ولكن ثمة جانبا مجهولا خفي على الناس هو شخصية فؤاد عبد التواب. كان رجلا شجاعا وعنيدا. وقد عرف في ريف الصعيد قبل نقله إلى القاهرة بالسفاح! ولولا تقاليد الداخلية نفسها في سياستها المرسومة مع الفتوات لأقدم بدافع ذاته الجريئة على تصفية الفتونة من الحارات كلها.
لذلك ما كاد يبلغه أن محمد أنور لم يستشعر الأمان المنشود حتى قام بمظاهرة حاسمة ألجمت الألسنة وهزت جذور القلوب. ما تدري الحارة ذات يوم إلا والمأمور يغزوها على رأس قوة مسلحة! ترامت نداءات عسكرية جاذبة للأسماع والأنظار، ثم تراءى جبريل الفص وهو يتقدم بين ثلة من المخبرين، يتبعه ضابط القسم، فالمأمور في حلته الرسمية، وأخيرا طابور ضخم من الجنود المدججين بالسلاح. سار الموكب في تؤدة وحزم حتى اخترق القبو إلى الساحة، وهناك قام بتكوينات عسكرية مدمدمة، ثم رجع على مهل وقد اصطف الناس على الجانبين كأنهم في يوم المحمل. لم يأبه المأمور بالنظر نحو الناس، ولكن عينيه كانتا تتسللان أحيانا إلى النوافذ المكتظة بوجوه النساء.
وعلى مبعدة يسيرة من السبيل اقترب شيخ الحارة من المأمور، ولفت نظره إلى زهيرة في نافذتها باعتبارها محور المعركة الدائرة. ولبث نوح الغراب في مجلسه بالمقهى، أما محمد أنور فقد انقبض صدره في دكانه وتوقع مزيدا من الشر لا الأمان، على حين راح عبد ربه الفران يتابع الموكب بذهول ويقول لمن حوله: سنشهد قريبا قيام القيامة!
55
وأكثر من مرة لاحظت زهيرة أن المأمور فؤاد عبد التواب «يصادفها» في السكة الجديدة وهي راجعة من زيارة الحسين. وأكثر من مرة لاحظت أنه يثقبها بنظرة حادة جامحة جائعة. وغمغمت لنفسها «حتى المأمور»! وبدا الميدان ساخرا وحافلا بالفتن مثل جراب الحاوي المليء بالفئران والقطط والثعابين. وهزها طرب الخيلاء. وتهيأ لها أنها تمتطي نسرا خرافيا يرف جناحاه بالقوة والإلهام والخلق. عزيز، نوح الغراب، فؤاد عبد التواب، السحر والحب وقمة المجد المكللة بالنجوم. وتتابع نبض قلبها، وعند كل نبض تتشكل صورة براقة تخرق كل مألوف.
56
واستدعى المأمور محمد أنور إلى مقابلة في سرية مطلقة. أجلسه أمامه وقال: لقد رفعت راية القانون بقوة لم تعرفها حارة من قبل، فهل أتاك الأمان؟
فهز محمد أنور رأسه في حيرة وقال: لا أدري.
فقال فؤاد عبد التواب بتسليم: صدقت، أنا مثلك، الحق أني أخاف عليك.
فقال محمد أنور بقلق: لا تساوي الحياة مليما في حارتنا! - صدقت، قد يقتلك أي وغد حقير، ماذا يفيدك بعد ذلك لو سحقنا الفتونة واقتلعنا جذورها؟ - أجل ماذا يفيدني!
Shafi da ba'a sani ba