غير أنها ذات يوم بعد القيالة، اضطرت أن تتذكر كل شيء وتعي بكل شيء، فقد لمع شيء في عقلها كما يلمع النصل الغادر قبل أن يستقر في جسد الضحية. فقد أحست ببوادر الطلق اللعين تنقر في سلسلة ظهرها ثم تلتف حول بطنها لتعتصرها. أحست أن هذا الشيء اللعين الذي تحمله ينقر جدار بطنها مطالبا بالخروج، ينقر في إصرار وتصميم نقرات مستمرة، كل تالية أعلى من الأولى وأوجع، وكأنه يهم بهدم الجدار.
لم يكن أحد من بلدياتها أنفار الترحيلة قد فطن إليها. وكيف يفطنون وهم لا يرى بعضهم البعض إلا منحنين، أو مبعثرين في أكوام نائمة مكدودة، أو سارحين والنوم لا يزال يغلق عيونهم، ومروحين والتعب وتراب الغيط يعميان العيون؟ كل واحد في حالة ولكل بلواه، ولا فرصة حتى للموجوع ليقول: آه.
ولكنهم غدا سيعرفون. والمصيبة ليست في هذا، المصيبة حين تعود معهم إلى البلد وعبد الله، تعود أما لطفل ليس هو أباه. أليس الموت أهون؟
تكاثرت الطلقات، وما كاد الريس يصفر وينتهي اليوم حتى كان وجهها في شحوب الموتى. بل حتى لم تلاحظ جارتها شحوبها. وعزيزة ساكتة صامدة تتحمل ولا تستغيث، خرجت من الأرض واغتسلت كما اغتسلوا، وسارت على المشاية كما ساروا، تتوقف هنيهة إذا جاءت الطلقة ثم تسرع حين تسكت. وحتى العشاء تعشت وكل ما كانت تريده أن تواتيها الفرصة لفك الحزام الذي يخنق بطنها؛ إذ حين كان بطنها يتقيض داخل الحزام كانت تحس بآلام مروعة، آلام لا يحتملها إنس ولا حجر ولا جان. هي نفسها لم تكن تعرف بأي جبروت غير بشري تحتمل دون أن يبدو عليها أقل لمحة أو بادرة، وكل هذا من أجل جذر بطاطا. لا! كل هذا لأنها لم تقاوم لحظة، تلك اللحظة التي صاحبتها سبعة شهور تطاردها كاللعنة المقيمة. لماذا تركته يفعل بها ما فعل؟ تقول لنفسها إنها لم ترض. ولكنها ترد وتقول: ولكني لم أرفض. تضرب رأسها في الحائط وتقول: كنت عارفة إنه حرام وعيب. لم تقاوميه كما يجب. لم تصرخي وقلت الفضيحة. وها قد أتتك الفضيحة الكبرى. انفضحي - إذن - يا عزيزة واشبعي فضيحة، فلولا أنك ضعفت لحظة لما حدث ما حدث. لحظة، لحظة ضعف واحدة منها هي التي قاومت طبيعتها حين رقد عبد الله رقدته التي لم يقم منها. قاومت الليالي التي كانت تريده فيها ولا تستطيع، أيكون هذا هو السبب في أنها ضعفت تلك اللحظة؟ اللحظة التي أخذها فيها محمد بن قمرين؟ •••
كان عليها أن تنتظر حتى تنام الترحيلة ثم تبتعد عنهم قدر ما تستطيع وتلد، ولكن الولادة ليست بالإرادة. بدأت العواصف المتلاحقة تجتاح بطنها ولم يلبث القرن أن طش، وجيرانها في الفراش والعزال، وجيران جيرانها ومعظم الناس لا يزالون مستيقظين. جارتها تسألها ما بها وملابسها غرقى مبتلة وفي بطنها نار فتقول: رأسي.
وكان لا بد مما ليس منه بد. فما لم تلحق نفسها فستلد وهي في مكانها تحت سمع الترحيلة وبصرهم أجمعين.
وقامت منحنية، ولم يأبه أحد لقيامها فقد حسبها تريد أن تفعل مثلما يفعل الناس. وما كادت تبتعد عنهم بأمتار وتغيب قليلا في اللام حتى بدأ الطلق يثنيها ويفردها. ومع هذا فلم تنس البيضة التي استلفتها، ولا قطعة الصفصاف الجافة التي احترق نصفها، كانت كل منهما في يد.
وظلت تمشي حتى وصلت إلى حافة الخليج، وظلت تمشي على الحافة حتى لم تعد قادرة على المشي. وكل هذا ولم تكن قد ابتعدت عن الترحيلة كثيرا، كانوا على مرمى السمع منها تصلها أصواتهم، ولولا الظلام الرابض بينها وبينهم لعرفوها وعرفوا ما هي مقدمة عليه.
ووضعت قطعة الصفصاف الجافة بين أسنانها، وجلست القرفصاء، وكلما عوى الطلق المتلاحق في جنباتها انغرست أسنانها لآخرها في الخشب الجاف، وتقبضت يدها تعتصر طين الخليج حتى تقذف به وقد فقد ماءه وجف وتجمد.
وأيضا لم تنس ما يجب عليها عمله، فما كاد رأس الجنين يطل حتى كسرت البيضة ومضت توزع محتوياتها الزلقة عليها تفلح في زفلطة الرأس وخروجه.
Shafi da ba'a sani ba