فتساءل عبد ربه بأسى: ألا تريد أن تحتذي مثال عاشور الناجي؟ - أين عاشور الناجي؟ - في أعلى عليين يا بني.
فقال بازدراء: لا أهمية لذلك. - أعوذ بالله من الكفر !
فقال بوحشية: أعوذ بالله من اللاشيء! - لا أتصور أن يمضي ابني كما مضى سمكة العلاج. - لقد انتهى سمكة العلاج كما انتهى عاشور. - كلا، جاء كل من طريق مختلف وذهب إلى طريق مختلف.
فنهض محتدا وقال: لا تزد من همي يا أبي، لا تطالبني بشيء، لا يغرنك ما بلغت واعلم أن ابنك رجل غير سعيد.
40
يئس عبد ربه وكف عن الحديث عن الفردوس المعهود. وقال وهو في غاية من السكر: إرادة الله فوق كل إرادة، وما علينا إلا الرضا.
ويئس الحرافيش وتساءلوا: لم لا نشك في الماضي ليرتاح بالنا؟!
واستنام الوجهاء إلى الطمأنينة، أدوا الإتاوات، وقدموا الهدايا بلا حساب.
ومضى جلال بقلب أجوف تتلاطم فيه رياح الكآبة والقلق، وبظاهر متألق ينضج بالقوة والسيادة والنهم. بدا أول ما بدا أنه وقع أسيرا لعشق المال والتملك. شارك أخاه راضي في محل الغلال، كما شارك الخشاب والبنان والعطار وغيرهم. لا شبع من ناحيته. وترحيب حار من ناحيتهم ليثبتوه في أرض الوجاهة والسؤدد. غدا أكبر تاجر وأغنى غني، وفي الوقت نفسه لم يتهاون في جمع الإتاوات وتقبل الهدايا، ولم ينعم بخيره إلا رجال عصابته حتى عبدوه عبادة. وشيد عمارات كثيرة، كما شيد إلى يمين السبيل دارا خيالية، سميت بحق بالقلعة لجلالها وكبرها، وفرشها بفاخر الأثاث، وحلاها بالتحف، كأنه حلم الخالدين. ورفل في الثياب الغالية، وتنقل بالدوكار والكارتة، وتوهج الذهب في أسنانه وأصابعه.
ولم يكترث لحال الحرافيش ولا عهد الناجي، لا عن أنانية أو ضعف أمام مغريات الحياة، ولكن ازدراء لهمومهم، واستهانة بمشكلاتهم. والعجيب أنه كان بطبعه أميل إلى الزهد، واحتقار مطالب البدن، وكان ما يدفعه إلى الجاه والمال والتملك قوة عمياء مجهولة، جوهرها القلق والخوف، كأنما كان يتحصن ضد الموت، أو يوثق علاقته بالأرض حذرا من غدره. لقد غرق في خضم الدنيا ولكنه لم يغفل قط عن خداعها، لم تخدره ابتسامتها، لم يطربه عذب حديثها، كان حاد الشعور بلعبتها المرسومة، وغايتها المقصودة. لم يأنس للخمر ولا المخدر ولا الهوى ولا التكية، وكان إذا خلا إلى نفسه تأوه قائلا: ما أشد عذابك أيها القلب!
Shafi da ba'a sani ba