تعدى فكري أفندي منتصف خط الأنفار دون أن تستوقفه واحدة وكاد الخط ينتهي وهو لا يعثر على ضالته المنشودة، وفجأة لمح شيئا يبعث على الأمل، ظهرا أنثويا منحنيا هو الوحيد البادي عليه أنه ظهر أنثى، رفيع من الوسط ينتهي بردفين عريضين بارزين، ورأس هو الوحيد البادي عليه أنه رأس أنثى، تتعصب بقمطة ملونة تظهر شعرا أسود لامعا غزيرا كشعور النساء.
وقال لنفسه: لا بد أنها هي، وطي يا بنت.
قال الجملة الأخيرة وهو ينهال على الظهر المحني فعلا - ولا حاجة به إلى انحناء آخر - بضربة من خيزرانته، ضربة قاسية قاصمة تأوهت لها المنحنية ولم تتمالك نفسها فاعتدلت لتضع يدها على ظهرها المضروب وقد أفلتت منها شهقة مستغيثة، وحدق المأمور في وجهها المتقبض في ألم.
كان وجهها معافى سليما لا مرض أو ولادة فيه، وعلامات الألم المرتسمة على ملامحها علامات ألم حديث سببته ضربة العصا، ولا يمكن أن تكون علامات ألم بايت سببته ولادة، وانتقل المأمور إلى ظهر آخر، ومن ظهر إلى ظهر مضى يتفقد ويحملق ويتأكد، وانتهى خط الأنفار وغيظ فكري أفندي قد بلغ مداه، فهو قد خرج من استعراضه صفر اليدين وخابت فراسته.
وفجأة وجد فكري أفندي نفسه يهدر في الريس عرفة: طلع العمال من الأرض، وخليهم كلهم يمروا واحد واحد قدامي.
وتجمد عرفة في بله مؤقت، ولم ينطق إلا على أثر شخطة أخرى من المأمور.
وبدا وكأن الأنفار قد فرحوا كثيرا بقرار خروجهم؛ إذ هم على الأقل سيستريحون - ولو لحظات قليلة - من انحناءة ظهورهم العارمة في قسوتها وحدتها، الانحناءة التي تستمر أكثر من عشر ساعات في اليوم، فرحة كبرى أن يستريح منها الإنسان دقيقة.
اعتدل الأنفار ومدوا أيديهم جميعا وبلا استثناء تضغط على أماكن الألم في سلاسلهم الفقرية، وحين أفاقوا من غيبوبة النشوة القصيرة التي اعترتهم وعرفوا بقرار المأمور ابتهجت له النساء والبنات كثيرا، وراحت كل واحدة تمني نفسها بألف ليلة وليلة من الأحلام، معتقدة أن اختيار المأمور حتما سيقع عليها، وستقضي أحلى الساعات وهي تخطر بخفة كخادمة في بيته حاملة الأطباق أو مناولة القلة، حيث الظل الوارف، والجلوس، والطعام الكثير، وحيث لا عصا ولا خيزرانات أو سواقون، أما الرجال فإنهم مضوا غير مبالين كالمحكوم عليهم بسجن طويل.
ومر الأنفار أمام المأمور، وراح فكري أفندي يحملق في الوجوه، الكبيرة والصغيرة، العجوزة والصبية، القبيحة والمليحة، الغبية والمريضة، ويتفرس في الأجساد، الممشوقة والمنحنية، الأجساد التي تعرج والتي تقفز، الجافة والنضرة، الأجساد التي تودع الحياة والتي تستقبلها، ولم يجد أبدا - في جسد من الأجساد ولا في وجه من الوجوه - واحدة من المحتمل أن تكون هي الآثمة الفاعلة.
وهدر فكري أفندي يأمر عرفة بإرجاع الأنفار إلى الأرض ويلعن آباءهم وأباه، بجد وحقد هذه المرة.
Shafi da ba'a sani ba