Harakat Islahiyya
محاضرات عن الحركات الإصلاحية ومراكز الثقافة في الشرق الإسلامي الحديث
Nau'ikan
عند ذلك اشتدت ثورة المتظاهرين، وكان الترجمان هو الذي ينقل الحديث بينهم وبين القاضي (فقد كان القاضي تركيا لا يفهم العربية)، فانقضوا عليه وضربوه، وانتهز القاضي الفرصة ففر هو وحريمه، ولم يترك الناس نائب القاضي حتى كتب لهم حجة بصواب رأي الواعظ وخطأ رأي الشيخين: النفراوي والخليفي.
ولم تنته الفتنة عند هذا الحد؛ فقد ذهب الناس بعد ذلك بأيام إلى مسجد المؤيد؛ ليحضروا درس وعظهم فلم يجدوه، وسرت شائعة أن القاضي منعه من الوعظ! يقول الجبرتي: «فقام رجل منهم وقال: أيها الناس، من أراد أن ينصر الحق فليقم معي، فتبعه الجمع الغفير، فمضى بهم إلى مجلس القاضي، فلما رآهم القاضي ومن في المحكمة طارت عقولهم من الخوف، وفر من بها من الشهود ولم يبق إلا القاضي، فدخلوا عليه، وقالوا له: أين شيخنا؟
فقال: لا أدري.
فقالوا له: قم واركب معنا إلى الديوان، ونكلم الباشا في هذا الأمر، ونسأله أن يحضر لنا أخصامنا الذين أفتوا بقتل شيخنا، ونتباحث معهم، فإن أثبتوا دعواهم نجوا من أيدينا وإلا قتلناهم.
فركب القاضي معهم مكرها، وتبعوه من خلفه وأمامه إلى أن طلعوا إلى الديوان، فسأله الباشا عن سبب حضوره في غير وقته، فقال: انظر إلى هؤلاء الذين ملئوا الديوان والحوش، فهم الذين أتوا بي.
وعرفه عن قصتهم.»
وهال الباشا ما رآه من تجمع الناس وغضبهم، وخشي شرهم إن هو عارض رأيهم، فأصدر أمره بأن يحضر الشيخان لمناقشة الواعظ، وخرج الناس فأحضروا شيخهم وأجلسوه على كرسي وعظه بجامع المؤيد، واتفق معهم على أن يأتوه بالشيخين في اليوم التالي؛ ليذهبوا جميعا إلى القاضي، ويناقشوا الأمر أمامه.
غير أن الباشا لم يكن جادا في أمره، وإنما هو أراد أن يتقي شرهم، فلما خرجوا أرسل رسالة إلى إبراهيم بك وقيطاس بك «يعرفهم ما حصل وما فعله العامة من سوء الأدب، وقصدهم تحريك الفتن، وتحقيرنا نحن والقاضي» وختم رسالته بتهديد الأميرين بأنه سيغادر مصر هو والقاضي إن لم يعملا على وضع حد لهذه الفتنة، قال: «وقد عزمت أنا والقاضي على السفر من البلد.»
وأدرك الأمراء المماليك خطورة الموقف، فأصدروا أمرهم بنفي الواعظ خارج مصر، وتفرق أنصاره، فقد صدر الأمر أيضا إلى الأغا «أن يركب، ومن رآه منهم قبض عليه، وأن يدخل جامع المؤيد، ويطرد من يسكنه من السقط.»
وهكذا شهدت مصر أول حركة إصلاحية في القرن الثامن عشر، ولكنها لم تدم إلا أياما قليلة، ولم يكتب لها النجاح؛ فإن المجتمع المصري لم يكن مستعدا بعد لتقبل هذه الدعوى، ومن المؤسف حقا أن الجبرتي لم يزدنا علما بها، فلم يذكر لنا اسم هذا الواعظ أو شيئا من سيرته: أين نشأ؟ وأين تعلم؟ ومن شيوخه؟ وكيف كان نوع ثقافته؟ وبمن تأثر في دعواه؟ هل كان كخلفه ابن عبد الوهاب متأثرا بآراء ابن تيمية أو كانت حركته رد فعل طبيعيا لما كان يراه في القاهرة وغيرها من مدن مصر من انتشار للبدع والشعوذة والخرافات؟ كل ذلك لا نعلم عنه شيئا! (3) الظاهرة الثالثة: نهضة ثقافية تلقائية
Shafi da ba'a sani ba