؟ من زمان لم أرك. - أخباري كلها تعرفها، أصبحت لا أصيب قوت يومي. - لماذا؟ ألم تقدم لك فاطمة الفطور؟ - لا، ليس هذا ما أقصد إليه، وإنما انقطعت الأفراح، وقد كنت أصيب منها ما يقيم الأود أياما قد تصل إلى شهر. - الله معنا يا كمال. - يا حضرة العمدة ... - هيه ماذا تريد؟ - إلى أين أنت ذاهب اليوم؟ - وما شأنك؟ - مجرد سؤال فقط. - ذاهب إلى المركز، وهل أصبح لي عمل في هذه الأيام إلا المركز أروح إليه وأغدو؟ - آه ... - ماذا تريد أن تقول يا كمال؟ - لا شيء. - أحس في صوتك رنة من يريد أن يقول شيئا، قله. - سمعت أن أنور بك قد جاء من أوربا مساء أمس، ألا تذهب إليه؟ - وماذا أفعل له؟ - تهنئه بسلامة الوصول، وتسأله أن يبحث لنا عن حل لمشكلتنا هذه. - وماذا بيده أن يفعل يا بني؟ ما أظنه إلا سيعلم بمصيبتنا، ولكن ماذا يفعل؟ - يقيم الدنيا ويقعدها. - الدنيا قائمة قاعدة من غير أنور بك، وأنور بك رجل حنبلي لا يقبل إلا العمل القانوني والقانون لا يسعف اليوم، وإنما الذي يسعفنا العمل الحاسم العاجل، ماذا نفعل بالقانون أمام السلاح يا بني؟ إن هؤلاء المجرمين الذين سلطوا علينا يعلمون أن القوة هي القانون. لقد كان لطيف خليقا أن ينفعنا اليوم، ولكنه اكتفى بزيارتي ولم أطلب إليه يومذاك شيئا، معتمدا على أن المأمور سيسمح لي بترخيص بعض الأسلحة ولكن المأمور رفض.
فسأل كمال وعلى فمه شبح ابتسامة: ولماذا لم تذهب إلى لطيف ثانية؟ - ذهبت ... - فماذا عمل لك؟ - قال، قال كلاما ولم يعمل شيئا: «أنا تحت أمرك، سأكلم المأمور وأبلغ الداخلية.» ومعنى هذا أن أذهب أنا في داهية ويبقى المجرمون، وحين قلت له إني أريد رجاله لأحمي بهم القرية، قال: إن رجاله لا يعملون لغيره.
وازدادت الابتسامة اتساعا على فم كمال فقد عرف كل ما كان يريد أن يعرف: العمدة لا يريد أن يلجأ إلى الداخلية، فهو لن يذهب لأنور بك؛ لأن هذا لن يفعل شيئا إلا الالتجاء إلى الداخلية، وبهذا الخوف نفسه امتنع المأمور عن الاتصال بالداخلية. والعمدة والمأمور كلاهما يرجوان من أعماق أنفسهما أن يظل أنور بك جاهلا أمر جماعة الخير بعض الوقت حتى لا يعلم الرؤساء بالخيبة التي يعانيان منها، أما ما قاله لطيف بك فهو لا يعدو تنفيذ الاتفاق الذي تم بينهما، حين دعا منصورا فرافقه إليه كمال.
وقد كان لطيف خليقا أن يجيب أي رجاء للعمدة الذي يريد أن يصطنعه للانتخاب القادم، أن يكون هذا الرجاء حربا على قوم ضمهم هو إلى رحابه، أي رجاء إلا هذا! فقد كانت حياته أغلى من الانتخاب، ولا يحب أن يؤلب المجرمين على حياته.
Shafi da ba'a sani ba