فتنهدت وقالت وهي تخاطب نفسها: أمس كنت رغم الفقر السيدة، ومن الغد سأكون الأرملة الحزينة المهجورة، أبتهل للمجهول بلا أمل، أحلم بالفراديس المفقودة، أنزوي عند الأفراح، أخاف الظلام، أحذر الرجال، أتجنب النساء، ولا صديق إلا الإهمال والنسيان.
فقال بعتاب: ولكنني لم أمت بعد يا أمي! - فليمد الله في عمرك حتى تلعن الحياة، ولكنه تركك يافعا، سواق كارو، لا مال ولا جاه، ولا عملقة تضمن لك الفتونة.
فتمتم في كآبة: آن لي أن أذهب، أستودعك الحي الذي لا يموت.
وتأبط عصا أبيه العجراء وذهب.
12
نشأ شمس الدين في مسكن متقشف؛ فلم يعرف من الحياة إلا البساطة والكدح. لم تحتفظ ذاكرته بصورة واحدة من دار البنان السامقة. وكان عاشور يتملى وجهه الوسيم، المقتبس من وجه أمه، ويقول باسما: لن يصلح هذا الولد للفتونة.
وأرسله إلى الكتاب، وسكب في قلبه أعذب ألحان الحياة، ولم يهمل جانب القوة فعلمه ركوب الخيل واللعب بالعصا والمصارعة، وإن لم يفكر أبدا في إعداده للفتونة. ولما درج شمس الدين في الوعي بنفسه وبما حوله، أدرك سطوة أبيه غير المحدودة، وسرعان ما ارتطم بالتناقض الحاد بين «عظمته» وبين حياته الفقيرة الكادحة. وقال له مرة عند قدوم عيد: أريد يا أبي أن أرتدي عباءة ولاثة.
فقال عاشور بحزم: ألا ترى أن أباك لا يرتدي إلا الجلباب؟
وكانت فلة تضيق بالحياة مثل ابنها، وكانت تقول لعاشور على مسمع من شمس الدين: لو أخذت من الإتاوات ما يضمن لك حياة كريمة ما لامك أحد.
فيقول لها عاشور: بل عليك أن تربي الدجاج لتهبي حياتنا شيئا من اليسر المشروع. ثم يقول مخاطبا شمس الدين: لا قيمة لبريق في هذه الحياة بالقياس إلى طهارة الضمير وحب الناس وسماع الأناشيد!
Shafi da ba'a sani ba