113

Yaki da Salama

الحرب والسلم (الكتاب الأول): إلياذة العصور الحديثة

Nau'ikan

إن موسكو كلها لا تتحدث إلا عن الحرب، وإن واحدا من أخوي أصبح الآن خارج البلاد، أما الثاني فإنه مع فرقة الحرس التي تتجه نحو الحدود. إن إمبراطورنا العزيز قد ترك بيترسبورج وهو يرمي - على ما نمى إلي - إلى تعريض ذاته السنية لخطر الحرب، فعسى أن يقدر الله أن يسحق الوحش الكورسيكي الذي أقلق سلام أوروبا ودمره، من قبل الملك الذي أرسله الله لنا برحمته ملكا وإمبراطورا! إن هذه الحرب قد حرمتني علاقات حبيبة إلى قلبي، بصرف النظر عن أخوي اللذين يخوضان غمارها، ذلك أن نيكولا روستوف، الشاب الذي دفعته حماسته إلى الانخراط في الجيش وترك الجامعة، قد ذهب في عداد الذاهبين، ثقي يا عزيزتي ماري أنه على الرغم من سنه الفتي الريان، فإنني أستطيع أن أصرح لك بأن ذهابه سبب لي حزنا كبيرا، إن ذلك الشاب - وقد حدثتك عنه في الصيف الماضي - شديد النبل؛ نبل يندر أن يلاقي المرء مثله في هذا العصر؛ حيث نعيش بين شيوخ في العشرين من أعمارهم. إنه طيب القلب جدا، صريح إلى أبعد حدود الصراحة، وهو نقي السريرة، شاعري الإحساس، حتى إن علاقاتي معه مهما بلغت من تفاهتها - وكانت علاقات عابرة - كانت أجمل المباهج التي مرت على قلبي المسكين المفعم بالألم.

سأحدثك ذات يوم عن كل ما تحدثنا به عند الوداع، وما دار بيننا خلاله، إنه لا زال حتى الآن عالقا في ذاكرتي؛ لأنه حدث بالأمس القريب. آه يا صديقتي الحميمة! إنني أغبطك لجهلك المباهج والآلام الممضة التي أتحدث عنها في هذه الرسالة، إنك سعيدة لأن المتأخرات في هذا المضمار هن دائما الأكثر سعادة والأشد ساعدا وقوة! إنني أعرف تماما أن الكونت نيكولا صغير جدا لا أمل لي في بناء آمالي عليه في شيء أكثر من الصداقة العادية، غير أن تلك الصداقة الهادئة الوادعة، وتلك العلاقات شديدة الطهر والشاعرية، كانت كلها من متطلبات قلبي، ولكن لنترك هذا الأمر جانبا، ولنتحدث في غيره، إن الخبر الأخير الذي يشغل بال أهل موسكو جميعا وهو موت الكونت بيزوخوف الهرم وإرثه. تصوري أن الأميرات الثلاث لم يرثن إلا نزرا تافها، وأن الأمير بازيل حرم من كل شيء، وأن السيد بيير قد ورث كل شيء وأصبح - علاوة على ذلك - ابن الكونت الشرعي، ومن ثم الكونت بيزوخوف، مالك أكبر ثروة في كل روسيا، إنهم يزعمون أن الأمير بازيل لعب دورا مرذولا في هذه القضية، وأنه انسحب عائدا إلى بيترسبورج وهو حائر شديد الخجل.

أصرح لك بأنني لا أفهم من هذه الأمور شيئا يذكر، لكنني أرى وأعرف أنه منذ أن أضحى الشاب الذي كنا نعرفه تحت اسم السيد بيير فقط، كونت بيزوخوف مالك أكبر الثروات الروسية، فإنني أتسلى بالنظر إلى السيدات والأوانس ومراقبة التبديلات والتغيرات في اللهجات وأساليب التحدث التي طرأت على الأمهات اللاتي ينؤن بأعناد بناتهن، البالغات سن الزواج، حيال هذه الشخصية الجديدة الذي ظل يبدو لي رغم ذلك، كما كان من قبل، سيدا مسكينا.

ولما كانوا منذ عامين يزعمون دائما أنني سأزوج لفلان أو فلان من المجهولين مني، فإن آخر إشاعة راجت في موسكو جعلتني الكونتيس بيزوخوف المنتظرة، لكنك تشعرين - ولا شك - بشعوري، وتعرفين أنني لا أفكر قط في مثل هذا المركز. ولما كنا نتحدث عن الزواج فإنني أعلمك «أن العمة الجماعية» آنا ميخائيلوفنا أسرت إلي أخيرا تقول إن هناك مشروع زواج يتعلق بك يحاك في الخفاء، فهل تعرفين الزوج المنتظر؟ خمني، إنه ليس إلا ابن الأمير بازيل، الشاب آناتول الذي يفكر أبوه في إيجاد مركز رفيع له، وإقحامه في صلب المجتمع، بتزويجه من فتاة غنية راقية ومرموقة، وقد وقع اختيارهم واختيار ذويه عليك، ولست أدري كيف تنظرين إلى الأمر ، لكنني أظن أن من واجبي - رغم السرية التامة التي أحيط المشروع بها - أن أبلغك وأنذرك بما يقال وما يشاع عن زوجك المنتظر؛ إنهم يقولون إنه جميل جدا وشاب رديء جدا، هذا كل ما أستطيع قوله وما أعرفه عنه.

ولكن كفانا ثرثرة حتى الآن، لقد ملأت الورقة الثانية من رسالتي، وها إن أمي أرسلت في طلبي لأذهب معها عند آل آبراكسين، اقرئي الكتاب الديني الذي يبحث في شئون العبادة والذي أرسلته لك مع كتابي هذا؛ لأنه شديد الرواج عندنا، وعلى الرغم من أن هذا الكتاب يحفل ببعض الأمور التي يصعب علينا فهمها بإمكانيتنا الإنسانية المحدودة الضعيفة، فإنه كتاب رائع تسمو النفس عند قراءته. وداعا. احتراماتي للسيد أبيك وتمنياتي للآنسة بوريين. أقبلك كما أحبك.

ملاحظة: أطلعيني على أخبار أخيك وزوجته الصغيرة الفتانة.

جولي

راحت الأميرة ماري تفكر، وأخيرا ابتسمت وهي شاردة الذهن، وانبسطت أسارير وجهها الذي أضاءه ذلك الإشعاع المنبعث من عينيها، نهضت فجأة ومضت إلى مكتبها بخطوات ثقيلة، فأخذت ورقة، وراحت يدها تجري بالقلم عليها جريا؛ كان الجواب الذي حررته ما يلي:

عزيزتي وصديقتي الممتازة، لقد أحدثت رسالتك المؤرخة في 13 الجاري سرورا بالغا في نفسي، إنك إذن لا زلت تحبينني يا جوليتي الشاعرية، والفراق الذي تتحدثين عن كل مساوئه لم يؤثر في نفسك أثره المباشر الطبيعي؛ لأنك لم تنسيني. إنك تشتكين من الفراق، فماذا أقول أنا إذا «جاز لي» أن أشكو، وأنا المحرومة من كل من هم أعزاء على نفسي؟! آه! لو لم يكن لدينا الدين عزاء، لكانت الحياة شاقة لا تطاق، حزينة كئيبة. لم توقعت مني نظرة صارمة عندما حدثتني عن إعجابك بفتاك الشاب؟ إنني على هذا الأساس، لست قوية ولا قاسية إلا على نفسي، إنني أفهم هذه الإحساسات التي تعتلج في نفوس الآخرين، ولما كنت لا أستطيع تأييدها، خصوصا وأنني أشعر بها بنفسي، فإنني لا أحكم عليكم على ضوئها. يبدو لي أن الحب المسيحي فقط، حب المستقبل والآخرة، حب أعدائنا؛ هو الحب الوحيد الأكثر فائدة وجدارة ، وهو أجمل حب وأنبل إحساس لا تستطيع العيون الجميلة وأثرها في نفس فتاة شاعرية عاشقة مثلك، أن تحدث مثلها.

إن موت الكونت بيزوخوف قد بلغنا قبل وصول رسالتك، ولقد حزن أبي حزنا عميقا لموته، وقال إنه كان قبل الأخير بين ممثلي القرن المشرق الباهر، وإنه الآن بات يتحين دوره، لكنه سيعمل ما في طاقته لتأخير حلول ذلك الدور ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ليحفظنا الله من ذلك البلاء المريع! إنني لا أشاطرك رأيك حول بيير الذي عرفته طفلا، لقد كان يبدو لي دائما ذا قلب ودود ممتاز، وهذه الصفة هي التي أقدرها أكثر من غيرها في نفوس البشر، أما فيما يتعلق بإرثه وبالدور الذي لعبه الأمير بازيل، فإن الأمر ذو عناء ونصب للاثنين معا. آه يا صديقتي الحبيبة! إن كلمة مخلصنا الإلهي التي تقول «إن دخول جمل في سم الخياط أسهل من دخول غني في ملكوت السماوات»؛ لرهيبة في حقيقتها وصدقها، وإنني أشفق على الأمير بازيل وآسف من أجل بيير أسفا أكثر عمقا. إنه يافع بعد، تبهره مثل هذه الثروة، فكم من مغريات سيتعرض لها بسببها! لو أنهم سألوني عما أفضله في هذا العالم على سواه من الأمور، لقلت إنني أرغب أن أكون أشد فقرا من أفقر المتسولين.

Shafi da ba'a sani ba