وقطب جلال محتجا، فقال عبد ربه: محمد أنور شنق، نوح الغراب قتل، المأمور نفي، عزيز مات غما، أما أنا فأسعدهم حظا.
فقال جلال متوسلا: تجنب ذكر أمي بسوء يا أبي.
فتمتم: لا تحزن ولكن فكر. تريد أن تتزوج من قمر، لا تظنني عقبة يا بني، ذكرى المرحومة هي العقبة، كيف تصورت أن ألفت هانم تعطي كريمتها لابن زهيرة؟!
فهتف جلال: لا تعبث بجراحي.
فقال له الرجل بحنان: أنصحك ألا تتزوج من امرأة تحبها، وألا تحب امرأة إذا تزوجتها. اقنع بالمعاشرة والمودة، واحذر الحب فإنه مكيدة.
17
وعلم جلال ذات ليلة أن أباه يعربد في ساحة التكية. هرع إليه من فوره فوجده يحاكي الأناشيد بصوت منكر، فساقه إلى البيت من ذراعه وهو يقول له: الحارة تغفر أي شيء إلا هذا.
ولما نام الرجل وجد جلال من نفسه رغبة حارة للعودة إلى الساحة. لم يخل إلى نفسه أمام التكية من قبل. وكانت الليلة حالكة السواد. تتوارى النجوم فوق سحب شتوية كثيفة، وكان البرد قارسا فحبك العباءة حوله وطوق وجهه باللاثة. وغمرته الأناشيد مثل أمواج دافئة. تذكر رواد المكان من آل الناجي؛ الجد الأول الذي ذاب فيه مثل سر مكنون. وهمس له صوت: إنما يمتاز الرجال بتحدي الصعاب. وسرعان ما ملأ أعطافه إلهام سخي بالبشر والفوز.
عقد صداقة مع الظلمة، مع الصوت، مع البرد، مع الدنيا كلها. صمم على الطيران فوق العقبات مثل طائر خرافي.
18
Shafi da ba'a sani ba