تناول فكري أفندي الخطاب، وقلب الظرف فوجد مكتوبا عليه بالقلم الكوبيا: يصل ويسلم ليد أخينا المحترم عبد المنعم أفندي عواد، بطنطا، شارع الجامع الأحمدي، نمرة 34، خصوصي لحضرته.
لم يكن في العنوان ما يثير وما يمكن أن يصلح سببا لدموع محبوب وشهقاته، حتى كاد المأمور يعيد الخطاب إليه لولا أن «محبوب» تمالك نفسه وجفف دموعه ومضى يحكي كيف بدأ يشك في الخطاب.
قال محبوب: إن سعادات زوجة الأسطى عبده سائق اللوري، والتي تقطن في نفس العزبة التي يقطن فيها محبوب، استوقفته وهو راكب الحمار في طريقه من العزبة الكبيرة إلى محطة الدلتا، استوقفته عند عزبتهم وطلبت منه أن يأخذ هذا الخطاب معه. ولما سألها عن صاحبه - إذ من غير المعقول أن تكون هي صاحبته - قالت له إنه من زوجها لقريب له في طنطا، لم يأخذ محبوب ويعط معها، فهو يعرف «صحيح» أن لزوجها قريبا في طنطا وأحيانا تأتيه خطابات من هناك. صدقها ومضى في طريقه إلى القطار، ولكنه بعد أن تجاوز العربة بقليل بدأ يحس وكأن الخطاب - دون بقية الخطابات التي معه - يشكه في جنبه ويقلقه. وعلى هذا وجد يده تمتد إلى الحقيبة ويخرج منها الخطاب ويتأمله، تأمله لثوان قليلة، ومع أنه أمي لا يعرف القراءة أو الكتابة ولا يستطيع أن يفرق بين خط وخط، إلا أن «شيء إلهي قال لي إن الخط ده خط مراتك يا واد يا محبوب.» وفجأة بدأت تتكشف أمامه أمور لم تخطر له على بال، زكية امرأته لها قريب في طنطا كان قد أتى لزيارتهم منذ بضعة أسابيع ومكث لديهم أياما ثلاثة ثم غادرهم. وقريبها هذا أفندي قالت له زكية إنه تلميذ في مدرسة الصنايع، ورغم أنه كان يبدو كبيرا جدا عن تلميذ بشاربه الكامل وذقنه وهيئته، إلا أنه صدق زكية وأخذ قولها بحسن نية، ولكنه الآن - والخطاب في يده - يحس بحروفه وكأنها ملامح زكية وتقاطيعها ورائحتها، لم يعد ثمة مجال لحسن النية. والذي حدث أن «محبوب» غير من اتجاهه، وبدلا من أن يذهب للمحطة جاء للشيخ علي أبو إبراهيم فقي التفتيش، وكان قد فتح الظرف باحتراس وأخرج الخطاب الذي فيه وطلب من الشيخ علي أن يقرأه.
أخذه الشيخ علي وأخرج منظاره السلك وأمعن فيه بصا وتفلية وقرأه في سره، وما إن انتهى حتى هب في محبوب: الله يقل مقامك يا ابن زبيدة، إيه يا واد الكلام الفارغ ده؟
وكاد محبوب يتهاوى من طوله المتواضع القصير، فقد أيقن أنه كان في شكوكه على حق، ومال على الشيخ علي وقبل يده وبللها بدموعه طالبا منه أن يصنع فيه معروفا ويقرأ له الخطاب. وقرأه عليه الشيخ، فإذا به من زوجته زكية، وإذا به خطاب غرام منها، وإذا بها لم تكتف بهذا بل أرادت أيضا استغفاله وأن يحمل لها هو خطابها إلى عشيقها فيما يحمل من بريد مستغلة - الفاجرة - جهله بالقراءة والكتابة.
طوال الفترة التي استغرقها محبوب في سرد حكايته كان فكري أفندي يكاد يموت من الضحك، ولم يكن حتى يبذل أي مجهود لإخفاء ضحكه بل أكثر من هذا كلما رأى «محبوب» منفعلا ومتأثرا داهمته الرغبة في الضحك.
وحين انتهى محبوب وعاد ينخرط في بكائه وشهقاته لم يعد فكري أفندي يتمالك نفسه. انفجر في نوبة ضحك عالية، ودق جرسه واستدعى مسيحة أفندي وأحمد سلطان وكبير الخولة الذي تصادف وجوده في المكتب، وتولى نيابة عن محبوب قص الحكاية وتولوا هم نيابة عنه الضحك، ومحبوب سادر في انفعاله وبكائه.
وقال له فكري أفندي وهو يمسح الدموع عن عينيه الضاحكتين: وما رحتش ضربتها ليه يا محبوب ؟ - أضرب مين يا حضرة المأمور؟! أنا قدها؟!
قال محبوب هذا وانخرط في البكاء، وانخرط المتجمهرون حوله في الضحك، فهم يعرفون زكية بطولها وضخامتها وجبروتها، وأمامهم محبوب بقصره ونحافته وصوته القصير النحيف.
وحين شبعوا ضحكا، هدهد المأمور على محبوب واعدا إياه بأنه سيؤدبها له، بل أرسل في طلبها فعلا وقال لمحبوب وكأنه يستدرك: ولا تحب تطلقها يا محبوب؟
Shafi da ba'a sani ba