قال الريس: والله ما عرفنا نطلع منها حاجة، وأهي عند سعادتك كلمها. وبغير أن يقول الرئيس هذا كان في نية فكري أفندي الأكيدة أن يتحرك إلى الظليلة ويتفحص هذه المرأة الذائبة. كانت راقدة في بطن قناية صغيرة من القنوات التي نروي منها الترابيع، راقدة على جنبها وقد ضمت ركبتيها إلى بطنها وأمسكت رأسها بكوعيها متكورة على نفسها كالجنين في بطن أمه. ولم يكن يبدو عليها أنها تختلف - قليلا أو كثيرا - عن بقية النساء في جيش الترحيلة؛ إذ كان واضحا أنها سمراء غامقة السمرة، أو بالأحرى محروقة الجلد، حرقته الشمس الكاوية التي تنصب عليه أشعتها طوال اليوم بلا حجاب أو حاجز. غير أن فكري أفندي لم يفته أن يلاحظ أن ثنية ركبتها فاتحة، وأن ثوبها الأسود المشقوق في أكثر من موضع يظهر - أحيانا - بقعا بيضاء كدوائر النور حين ترتسم على الأرض من ثقوب السقف.
حدق فيها فكري أفندي طويلا معتقدا أنها لا بد حين تشعر بوجوده فوق رأسها سوف تجلس مثلا أو تعتدل، ولكن شيئا من هذا لم يحدث، بقيت نائمة لا يتحرك لها طرف أو جفن، وحينئذ قال لها فكري أفندي: اتعدلي يا بت.
قال لها هذا وهو يلكزها لكزة هينة ببوز حذائه.
ولم ترد أو تعتدل، فقد حولت إليه عينيها حتى واجهتاه. وليتها لم تفعل، كان وجهها محتقنا شديد الاحتقان حتى استحال لونه إلى سواد. وكان في عينيها كتل دم، دم حقيقي لا يحول بينه وبين أن يسيل إلا ستار لامع رقيق ، وكانت أسنانها تصطك وجسدها كله يرتعش ارتعاشا تكاد العين لا تلحظه.
وبحركة تلقائية غريزية وضع فكري أفندي ظهر يده المغطى بالشعر والعرق على جبينها، وسحبها في الحال - وكأنما أصيب بلسعة - وهو يقول: دي عندها حمى يا وله.
فأجاب الريس: بقالها يومين، غلبانة، زي ما سعادتك شايف. - شايف إيه؟ دي تموت كده.
ووجد الريس أن الوقت قد حان فما لبث أن أضاف: وعلى العموم إذا كنت سعادتك عايز تخصم يوميتها والله اللي تشوفه.
وكان التوقيت مضبوطا فعلا، فقد هز فكري أفندي رأسه هزات كثيرة ذات اليمين وذات اليسار وهو يردد: لا حول ولا قوة إلا بالله. وكان معنى هذا أنه على الأقل قد قبل أن يتغاضى عن رقدة عزيزة، وأن يحتسب يوميتها.
ظل فكري أفندي واقفا في مكانه طويلا كمن لا يدري ماذا يفعل، ينظر إلى المرأة المتكورة في سوادها على الأرض الخشنة ذات الطوب والقلاقيل، ويعود ينظر إلى الأنفار، ثم يهيم في سكون الغيط المضيء المقيت.
وفجأة صرخت المرأة الراقدة كما يصفر القطار على حين بغتة، ومدت يدها في وحشية واقتلعت عودين من أعواد التيل ثم انهالت عليهما عضا بأسنانها وقرضا، وهي تقول مولولة: جدر البطاطا كان السبب يا ضنايا.
Shafi da ba'a sani ba