Gaskiya: Gabatarwa Ta Gajeren Lokaci
الحقيقة: مقدمة قصيرة جدا
Nau'ikan
المقدمة
1 - الأحلام وتجارب المحاكاة
2 - هل المادة واقع؟
3 - هل الأشخاص واقع؟
4 - هل الزمن واقع؟
5 - ملاحظات ختامية
مراجع وقراءات إضافية
مصادر الصور
المقدمة
1 - الأحلام وتجارب المحاكاة
Shafi da ba'a sani ba
2 - هل المادة واقع؟
3 - هل الأشخاص واقع؟
4 - هل الزمن واقع؟
5 - ملاحظات ختامية
مراجع وقراءات إضافية
مصادر الصور
الواقع
الواقع
مقدمة قصيرة جدا
تأليف
Shafi da ba'a sani ba
يان فيسترهوف
ترجمة
هبة عبد العزيز غانم
مراجعة
محمد فتحي خضر
المقدمة
لعلك تظن في مكانك هذا (ربما في متجر الكتب أو في المكتبة أو في منزلك)، بينما تقرأ هذه الصفحة، أن هذا الكتاب والورق المطبوع عليه والأحرف المطبوعة على الصفحة كلها واقع، ولعلك تظن أنك لا تحلم بأنك تمسك بهذا الكتاب وتقرأ هذه الجملة، بل إنك تفعل ذلك بالفعل، والأرجح أنك تعتقد أنك أنت نفسك من الواقع، ولست من صنع مخيلة أحدهم (مثلما كانت أليس من صنع مخيلة الملك الأحمر) يحلم بشخص يقرأ كتابا عن الواقع، وهذا يعكس توجها نفسيا صحيا؛ فمعظم الناس لا يعتقدون أنهم يحلمون معظم الوقت (والقليلون للغاية يعتقدون أنهم يحلمون في الوقت الذي يحلمون فيه بالفعل)، ولا يفترضون أن الأشياء المادية المحيطة بهم ليست موجودة في الواقع، ولا يصدقون أنهم شخصيات في رواية شخص آخر. إلا أن عدم شكك ولو للحظة واحدة في أن الأشياء قد لا تكون على هذا النحو يعكس افتقارك للخيال الفلسفي.
في هذا الكتاب، سنتطرق إلى بعض البراهين الداعمة لمثل هذه الشكوك، وسنحاول أن نكتشف معا إذا ما كانت هذه البراهين وجيهة أم لا؛ في الفصل الأول، سنتساءل عن كيفية التفرقة بين تجاربنا الواعية وبين الأحلام وعمليات المحاكاة (هذا إن كنا سنستطيع ذلك في يوم من الأيام). بعد ذلك سنتناول مسألة إذا ما كانت الأشياء المادية المحيطة بنا، كالكتب والموائد والمقاعد، واقعية أم لا. أما في الفصل الثالث، فسنطرح قضية إذا ما كان الأشخاص واقع أم لا، وعلى وجه التحديد إذا ما كنت أنت، قارئ هذا الكتاب، واقع أم لا. ويناقش الفصل الأخير حقيقة الزمن، ذلك الوسط الذي توجد فيه ظاهريا أنت وكل الأشياء المحيطة بك.
الفصل الأول
الأحلام وتجارب المحاكاة
Shafi da ba'a sani ba
ذات ليلة، استيقظ عالم الحيوان الفرنسي إيف ديلاج على طرقات الباب، كان الطارق هو حارس البيت يخبره أن يستيقظ لأن صديقا له باغته المرض، قام ديلاج من فراشه وارتدى ملابسه وتوجه مسرعا إلى دورة المياه ليغسل وجهه بإسفنجة مبللة. أيقظه إحساس الماء البارد على وجهه؛ كان في الواقع لا يزال مستلقيا في الفراش بملابس النوم، ولم يكن ثمة أحد يطرق الباب، كانت التجربة كلها حلما.
بعد دقائق، سمع طرقات أخرى على الباب، قال الحارس: «سيدي، ألن تأتي؟» رد ديلاج: «يا إلهي! إذن فهذا واقع بالفعل! اعتقدت أني أحلم.» رد الحارس: «إطلاقا، أرجوك أن تسرع، فالجميع ينتظرك!» استيقظ ديلاج وارتدى ملابسه، وأسرع إلى دورة المياه ليغسل وجهه. وعندما لامست الإسفنجة وجهه، استيقظ، ووجد نفسه بملابس النوم في الفراش. بعد برهة قصيرة، سمع طرقات أخرى على الباب، ومرة أخرى كان الحارس يقول: «سيدي ...»
قيل لنا إن هذه الأحداث كررت نفسها أربع مرات قبل أن يستيقظ ديلاج في النهاية في العالم الواقعي. مر ديلاج بظاهرة «الاستيقاظ الزائف» غير المعتادة ولكن غير النادرة أيضا؛ إذ استيقظ فيما اعتقد أنه العالم الواقعي، ليكتشف أن هذا أيضا كان حلما. وعندما استيقظ ثانية، اكتشف أنه لا يزال في حلم لم يستيقظ منه بعد. إن عدد المستويات التي يمر بها النائم قبل أن يستيقظ في النهاية قد يكون كبيرا للغاية، وغالبا ما يجد الأشخاص الذين يمرون بتجربة الاستيقاظ الزائف العملية كلها شديدة الإحباط.
ثمة سببان رئيسيان لذلك؛ أولهما: هو رعب الاستمرار في حلقة تكرار أبدي للأحداث نفسها، أما السبب الثاني: فهو الشك الذي يراودنا من جراء الاستيقاظ الزائف حيال حقيقة الاستيقاظ الفعلي. كان الاستيقاظ من حلم إلى حلم، أو على الأحرى «الخروج من مستوى إلى مستوى أدنى»، واقعيا ومقنعا تماما؛ إذن كيف نعرف أن تجربة اليقظة التي مررنا بها هذا الصباح قبل أن ننهض من الفراش كانت يقظة حقيقية؟ كيف تعرف أنك لم تستيقظ في حلم آخر، حلم يضم كل التجارب التي تمر بها الآن، وأنك بعد برهة قصيرة ستستيقظ مرة أخرى في عالم اليقظة، أو ربما في حلم آخر؟
إن تأمل احتمالية أنك تحلم الآن أمر مربك بالتأكيد، ربما تظن أنه أمر بعيد الاحتمال، تماما مثل الفوز بالجائزة الكبرى في اليانصيب أو مثل السقوط ميتا فجأة. هناك الكثير من الأشياء الممكنة نظريا، رغم أن احتمالية حدوثها شديدة الانخفاض (مثل أن يكتب قرد بعشوائية على الآلة الكاتبة الأعمال الكاملة لشكسبير، أو الاختفاء المفاجئ للأشياء نتيجة لتأثير ما يطلق عليه «النفق الكمومي»). فإذا كنت لا تقلق من احتمال أن يختفي هذا الكتاب فجأة من بين يديك نتيجة لتأثير كمي عجيب ما، فلم تقلق إذن من احتمالية أن تكون الآن في حلم؟
السبب في أنك يجب أن تقلق هو أن احتمالات أنك تحلم في هذه اللحظة بالذات أكبر بكثير جدا مما تتصور. لنحسب حسبة سريعة؛ نحن نفترض متفائلين أنك تحصل على ثماني ساعات من النوم كل ليلة؛ مما يجعل ساعات استيقاظك ست عشرة ساعة في اليوم. اكتشف الباحثون في مجال النوم أن هناك علاقة قوية بين الحلم وبين الدخول في نوم حركة العين السريعة؛ يتميز نوم حركة العين السريعة بالحركة السريعة لمقلة العين، ويكون الدماغ فيه نشطا للغاية؛ حيث إن نشاطه الكهربي يشبه النشاط الكهربي للدماغ المستيقظ، ولكن يكون إيقاظ النائم في هذه المرحلة أصعب من إيقاظه أثناء النوم في أي مرحلة بخلاف نوم حركة العين السريعة. ونحن نعلم أن ما بين 20٪ إلى 25٪ من نومنا يكون في مرحلة نوم حركة العين السريعة، فإذا ما أخذنا القيمة الدنيا وافترضنا أنك لا تحلم إلا أثناء نوم حركة العين السريعة، فهذا يعطينا 1,6 ساعة من الحلم كل ليلة؛ ومن ثم، نظرا لأن لديك 1,6 ساعة من وعي الحلم لكل 16 ساعة من وعي الاستيقاظ، فإن هذا يعني أن احتمال أنك تحلم في أي لحظة يساوي 1 : 10، وهذا احتمال كبير للغاية، بالمقارنة: احتمال الفوز بالجائزة الكبرى في اليانصيب يساوي تقريبا 1 : 14 مليون (هذا يعني أنك إذا اشتريت تذكرة كل أسبوع، فستحصل على الجائزة الكبرى في المتوسط كل 250 ألف سنة)؛ واحتمال أن يسقط مؤلف هذا الكتاب صريعا نتيجة حادثة السنة القادمة أقل من 1 : 2500.
شكل 1-1: التوزيع الطبيعي لمراحل النوم في ثماني ساعات؛ كلما زاد عدد الساعات في مراحل حركة العين غير السريعة (الرمادي الفاتح)، زادت صعوبة إيقاظ النائم.
مما سبق نخلص إلى أن ثمة احتمالا لا بأس به أنك الآن تحلم، ولكن هل لهذا أهمية؟ بالتأكيد لا يمكننا أن نغض الطرف عن احتمال أن كل هذا حلم، ولكنه ما دام مستمرا، فلن يشكل هذا أي فارق يذكر في طريقة عيشنا للحياة. فحتى إن لم تكن ورقة خمسة الجنيهات الاسترلينية التي لدي في جيبي إلا نقودا في الحلم، ولم تكن كعكة الفراولة التي أشتريها بها إلا كعكة في الحلم؛ فما زلت في النهاية أستطيع الشعور بمذاق كعكة الفراولة، وماذا أريد أكثر من هذا؟ فحتى إن كنت أحلم الآن، فسيظل لدي قدرة على أن أخطط لحياتي، وسيظل السبب يتبع المسبب والأفعال سيظل لها نتائج. بالطبع، لن تكون هذه النتائج إلا نتائج داخل الحلم، ولكن بما أننا افترضنا من البداية أنني لن أستطيع أن أفرق «من الداخل» بين إذا ما كنت أحلم أم لا، فلم أقلق بهذا الشأن؟ عالم التجارب لا يزال كما هو، وهذا هو المهم في النهاية.
ما مدى سرعة مرور الوقت داخل الحلم؟
هل يمر الوقت في الحلم بالسرعة نفسها لمروره في اليقظة؟ يبدو أن أدلة غير موثقة تقترح أنه يمر بسرعة أكبر بكثير؛ قام النبي محمد بزيارته المشهورة للسموات السبع في حلم استغرق منه وقتا أقل من تدفق الماء من قنينة مقلوبة. يحلم الكثيرون منا بأحلام فيها قصص تستمر لعدة أيام؛ ومن ثم تبدو لنا أطول كثيرا من الوقت الفعلي الذي نقضيه في الحلم. فإذا كان هذا صحيحا فسيكون هناك لحظات أكثر من الوعي مقابل كل وحدة من وقت النوم نقضيها في الحلم؛ ومن ثم سيكون احتمال أنك تحلم الآن أكبر من 0,1. إلا أن الأبحاث التي أجريت في الأحلام الجلية (الأحلام التي يعرف فيها الحالم أنه يحلم) بينت أن الوقت في الحلم يمر بالسرعة نفسها التي يمر بها في حياة اليقظة؛ فعندما يحرك النائم الذي يحلم بحلم جلي مقلة عين جسده الحالم، يتسبب هذا في حركة مقلته الحقيقية. يمكن تتبع هذه الحركة في مختبر النوم، وبهذه الطريقة يستطيع الحالمون إرسال إشارات من نومهم إلى عالم اليقظة؛ على سبيل المثال، يمكن أن نطلب من المشاركين في التجربة تحريك عيونهم خمس مرات من اليسار إلى اليمين في الحلم الجلي، وتقييم فترة زمنية ثم تحريكهما مرة أخرى. عندئذ يمكن المقارنة بين الوقت الحقيقي ووقت الحلم. أظهرت التجارب أنه في المتوسط تستمر الفترة المقدرة بعشر ثوان حوالي 13 ثانية في اليقظة؛ وهذا هو مقدار الوقت نفسه الذي تستغرقه في الحلم الجلي. يبدو أن تجربتي اليقظة والأحلام تحتويان على العدد نفسه للحظات الوعي لكل وحدة من وقت اليقظة.
Shafi da ba'a sani ba
بيد أن هذا المنطق متسرع إلى حد ما؛ ففي الواقع، ثمة فارق ضخم إذا كنت تحلم الآن؛ أولا: سيكون الجزء الأكبر من معتقداتك خاطئا؛ فقد تعتقد بوجود قطعة من كعك الفراولة؛ أي شيء مادي، أنتجها خباز، ولها شكل ووزن ومحتوى سكر معين، شيء يسبب إدراكك لهذه القطعة من الكعك، لكن كل هذه المعتقدات ستكون خاطئة؛ فليس هناك قطعة كعك بهذه المواصفات، بل مجرد مجموعة من الصور في عقلك تتجمع معا بطريقة معينة لتشكل فكرتك عن قطعة الكعك، دون أي صلة بأي كعك في الواقع الخارجي على الإطلاق.
ثانيا: سيكون عليك أن تراجع معتقداتك بشأن الأخلاق والمبادئ الأخلاقية. ربما تعتقد أن ثمة أشخاصا حولك، كزوجك وأبويك وأصدقائك وزملائك. فإذا كنت في حلم، فكل هذا غير واقعي. هناك أفكار في عقلك تعتقد أنها تمثل أشخاصا، ولكنها في الحقيقة ليست كذلك. نحن عادة ما نعتقد أننا مجبرون على أن نتصرف على نحو أخلاقي نظرا لتبعات أفعالنا على الآخرين. فإذا كان فعل معين يسبب معاناة للآخرين، فعلينا أن نحجم عن القيام به؛ أما إذا كان يسبب إسعادهم، فعلينا أن نكافح من أجل القيام به، ولكن إذا لم يكن كل الناس الذين تتعامل معهم إلا صورا في حلمك، فهذا الدافع يتلاشى تماما. مع ذلك، ما زال عليك أن تتجنب الأفعال غير الأخلاقية التي سيكون لها عواقب مؤسفة بالنسبة لك (فأن ينتهي بك الأمر في سجن بالحلم ليس أفضل حالا بكثير من أن ينتهي بك الأمر في السجن في الواقع)، ولكن ما دمت تستطيع الإفلات بفعلتك، فإن أماني الآخرين وهمومهم لن تردعك بالضرورة عن أي فعل؛ نظرا لأن تلك الأماني والهموم كلها غير واقعية بالمرة.
إذن هناك في الحقيقة تبعات جوهرية لما تعرفه وللطريقة التي يجب أن تتصرف بها إذا لم تكن تجربتك بأكملها إلا حلما، هذه النتائج تصبح متطرفة بشكل خاص إذا افترضنا أن الموجود هو أنت فقط والأفكار التي تدور بعقلك. هذه الحالة الفلسفية يطلق عليها «نظرية الإيمان بالذات» وتقلص العالم ليصبح في حجم عقلك. (لعلك تعرف المزحة التي يكتب فيها شخص مرتبك مؤيد لنظرية الإيمان بالذات لكاتبة عمود النصائح: «سيدتي العزيزة، أنا من المؤمنين بنظرية الإيمان بالذات، وهذا وضع محمود، وأتساءل لماذا لا يوجد أشخاص آخرون مثلي؟») بالمقارنة بنظرية الإيمان بالذات، يعتبر الاعتقاد بأنك تحلم الآن معتدلا؛ فإذا كنت تحلم الآن، فسيكون هناك وقت تستيقظ فيه، وهناك طرق محدودة نقول بها إنك قد تملك بعض المعتقدات الصحيحة (ربما معتقدات في الحقائق الرياضية، التي قد تكون سليمة أيضا في عالم اليقظة)، يمكننا أيضا أن ندافع عن التصرفات الأخلاقية في عالم الحلم (إذا قلنا إن التصرفات غير الأخلاقية تشوه شخصيتك، وإذا كانت شخصيتك شيئا موجودا على الأقل جزئيا في حالة اليقظة الخاصة بك). ولكن بالنسبة للمؤمنين بنظرية الإيمان بالذات، فليس هناك عالم خارجي، وليس هناك أشياء، وليس هناك أشخاص؛ هناك شخص واحد فقط، هو أنا، وكل شيء يحدث داخل عقلي.
عادة ما يرتبط القلق مما إذا كنا نحلم الآن بالفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (1596-1650) الذي ناقش هذه القضية في مستهل كتابه «تأملات في الفلسفة الأولى». أما في النقاش المعاصر، فغالبا ما يتم بحث هذه القضية بتناول بديلها الأكثر حداثة وتكنولوجية: القلق من أن نكون دماغا في وعاء.
تتيح لنا التكنولوجيا الطبية الحديثة الحفاظ على حياة بشر يفتقدون أعضاء حيوية متنوعة كالقلب أو الكليتين. وسرعان ما ستكون هناك رئات وأكباد صناعية، وليس ثمة مبالغة في الخيال حين نقول إنه في وقت من الأوقات في المستقبل سنتمكن من الإبقاء على حياة دماغ بشري على الرغم من تدمير جسده. سيتم إمداد هذا الدماغ بالمواد الغذائية عبر بديل للدم - في العادة محلول مؤكسج من أملاح متعددة - ولن يعود معتمدا على جسمه السابق من أجل وظائف الحفاظ على الحياة. تم تحقيق نجاح في هذا الاتجاه مع أدمغة الخنازير الغينية، ويبدو أنها مسألة وقت قبل أن يستطيع الطب فعل الشيء نفسه بأدمغة البشر.
مع ذلك، لا تكمن الصعوبة الأساسية في كيفية الحفاظ على حياة مثل هذا الدماغ، وإنما في الحفاظ عليه نشطا ومحفزا؛ حيث إن الحفاظ عليه معزولا سيكون مثل كونه مشلولا وأعمى وأصم وأبكم وغير قادر على الشم أو التذوق أو اللمس في الوقت نفسه، وهذه حالة أسوأ من حالة المرضى المصابين بمتلازمة المنحبس، والذين يعانون من شلل رباعي وعدم قدرة على الحركة أو التواصل نتيجة تلف الدماغ الأسفل وجذع الدماغ.
شكل 1-2: تعديل سينمائي مبكر لسيناريو الدماغ في وعاء.
على الأقل يتلقى هؤلاء المرضى بعض المدخلات الإدراكية، أما الدماغ المعزول فلا يحصل على أي معلومات عن العالم من حوله. ولكي تحافظ على سعادة دماغ في وعاء، عليك إذن أن تحفز أعصابه على نحو يحفز المدخلات من أعضاء الإحساس السابقة الخاصة به. والقيام بذلك على أي نحو شامل هو بالتأكيد أمر يخرج عن نطاق قدرات العلم في الوقت الحالي، ولكن أساسيات التكنولوجيا اللازمة لذلك موجودة؛ فقد استخدمت واجهات الدماغ-الكمبيوتر لاستعادة القدرة المحدودة على الإبصار للأشخاص الذين لم يولدوا مكفوفين عن طريق زراعة مجموعة من الأقطاب الكهربائية المتصلة بكاميرا في القشرة البصرية مباشرة، وقد تم الحصول على نتائج مشجعة مشابهة مع الأذرع الآلية. وقد يتيح لنا تطوير هذه التقنيات في المستقبل توفير عوالم محاكاة كاملة للترفيه عن الأدمغة المعزولة المتصلة بأجهزة حفظ الحياة. بالطبع لن تكون هذه العوالم المحاكاة قريبة من شكل العالم الواقعي. فسيكون من القسوة المحضة أن نرسل نبضات كهربية للدماغ تجعله يرى ما سيراه إذا كان له عينان؛ إذ سيرى حينها الجزء الداخلي من برطمان مملوء بمادة مغذية سائلة، ثم يتخطى ذلك إلى المنظر المحبط لوحدة حفظ الأدمغة المعزولة في المستشفى المحلي، المليئة بأرفف تحمل صفوفا فوق صفوف من الأدمغة المماثلة. وبما أن الواقع المحاكى جزء من العلاج الطبي بغرض تقليل معاناة المريضة، أفلن يكون من الأفضل إعطاؤها (أو على الأحرى إعطاء مخها) عالما محاكى تتمتع فيه بجسد وتعيش حياة بشرية سعيدة كاملة بكل ما تحمل الكلمة من معنى؟
ولكن هذا يثير خاطرا مقلقا: إذا كان هذا ما قد يفعله الأطباء، وإذا كانت الأدوات التكنولوجية اللازمة ستكون متاحة عند نقطة زمنية ما، فكيف يتأتى لنا أن نعرف أن هذا ليس ما يحدث لنا بالفعل؟ ليس من المجدي أن يكون الرد «نحن نعيش في بداية القرن الحادي والعشرين والأطباء غير قادرين على فعل ذلك حتى الآن.» فإذا كنا أدمغة معزولة يتم إمدادها بعوالم محاكاة، فقد تكون الحالة هي أنه يبدو أننا نعيش في عام 2011 في العالم المحاكى، ولكن التاريخ الحقيقي هو 2199. وقد يكون خداعك بشأن الزمن جزءا من الخطة العلاجية؛ فربما يكون عالم 2199 عالما محبطا قبيحا لا تستحب الحياة فيه؛ ومن ثم فالأفضل لنا أن نعيش في عالم 2011 المحاكى.
قد تظن أن هذه العوالم المحاكاة ليست قابلة للتطبيق، فرغم كل شيء، إن أردنا الحق، فلن تضطر نظم المحاكاة إلى توفير عالم لا يستطيع الدماغ تغييره (شيء أشبه بجعل الدماغ يشاهد فيلما يجري داخل الخلايا العصبية)، وإنما عالم يستطيع الدماغ التفاعل معه ويستطيع التأثير فيه من خلال القرارات التي يتخذها (شيء أشبه بجعل الدماغ يلعب لعبة كمبيوتر داخل الخلايا العصبية)؛ لذا إذا سرت في شارع محاكى وقررت فجأة أن تفتح باب أحد المنازل، فسيكون على نظم المحاكاة أن توفر على الفور كل ما قد تراه وتسمعه وتلمسه وتشمه وتتذوقه في هذا المنزل؛ وبناء هذا القدر الضخم من الواقع المحاكى وتوفيره للدماغ في الوقت الفعلي مهمة هائلة ليست فقط خارج نطاق قدراتنا التكنولوجية الحالية، ولكن أيضا قد تكون خارج نطاق أي حضارة مستقبلية.
Shafi da ba'a sani ba
للأسف ليست هذه حجة مقنعة تدحض احتمالية أن تكون أنت دماغا في وعاء. بادئ ذي بدء، يمكن أن تكون نظم المحاكاة في المستقبل البعيد جدا، في زمن يناهز في بعده عن زمننا الحاضر بعد زمننا عن العصر الحجري؛ فأجهزة الكمبيوتر في ذلك الوقت قد تتمكن من معالجة «الانفجار التوافقي» الذي يتسبب فيه الاضطرار للمحاكاة استجابة لاختيار العميل. أو ربما، وهذه هي النقطة الثانية، لا تكون مثل هذه الموارد الحسابية الضخمة ضرورية. إن دماغنا معقد للغاية، ولكن قدرته الحسابية ليست بهذه الضخامة. وتتراوح التقديرات ما بين مائة تيرافلوب (واحد تيرافلوب يساوي 10
12
عملية في الثانية) وألف ضعف؛ أي مائة بيتافلوب. تم تركيب أول كمبيوتر فائق، إيه إس سي آي بيربل، يتمتع بذروة أداء نظرية تبلغ مائة تيرافلوب عام 2005. أما الكمبيوتر الفائق رقم واحد في الوقت الحالي، كراي جاجوار، فيتمتع بقدرة قصوى تبلغ 1,75 بيتافلوب. فإذا كان قانون مور الذي يتنبأ بمضاعفة القدرة الحسابية كل سنتين لا يزال ساريا، فسوف نحصل على قدرة حسابية تبلغ مائة بيتافلوب في غضون عقد واحد أو أكثر قليلا. مثل هذا الكمبيوتر سيمتلك المصادر اللازمة لإنتاج عالم محاكى مقنع؛ لسبب بسيط هو أن عقولنا التي تتمتع بالقدرة الحسابية نفسها تفعل ذلك كل ليلة عندما نحلم. وبما أن محاكاة «الوقت المناسب» يبدو أنها لا تمثل مشكلة كبيرة لأدمغتنا، فمن المفترض أن نستطيع التغلب على الصعوبات التي سينطوي عليها الأمر.
هل هناك أي طريقة للتخلص من الشك المؤرق في أننا أدمغة منشطة اصطناعيا ومضللة من قبل عوالم محاكاة مولدة بالكمبيوتر؟ إذا ثبتت صحة هذا الشك، فإنه يجب أن يثير أعصابنا حقا. فماذا نعرف عن المعايير الأخلاقية الخاصة بالعلماء المتحكمين في أدمغتنا؟ هل يضعون مصلحتنا نصب أعينهم؟ وإذا لم يكن الوضع كذلك، فكيف نعرف أن العالم المحاكى لن يصبح فجأة غير مترابط (ربما بسبب خطأ في برنامج المحاكاة) أو، الأسوأ من ذلك، يصبح مرعبا (لأن عالما شريرا وضع دماغنا في فيلم الرعب المفضل لديه)؟ بل، هل نحن على يقين أساسا أن هناك عالما في الجانب الآخر من أدمغتنا؟ ربما يدير عملية المحاكاة كمبيوتر عملاق، وهذا الكمبيوتر إلى جانب الأدمغة ربما يكونون كل ما هو موجود في الكون.
لكن يبدو أن هناك خطأ ما في هذه الفكرة برمتها. لتعرف هذا الخطأ، تأمل أولا فكرة أن المعتقدات تشير إلى ما سببها. فإذا كنت أعتقد أن هناك موزة أمامي، فهناك سلسلة من الأسباب يمكن تعقبها من الفكرة التي تراود عقلي، عبر بعض النشاط العصبي في دماغي، وتنبيه الخلايا المستقبلة للضوء والموجودة في شبكية العين، والموجات الضوئية المنعكسة، إلى أن نصل إلى الموزة. وإذا لم يكن هناك سلسلة ملائمة من الأسباب مثل هذه، فليس هناك مرجع، حتى إن كان «يبدو» أن له وجودا. إذا كتبت في مذكرتي «جو» لأذكر نفسي بإرسال بطاقة معايدة لعيد ميلاده، فإن «جو» ترجع إلى صديقي جو؛ لأن هناك سلسلة سببية ترجع في النهاية إلى جو، كما هو الحال في مثال الموزة، ولكنني إذا أوقعت لوحة الحروف العشوائية، وصادف أن كون حرفان من الحروف التي وقعت على الأرض كلمة «جو»، فهذه الكلمة لا تشير إلى صديقي جو.
في عام 1923، ظهر وجه هنري ليدل، عميد كلية كنيسة المسيح بجامعة أكسفورد ووالد أليس (النموذج الواقعي للشخصية التي ابتكرها لويس كارول «أليس في بلاد العجائب»)، في الملاط الجاف للجدار الموجود تحت النافذة التذكارية المبنية من أجله في كاتدرائية كلية كنيسة المسيح. ورغم عدم وجود صور فوتوغرافية، تؤكد الروايات المعاصرة لنا أن «ذقن العميد وأنفه ورأسه، وكذلك الصلعة الموجودة في منتصف رأسه والشعر الأبيض المعقوص تحتها، ظاهرة بوضوح على الجدار.» إذا ما وضعنا في اعتبارنا عدم وجود سلسلة سببية تربط الرسوم الموجودة على الجدار بالعميد الراحل أكثر مما كان يربط حروف كلمة «جو» بالشخص الحقيقي، فإن هذه الرسوم لا تمثل هنري ليدل، على الرغم من أنها قد تبدو ممثلة له.
شكل 1-3: «داوسون ديلي نيوز» تجري تحقيقا عن الظهور الغامض لصورة العميد ليدل على جدار كاتدرائية كلية كنيسة المسيح.
والآن افترض أن العالم المحاكى المجهز لدماغ معين أعطاه الاعتقاد بأنه ماثل أمام تاج محل، فإلام تشير فكرته عن تاج محل؟ بالتأكيد هي لا تشير للمبنى؛ لأن هذا المبنى غير موجود في الكون كله. (تذكر أن لدينا كونا يقتصر على الأدمغة المعبأة في برطمانات، والكمبيوتر الذي يدير العرض كله، ولا شيء خلاف ذلك.) بما أن المعتقدات تشير إلى ما سببها، وبما أن هذا المعتقد تسبب فيه جزء من الكود مضمن في العالم المحاكى الذي وفره الكمبيوتر العملاق، إذن ففكرة تاج محل تشير إلى جزء من كود حاسوبي! ولهذا تبعات مفاجئة إلى حد ما تتلخص في أن معظم معتقدات هذا الدماغ في واقعية في حقيقة الأمر. فإذا اعتقد الدماغ أن تاج محل بناه شاه جهان، فإنه يعتقد أن تاج محل (جزء من الكود) مرتبط بشاه جهان (جزء آخر من الكود) على نحو معين، وهذا هو ما عليه الأمر في الواقع؛ لأنهما مرتبطان بهذه الطريقة في الكود المؤسس للعالم المحاكى. بالمثل، إذا اعتقد الدماغ، بناء على العالم المحاكى المتوفر، «أنني ماثل أمام تاج محل»، فإنه ليس مضللا، رغم عدم وجود أي شخص وعدم وجود تاج محل في الأساس. ويرجع هذا إلى أنه، على الرغم من أن فكرتنا عن «الجسم» وفكرتنا عن «تاج محل» لا تشير إلى شيء موجود في الكون، فإن هناك شيئا ترجع إليه أفكار الدماغ. إن ما يسبب فكرتنا بخصوص تاج محل لا يوجد في هذا الكون، ولكن ما يسبب فكرة الأدمغة؛ ومن ثم ما ترجع إليه الفكرة، موجود بالفعل.
دعونا نفرق بين ما تشير إليه أفكار الدماغ (أي أجزاء الكود الحاسوبي) بكتابته بين علامتي تنصيص، بحيث إننا عندما نقول تاج محل فإننا نشير إلى فكرتنا عن تاج محل، أما عندما نقول «تاج محل» فإننا نعني فكرة الأدمغة عن تاج محل.
والآن افترض أنك مجرد دماغ في الكون الموصوف توا. إذا كنت دماغا في عالم محاكى، فإن فكرتك عن «الدماغ» لا تشير إلى دماغ (وإنما تشير إلى «دماغ»)، وفكرتك عن «العالم المحاكى» لا تشير إلى عالم محاكى (وإنما إلى «عالم محاكى»). ولكن إذا كان اعتقادك أنك دماغ في عالم محاكى لا يشير إلى دماغ، إذن فهذا الاعتقاد خطأ، بقدر ما يعتبر اعتقادك أن اليتي (الإنسان الجليدي المقيت) نباتي اعتقادا خاطئا إذا لم يكن يشير إلى اليتي (على سبيل المثال، إذا لم يكن هناك وجود ليتي). وهكذا إذا كنت دماغا في عالم محاكى، إذن فاعتقادك أنك دماغ في عالم محاكى هو اعتقاد خطأ.
Shafi da ba'a sani ba
ثمة أمر خطأ هنا. بالتأكيد إذا كنت دماغا في عالم محاكى، فإن اعتقادك أنك كذلك ينبغي أن يكون صحيحا (بقدر ما يكون اعتقادك أنك بدين صحيحا إذا كنت ضعف وزنك الحقيقي). ومع ذلك فالعكس هو الصحيح.
يبدو أن المشكلة هي أن الكلمات والأفكار والمعتقدات الخاصة بالدماغ، والتي يمدنا بها العالم المحاكى، منفصلة تماما عن كلماتنا وأفكارنا ومعتقداتنا؛ فكلامنا يشير إلى سبب أفكارنا، وكلامهم (كلام الأدمغة) يشير إلى سبب أفكارهم، وهذه الأسباب مختلفة تماما عن تلك. ولكي نطرح سؤالا إذا ما كان من الممكن أننا في عالمهم، يجب أن يكون لدينا لغة تشتمل على الاثنين؛ أي لغة تستند إلى الأفكار التي تتسبب فيها أشياء مثل الأحذية والسفن وشمع الختم الأحمر، وأفكار تتسبب فيها «الأحذية» و«السفن» و«شمع الختم الأحمر» .
ولكن إذا أمكننا أن نستخدم هذه اللغة؛ فنحن إذن لا يمكن أن نكون أدمغة في عالم يقتصر على الأدمغة والكمبيوتر العملاق؛ نظرا لأن الأحذية والسفن وشمع الختم الأحمر لن يكون لها أي تأثيرات سببية في ذلك العالم، فهي ببساطة أشياء غير موجودة في مثل هذا العالم. في هذه الحالة، قد نتساءل: «إذا كنا غير قادرين على أن نصف - على نحو متماسك - حتى إمكانية أن نكون مجرد أدمغة منشطة كهربيا، فلم نقلق بهذا الشأن؟»
للأسف الشديد، هذا لا يساعدنا كثيرا في استبعاد إمكانية أن نكون أدمغة في عالم محاكى. فبادئ ذي بدء، ثمة صعوبات عديدة في الحجة المعروضة توا؛ بالطبع، أنا لا أستطيع أن أتحدث بكلمات ليس لها مرجعية، ولكنني أستطيع التحدث عن أشياء غير موجودة باستخدام كلمات لها مرجعية. فأنا أستطيع أن أتحدث عن اليتي، حتى إن كان غير موجود، بإقرار أن «اليتي» يعني «كائنا ضخما يشبه القرد ويعيش في جبال الهيمالايا»، فكل هذه الكلمات لها مرجعية، ولكننا نفترض أنها مجتمعة لا تشير إلى شيء موجود. بالمثل، ألا أستطيع أنا والدماغ أن نستخدم أفكارا لها مرجعية بلغتينا على التوالي، للتفكير في أشياء غير موجودة في عالمينا، مثل الأشجار الحقيقية، أو أجزاء الكود الحاسوبي التي تتسبب في إحداث تأثيرات شديدة الواقعية والتفصيل للأشجار؟ على الأقل لا يوجد في الحجة السابقة ما يبين أن هذا لا يمكن أن يحدث.
ومع ذلك، ثمة صعوبة كبرى تتمثل في أن الحجة السابقة استطاعت أن تستبعد حالة معينة واحدة، حتى وإن تمكنت من أن تفعل هذا بنجاح، وحتى إذا سلمنا أننا لا نستطيع وصف عالم يقتصر على الأدمغة المنشطة اصطناعيا، فماذا عن السيناريوهات الأخرى المرتبطة بهذا السيناريو؟ فلنفترض أن علماء أشرارا أزالوا دماغك من جسمك، وأبقوه حيا في وحدة حفظ أدمغة عالية التقنية، وقاموا بمحاكاة التجارب التي تمر بها في الوقت الحالي كما هي بالضبط (أي تجربة قراءة هذه الجملة). لاحظ أنه في هذه الحالة، لن تشير أفكارك فجأة لشيء مختلف، كما في المثال الموضح للتو. بالطبع، تجربة رؤية تاج محل سيتسبب فيها الآن جزء من كود حاسوبي تشغله وحدة حفظ الأدمغة، ولكنك ما زلت في عالم يوجد به تاج محل، ويمكن تعقب سلسلة الأسباب التي تسببت في تجربتك إلى ما وراء الكود الحاسوبي؛ إلى المبرمج الذي كتب الكود وإلى صور تاج محل التي استخدمها لإنشاء محاكاة له، وإلى المصور الذي التقط الصور، وأخيرا إلى تاج محل نفسه؛ إذن ففكرتك عن تاج محل ما زالت تشير إلى المبنى الحقيقي، وليس إلى «تاج محل». إن أفكار ومعتقدات وكلمات البشر العاديين ليست معزولة عن تلك الخاصة بالأدمغة المنشطة كهربيا؛ ومن ثم فإننا لا نستطيع أن نقول إن وصف هذا السيناريو غير متماسك. في ذلك الحين يحق لنا أن نسأل عن ميزة وجود حجة تستبعد سيناريو «اقتصار الكون على الأدمغة والكمبيوتر العملاق»، إذا كان هناك سيناريوهات أخرى كثيرة (مثل سيناريو «إزالة كل أدمغة الذكور على يد عالمة شريرة»، وسيناريو «إزالة كل أدمغة البشر على يد كائنات فضائية»، وغيرها من السيناريوهات) لم يتم المساس بها وما زالت تعتبر احتمالات قائمة.
وأخيرا، يجب أن نلاحظ أن النتيجة التي توصلت إليها حجتنا هي فقط أن سيناريو «اقتصار الكون على الأدمغة والكمبيوتر العملاق» لا يمكن وصفه على نحو متماسك. ولكن هذا لا يثبت أن مثل هذا السيناريو غير موجود. عوضا عن ذلك، يمكننا أن نفهم هذه الحجة باعتبارها تثبت أن هناك بعض المواقف المحتملة التي يمكن أن أمر بها، ولكنني لا أملك الموارد التصورية لوصف هذه المواقف؛ فعلى غرار بعض الأشياء التي نجهل أننا نجهلها، على حسب قول وزير الدفاع الأمريكي دونالد رامسفيلد، هذه السيناريوهات المحتملة موجودة، وقد أكون في أحدها، ولكنني حتى لا أستطيع أن آخذ بمجامعها لتحديد مدى رجحانها من عدمه. وبدلا من تخفيف قلقنا من أن نكون مجرد أدمغة منشطة اصطناعيا، زادت هذه الحجة الطين بلة؛ لأننا الآن ليس علينا أن نقلق فقط حيال كل الاحتمالات السيئة التي تخطر ببالنا، ولكن أيضا حيال تلك التي لا تخطر ببالنا.
لعلك تظن أن احتمالية أنك تحلم الآن، وأنك دماغ بلا جسد في بيئة منشطة اصطناعيا - أو أي احتمالية أخرى غريبة يمكنك أن تفكر فيها - تترك لنا حقيقة واحدة لا مساس بها؛ أنك أنت من تمر بهذه التجربة، وأنك شخص حقيقي. قد تكون مخطئا بطرق شتى حيال هويتك (مخطئا حيال إذا ما كنت كبيرا أم صغيرا، إذا ما كنت ذكرا أم أنثى، إذا ما كان لك جسد أساسا أم لا)، ولكن لا يمكن أن تكون مخطئا حيال وجودك. فرغم كل شيء ، لا يمكن أن يوجد وهم دون وجود شخص يتوهم به. قد لا يكون هذا اليقين شيئا كثيرا، ولكنه شيء على الأقل. بل إن رينيه ديكارت اعتقد أنه يكفيه أن يبني منظومته الفلسفية بأكملها على يقين الوجود بينما يشك في وجوده؛ لأنه لا يمكن أن يوجد شك دون وجود شخص يشك. للأسف، هناك آراء مثيرة للاهتمام ترى أن اليقين في وجودك، مثل اليقين في وجود العالم الخارجي، يمكن أن يكون وهما.
إنها حقيقة معروفة أن الذات التي نشعر بها في الأحلام لها سمات مختلفة تمام الاختلاف عن ذاتنا في اليقظة؛ فهي لا تستطيع الوصول إلى الكثير من ذكريات ذات اليقظة، وعادة ما تتمتع بمجموعة مختلفة من الانفعالات المسيطرة (غالبا ما تكون أكثر سلبية)، وقد يكون لها جسد مختلف أو حتى جنس مختلف. فإذا ما وضعنا في الاعتبار هذه الاختلافات الجوهرية، هل من الممكن وجود حلم لا تكون أنت فيه الشخصية الرئيسية، رغم أن تجاربها جزء من حلمك؟ هذا قد يكون حلما لست أنت بطله، وإنما بطله شخصية من شخصيات الحلم، قد تكون واقعية أو خيالية مثلها مثل باقي الشخصيات في الحلم، ولكن مع الفارق أن الحلم قد روي من وجهة نظرها؛ ومن ثم فإن حياتها الداخلية كلها ستكون واضحة تماما أمامك. في هذه الحالة فأنت في موقف تكون فيه «أنت» في رأس شخصية تحلم بها، مثلما حدث في فيلم «أن تكون جون مالكوفيتش»، ولكن دون أن تملك القدرة على الوصول للذكريات والمعتقدات والرغبات «الخاصة بك أنت» (في مقابل الذكريات والمعتقدات والرغبات الخاصة بشخصية الحلم). فإذا سألت هذه الشخصية نفسها إذا ما كانت مستيقظة أم نائمة، فبالتأكيد الإجابة الصحيحة هي أنها ليست كذلك ولا كذلك؛ فهي فقط شخصية في حلم أحدهم وسوف تختفي فور استيقاظ الحالم من نومه.
الأطلال الدائرية
يصف خورخي لويس بورخيس في قصته القصيرة «الأطلال الدائرية» ساحرا، على الأرجح من مدينة باختر القديمة، يخلق شابا صغيرا من أحلامه. ويساعده إله النار على بث الحياة في هذا الشاب، كما يجعل هذا الطيف معصوما من الحرق. وفيما يلي نهاية القصة:
Shafi da ba'a sani ba
بعد فترة معينة، تفضل بعض السجلات حسابها بالسنين وبعضها بالعقود، أيقظه مجذفان في منتصف الليل؛ لم يستطع رؤية وجهيهما، ولكنهما تحدثا معه عن رجل مسحور في معبد الشمال يستطيع السير فوق النار دون أن تمسه النار. فتذكر الساحر فجأة كلمات الإله، وتذكر أنه من بين كل المخلوقات على سطح الأرض، كان إله النار هو الوحيد الذي يعرف أن ابنه ما هو إلا طيف. وهذه الذكرى، التي هدأت من روعه في البداية، عذبته في النهاية؛ فقد خاف أن ابنه إذا ما تأمل هذه الميزة غير العادية أن يكتشف بوسيلة أو بأخرى أنه مجرد محاكاة تافهة، أنه ليس رجلا، بل مجرد إسقاط لأحلام رجل آخر، يا له من ذل لا يضاهى! ويا له من جنون! كل أب يهتم بالأبناء الذين أنجبهم من لحظات خالصة من السعادة؛ ولذا كان من الطبيعي أن يخشى الساحر على مستقبل هذا الابن الذي خلق جسده جزءا تلو الآخر، وشكل ملامحه ملمحا فملمح، في ألف ليلة وليلة خفية. لكن مخاوفه انتهت فجأة، ولكن ليس دون تحذيرات سابقة تنبئ بانتهائها. أولا (بعد قحط دام لفترة طويلة) ظهرت غيمة بعيدة - في خفة الطير - فوق تل؛ ثم تخضبت السماء، نحو الجنوب، باللون الوردي؛ ثم أتت سحب الدخان التي سببت صدأ المعادن في الليل؛ وبعد ذلك جاء سرب من الطيور البرية المذعورة؛ لأن ما حدث منذ قرون عديدة يعيد نفسه. تحطمت أطلال معبد إله النار بفعل النار. وفي فجر دون طيور، رأى الساحر النيران وهي تتصاعد من جدران المعبد. وللحظات، فكر في أن يحتمي منها بالماء، ولكنه أدرك عندئذ أن الموت قد جاء ليتوج شيخوخته ويريحه من أعبائه، فمشى نحو ألسنة اللهب، ولكنها لم تنل من جسده، بل ربتت على جسده بلطف وغمرته دون أن تحرقه أو تؤذيه. وهنا أدرك بمزيج من الراحة والذل والرعب أنه هو أيضا لم يكن سوى طيف، يحلم به شخص آخر.
هل يمكن أن نكون شخصيات من خلق أحلام أحدهم؟ هذا الاحتمال هو انعكاس نظرية الإيمان بالذات؛ فالفرض الآن ليس أننا واقع وكل ما حولنا غير واقعي (لأنه في عقولنا فقط)، ولكن أن كل الأشياء الأخرى واقع، أما نحن فلسنا كذلك. قد ترى أن هذا الفرض خيالي. أليس وجودنا هو اليقين الأكثر جوهرية لدينا؟ وإذا كنا مجرد شخصيات في حلم، فمن الذي يحلم بنا؟ أهو إله؟ أهو شيطان مريد؟ أم شيء لا يمكن وصفه؟
لحسن الحظ، ثمة طريقة لتوضيح «معارضة نظرية الإيمان بالذات» بطريقة لا تتطلب الإيمان بإله، أو الأرواح القوية، أو غيرها من الكينونات الغامضة. يكمن الحل في فكرة المحاكاة. تتيح لنا العوالم المحاكاة عوالم نموذجية بسيطة للغاية من أجل اختبار نظرياتنا، مثل نظريات الطقس، وانتشار الأمراض، والديناميكا السكانية، وسلوك الجسيمات الأولية، وازدحام المرور، وغيرها.
شكل 1-4: نموذج انتشار مرض معد ممثل بواسطة خلايا ذاتية السلوك؛ الخلايا السوداء ميتة، والرمادية القاتمة مصابة، والبيضاء تتمتع بمناعة. تتيح القائمة على اليمين تعديل المعاملات، مثل مدى وبائية المرض.
عادة ما تمثل العوالم المحاكاة ملامح قليلة للكائنات التي تحاكيها دون أن تمثل معظمها؛ فمحاكاة المرور في جزء معين من المدينة من أجل دراسة أسباب الاختناقات المرورية قد تمثل السيارات المفردة كنقاط ملونة على الشاشة، على سبيل المثال، ولكنها لن تحاكي طريقة عمل محرك كل سيارة على حدة. وهذه ليست مشكلة؛ إذ إن المحاكاة لا بد أن تمثل أجزاء العالم التي نهتم بشأنها. علاوة على ذلك، كلما زادت التفاصيل التي نحاكيها، وفيها الجزيئات والذرات والجسيمات دون الذرية، صغرت مساحة العالم التي نستطيع تمثيلها في المحاكاة باستخدام القدرة الحسابية الحالية. وإذا زادت مواردنا الحسابية بالطريقة التي نتوقعها، أو أكثر، فقد تختفي هذه القيود في المستقبل غير البعيد. وقد يتمكن أحفادنا المتمتعين بتكنولوجيا متقدمة للغاية من تشغيل عمليات محاكاة لنظم مادية في كبر حجم كوكب الأرض، ممثلين كافة التفاصيل حتى المستوى الذري.
محاكاة الأمراض المعدية بالخلايا الذاتية السلوك
لكي تفهم ماهية الخلايا ذاتية السلوك، تخيل شبكة من الخلايا المربعة، مثل ورقة الرسم البياني. كل خلية إما أن تكون ممتلئة (حية) أو فارغة (ميتة). فلنفترض أن الخلايا الحية والميتة موزعة عشوائيا عبر الشبكة المربعة. والآن تخيل مجموعة من القواعد التي تحدد ما يحدث في الشبكة في المستقبل. كل خلية (فيما عدا الخلايا الموجودة في الأركان) سيكون لها ثماني خلايا مجاورة: اثنتان أفقيتان، واثنتان رأسيتان، وأربع خلايا قطرية. إحدى القواعد قد تنص على أن أي خلية لها أكثر من ثلاث خلايا مجاورة حية تموت من الزيادة السكانية. وقد تنص قاعدة أخرى على أن الخلايا التي لها أقل من جارتين حيتين ليست سعيدة بدورها؛ ولذا فإنها تموت من الوحدة. والآن يمكننا أخذ التوزيع العشوائي للخلايا الحية والميتة على الشبكة وتطبيق القاعدتين الأوليين عليه: كل الخلايا التي لها أكثر من ثلاث خلايا مجاورة أو أقل من خليتين مجاورتين يجب أن تصبح فارغة، بينما تظل باقي الخلايا حية. يمكننا أن نفعل كل ذلك بورقة رسم بياني وقلم رصاص وممحاة، ولكننا سنكون أسرع كثيرا لو جعلنا الكمبيوتر يقوم بهذه المهمة. وكل تطبيق للقواعد ينظر إليه بوصفه حركة في ساعة نموذج العالم الخاص بنا. ومع تطبيق الكمبيوتر للقواعد على الشبكة مرة بعد مرة، يمكننا أن نرى كيف يتغير نموذج العالم، متسببا في ظهور أنماط مختلفة.
تعتمد الأنماط التي ستظهر في الأساس على أنواع القواعد التي تحكم الانتقال من حالة للشبكة إلى أخرى؛ ومن ثم من «حركة» للساعة إلى الحركة التالية. إذا أردنا دراسة انتشار الأمراض المعدية، يمكننا أن نفترض جدلا أن بعض الخلايا الحية مريضة؛ أي حاملة للمرض، فإذا كان لخلية سليمة جارة مريضة، يمكن أن نضع قاعدة تحدد احتمال أن تصاب بالمرض هي أيضا. فإذا كان الاحتمال 0,5، فإن نصف الخلايا السليمة التي تجاور خلايا مريضة ستصبح مريضة هي أيضا بعد الحركة التالية. يتفق هذا الاحتمال مع مدى وبائية المرض؛ بمعنى مدى سهولة الإصابة به. ويمكن وضع قاعدة أخرى لتحديد المدة التي يمكن أن تعيشها الخلايا المصابة بالمرض؛ بمعنى: بعد كم حركة ستتحول الخلية من خلية حية إلى خلية ميتة؟ ويتفق هذا مع مدى شدة المرض؛ أي مدى سرعته في قتل الخلية التي يصيبها. وعن طريق تنويع القواعد، يمكننا أن نلاحظ في نموذج العالم الذي وضعناه كيف تتطور الأمراض المختلفة من حيث احتمال الإصابة بها والسرعة التي تقتل بها حاملها؛ على سبيل المثال، سوف نلاحظ أن الأمراض الشديدة الوبائية التي تقتل بسرعة كبيرة لا تنتشر بسرعة كبيرة؛ إذ إن العائل سيقتله المرض قبل أن يصيب غيره بالعدوى.
من الطريف أن نطرح سؤالا عما سنحاكيه إذا أتيحت لنا مثل هذه التكنولوجيا. ما يخطر على بالنا على الفور هو تاريخنا. كثيرا ما نتساءل عما كان سيحدث إذا تغيرت بعض التفاصيل الصغيرة ولكن المهمة في الماضي. ماذا كان سيحدث إذا لم يأخذ قائد سيارة الأرشيدوق فرانز فرديناند المنعطف الخطأ داخلا إلى شارع جانبي في سراييفو في الثامن والعشرين من يونيو عام 1914؟ ماذا كان سيحدث إذا كان ألكسندر فلمنج قد ألقى طبق بتري الملوث في الثامن والعشرين من سبتمبر عام 1928؟ ماذا كان سيحدث إذا توفي ماو تسي تونج إثر أزمة قلبية أثناء سباحته الشهيرة في نهر يانجتسي في السادس عشر من يوليو عام 1966؟ ماذا كان سيحدث إذا لم يغير ألويس شيكلجروبر اسم عائلته إلى هتلر؟ رغم أننا غير قادرين على الإجابة عن هذه الأسئلة، سوف يتمكن أحفادنا من الإجابة عنها؛ فبإمكانهم أن يشغلوا عملية محاكاة حاسوبية لكل ما حدث على كوكب الأرض بين عامي 1875 و1945، ويغيروا تفصيلة واحدة صغيرة في المسار الحقيقي للأحداث؛ ومن ثم يراقبون إذا ما كان ملايين الألمان سيهتفون بالتحية «هايل شيكلجروبر» أم لا. وقد تتيح محاكاة مشابهة لأحفادنا اكتشاف شكل العالم لو لم تشتعل الحرب العالمية الأولى، أو لو لم يكتشف البنسيلين، أو لو لم تقع الثورة الثقافية الصينية.
ولكن يوجد الآن الاحتمال المقلق أننا «نحن أنفسنا» نعيش في إحدى عمليات المحاكاة المتنوعة. ربما لم تقع الأحداث بين عامي 1950 و2050 حقا بالطريقة التي نذكرها. ربما تغيرت تفصيلة واحدة مهمة مما حدث في 1950 (ولا نعرف أي تفصيلة) في عملية المحاكاة، وتغير مسار الأحداث تغيرا شديدا منذ ذلك الحين. ربما لم يولد أشخاص بأسمائنا في المسار الأصلي للأحداث من عام 1950 إلى عام 2050، وفي هذه الحالة فنحن جميعا نتاج عملية محاكاة، وعلى غرار الساحر في قصة بورخيس، نحن موجودون في حلم أحدهم فحسب.
Shafi da ba'a sani ba
قد نفكر قائلين: «لكن هذا لا يمكن أن يكون صحيحا، فنحن نعلم أن الشخصيات في لعبة الكمبيوتر، مثلا، ليست واعية، أما نحن فواعون؛ ولهذا السبب، لا يمكن أن نكون شخصيات في لعبة كمبيوتر، أو بالأحرى في هذه الحالة، شخصيات في عملية محاكاة تاريخية، لا تتعدى كونها لعبة كمبيوتر معقدة على نحو خاص. فما من سبيل يمكن أن تدرك به شخصية لارا كروفت العالم الذي توجد فيه، وعلى النقيض نحن ندرك العالم الذي نوجد فيه؛ ومن ثم لا يمكن أن نكون شخصيات مثلها.» عند هذه النقطة، يجدر بنا أن نسأل أنفسنا عن السبب الذي يجعلنا نظن أن لارا كروفت ليست واعية. والإجابة هي أنه ليس هناك برنامج كمبيوتر متاح حاليا يستطيع حتى أن يحاكي لاعب «جو» هاويا ماهرا، فما بالنا بعقل واع كامل في بيئة افتراضية. ومع ذلك، إذا كانت القضية هي مجرد نقص التعقيد، فهذه مشكلة يمكن حلها بسهولة؛ فالافتراض الأساسي لدينا هو أن أحفادنا سيتمكنون من الوصول إلى موارد حسابية أكثر تقدما مما نمتلكه حاليا، وسيتمكنون من محاكاة دماغ كامل، بكل ما يحوي من جزيئات. فإذا كنا نعتقد أن العقل البشري هو ما يفعله الدماغ البشري، إذن فالمحاكاة بهذا المستوى من التفاصيل سوف تحاكي أيضا العقل البشري. وجزء مما يعنيه ذلك هو أن هذا العقل سيتمتع برؤية الشخص الأول؛ أي يرى العالم من منظوره الخاص.
بعبارة أخرى، قد تصنع المحاكاة طرقا مختصرة. ليس هناك حاجة إلى محاكاة الأشياء الشديدة الصغر أو الشديدة البعد، مثل الكائنات الدقيقة الموجودة في قطرة ماء أو الصخور الموجودة على عمق متر من سطح القمر، بل يكفي أن نحاكي هذه الأشياء في حينها، إذا صادف أن وضعنا قطرة الماء تحت الميكروسكوب، أو حفرنا ثقوبا في سطح القمر . بالمثل، يمكن توفير الموارد الحسابية بعدم محاكاة أدمغة بعض الشخصيات الموجودة في العالم المحاكى. قد يبدو لنا أن لها الهيكل الداخلي نفسه الذي يتمتع به باقي الأشخاص الذين نقابلهم، ولكنها ليست أعقد بكثير من الشخصيات الموجودة في ألعاب الكمبيوتر المتوفرة حاليا، والروبوتات الافتراضية التي لا تتعدى كونها وهما، التي تبدو واعية، ولكنها في الحقيقة تفتقر إلى العقل. ويثير مثل هذا الترشيد في الموارد الحسابية السيناريو المروع الذي نكون فيه نحن أنفسنا غير حقيقيين (لأننا مجرد محاكاة) وكل من نقابلهم من الزومبي (لأن مظهرهم الخارجي فقط هو ما تمت محاكاته).
إذا سلمنا بعدم الاضطرار إلى محاكاة كل جزيء في العالم، وإنما فقط أسطح معظم الأشياء، بالإضافة إلى عدد معين مطلوب من الأدمغة، فإن إدارة عملية محاكاة تاريخية بالشكل الموصوف أعلاه من المرجح أن تكون ممكنة بالموارد الحسابية المتاحة في المستقبل غير البعيد. بالطبع، من الممكن أن تدمر الحضارة الإنسانية (يرتطم بها كويكب أو يدمرها فيروس قاتل محور وراثيا أو تغرق من جراء ارتفاع مستوى سطح البحر) قبل أن تستطيع بناء أجهزة كمبيوتر قوية بما يكفي لإدارة عمليات المحاكاة التاريخية. وفي هذه الحالة، من الواضح أننا لا يمكن أن نكون جزءا من عملية محاكاة يديرها أحفادنا. وبالمثل، حتى إذا كانوا قادرين على إدارة مثل عمليات المحاكاة هذه، فإنهم قد لا يرغبون في ذلك فحسب؛ حيث إن الأفكار المتبصرة التي قد يحصلون عليها من هذه العمليات قد تكون تافهة بالنسبة لهم، ولعل لديهم مساعي أخرى - غير معلومة لنا - أكثر جاذبية من الناحية الثقافية بالنسبة لهم، ولكن لو كان حقيقيا أن الموارد الحسابية المطلوبة لإدارة عمليات محاكاة تاريخية لن تكون متاحة بسهولة في المستقبل البعيد فلكيا، ولكنها في متناول أيدينا تكنولوجيا، إذن فيجدر بنا ألا نفترض افتراضات مبالغا فيها فيما يتعلق بالوقت المتبقي لنا على هذا الكوكب، أو الأنماط المتغيرة للاهتمامات الثقافية للبشر؛ من ثم فإن فرصة وجود عملية محاكاة تاريخية في مرحلة ما من المستقبل تبدو معقولة.
بمجرد بدء أسلافنا في إدارة عمليات المحاكاة التاريخية ، فإن عدد الأشخاص الموجودين في هذه العمليات قد يتجاوز سريعا المائة مليار شخص الذين عاشوا على كوكب الأرض منذ تكونه. وفي هذه الحالة، سيكون من المنطقي بالنسبة لنا أن نعتقد أنه من المرجح أننا نعيش نحن أنفسنا في عملية محاكاة تاريخية. فلنفترض أن صديقك يعرض عليك لوحة جديدة اشتراها من لوحات سلفادور دالي. فإذا وضعنا في اعتبارنا أن 90 في المائة، وفقا لآراء الخبراء، من اللوحات المعروضة للبيع حاليا في السوق مزيفة، وإذا افترضنا أنك وصديقك تفتقران إلى التدريب الكافي لتمييز لوحات دالي الأصلية من المزيفة، فإنه من المنطقي بالنسبة لك أن تفترض أن احتمال كون هذه اللوحة مزيفة يبلغ 0,9. بالمثل، إذا تمت محاكاة عدد ن٪ من كل الكائنات الواعية، ومع افتراض أنك تعجز عن التمييز بين المحاكاة والواقع، فإن احتمال أن تكون أنت مجرد محاكاة هو ن٪. (قدر الفيلسوف الأسترالي ديفيد تشالمرز هذا الاحتمال ذات مرة ب 20٪، في ضوء الاعتبارات السابقة الذكر، يبدو هذا الرقم منخفضا إلى حد ما.)
بالطبع، يمكن استخدام الحجة نفسها لكن في هذه الحالة يقوم أحفادنا بمحاكاتنا، وهم أنفسهم قد يكونون مجرد عمليات محاكاة خاصة بأحفادهم. وفي الواقع، إذا كنا نحن نحاكي أشخاصا آخرين، فعلينا أن نؤمن بيقين أكبر أننا نحن أنفسنا تتم محاكاتنا، بما أننا أصبحنا نعرف أن مثل هذه المهام يمكن القيام بها بنجاح؛ من ثم فإن أحفادنا القائمين بالمحاكاة ينبغي أن يتبينوا أكثر منا أنه من المرجح أنه يتم محاكاتهم. ويمكننا أن نتخيل هيكلا هرميا كاملا نكون فيه مجرد شخصيات في محاكاة تاريخية يديرها أحفادنا، الذين تتم محاكاتهم هم أنفسهم بواسطة آخرين، يعيشون في عالم محاكى يديره غيرهم، وهكذا، إلى ما لا نهاية. في مثل هذا السيناريو، تصبح عمليات المحاكاة أعقد فأعقد كلما نزلنا من مستوى إلى مستوى أدنى؛ فالأشخاص الذين يديرون عملية المحاكاة في المستوى الثاني من أعلى الهيكل الهرمي ليسوا فقط مضطرين إلى محاكاة عالم بأسره بكل من فيه من بشر (تحديدا أحفادنا)، وإنما أيضا كل عمليات المحاكاة التاريخية التي يقومون بها (ونحن فيها). وعلى المحاكي أن يكون شديد الحرص ويراقب خلقه عن كثب: فإذا قامت الكائنات التي تم عمل محاكاة لها بمحاكاة غيرها من الكائنات، وقامت تلك بإنشاء كائنات أخرى، فسوف تنفد جميع مواردنا الحسابية في المحاكاة دون أن ندري. وفي هذه الحالة سيكون الخيار الوحيد المتاح أمامنا هو إلغاء عملية المحاكاة التي نديرها، بالإضافة إلى الهيكل الهرمي المستند إليها بالكامل. ولكن هذا قد يمنحنا فسحة من الوقت للتفكير. فإذا بدأنا ندير عمليات محاكاة أسلافنا، فسوف نزيد احتمال أن يلغي من يقومون بمحاكاتنا عملية المحاكاة الخاصة بنا (هذا إذا كنا حقا نخضع للمحاكاة)؛ نظرا لأن الموارد الإضافية التي نستهلكها بهذه الطريقة قد تكون كثيرة جدا. وإذا كنا في أعلى الهيكل الهرمي للمحاكاة، فإن محاكاتنا قد تكون القشة التي تقصم ظهر البعير؛ ومن ثم يجب أن نعيد النظر في مسألة إدارة عملية محاكاة أسلافنا.
يشترك سيناريو المحاكاة في بعض عواقب الاحتمالات الأخرى المذكورة أعلاه، والتي يتم فيها خداعنا على نحو منظم: أن نكون في حلم، أو أن نكون عبارة عن أدمغة يتم تنشيطها اصطناعيا وتغذيتها بمعلومات مصطنعة. قد نكون مخطئين في أغلبية معتقداتنا، وقد يتبدى لنا أن دوافعنا نحو السلوك الفاضل ليس لها أساس (إذا كنا جزءا من عملية محاكاة منخفضة التكاليف تقوم بمحاكاة الآخرين كواجهات خالية فحسب). ولكن في حين أنه في الحالتين الأوليين، لا تزال أنفسنا لها وجود - الأنا الحقيقية التي تعتبر النقطة الثابتة في دوامة الوهم - ففي سيناريو المحاكاة نحن غير واقعيين بالمرة، كما أن العالم المحاكى الذي نتعامل معه غير واقعي. جزء من عدم الراحة الذي نشعر به فيما يتعلق بسيناريو الدماغ المنشط هو أن المحاكاة قد تتوقف فجأة، وعندئذ سندرك ماهية العالم الواقعي؛ إننا ما زلنا موجودين، ولكن في بيئة مختلفة اختلافا جذريا، وفي زمن بعيد في المستقبل، دون جسم، في برطمان، وهكذا. أما في حالة المحاكاة، فليس هناك «استيقاظ» في العالم الواقعي؛ نظرا لأن العالم الواقعي - عالم أحفادنا - لا يشملنا. وإذا توقفت عملية المحاكاة، فإننا لن نجد أنفسنا فجأة في مواجهة واقع أن كل الأشياء المحيطة بنا مزيفة؛ لأننا ببساطة لن نكون موجودين أساسا. من ناحية، قد يريحنا هذا السيناريو؛ فنحن لن نجد أنفسنا مجرد أدمغة وحيدة في مختبر عالم شرير. ولكن من ناحية أخرى، يخلف هذا لدينا شعورا غريبا بأننا مجرد وهم. ولن يعود من المنطقي أن نظن أن العالم الواقعي يدور في فلكنا، لأننا لسنا حتى جزءا من العالم الواقعي؛ فاليقين الذي يبدو أنه الأكثر جوهرية - أن لنا وجودا وسط عالم من الأوهام المعقدة - سيذهب في طي النسيان؛ فليس من الممكن أن يختفي الوهم دون أن نختفي نحن معه؛ لأننا نحن أنفسنا جزء من هذا الوهم.
شكل 1-5: تصوير صيني تقليدي لحلم الفراشة.
في حين أن افتراض أننا غير موجودين في المستوى الأساسي للواقع افتراض مربك للعقل، فإنه من الممكن أن نمنحه فرصة أخرى. من المعروف أن الفكرة الأساسية تم شرحها في القرن الرابع قبل الميلاد في حجة ساقها الفيلسوف الصيني جوانج زي. وهو يروي التجربة التالية:
في الليلة الماضية، راودني أنا، جوانج زي، حلم بأنني فراشة ... فراشة تطير في الهواء وتستمتع بوقتها. لم أكن أدري أنها جوانج زي، وفجأة استيقظت، ورجعت إلى نفسي ثانية، إلى جوانج زي الواقعي. لم أكن أعرف إذا ما كان جوانج زي يحلم بأنه فراشة، أم أن الفراشة الآن تحلم بأنها جوانج زي. ولكن لا بد من وجود فرق بين جوانج زي والفراشة.
في هذا السيناريو، ليس لدينا شخص واحد يخلق آخر في الحلم، ولكن شخصيتان، جوانج زي والفراشة، يخلق أحدهما الآخر في الحلم. هذه الحالة من الأحلام المتناسقة لا تدل فقط على أننا، بوصفنا شخصيات في حلم، غير واقعيين، في حين أن شخصا آخر، الذي يحلم بنا، واقعي، وإنما تقوض أيضا احتمال القدرة على التمييز بين ما هو واقعي وما هو غير واقعي في الأساس. جوانج زي يحلم بالفراشة، إذن فالحالم جوانج زي واقعي، والفراشة التي يحلم بها ليست واقعية. ولكن الفراشة أيضا تحلم بجوانج زي ، الذي لا ينبغي أن يكون واقعا، بوصفه شخصية في حلم أحدهم. ولكن لا شيء يمكن أن يكون واقعيا وغير واقعي في الوقت نفسه.
Shafi da ba'a sani ba
حتى في سيناريو المحاكاة، يمكن أن نكون على يقين أن هناك من هو واقعي، على الرغم من أننا غير واقعيين. ونحن، ككائنات تمت محاكاتها، قد لا نكون جزءا من المستوى الأساسي من الواقع، ولكن من يحاكوننا جزء منه. وإذا لم يكونوا جزءا من الواقع، فإن من يحاكونهم جزء منها. في النهاية هناك شخص يجب أن يكون واقعا. ولكن إذا طبقنا فكرة جوانج زي على سيناريو المحاكاة، فسيكون لدينا حالة نقوم فيها بإدارة عملية محاكاة لكائنات تمت محاكاتها، وهذه الكائنات تدير عملية محاكاة لكائنات أخرى تمت محاكاتها بدورها، وهذه الكائنات الأخيرة مماثلة لنا تماما. لقد تحول الهيكل الهرمي للمحاكاة إلى دائرة مفرغة.
شكل 1-6: لوحة «معرض اللوحات» لإم سي إيشر.
يمكننا رؤية تمثيل مرئي طريف لهذه الدائرة المغلقة في لوحة إم سي إيشر «معرض اللوحات». تصور هذه اللوحة شابا في معرض صور ينظر إلى لوحة بها ميناء ومدينة من الخلف. بدخولنا إلى الصورة وفحصنا للمدينة، نرى امرأة تجلس في نافذة فوق معرض صور، وفيه ينظر الشاب نفسه إلى الصورة التي نحن بداخلها! وكما هو الحال في سيناريو جوانج زي؛ حيث من المستحيل أن تميز إذا ما كنت داخل الحلم أو خارجه، أو داخل عملية محاكاة أو خارجها؛ ففي هذه الحالة من المستحيل أن نحدد إذا ما كان الشاب خارج الصورة؛ ومن ثم فهو واقعي؛ أم إنه جزء من الصورة؛ ومن ثم فهو غير واقعي. هناك أسباب وجيهة لكلا الرأيين: إذا بدأنا بالشاب، فسنرى أنه يقف أمام الصورة، وإذا بدأنا بالصورة، فسنرى أن الشاب موجود فيها بوضوح. لا تكمن المشكلة فقط في عدم معرفتنا أي الرأيين هو الرأي السليم؛ فنحن لا نستطيع أن نتيقن بشكل نهائي أن أحد الرأيين هو الصائب؛ نظرا لعدم وجود أي معلومات إضافية جديدة، وعدم وجود أي حقائق أخرى يمكننا الاستناد إليها للتأكد من حقيقة الأمر . بعد الشك فيما إذا كان العالم من حولنا واقعيا أو ما إذا كنا نحن أنفسنا واقعيين، يبدو أن ثمة يقينا آخر قد ضرب به عرض الحائط؛ أيا كان شكل العالم، فهناك شيء أو شخص واقعي، حتى إذا لم نكن نحن كذلك.
الفصل الثاني
هل المادة واقع؟
عندما التقى نيو ومورفيوس لأول مرة في واقع محاكى يطلق عليه «البناء»، اقترح مورفيوس طريقة لتعريف الواقع:
ما «الواقع»؟ كيف تعرف «الواقع»؟ إذا كنت تعني ما نستطيع تذوقه وشمه وسماعه والإحساس به؛ إذن الواقع ليس سوى إشارات كهربية يترجمها دماغك.
بعبارة أخرى، الواقع هو ما يظهر لحواسك. هذا التعريف، والذي سنطلق عليه «تعريف فيلم ماتريكس»، هو تعريف عجيب في عدة مناح؛ فالإلكترونات، ورقم 5، والركود الاقتصادي الأخير؛ كلها أشياء لا نستطيع تذوقها أو شمها أو سماعها أو الإحساس بها، ولكن معظم الناس متفقون على أنها واقع. من ناحية أخرى، الحشرات الوهمية التي تظهر أمام مدمني الكحول أثناء الهذيان الارتعاشي، والأصدقاء الوهميون الذين يتحدث معهم الأطفال، والروائح الوهمية التي يشمها المرضى المصابون بألزهايمر؛ كلها أشياء مرئية ومسموعة ومشمومة، ولكنها ليست واقع؛ من ثم فنحن في حاجة لتعريف أفضل للواقع.
إن مجرد ظهور الشيء لحواسنا ليس دليلا كافيا على واقع وجود هذا الشيء؛ فالهلاوس والظواهر المرتبطة بها كلها ليست من الواقع، وفقا لما نقوله، لأنها غير مرئية أو ملموسة أو مشمومة من قبل أي شخص آخر؛ فهي ليست ظاهرة لحواس أي شخص آخر بخلاف الشخص الذي تراوده الهلاوس. على هذا يمكننا تعريف «الواقع» ليعني أي شيء ظاهر لحواس عدد كبير كاف من المشاهدين. وسيتيح لنا ذلك التفرقة بين خيالاتنا الخاصة وهلاوسنا وبين شكل العالم الذي يشترك الجميع في رؤيته. إن علامة الواقع ليس أنه يظهر لبعض الناس بعض الوقت، وإنما أنه يظهر لمعظم الناس معظم الوقت. وهذه الفكرة، التي ترى أن الواقع لا يصل إليه إلا أغلبية من العقول تعمل معا في انسجام، حدث لها بعض التشويه والتحريف في رواية جورج أورويل «1984» عندما قال عضو الحزب الداخلي أوبرين:
أقول لك يا وينستون، الواقع ليس خارجيا، الواقع موجود في العقل البشري وليس في أي مكان آخر. ليس في عقل الفرد، الذي يمكن أن يرتكب أخطاء، وفي كل الحالات سرعان ما يذهب في طي النسيان؛ وإنما في عقل الحزب، وهو عقل جمعي وخالد.
Shafi da ba'a sani ba
فلنطلق على هذا «تعريف رواية «1984»». وعلى الرغم من أنه أكثر إرضاء من «تعريف فيلم ماتريكس»، فإنه تعريف شديد الضعف أيضا؛ فهو سينظر إلى الواجهات الواهية لسيناريوهات الديستوبيا مثل سيناريو رواية «1984» أو سيناريو فيلم ذا ماتريكس بوصفها الحقيقة، وسوف ينتج نتائج غريبة في السيناريوهات الأقل خيالا. فلتنظر مثلا إلى مرض كورو، وهو مرض عجيب موجود أساسا في جنوب شرق آسيا. تشمل أعراض المرض القلق الشديد المفاجئ من نكوص الأعضاء التناسلية إلى داخل الجسم؛ ومن ثم التسبب في الموت. وكثيرا ما ينتشر المرض على هيئة وباء في منطقة معينة؛ على سبيل المثال ظهر المرض في سنغافورة عام 1967، فأدى إلى دخول 97 مريضا إلى مستشفى واحد في يوم واحد. وما يؤدي لتعقيد المرض أن المصابين به قد يلجئون من فرط القلق إلى اللجوء للكلابات والملازم وغيرها من الأدوات الميكانيكية لإيقاف نكوص أعضائهم التناسلية المحسوس إلى داخل أجسامهم، وغالبا ما تتسبب هذه الأفعال في أضرار جسيمة. وغني عن القول، أنه ليس ثمة نكوص فعلي ملحوظ يحدث للأعضاء التناسلية؛ فالكورو ليس مرضا جسديا وإنما مرض عقلي. ولكن وفقا لتعريف رواية «1984»، إذا اعتقد عدد كاف من الأشخاص في تقلص القضيب، فتقلص القضيب أمر واقعي. إن الصعوبة التي يواجهها المهلوسون، والأطفال ذوو الأصدقاء الخياليين، وغيرهم، ليست في أنهم مخطئون في الطريقة التي يرون بها العالم، وإنما في أنهم أقلية. وبمجرد أن يؤمن عدد كاف من الأشخاص بشيء غير واقعي، فإن هذا الشيء، أيا كان، لا بد من اعتباره واقعا.
سيكون من الطيب أن نستخلص تعريفا أكثر موضوعية لكلمة «الواقع» من ذلك التعريف المرتبط بالاتفاق الجمعي. وتمنحنا الحكاية التالية حول المعجمي صامويل جونسون فكرة عما ينبغي أن نبحث عنه:
بعد أن خرجنا من الكنيسة، وقفنا نتحدث لبعض الوقت معا حول سفسطائية الأسقف بيركلي المبتكرة لإثبات عدم وجود المادة، وأن كل ما في الكون لا يعدو أن يكون محض أفكار موجودة في العقل. ولاحظت أننا رغم تيقننا من أن مذهبه غير صحيح، فإنه من المستحيل دحضه. ولن أنسى ما حييت الحماسة التي رد بها جونسون وهو يضرب بقدمه بمنتهى القوة حجرا كبيرا قائلا: «مع ذلك، أنا أدحضه.»
بالنسبة لجونسون، علامة الواقع هي المقاومة التي تبذلها أجسام معينة؛ فأنا أستطيع تخيل مقعد موضوع أمامي بكل تفاصيله وشكله ولونه وملمسه، إلى أن يصبح لدي صورة شديدة الوضوح له في عقلي. مع ذلك، إذا حاولت الجلوس على هذا المقعد، فإن جسمي سيقع على الأرض، في حين أن المقعد الواقعي الحقيقي سوف يدعم جسمي. «المقاومة» في هذا السياق، لا تعني اللانفاذية، وإنما إحجام الأشياء الواقعية عن التأثر برغباتنا وأمانينا. وكما يصوغها فيليب كيه ديك، فإن الشيء الواقعي هو الشيء الذي لا يختفي عندما تكف عن الإيمان بوجوده.
بمجرد أن يتوقف طفلك عن الإيمان بوجود صديقه الخيالي، فإن هذا الصديق يختفي، وإذا توقفت أنت عن تصور المقعد، فسوف يختفي هذا المقعد الوهمي من الوجود؛ ولهذا فإن هذا الصديق وهذا المقعد (على عكس الأصدقاء والمقاعد العادية) غير واقعيين. وسوف نطلق على تعريف الواقع بأنه الشيء الذي لا نختلقه «تعريف جونسون». ورغم الطابع المنطقي العقلاني الذي يتسم به هذا التعريف، فإن له بعض النتائج الغريبة. بشكل عام، نحن نعتقد أن البورصة واقع، وأن الأحلام ليست واقعا، ولكن وفقا لتعريف جونسون، العكس هو الصحيح. فنحن لا نختلق أحلامنا؛ لأننا لا نستطيع اتخاذ قرار بما نريد أن نحلم به (اسأل أي شخص يعاني من كوابيس متكررة). والأحلام تبذل بعض المقاومة لرغباتنا وأمانينا، فإذا راودك حلم بأن القطار يفوتك، فإن القطار لن يتأخر عن موعده خمس دقائق لتلحق به، بل سيرحل في وقته بالضبط في الحلم، وسوف يفوتك. أما البورصة، فهي شيء نختلقه جميعا. إذا توقف الجميع عن الإيمان بها، بمعنى أن يتوقف الجميع عن الشراء والبيع فيها ، فإن الأسهم وأسعارها وتقلباتها سوف تختفي من الوجود، تماما كما يختفي الصديق الوهمي الذي توقف الطفل عن الإيمان به.
لكن ربما نستطيع حل مشكلة تعريف جونسون؛ فالأحلام والبورصة هما في النهاية أشياء يختلقها العقل البشري. ولكن تخيل عالما ليس به بشر، أو ربما ليس به عقول؛ ألا يمكننا اعتبار كل ما في هذا العالم واقعيا؟ كيف سيصبح عالمنا دون عقول واعية؟ سيظل القمر يدور حول الأرض والأرض تدور حول الشمس؛ والإلكترونات تدور حول نواة الذرة. لن يكون هناك ألوان، ولكن سيظل هناك ضوء بأطوال موجية مختلفة؛ لن يكون هناك روائح، ولكن ستظل هناك جزيئات عالقة في الهواء؛ لن يكون هناك قصص، ولكن ستظل هناك علامات على الورق. وهذا التعريف للواقع بأنه ما يتبقى في عالم نحن غير موجودين فيه، عالم انتزع منه كل البشر، سوف نطلق عليه «تعريف نهاية العالم». وفي حين أن هذا التعريف يتسبب في جعل مجموعة الأشياء الواقعية صغيرة نسبيا (فاقتصاد العالم واللغات والحروب وغيرها لن تعد أشياء واقعية)، فإنه التعريف الأكثر تماسكا الذي قابلناه حتى الآن؛ فهو يعادل ما هو واقعي بما هو موجود بغض النظر عن أي شيء، بالعالم الذي لم تمسه العقول البشرية، العالم الذي نزعت منه كل أماني البشر ورغباتهم واهتماماتهم.
مع ذلك، قد يكون من الممكن أن نجعل هذا التعريف أكثر تماسكا. ذكر جون لوك في كتابه «مقالة حول الفهم البشري» هنديا:
قال إن العالم يرتكز على فيل ضخم، وعندما سئل عما يرتكز عليه الفيل نفسه، كانت إجابته: سلحفاة ضخمة. ولكن عندما ضغط عليه لمعرفة ما ترتكز عليه السلحفاة ذات الظهر العريض، أجاب بأنه شيء لا يدري كنهه.
عندما نحلل كل ما يحيط بنا من أشياء مادية، سنجد أن الأحذية والسفن وشمع الختم، وكل الأشياء التي نستخدمها يوميا مكونة من جزيئات، وهذه الجزيئات تتكون بدورها من ذرات، وتتكون كل ذرة من نواة صغيرة تحيط بها إلكترونات. أما النواة فهي تتكون من بروتونات ونيوترونات، التي يمكن تحليلها إلى مجموعة متنوعة من الجسيمات دون الذرية. وكل هذه الجسيمات يمكن تفسيرها في ضوء أوتار، والتي يمكن تحليلها إلى كيانات أساسية أكثر «لا ندري كنهها». في هذا التسلسل الهرمي، كل مستوى يعتمد على المستوى الأدنى منه مباشرة، وفي هذه الحالة يكون الشيء الواقعي هو الموجود في المستوى الذي يعتمد عليه الآخرون، ولكن دون أن يعتمد هو نفسه على شيء؛ أي السلحفاة الأساسية - أيا كانت - التي يعتمد عليها الكون كله. ويختلف «تعريف السلحفاة» عن تعريف نهاية العالم للواقع لأنه لا ينظر إلى كل ملامح العالم التي تفتقد إلى العقل على أنها واقعية: جبل إفرست، على سبيل المثال، رغم أنه مستقل عن العقل، فلا يزال يعتمد في وجوده على وجود أجسام أخرى مادية أصغر وأكثر جوهرية. الواقع هو فقط الشيء أو الأشياء التي تنتهي عندها أدنى حدود الميتافيزيقا؛ أي الأجسام التي تشكل المستوى السفلي من سلسلة الاعتماد التي تمتد من البضائع المتوسطة الحجم إلى الجزيئات والذرات والجسيمات دون الذرية إلى وجهة ما زلنا لا نعرفها.
التعريفات الخمسة للواقع
Shafi da ba'a sani ba
تعريف فيلم ماتريكس:
الواقع هو ما يظهر لحواسنا.
تعريف رواية «1984»:
الواقع هو ما يظهر لمعظم الناس.
تعريف جونسون:
الواقع هو ما لا نختلقه.
تعريف نهاية العالم:
الواقع هو ما هو موجود بغض النظر عن أي شيء.
تعريف السلحفاة:
الواقع هو المستوى الأدنى في سلسلة الاعتماد.
Shafi da ba'a sani ba
شكل 2-1: تظهر في الصورة لافتة على مكتب هاري ترومان ومكتوب عليها:
THE BUCK STOPS HERE
بمعنى «هنا نهاية المطاف.»
من بين تعريفات الواقع الخمسة التي ذكرت حتى الآن، يبدو التعريفان الأخيران للواقع (أنه ما هو موجود بغض النظر عن أي شيء، أو هو المستوى الأساسي لكل ما عداه من أشياء) هما التعريفين الأكثر تماسكا وموضوعية؛ لذلك عندما نبحث فيما إذا كان شيء ما واقعيا أم لا، يجب أن نضع في ذهننا هاتين الفكرتين. سوف نبدأ بالنظر إلى حقيقة ما يبدو أنه أحد الأشياء الشديدة الجوهرية: المادة. والسؤال الحاسم الذي يجب أن نطرحه هو إذا ما كان أدنى مستوى للمادة يشبه برطمانا من الجيلي أو علبة مليئة بقطع الحلوى. بعبارة أخرى، إذا أخذنا جسما ماديا وقسمناه إلى نصفين، ثم قطعنا النصف إلى نصفين، وتابعنا بهذه الطريقة، فهل سينتهي بنا الأمر بأجسام بسيطة ممتدة مستمرة مثل الجيلي يمكن تقسيمها ولكن ليس لها أجزاء واقعية؟ أم إن كل شيء يتكون من ذرات دقيقة غير ممتدة، مثل قطع الحلوى الشديدة الصغر غير القابلة للتقسيم؟
يبدو أن تشبيه الجيلي يواجه صعوبات إذا ما فكرنا في جسمين، فلنقل، برتقالتين بحجمين مختلفين. من البديهي أننا سنرغب في قول إن إحداهما أكبر من الأخرى لأنها تحتوي على أجزاء أكثر. ولكن إذا كانت المادة مثل الجيلي، فلدينا فقط جزيئات محتملة؛ إذ يمكننا تقسيم ما لدينا إلى جزأين مرة أخرى، ولكن العالم لا يأتي في أجزاء ذرية منفصلة متمايزة معبأة سابقا. في هذه الحالة، كل برتقالة تحتوي على عدد لا نهائي من الأجزاء المحتملة. وإذا افترضنا أيضا أن الترتيب الداخلي لثمرتي الفاكهة متشابه إلى حد ما، فمن الصعب إذن أن نفهم السبب وراء كون برتقالة أكبر من الأخرى.
إذا كان العالم لا يشبه برطمان الجيلي، فهل هناك قطع صغيرة لا نهائية من المادة؟ ظاهريا، تعد هذه النظرية أكثر معقولية. عندما نستمر في تقسيم الأشياء، سنصل إلى مرحلة لا نستطيع فيها الاستمرار في التقسيم. والأشياء غير القابلة للتقسيم التي نصل إليها في النهاية هي المكونات الذرية الأساسية من المادة، والتي يتكون منها كل شيء. ولكن كيفية تكون كل شيء من ذرات غير قابلة للتقسيم أمر أكثر تعقيدا مما يبدو، ولنضرب مثلا بشيء معقد يتكون من ثلاث ذرات، إحداها في المنتصف وواحدة على اليمين وأخرى على اليسار.
شكل 2-2: الفيلسوف الهندي فاسوباندو (القرن الرابع الميلادي).
ولنطلق على الجزء الذي تلمس فيه الذرة اليسرى الذرة الوسطى (أ)، والجزء الذي تلمس فيه الوسطى اليمنى (ب). لا يمكن أن يكون (أ) و(ب) هما الجزء عينه، وإلا فإن الذرة اليسرى والذرة اليمنى ستتلامسان بشكل مباشر، وسيكون هناك ذرتان فقط، وليس ثلاث ذرات. لكن إذا لم يكونا الجزء عينه، فإن الذرة الوسطى تتكون على الأقل من جزأين، (أ) و(ب). ولكن كيف يمكن هذا، إذا لم تكن مجزأة أساسا؟ يبدو أنه إما أن الذرات (على عكس افتراضاتنا) يجب أن تحتوي على أجزاء؛ ومن ثم فهي ليست ذرات حقيقية؛ أو أن عدة ذرات لا يمكن أن تملأ حيزا أكبر من الذرة الواحدة، وفي هذه الحالة فإن الأجسام الممتدة لا يمكن أن تتكون من ذرات.
تسببت صعوبات شرح ماهية المادة بالضبط في أن يستنتج الفيلسوف الهندي فاسوباندو، الذي عاش في القرن الرابع، أن المادة غير موجودة على الإطلاق؛ فبالنسبة لفاسوباندو، كل ما هو موجود عقلي بطبيعته، وما ننظر إليه باعتباره مادة هو في الحقيقة مجرد أجسام عقلية مدركة على نحو خاطئ؛ فالمادة واقع فقط في تعريفي الواقع الضعيفين «فيلم ماتريكس» و«رواية «1984»»، ولكن ليس في أي من التعريفات الأكثر موضوعية.
لكن ما مدى شدة هذه الصعوبات؟ تبنى العلم الغربي الحديث نظرية «قطع الحلوى» للمادة؛ إذن كيف نستطيع أن نفهم الذرات التي يفترضها؟ قد نرغب في الرد على نقد فاسوباندو بقول إنه على الرغم من وجود ذرات ممتدة تملأ مساحة من الفراغ، فإن هذه الذرات لا تتجزأ. يمكننا تخيل كل ذرة من هذه الذرات باعتبارها محاطة بمجال من القوة الطاردة يمنع أي شيء من الدخول إليها؛ لذا فإن تجمع هذه المجالات من القوى، التي يرتكز كل منها حول ذرة غير ممتدة، قد يؤدي إلى ملء حيز من الفراغ، مانعا أي أجسام أخرى من شغل الحيز في الوقت نفسه. بعبارة أخرى (وبغض النظر عن التصور الكلاسيكي)، يمكننا أن نقول إن الجسيم النقطي يمكن أن يملأ حيزا نظرا لوجود احتمال غير صفري لملء كل نقطة داخل هذا الحيز.
Shafi da ba'a sani ba
مع ذلك، ليس من الواضح إذا ما كان أي من هذا يمكن أن يمدنا بتفسير مرض لملء المادة الفراغ. إذا بحثنا أي جزء من هذا الفراغ، فسنلاحظ أنه غير مملوء؛ سنجد ذرة غير ممتدة (والتي وفقا لتعريفها لا تملأ فراغا) أو مجال قوة (وهو الخاصية السلبية المحضة التي تمنع أي شيء من الاقتراب منه) أو «احتمالية» وجود شيء في هذه النقطة؛ لذلك كل ما ننتهي إليه هو «مظهر» المادة وهي تملأ حيزا من الفراغ، دون وجود شيء فعلي يملؤه. ولا يمكن الجزم بأن منتقدي فاسوباندو سيكونون أكثر تقبلا لهذا الخيار.
بعد فترة طويلة، نجد جورج بيركلي (1685-1753) ينكر واقعية المادة، وإن كان لأسباب مختلفة عن تلك التي ساقها فاسوباندو. يشير بيركلي إلى أننا لا نتواصل على نحو مباشر مع المادة، فعندما نلتقط برتقالة ونقشرها ونتذوقها ونشمها، فنحن نستكشف مجموعة من المدركات: الشكل الدائري واللون البرتقالي والمذاق الحلو الحامض. ونحن نفترض وجود هذا الجسم المادي، البرتقالة، بسبب هذه المدركات. ولكننا لا نستطيع الخروج من حيز عقلنا لنتأكد من وجود هذا الجسم في الحقيقة، بغض النظر عن كل المدركات؛ لذلك يبدو أن فكرة المادة لا تلعب دورا مهما في تفاعلاتنا المباشرة مع العالم. في النهاية تعتمد كل نظرياتنا على مدركاتنا، وهذه المدركات ليست مادية؛ من ثم فإن كل ما نستكشفه هو في طبيعته عقلي، في حين أن العالم المادي (إذا كان ثمة شيء يحمل هذا الاسم) لا يمكن الوصول إليه إطلاقا. وكل العلم الذي نتوصل إليه الآن يمكن أن نتوصل إليه، ربما بطريقة أصعب قليلا، عن طريق التوقف تماما عن الحديث عن المادة، والاستعاضة عنه بالحديث عن المدركات. كذلك يرى بيركلي أن المادة ليست شيئا خارج حدود إدراكنا، سواء في الحياة اليومية أو في ممارستنا للعلوم الطبيعية، كما أن افتراض أن المادة موجودة أيضا لا يفسر أي شيء على الإطلاق. نحن نستطيع أن نحكي قصة طويلة معقدة عن كيفية ارتداد الضوء على البرتقالة ليصطدم بأعيننا ويثير الخلايا الحساسة للضوء في الشبكية؛ مما يتسبب في حدوث نبضات تنتقل عبر العصب البصري لتصل إلى المخ؛ حيث تتم معالجتها في القشرة البصرية. ولكن هذه القصة لن تفسر لنا أبدا كيف يتأتى «إدراك البرتقالة»، وهي عملية عقلية. ويبدو أن كل هذا الحديث عن المادة لا يثير إلا مزيدا من الحديث عن المادة دون الوصول إلى تفسير ولو تقريبيا للأشياء الوحيدة التي نعرفها بشكل مباشر، وهي تحديدا المدركات. إن واقعية المادة افتراض نستطيع الاستغناء عنه.
جدير بالذكر أن فاسوباندو وبيركلي حين ينكران واقعية المادة لا ينكران ظهورها لنا أو لمعظم الناس، ولكنهما ينكران واقعيتها بالرجوع إلى تعريف نهاية العالم وتعريف السلحفاة للواقع؛ ففي عالم دون عقول، لن يكون ثمة مادة؛ بالإضافة إلى ذلك، الأشياء المادية ليست هي الأكثر جوهرية في العالم. (أيضا فاسوباندو وبيركلي لن يعتبرا المادة واقع وفقا لتعريف جونسون؛ فبالنسبة لهما، إذا تخلصنا جميعا من اعتقادنا الخاطئ بوجود أجسام مادية، فلن يكون هناك مادة؛ ومن ثم فإن المادة شيء نختلقه جميعا.)
تشغل البراهين التي ساقها فاسوباندو وبيركلي مكانة مهمة في تاريخ الفلسفة، إلا أن بعض الأفكار المعاصرة الأكثر روعة حول واقعية المادة لا تنبثق عن التأمل الفلسفي المحض، وإنما عن مجموعة من التجارب الفيزيائية البسيطة نسبيا. وقد أدت محاولات تفسير ما يحدث في هذه التجارب إلى بعض النظريات الشديدة الغرابة وغير المتوقعة في العالم من حولنا.
ويمكن تجهيز إحدى هذه التجارب بسهولة في المنزل؛ كل ما تحتاجه هو مصباح ومجموعة من قطع الورق المقوى بها ثقوب ذات أحجام متناقصة، وشاشة عرض من نوع ما، مثل حائط أبيض اللون. إذا وضعت قطعة من الورق المقوى بين المصباح والحائط، سوف ترى بقعة مضيئة في مكان اختراق الضوء للورق المقوى. وكلما استبدلت بقطعة الورق المقوى قطعا أخرى ذات ثقوب أصغر فأصغر، فسوف يقل حجم بقعة الضوء. وبمجرد أن نتجاوز حجما معينا، سوف يتغير النمط على الحائط من نقطة صغيرة إلى سلسلة من الحلقات المتحدة المركز من الضوء والظلام، تماما مثل هدف الرماية. يمكننا ملاحظة نمط الحلقات المتداخلة المتحدة المركز بسهولة عن طريق عمل ثقب شديد الصغر (نحو واحد على عشرة مليمتر) في قطعة من ورق الألومنيوم والنظر عبر هذا الثقب نحو مصدر ضوء يشبه النقطة، مثل مصباح شارع بعيد. نمط الحلقات المتداخلة المتحدة المركز سمة مميزة للموجات، سواء أكانت صوتية أو مائية أو أي نوع آخر من الموجات، عند تمريرها عبر ثقب . وهذا ليس مدهشا بطبيعته؛ فنحن نعرف رغم كل شيء أن الضوء موجة؛ ومن ثم فإنه سيسلك سلوك الموجات.
شكل 2-3: نمط الحلقات المتداخلة المتحدة المركز.
والآن فكر فيما يمكن أن يحدث عند تغيير إعدادات التجربة تغييرا بسيطا. بدلا من المصباح، سنستخدم جهازا يطلق إلكترونات (مثل ذلك الموجود في أجهزة التليفزيون القديمة)، وبدلا من الحائط، سنستخدم طبقا من الزجاج مطليا بالفسفور. عندما يصطدم إلكترون بقطعة من الفسفور، فإنه يومض؛ ومن ثم فإننا نستطيع استخدام هذه الشاشة لتتبع أماكن اصطدام الإلكترونات غير المرئية. تتفق النتائج مع نتائج التجربة السابقة؛ مع الثقوب الكبيرة بما فيه الكفاية، سنحصل على بقعة واضحة إلى حد ما في مكان اصطدام الإلكترونات بالشاشة؛ ومع الثقوب الأصغر، سنحصل على نمط حلقي. وهذا يبدو شيئا غريبا؛ فالإلكترونات عبارة عن جسيمات تقع في نقاط محددة لا يمكن تقسيمها. ومع ذلك، فهي تسلك سلوك الموجات المنتشرة عبر الفضاء، ويمكن تقسيمها، وتندمج في موجة واحدة عندما تقابل موجة أخرى. ولكن ربما لم يكن الأمر بهذه الغرابة رغم كل شيء؛ فالماء يتكون من جزيئات صغيرة أيضا يطلق عليها ذرات وتتجمع في جزيئات
H
2
O ، ومع ذلك يسلك سلوك الموجات. من الممكن أن نرى ظهور النمط الحلقي كشيء يحدث عندما يتجمع عدد كاف من الجزيئات فحسب، سواء أكانت جزيئات ماء أو إلكترونات. إلا أن إحداث تغيير بسيط في التجارب السابقة يبين لنا أن هذا الرأي لا يمكن أن يكون صحيحا. في هذا التغيير، سنقلل عدد الإلكترونات التي نطلقها من مدفع الإلكترونات بالتدريج حتى نصل في النهاية إلى إطلاق إلكترون واحد كل دقيقة. سيختفي النمط، وكل ما نراه الآن هو وميض بسيط كل دقيقة. والآن نترك هذا الإعداد يعمل كما هو لبعض الوقت، ولكن مع الاستمرار في تسجيل المكان الذي يحدث فيه الوميض البسيط على الشاشة. بعد ذلك، نقوم بتخطيط مواقع ألوف الومضات التي حدثت على الشاشة. الغريب أننا لن نحصل على ترتيب عشوائي من النقاط، وإنما على نمط حلقي مرة أخرى! هذه النتيجة شديدة الغرابة، فكل إلكترون مفرد لا يعرف أماكن اصطدام الإلكترونات السابقة واللاحقة له؛ ومن ثم فالإلكترونات لا تستطيع التواصل بعضها مع بعض لإنتاج نمط الحلقات المتداخلة المتحدة المركز، وإنما لا بد أن كل إلكترون قد انتقل مثل موجة عبر الثقب لإنتاج النمط الحلقي المميز، ثم تحول مرة أخرى إلى جزيء لإنتاج النمط النقطي على الشاشة. ويشترك في هذا السلوك الغريب أي جزء صغير من المادة مثل الإلكترونات والنيوترونات والفوتونات والكواركات وغيرها من الجسيمات الأساسية، ولكن لا يشترك فيه هذه الأشياء فحسب؛ فقد لوحظت تأثيرات مشابهة للأجسام الأكبر حجما بما فيه الكفاية بحيث ترى تحت الميكروسكوب، مثل شبكة من ستين ذرة كربون تكون شكل كرة القدم.
Shafi da ba'a sani ba
من أجل تفسير سلوك هذه الأجسام، يربط الفيزيائيون «دالة موجية» بكل جسم منها. على الرغم من حقيقة أن مثل هذه الموجة تتمتع بالخصائص المعتادة للموجات العادية (مثل موجات الصوت والماء)، وفي ذلك السعة (مدى انحرافها لأعلى أو لأسفل عن حالة الراحة) والطور (في أي نقطة في الحلقة توجد الموجة في الوقت الحالي)، والتداخل (بحيث يلغي الطوران «العلوي» و«السفلي» للموجتين المتلاقيتين أحدهما الآخر)، فإن الوسط الذي توجد فيه هذه الموجات ليس واضحا بالمرة. تحدث أينشتاين عن «الحقل الطيفي» باعتباره وسطها. بالنسبة لموجة في وسط عادي مثل الماء، يمكننا أن نحسب طاقتها عند أي نقطة عن طريق أخذ مربع سعتها عند هذه النقطة. إلا أن الدوال الموجية لا تحمل أي طاقة؛ ولذا يعطينا مربع سعتها في نقطة معينة «احتمالية» رصد الجسيم في حالة وضع مكشاف هناك (مثل الشاشة المطلية بالفسفور). من الواضح أن النقطة التي يتحول فيها الجسم من الوجود باعتباره محض موجة احتمالية، ينتشر وجوده المحتمل عبر الفضاء، إلى الوجود باعتباره جسما فعليا محدد الموقع في الفضاء، مثل إلكترون يصطدم بشاشة فسفورية، ذات أهمية حاسمة في هذا السياق. ماذا يحدث بالضبط عندما تنهار الدالة الموجية، أو بعبارة أخرى، عندما يتم اختيار موضع واحد فقط من بين الاحتمالات اللانهائية لمواضع وجود الجسيم في أي لحظة، في حين ترفض كل المواضع الأخرى ؟
أولا: علينا أن نسأل أنفسنا: «متى» يتم هذا الاختيار؟ في المثال الموضح أعلاه، يبدو أن هذا يحدث قبل حدوث الوميض على الشاشة الفسفورية، في هذه اللحظة، تم قياس موضع الإلكترون عن طريق بدء قطعة من الفسفور في الوميض بسبب اصطدام هذا الإلكترون بها، لذلك لا بد أن الإلكترون نفسه كان موجودا هناك، وليس مجرد موجة احتمالية. ولكن لنفترض أننا لا نستطيع فعليا الوجود في المختبر لملاحظة التجربة، عندئذ يجب أن نوجه كاميرا إلى الشاشة الفسفورية ونرسل النتيجة عبر وصلة قمر صناعي للكمبيوتر الخاص بنا. في هذه الحالة، يجب أن ينتقل الضوء المنبعث من الشاشة إلى الكاميرا لتسجيله، وتحدث الدورة نفسها مرة أخرى: على غرار الإلكترونات، ينتقل الضوء أيضا كموجة ويصل كجسيم (فوتون في هذه الحالة). إذن ما السبب الذي يدعونا لأن نعتقد أن انهيار الدالة الموجية والتحول من الموجة الاحتمالية إلى جسيم قد حدثا فعليا على الشاشة الفسفورية، وليس في الكاميرا؟ في البداية، يبدو أن الشاشة الفسفورية كانت هي جهاز القياس، والإلكترون هو ما يقاس. ولكن الآن، أصبح ما يقاس هو الشاشة وجهاز القياس هو الكاميرا. وباعتبار أن أي جسم مادي ينقل القياس ويمكننا إضافته إلى هذه السلسلة (الكاميرا، القمر الصناعي، الكمبيوتر، أعيننا، دماغنا) يتكون من جسيمات لها الخصائص نفسها للإلكترون الذي نحن بصدده، فكيف نستطيع تحديد أي خطوة نستطيع عندها التمييز بين ما يقاس وما يقوم بالقياس؟
هذه السلسلة دائمة الاتساع للظواهر المقيسة وأجهزة القياس يطلق عليها «سلسلة فون نيومان» تيمنا بالرياضي والفيزيائي جون فون نيومان.
اقترح يوجين ويجنر، زميل فون نيومان في جامعة برينستون، المجري المولد أيضا، الخطوة التي يمكن التمييز عندها، بتتبعنا لسلسلة فون نيومان صعودا، فإن أول كيان نقابله لا يتألف بأي حال من الأحوال من أجزاء من المادة هو وعي الراصد الذي يقوم بالقياس. قد نرغب إذن في قول إن الوعي عندما يدخل للصورة، تنهار الدالة الموجية وتتحول الموجة الاحتمالية إلى جسيم. هذا الاحتمال يعني ضمنا أننا إذا وضعنا معدات التجربة بالكامل - من مدفع إلكترونات وورقة مثقوبة وشاشة فسفورية - في صندوق مغلق بإحكام، فإن الدالة الموجية لن تنهار، نظرا لعدم وجود راصد واع يراقب وميض الضوء الصادر عن الشاشة الفسفورية؛ فالأنظمة التي تنطوي على راصدين واعين يمكن أن تحدث انهيارا في الدالة الموجية؛ أما مجرد وجود أجهزة قياس غير واعية فلا يحدث هذا الانهيار.
إذا لم يتسبب وعي الراصد في انهيار الدالة الموجية؛ فسوف يستتبع ذلك نتائج طريفة. كما ذكرنا أعلاه، مع زيادة الأجسام التي يمكن أن تسقط في دوامة سلسلة فون نيومان بالتغيير من كونها أداة قياس إلى كونها جزءا مما يقاس، يصبح الهيكل «المنتشر» للموجة الاحتمالية خاصية من خواص هذه الأجسام أيضا. وتؤثر طبيعة التطابق الخاصة بالإلكترون - الذي يبدو أنه يظهر في أماكن متعددة في الوقت نفسه - على أدوات القياس سالفة الذكر. وقد تم التحقق بالتجربة من أن الأجسام الكبيرة بما يكفي لترى تحت الميكروسكوب (مثل شريط معدني يبلغ طوله 60 ميكرومترا) - وليس فقط الأجسام التي لا ترى من فرط صغرها - يمكن أن تظهر سلوك التطابق نفسه. بالطبع، لا يمكننا أن ننظر بالميكروسكوب ونشاهد القطعة المعدنية في مكانين في الوقت نفسه؛ لأنه من شأن عملية الرصد أن تتسبب فورا في انهيار الدالة الموجية. ومع ذلك، من الواضح أن عدم التحديد الذي نجده في المستوى الدقيق يمكن أن ينتشر إلى المستوى الكبير.
إذا سلبنا الآن وعي الراصد، فإنه يتحول إلى مجرد أداة قياس معقدة إلى حد ما، مثل الشاشة الفسفورية، والكاميرا، وغيرها. فلنفترض أننا وضعنا فيزيائيا في حاوية محكمة الغلق، كبيرة بما يكفي ليجعلها مختبرا ولكن معزولة تماما عن كل التأثيرات الخارجية. مهمة الفيزيائي هي رصد إذا ما كان الإلكترون الذي يطلق في اتجاه الشاشة الفسفورية في وقت الظهيرة تماما يوم الإثنين سيصطدم بالشاشة في مركز نمط الحلقات المتداخلة المتحدة المركز الناتج أم في أطرافه، يرصد الفيزيائي النتيجة ويستأنف تجارب أخرى، يوم الإثنين التالي، نفتح باب الحاوية ويخبرنا الفيزيائي أن الإلكترون قد اصطدم بالشاشة عند المركز. إذا افترضنا أن وعي الفيزيائي لم يتسبب في انهيار الدالة الموجية، فإنه سيندمج في سلسلة فون نيومان كجزء آخر من أجزاء النظام المقيس (الذي تعدى الآن كونه الإلكترون فحسب وأصبح كل شيء يحدث داخل الصندوق). ولكن هذا النظام لم يتم قياسه إلا وقت فتح الباب والتساؤل عن المكان الذي اصطدم فيه الإلكترون بالشاشة. ولكن هذا يعني أن نفترض أن الفيزيائي كان في حالة تطابق طوال الأسبوع، في حالة «حركة معلقة» بحيث يعتقد أن الإلكترون قد اصطدم في المركز، وفي الوقت نفسه أنه لم يصطدم. ولا تنهار الدالة الاحتمالية إلا بتدخلنا، وتصبح إحدى الحالتين هي الحالة الحقيقية. هذه نتيجة منافية للحدس تماما؛ لأننا يجب أن نفترض أن الفيزيائي لم يوجد مثل باقي الناس خلال الأسبوع الماضي، وأنه بلا شك لم يتمكن من الاعتقاد مثلما يفعل الناس. ومن الصعوبة بمكان أن نتخيل ما سيحدث في مثل هذه الحالة؛ لأنه من الظاهر أننا ليس لدينا فكرة عما يكون عليه الحال إذا وجدنا في حالتين اعتقاديتين متناقضتين في الوقت نفسه.
ولكن الأمور تزداد سوءا. إذا لم يكن الفيزيائي قادرا على التسبب في انهيار الدالة الموجية، فكيف لنا، نحن البشر الذين نشبهه في كل شيء، أن نحقق ذلك؟ ألا يعني فتح باب المختبر أننا الآن جزء من أداة القياس أيضا؟ هل يمكننا أن نكون في حالتين في الوقت نفسه ولا نعرف، تماما مثل الفيزيائي وهو في حاويته؟ أو إذا كنا في حالة محددة، فمن المسئول عن هذه الملاحظة؟
من المفترض أن تدعم الملامح المتناقضة ظاهريا لهذا السيناريو (الذي يوصف عادة ب «حالة صديق ويجنر») فكرة انهيار الدالة الموجية بمجرد أن يدخل الوعي الأول موقف القياس. ومع ذلك، إذا قررنا كسر السلسلة في هذه النقطة، فبناء عليه لا يمكننا اعتبار المادة واقع وفقا لتعريف نهاية العالم. ومن المعقول أن نفترض أن التأثيرات الواردة أعلاه لا تنطبق فقط على الأجسام الشديدة الصغر (مثل الإلكترونات والفوتونات والكيانات المشابهة)، وإنما على كل الأجسام، كل ما هنالك أنه في حالة الأجسام الكبيرة، تكون النتائج شديدة الصغر بحيث لا يمكن ملاحظتها. ولكن إذا كان مطلوبا من الوعي أن يحول الموجات الاحتمالية الطيفية إلى أشياء تشبه من قريب أو بعيد الأجسام التي نقابلها في حياتنا اليومية، فإننا لن نتمكن من قول إن المادة هي كل ما هو موجود بغض النظر عن أي شيء، سواء أكانت عقول البشر موجودة أم لا (على الأقل إذا افترضنا أن العقول البشرية هي كل العقول الموجودة).
ولكن ربما كان هذا المنطق متسرعا بعض الشيء؛ فبادئ ذي بدء، ألا يمكننا أن نتجنب الاضطرار إلى التسليم بالعقول غير المادية عن طريق قول إنها ملمح من ملامح العملية «الفيزيائية» التي تقوم عليها العقول البشرية، والتي تكسر سلسلة فون نيومان؟ في الواقع، اقترح روجر بنروز، أستاذ الرياضيات بجامعة أكسفورد، طريقة يمكن من خلالها أن تنهار الدالة الموجية لجسم بنفسها دون التفاعل مع أداة قياس. الفكرة الأساسية هي أن الأنظمة التي يزيد حجمها عن كتلة حرجة معينة تنهار تحت وطأة وزنها (إذا جاز لنا قول ذلك) محولة أحد الاحتمالات المطابقة إلى واقع. يخمن بنروز أن هذا «الاختزال الموضوعي» يحدث في أجزاء معينة من الخلايا العصبية التي تشكل الدماغ (والتي يطلق عليها الأنيبيبات). إذا كانت تلك هي الحالة، فإننا لن نحتاج إلى مادة غامضة غير مادية لتحويل الموجة الاحتمالية إلى جسيم؛ فمن شأن عملية فيزيائية عادية داخل أدمغتنا أن تكون كافية.
شكل 2-4: رسم توضيحي لكون جون ويلر التشاركي؛ ملاحظة الراصد تنتج الكون الذي هو جزء منه.
Shafi da ba'a sani ba
عندئذ سيكون العقل الواعي هو النتيجة، وليس السبب، لهذه العمليات على المستوى الكمي. يزعم بنروز أن هذه العمليات تهب العقل قوة تفوق قوة الكمبيوتر العادي، وهذا يستتبع أنه لن يكون من الممكن أبدا أن نبني آلة تعمل مثل أجهزة الكمبيوتر التي نعرفها وتستطيع تشغيل عقل كعقل الإنسان مثل برنامج. وبقدر ما قد نرى هذه الأفكار رائعة، فهي أيضا أفكار تستند إلى التخمين. فلا مفهوم «الاختزال الموضوعي»، ولا فكرة حدوث هذا في أنيبيبات حظيا بقبول واسع حتى الآن.
ثانيا: حتى إذا اتفقنا مع الفكرة السابقة التي ترى أن بعض الوعي غير المادي مطلوب لكسر السلسلة، فكل ما يتبع ذلك هو أن الخصائص الديناميكية للمادة (مثل الموقع والزخم واتجاه الدوران) كلها تعتمد على العقل. ولكن لا يتبع ذلك أن خصائصها الاستاتيكية (مثل الكتلة والشحنة وقوة الدوران) تعتمد على الشيء نفسه؛ فالخصائص الاستاتيكية موجودة سواء بحثنا عنها أم لم نبحث؛ ومن ثم فإننا نستطيع القول إنها واقعية وفقا لتعريف نهاية العالم للواقع.
مع ذلك، علينا أن نسأل أنفسنا إن كانت إعادة تعريف «المادة» بوصفها «مجموعة من الخصائص الاستاتيكية» تحافظ على ما يكفي من محتواها بحيث تسمح لنا أن نرى المادة واقعية. في عالم خال من العقول، ستظل هناك خصائص كالكتلة والشحنة، ولكن الأشياء لن تقع في موقع محدد ولن تنتقل في اتجاه محدد. مثل هذا العالم لا يشبه فعليا العالم كما يبدو لنا. يقول فيرنر هايزنبرج:
يستند وجود المادة إلى وهم أن نوع الوجود، والوجود «الفعلي» للعالم من حولنا، يمكن استنباطهما في النطاق الذري، إلا أن هذا الاستنباط مستحيل. [...] فالذرات ليست أشياء.
يبدو أن أفضل ما يمكننا الوصول إليه في هذه المرحلة هو الزعم بأن بعض الأشياء واقعية وفقا لتعريف نهاية العالم، رغم أنها لا تمت بصلة لفهمنا العادي للمادة.
فما مدى واقعية المادة إذا ما فهمنا «الواقع»، ليس وفق تعريف نهاية العالم، وإنما وفق تعريف السلحفاة الأخيرة، مفترضين أن الواقع هو أساس كل شيء آخر؟ للجواب عن هذا السؤال، علينا أن نلقي نظرة على فكرة علمية أساسية؛ وهي فكرة التفسير الاختزالي. ينبثق كثير من قوة النظريات العلمية من فكرة أننا نستطيع استخدام نظرية واحدة، تنطبق على مجموعة معينة من الكائنات، لتفسير حقائق تتعلق بمجموعة مختلفة تماما من الكائنات؛ ومن ثم فإننا لا نحتاج لمجموعة منفصلة من القوانين والمبادئ لتفسير المجموعة الثانية من الكائنات، ولكننا نستطيع افتراض أن سلوكها يمكن اختزاله في عبارات حول النوع الأول من الكائنات، التي يمكن تفسيرها بعد ذلك بنظرية تتناول هذه الكائنات. وثمة مثال طيب على ذلك يتمثل في الطريقة التي يمكن بها استخدام نظريات من الفيزياء والكيمياء تتعامل مع المادة غير الحية، لتفسير عمليات تقوم بها الكائنات الحية (الكائنات البيولوجية).
ليس ثمة حاجة لافتراض فيزياء خاصة أو كيمياء خاصة لتفسير أيض كائن حي، وطريقة توالده، وطريقة تمرير معلوماته الوراثية، وطريقة تقدمه في العمر وموته. يمكن تفسير سلوك الخلايا الحية التي يتشكل منها الكائن من منظور النواة والميتوكوندريا وغيرها من الكيانات دون الخلوية، التي يمكن تفسيرها بدورها من منظور الاستجابات الكيميائية بناء على سلوك الجزيئات والذرات التي تكونها؛ لهذا السبب، يمكن القول إن تفسيرات العمليات البيولوجية يمكن اختزالها إلى عمليات كيميائية فيزيائية في نهاية المطاف.
إذا سعينا خلف هدف إيجاد تفسير اختزالي للظواهر المحيطة بنا، فالخطوة الأولى هي اختزال العبارات حول الأجسام المتوسطة الحجم التي تحيط بنا - حول الطوب والأدمغة والنحل والفواتير والبكتيريا - إلى عبارات حول الكائنات المادية الأساسية، مثل الجزيئات. سنكتشف حينها أن كل ما يتعلق بهذه الكائنات يمكن تفسيره في ضوء مكوناتها الأساسية، تحديدا الذرات. وتنطوي الذرات، بالطبع، على أجزاء هي الأخرى، وقد قطعنا الآن شوطا في سبيل معرفة العالم الرائع للجسيمات دون الذرية الأصغر فالأصغر. ولم نصل حتى الآن للكائنات الأكثر جوهرية؛ بل لا يوجد اتفاق على وجود مثل هذه الكائنات. إلا أن هذا ليس سببا وجيها لإيقاف تفسيراتنا هنا؛ لأننا نستطيع دوما فهم الكائنات الفيزيائية الأكثر جوهرية في ظل الأجزاء التي تشغلها هذه الكائنات من المكان والزمان؛ لذا بدلا من جعل تفسيرنا يتحدث عن جسيم معين يوجد في مكان ما لمدة ما، يمكننا ببساطة اختزال هذا إلى حديث عن منطقة مكانية معينة بإحداثيات محددة يتم شغلها بين زمنين مختلفين.
إلا إننا نستطيع أن ندخل في تفاصيل أكثر جوهرية، فإذا أخذنا نقطة عشوائية معينة في المكان، ووحدة ثابتة من المسافة المكانية، يمكننا تحديد أي نقطة أخرى في المكان بثلاثة إحداثيات. وهذه الإحداثيات تخبرنا بالتوجه لعدد معين من الوحدات لأعلى أو لأسفل، وعدد من الوحدات لليسار أو اليمين، وعدد من الوحدات للأمام أو للخلف. ويمكننا أن نفعل الشيء نفسه في النقاط الزمنية ، محددين كل نقطة زمنية بعدد الوحدات الزمنية قبل أو بعد نقطة زمنية معينة. لدينا الآن طريقة للتعبير عن النقاط المكانية-الزمانية (الزمكانية) كمجموعات من أربعة أرقام موجبة أو سالبة هي:
x
Shafi da ba'a sani ba
و
y
و
z
و
t ؛ حيث
x
و
y
و
Shafi da ba'a sani ba
z
تمثل الأبعاد المكانية الثلاثة، و
t
يمثل البعد الزمني، وقد عثر الرياضيون على طريقة لاختزال الأرقام إلى شيء أكثر جوهرية؛ المجموعات. وللقيام بذلك، يستعيضون عن الرقم صفر بالمجموعة الخالية (مجموعة خالية من العناصر)، وعن الرقم 1 بالمجموعة التي تحتوي على المجموعة الخالية فقط، ورقم 2 بالمجموعة التي تحتوي على المجموعة التي تحتوي على المجموعة الخالية، وهكذا. وعندئذ نستطيع أن نبين أن كل خصائص الأرقام تنطبق على هذه الأرقام البديلة المصنوعة من مجموعات.
يبدو الأمر كأننا قد اختزلنا العالم المادي المحيط بنا كله في مصفوفة معقدة من المجموعات؛ لهذا السبب، من الأهمية بمكان أن نعرف الماهية الواقعية لهذه الكائنات الرياضية التي يطلق عليها «المجموعات». هناك رؤيتان للكائنات الرياضية المهمة في هذا السياق؛ أولا: هناك الرؤية التي تعتبرها كائنات أفلاطونية؛ وهذا يعني أن الكائنات الرياضية ليست كغيرها من الكائنات الأخرى التي نقابلها؛ فهي ليست مصنوعة من المادة، ولا توجد في المكان أو الزمان، ولا تتغير، ولا يمكن إنشاؤها أو تدميرها، ولا يمكن إلا أن تكون موجودة. ووفقا للفهم الأفلاطوني، توجد الكائنات الرياضية في «عالم ثالث»؛ عالم منفصل عن عالم المادة، من ناحية، ومنفصل عن عالم الكيانات العقلية، كالمدركات والأفكار والمشاعر، من ناحية أخرى.
ثانيا: لدينا رؤية للكائنات الرياضية ككائنات عقلية بطبيعتها في الأساس، فهي من النوع نفسه للأشياء الأخرى التي تمر عبر عقولنا؛ الأفكار والخطط والمفاهيم والآراء. إلا أنها ليست ذاتية بالكامل؛ إذ إنها موجودة في عقول الأشخاص الآخرين تماما كما هي موجودة في عقولنا؛ ولذا إذا ما تحدثنا عن نظرية فيثاغورس، فنحن جميعا نتحدث عن الشيء نفسه. ولكن الكائنات الرياضية ليس لها وجود خارج العقول التي تنشأ فيها.
ونخلص في كلتا الرؤيتين إلى نتيجة طريفة، فإذا كان العالم يتكون في الأساس من مجموعات، وإذا كانت المجموعات ليست مادية ، وإنما كيانات أفلاطونية غريبة، فإن الكائنات المادية قد اختفت تماما من المشهد ولا يمكن أن تكون واقعية وفقا لتعريف السلحفاة. وإذا ما تتبعنا الاختزال العلمي إلى النهاية، فسوف ينتهي بنا الأمر بأشياء لا تشبه الحصوات الصغيرة أو كرات البلياردو بالتأكيد، ولا حتى تشبه الأوتار المهتزة في المكان المتعدد الأبعاد، وإنما تشبه ما تتعامل معه الرياضيات البحتة.
هذه الفكرة مشروحة بتفصيل معقول في النظرية التي تقضي بأن العالم المادي نفسه هو نتاج أحد أجهزة الكمبيوتر العملاقة. وتستند بعض الآراء في هذا الصدد إلى فكرة أنه على الرغم من أن سلوك الجسيمات على المستوى الكمي من الصعب جدا فهمه في ظل الأجسام المتوسطة الحجم مثل البلي وكرات البلياردو، فإن فهمها بوصفها نتاج برنامج ما أسهل بكثير من نواح عديدة.
والكائنات المتعددة التي تدرسها ميكانيكا الكم لا يمكن تمييز بعضها عن بعض؛ فكل إلكترون يشبه تماما كل الإلكترونات الأخرى سواء كان أحد إلكتروني ذرة الهيليوم، أو واحدا من تسعة وسبعين إلكترونا في ذرة الذهب. ومثل هذا التشابه لا يحدث عادة في عالمنا اليومي. وقد تحدى لايبنيتس جمهوره في حدائق الأميرة صوفي تشارلوت أن يجدوا أي ورقتي شجر متشابهتين تمام التشابه، ولم يستطع أحد من الجمهور الفوز في هذا التحدي. ومع ذلك، إذا كتبت اسم «لايبنيتس» على الكمبيوتر الخاص بك، فستجد حرفي «ياء» متشابهين تمام التشابه سواء وقعا بين الألف والباء أو بين النون والتاء. يرجع هذا إلى أن كل حروف «الياء» يتم إنتاجها بواسطة الإجراء نفسه في برنامج الكمبيوتر؛ ومن ثم يمكن للمرء أن يقول إن الإلكترونات وما يشابهها من أشياء يمكن صنعها بالطريقة نفسها بالكمبيوتر، الذي تقوم عملياته الحسابية بإنتاج العالم.
ثمة حقيقة أخرى مربكة؛ وهي أنه على الرغم من أن شكلية ميكانيكا الكم تربط دالة موجية بكل كائن، فإن هذه الموجات مختلفة عن الموجات العادية؛ إذ إنها لا تسري في وسط معين. يمكن فهم الموجات التي تسري في الماء أو الهواء في ظل الإزاحة المؤقتة لأجزاء وسطها (أي جزيئات الماء والهواء ). لكن بالنسبة للموجات من منظور ميكانيكا الكم، هذا التفسير غير ممكن؛ نظرا لعدم وجود كائنات جوهرية أساسية لإظهار السلوك الموجي. ولكننا إذا فهمنا الموجة كشيء مشفر في ذاكرة الكمبيوتر، أو بعبارة أخرى كسلسلة من أرقام الصفر والواحد، فليس هناك داع أن نفترض أنها لن تنتقل إلا بواسطة شيء يتموج.
Shafi da ba'a sani ba
على سبيل المثال، الموجات الصوتية التي ينتجها الكمبيوتر لا تتطلب وسطا موجيا؛ لأنها لا توجد إلا في ذاكرة الكمبيوتر. ولكن هذا لا يمنعها من أن تؤدي وظيفتها تماما كما تؤدي أي موجات صوتية أخرى نعرفها وظيفتها.
إن وجهة النظر القائلة بأن العالم المادي هو نتاج عملية حسابية عملاقة تعيدنا مرة أخرى لفكرة الكون باعتباره محاكاة حاسوبية، هذه المرة ليس عن طريق المحاكاة التاريخية، ولكن كمحاولة لفهم سلوك العالم في مناطق صغيرة جدا وخلال فترات زمنية قصيرة جدا. والفكرة الأساسية هي أننا على الرغم من أننا لا نستطيع مطلقا رؤية طريقة برمجة الكمبيوتر (لأن الكود، كقطعة من المعلومات المجردة، ليس شيئا ماديا)، فإننا ما زلنا نستطيع استنتاج طريقة برمجته، بالفحص الدقيق لتفاصيل البرنامج الذي يشغله. وعالم الكائنات المادية الذي نراه حولنا، بالإضافة إلى المكان والزمان الذي يبدو أن هذه الكائنات موجودة فيهما، كل هذا ما هو إلا نتاج هذا البرنامج؛ فهذه الأشياء غير موجودة على مستوى الكود الحاسوبي، تماما كما أنه لا يوجد شيء على شكل سهم في مكان ما في مركز الكمبيوتر يستجيب لمؤشر فأرتك.
على الرغم من أن برنامج الكمبيوتر يمكن أن يتجلى لنا في عدة تمثيلات مادية، مثل نص يظهر على الشاشة أو في مطبوعة أو يخزن في القرص الصلب للكمبيوتر، فإنه ليس في حد ذاته شيئا ماديا، وإنما كائن مجرد، شيء موجود بالضرورة، وهو غير مصنوع ولا يمكن تغييره ويقع خارج المكان والزمان. إذا كان عالم المادة الذي ندركه هو نتيجة تشغيل مثل هذا البرنامج، إذن فالكائنات المادية لا تشكل جزءا من الطبيعة الأساسية للواقع وفقا لتعريف السلحفاة. وإذا ما توغلنا في التفاصيل، فسندرك أن العالم المادي لا يتكون من أشياء مادية دقيقة، وإنما من نوع خاص من الكائنات الرياضية.
بطبيعة الحال، الرؤية الأفلاطونية للكائنات الرياضية من الصعب ألا تثير الجدل، والكثيرون يجدون من الصعب الوصول إلى فكرة واضحة إزاء كيفية وجود الكائنات خارج الزمان والمكان، وكيفية معرفتنا بها، وكيفية إنتاجها لأشياء لها بالفعل مواقع مكانية وزمانية (زمكانية). ولكننا إذا ما أخذنا الكائنات الرياضية بوصفها عقلية في طبيعتها، فسينتهي بنا الأمر بسيناريو ربما يكون أغرب من ذلك الذي يتخيله الأفلاطونيون؛ وذلك نظرا لأن مؤيدي الاختزال العلمي يقومون باختزال العقل البشري إلى نشاط الدماغ البشري، ثم يختزلون الدماغ إلى مجموعة من الخلايا المتشابكة، والخلايا إلى جزيئات، والجزيئات إلى ذرات، والذرات إلى جسيمات دون ذرية، والجسيمات دون الذرية إلى مجموعات من النقاط الزمكانية، ومجموعات النقاط الزمكانية إلى مجموعات الأرقام، ومجموعات الأرقام إلى مجموعات خالصة. ولكن في نهاية هذا الاختزال، يبدو أننا الآن نرجع مرة أخرى إلى نقطة البداية؛ الكيانات العقلية.
تنتج دائرة مماثلة عند أي محاولة لتوحيد علم النفس والأحياء والفيزياء إذا ما افترضنا أن الوعي يلعب دورا في اختزال الدالة الموجية؛ فلعمل ذلك، سنحاول اختزال العقل البشري إلى نشاط الجهاز العصبي المركزي، الذي يعد بنية بيولوجية. ويمكن تفسير البنى البيولوجية من منظور العمليات الكيميائية، المتمثلة في تفاعل الكربون والنيتروجين والأكسجين، وما إلى ذلك، والتي يمكن تحليلها إلى مكونات أصغر، إلى أن نصل إلى المستوى الذي تصبح فيه الظواهر الكمية ملائمة تجريبيا، ولكي نفسر هذه الظواهر، يبدو أننا يجب أن نستعين بظاهرة من أعلى السلسلة؛ ألا وهي العقل البشري.
في كلتا الحالتين، ما ظننا أننا يجب أن نعتبره الأكثر جوهرية اتضح أنه ينطوي في الأساس على ما كنا نعتبره الأقل جوهرية، وفي بحثنا عن الأساسيات، سرنا في دائرة؛ ابتداء من العقل، عبر مكونات عديدة من المادة، وانتهاء بالعقل مرة أخرى؛ ولكن هذا يعني أنه «لا شيء» جوهري تماما، كما أنه ليس هناك محطة أولى أو أخيرة على خط مترو أنفاق لندن الدائري. والدرس الذي نتعلمه من سيناريو الاختزال الموضح أعلاه هو أنه إما أن الأشياء الجوهرية ليست مادية، وإما أنه لا شيء جوهري على الإطلاق.
كما أننا نواجه دائرة أخرى مماثلة في طريقة فهم ميكانيكا الكم الأكثر تأثيرا، والمختلفة عما وضحنا أعلاه، والتي يطلق عليها «تفسير كوبنهاجن» (سميت بهذا الاسم تيمنا بالمدينة التي يقع فيها معهد مفسرها الأساسي نيلز بور). فعلى عكس تفسير ويجنر المستند إلى الوعي، هذا التفسير لا يفترض انهيار الدالة الموجية بسبب رصد العقل الواعي لنتيجة تجربة ما، وإنما يحدث عندما يتفاعل النظام المراد قياسه (الإلكترون في مثالنا) مع جهاز القياس (الشاشة الفسفورية)؛ لهذا السبب، ينبغي أن نفترض أن الشاشة الفسفورية ستتصرف بطريقة تقليدية، ولن يصدر عنها السلوك الكمي الخاص الذي صدر عن الإلكترون.
بالنسبة لتفسير كوبنهاجن، الأشياء والعمليات التي يمكن وصفها في ضوء المفاهيم التقليدية المألوفة هي أساس أي تفسير مادي. ومن هنا تأتي الدائرة المفرغة؛ فنحن نحلل العالم اليومي للأحذية والسفن وشمع الختم (الذي يتضمن الشاشات الفسفورية والكاميرات وأجهزة الكمبيوتر وأعيننا وكل الأشياء المادية متوسطة الحجم) في ضوء مكونات أصغر فأصغر؛ جزيئات وذرات وجسيمات دون ذرية، إلى أن نتعامل مع أجزاء شديدة الصغر بحيث يصبح من الممكن أن تصفها التأثيرات الكمية. ولكن عندما يصل الأمر إلى التعبير عما تعنيه حقا نظرياتنا عن التأثيرات الكمية، فإننا لا نؤسسها على بعض البنى الأكثر دقة على المستوى المجهري، وكما أشار بور نفسه: «ليس هناك عالم كمي، هناك فقط وصف فيزيائي كمي.» وما يعنيه هذا هو أنه بدلا من الانخراط في التفاصيل، فإننا نقفز مرة أخرى إلى مستوى نظريات الإدراك الحسي الملموسة، أو أجهزة القياس الماكروفيزيائية - مثل الشاشات الفسفورية والكاميرات - زاعمين أن نظريتنا تدور حول القراءات التي تصل إليها هذه الأجهزة. مرة أخرى، لسنا في موضع يسمح لنا بقول إن العالم الميكروفيزيائي للكائنات الكمية جوهري (نظرا لأن الحديث عنها ليس سوى جسر تصوري يتيح لنا الربط بين عبارات معينة تصف ما يحدث وبين أجهزة القياس العادية الحجم)، ولا بقول إن العالم الماكروفيزيائي لأجهزة القياس جوهري (نظرا لأن هذه الأجهزة ليست هي أنفسها سوى تكتلات كبيرة من الكائنات الكمية)؛ ومن ثم فإن لدينا دائرة من الأشياء التي يعتمد بعضها على بعض، رغم أنه - على عكس الحالة السابقة - لم تعد الكائنات العقلية جزءا من هذه الدائرة؛ نتيجة لذلك، لا يمكن اعتبار الشاشة الفسفورية المتوسطة الحجم ولا الإلكترون الدقيق واقعيين وفقا لتعريف السلحفاة؛ لأن كليهما لا يشكلان طبقة من الكائنات بحيث يعتمد عليهما كل شيء، رغم أنهما لا يعتمدان على شيء.
الفصل الثالث
هل الأشخاص واقع؟
Shafi da ba'a sani ba
في ربيع عام 1982، كانت سيدة أمريكية تقف في انتظار الحافلة في شارع «باريجيان أفينيو دي لا جراند أرمي». وشعرت وهي تركب الحافلة أن عقلها يكاد ينفجر:
شعرت أن ما كنت أطلق عليه في السابق «أنا» يجبر على الخروج من موقعه المعتاد داخلي إلى موقع جديد خلفي بمسافة قدم تقريبا إلى يسار رأسي. كنت «أنا» الآن خلف جسدي أنظر للعالم دون استعمال عيني جسدي.
هذه التجربة المربكة لنفسها المنقولة من مكانها أصبحت أكثر إرباكا عندما اختفت تماما بعد عدة أيام؛ ونتيجة لذلك:
اختفت الأنا الشخصية، ومع ذلك هناك جسم وعقل موجودان دون أي شخص يحتلهما. [...] لم يعد العقل والجسد والمشاعر تشير إلى أي شخص؛ لم يكن هناك من يفكر ولا من يشعر، ولا من يدرك، ومع ذلك استمر العقل والجسد والعواطف في أداء وظائفها دون تقصير؛ فمن الواضح أنها لم تكن في حاجة ل «أنا» لتستمر في فعل ما كانت تفعله دائما. [...] كانت أغرب اللحظات تحدث عند أي إشارة لاسمي، إذا اضطررت لكتابة شيك أو التوقيع على خطاب، كنت أحدق في الحروف على الورقة ويغرق العقل في خضم الحيرة؛ إذ لم يكن الاسم يشير إلى أي شخص.
وقضت الأربعة عشر عاما التالية من حياتها (قبل أن تموت بورم في المخ عن عمر يناهز الثانية والأربعين) دون أن تستعيد إحساسها بذاتها الشخصية.
وهذه الحالة ليست فريدة من نوعها؛ ففي عام 1880، وصف طبيب الأمراض العصبية الفرنسي جول كوتار اضطرابا عصبيا نفسيا - يعرف الآن باسم متلازمة كوتار - يؤدي بالمريض في أخف صوره إلى اعتقاد أنه ميت بالفعل أو لإنكار وجود جسده. وفي الحالات الأكثر خطورة، قد ينكر المريض وجوده تماما، وغالبا ما يتوقف تماما عن استخدام كلمة «أنا».
مثل هذه الحالات النفسية من الصعب جدا علينا أن نفهمها؛ إذ يندر أن نجد أشياء أقرب للفهم واليقين من وجودنا كأشخاص؛ فنحن قد نشكك في وجود العالم من حولنا، متسائلين: هل الشجرة الموجودة في الحديقة والبستاني الذي يجز العشب موجودان بالفعل؟ ولكن كيف نشكك في وجودنا نحن؟ أليس الشك دليلا على وجود من يشك؛ كيف لنا أن نشك إذن إن لم نكن موجودين؟ وإن لم نكن نحن من نشك، إذن من الذي يشك؟
الأشخاص واقع بالتأكيد وفقا لتعريف فيلم ماتريكس؛ فنحن بالتأكيد ندرك وجود الشخص أو، على الأحرى، النفس، بل إننا ندركها بإصرار أكبر من أي شيء آخر؛ فكوب الشاي الذي نستخدمه يوميا لمدة عشر دقائق على مدار خمس سنوات لن ندرك وجوده إلا حوالي 300 ساعة إجمالا، ولكننا ندرك وجود أنفسنا طوال ساعات حياة يقظتنا، بل إن إدراكنا لأنفسنا يستمر إلى أحلامنا. وعلى الرغم من أننا قد نكون مخطئين حيال معظم الأشياء التي نعتقدها عندما نحلم، فإننا لا يمكن أن نكون مخطئين في أننا نحن (وليس أشخاص آخرون) من نحلم بهذا الحلم.
لسنا فقط ندرك أنفسنا كأشخاص، ولكن معظم الأشخاص الآخرين (بعيدا عن بعض من يعانون من حالات نفسية خاصة مثل المرضى المذكورين أعلاه) يدركون أنفسهم بالطريقة عينها أيضا؛ ومن ثم فإن الأشخاص واقع وفقا لتعريف رواية «1984». علاوة على ذلك، يبدو أننا لا نستطيع أن نقرر الشخص الذي نريد أن نكونه؛ فعلى الرغم من أن لنا تأثيرا محدودا على تشكيل أنفسنا، يبدو في النهاية أن كثيرا من الجسد والجينات والمعتقدات والذكريات والميول النفسية، التي نعتبر أنها تشكلنا، ليس لنا قدرة على التحكم فيها. وبما أنه من الواضح أننا لا نملك القدرة على تشكيل أنفسنا، إذن فنحن واقع وفقا لتعريف جونسون أيضا.
رأينا سابقا أن التعريف الأكثر تماسكا لكلمة «الواقع» هو تعريف نهاية العالم وتعريف السلحفاة. من الواضح أن الأشخاص لا يمكن أن يكونوا من الواقع وفقا لتعريف نهاية العالم؛ نظرا لأنهم لن يكونوا جزءا من العالم من دوننا؛ فمن الصعب أن نفهم عالما يوجد فيه الأشخاص أو الأنفس، حتى وإن لم نكن نحن موجودين، ولكن من الأكثر معقولية ومنطقية أن نعتبر الأشخاص واقع وفقا لتعريف السلحفاة؛ إذ يبدو أن الأشخاص يشكلون جزءا لا يمكن اختزاله من العالم كما نعرفه. على المستوى الأساسي، ليست هناك أجزاء من المادة وحسب، ولكن أيضا نظم توفر رؤية لأجزاء المادة؛ أي نظم لها وجهة نظر. وحتى الآن لم ننجح في اختزالها لشيء أكثر جوهرية، وبما أنها غير قابلة للاختزال على هذا النحو، إذن فهي يقينا تشكل قطعة من أثاث العالم على المستوى الجوهري؛ ومن ثم فإن الأشخاص قد يكونون واقع بأحد أهم معاني الكلمة.
Shafi da ba'a sani ba