بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي شرح صدورنا للاسلام، وتفضل علينا بحسن الإعلام لمزيد الاكرام، فنور قلوبنا بمعرفته وثبتها (1) على الإيمان، وصلى الله على نبيه المبعوث لبيان البلاغ وبلاغ البيان: (2) بأبلغ برهان وعلى آله المنتجبين، وحفظة الشرع المبين، الذين أتم الله علينا بهم النعمة، وأكمل لنا بهم الدين، فصدقنا وأقررنا، ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين.
وبعد: فإني لما رأيت الأقوال في حقيقة الإيمان مع الاتفاق على حقيقة متكثرة والأدلة على ذلك في كتب الأصول منتشرة، وأكثرها لا يروي الغليل ولا يشفي العليل، ولا يجدي منها إلا القليل.
أحببت أن أجمع منها جملة كافية مع إضافة بعض ما يتبع ذلك، ليسهل على الناظر تناولها، ويستغني بما نذكره في بيان آيات بيناتها (3) عن تأولها.
وذكرت في خلال ذلك ما ينبغي إيراده سؤالا وجوابا، ليكثر بذلك نفعها،
Shafi 49
وينتقش على صحيفة النفس وقعها.
راجيا من الله تعالى أن ينفع بها من نظر، ويؤجر من عثر على عثرة فصبر وغفر، سائلا منه حسن الاملاء، عائذا به من الاستدراج والاملاء. ورتبتها على مقدمة ومقالات وخاتمة، أما:
المقدمة [في تعريف الإيمان لغة وشرعا] فاعلم أن الإيمان لغة: التصديق، كما نص عليه أهلها (1)، وهو إفعال من الأمن، بمعنى سكون النفس واطمئنانها لعدم ما يوجب الخوف لها، وحينئذ فكان حقيقة " آمن به " سكنت نفسه [إليه] واطمأنت بسبب قبول قوله وامتثال أمره، فتكون الباء للسبية.
ويحتمل أن يكون بمعنى أمنه التكذيب والمخالفة، كما ذكره بعضهم، فتكون الباء فيه زائدة. والأول أولى، كما لا يخفى، وأفق لمعنى التصديق.
وهو يتعدى باللام، كقوله تعالى " وما أنت بمؤمن لنا (2) " " فآمن له لوط (3) " وبالباء كقوله تعالى " آمنا بما أنزلت (4) ".
وأما التصديق: فقد قيل إنه القبول والاذعان بالقلب، كما ذكره أهل الميزان.
ويمكن أن يقال: معناه قبول الخبر أعم من أن يكون بالجنان أو باللسان، ويدل عليه قوله تعالى " قالت الأعراب آمنا (5) ".
Shafi 50
فأخبروا عن أنفسهم بالإيمان وهم من أهل اللسان، مع أن الواقع منهم هو الاعتراف باللسان دون الجنان، لنفيه عنهم بقوله تعالى " قل لم تؤمنوا ".
وإثبات الاعتراف بقوله تعالى " ولكن قولوا أسلمنا " الدال على كونه إقرارا بالشهادتين، وقد سموه إيمانا بحسب عرفهم، والذي نفاه الله عنهم إنما هو الإيمان في عرف الشرع.
إن قلت: يحتمل أن يكون ما أدعوه من الإيمان هو الشرعي، حيث سمعوا أن الشارع كلفهم بالإيمان، فيكون المنفي عنهم هو ما ادعوا ثبوته لهم، فلم يبق في الآية دلالة على أنهم أرادوا اللغوي.
قلت: الظاهر أنه في ذلك الوقت لم تكن الحقائق الشرعية متقررة عندهم، لبعدهم عن مدارك الشرعيات، فلا يكون المخبر عنه إلا ما يسمونه إيمانا عندهم، وقوله تعالى " آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم (1) " وقوله تعالى " ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين (2) ".
وجه الدلالة في هذه الآيات أن الإيمان في اللغة: التصديق، وقد وقع في الأخبار عنهم أنهم آمنوا بألسنتهم دون قلوبهم، فيلزم صحة إطلاق التصديق على الاقرار باللسان وإن لم يوافقه الجنان.
وعلى هذا فيكون المنفي هو الإيمان الشرعي أعني القلبي، جمعا بين صحة النفي والاثبات في هذه الآيات.
لا يقال: هذا الإطلاق مجاز، وإلا لزم الاشتراك، والمجاز خير منه.
لأنا نقول: هو من قبيل المشترك المعنوي لا اللفظي، ومعناه قبول الخبر
Shafi 51
أعم من أن يكون باللسان أو بالجنان، واستعمال اللفظ الكلي في أحد أفراد معناه باعتبار تحقق الكلي في ضمنه حقيقة لا مجازا، كما هو المقرر في بحث الألفاظ.
فإن قلت (1): إن المتبادر من معنى الإيمان هو التصديق القلبي عند الإطلاق وأيضا يصح سلب الإيمان عن من أنكر بقلبه وإن أقر بلسانه، والأول علامة الحقيقة والثاني علامة المجاز.
قلت: الجواب عن الأول أن التبادر لا يدل على أكثر من كون المتبادر هو الحقيقي لا المجازي، لكن لا يدل على كون الحقيقة لغوية أو عرفية، وحينئذ فلا يتعين أن اللغوي هو التصديق القلبي، فلعله العرفي الشرعي.
إن قلت: الأصل عدم النقل، فيتعين اللغوي.
قلت: لا ريب أن المعنى اللغوي الذي هو مطلق التصديق لم يبق على إطلاقه بل أخرج عنه إما بالتخصيص عند بعض أو النقل عند آخرين.
ومما يدل على ذلك أن الإيمان الشرعي هو التصديق بالله وحده وصفاته وعدله، وبنبوة نبينا محمد صلى الله عليه وآله، وبما علم بالضرورة مجيئه صلى الله عليه وآله به لا ما وقع فيه الخلاف وعلى هذا أكثر المسلمين.
وزاد الإمامية التصديق بإمامة إمام الزمان، لأن من ضروريات مذهبهم، أيضا أنه مما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وقد عرفت أن الإيمان في اللغة التصديق مطلقا، وهذا أخص منه.
ويؤيد ذلك قوله تعالى " يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله " (2) أخبر عنهم تعالى بالإيمان، ثم أمرهم بإنشائه فلا بد أن يكون الثاني غير الأول، وإلا لكان أمرا بتحصيل الحاصل.
Shafi 52
وإذا حصلت المغايرة كان الثاني المأمور به هو الشرعي، حيث لم يكن حاصلا لهم، إذ لا محتمل غيره إلا التأكيد، والتأسيس خير منه.
وعن الثاني بالمنع من كون ما صح سلبه هو الإيمان اللغوي بل الشرعي، وليس النزاع فيه.
إن قلت: ما ذكرته معارض (1) بما ذكره أهل الميزان في تقسيم العلم إلى التصور والتصديق، من أن المراد بالتصديق الاذعان القلبي، فيكون في اللغة كذلك لأن الأصل عدم النقل.
قلت: قد بينا سابقا الخروج عن هذا الأصل، ولو سلم فلا دلالة في ذلك على حصر معنى التصديق مطلقا في الأذهان القلبي، بل التصديق الذي هو قسم من العلم وليس محل النزاع.
على أنا نقول: لو سلمنا صحة الإطلاق مجازا، ثبت مطلوبنا أيضا، لأنا لم ندع إلا أن معناه قبول الخبر مطلقا، ولا ريب أن الألفاظ المستعملة لغة في معنى من المعاني حقيقة أو مجاز أبعد من اللغة، وهذا ظاهر.
" تعريف الإيمان الشرعي " وأما الإيمان الشرعي: فقد اختلف في بيان حقيقته العبارات بحسب اختلاف الاعتبارات.
وبيان ذلك: أن الإيمان شرعا: إما أن يكون من أفعال القلوب فقط: أو من أفعال الجوارح فقط أو، منهما معا.
فإن كان الأول، فهو التصديق بالقلب فقط، وهو مذهب الأشاعرة، وجمع من متقدمي الإمامية ومتأخريهم، ومنهم المحقق الطوسي رحمه الله في فصوله (2).
Shafi 53
لكن اختلفوا في معنى التصديق، فقال أصحابنا: هو العلم. وقال الأشعرية:
هو التصديق النفساني، وعنوا به (1) أنه عبارة عن ربط القلب على ما علم من أخبار المخبر، فهو أمر كسبي يثبت باختيار المصدق (2)، ولذا يثاب عليه بخلاف العلم والمعرفة، فإنها ربما تحصل بلا كسب، كما في الضرويات.
وقد ذكر حاصل ذلك بعض المحققين، فقال: التصديق هو أن تنسب باختيارك (3) الصدق إلى المخبر، حتى لو وقع ذلك في القلب من غير اختيار لم يكن تصديقا وإن كان معرفة، وسنبين إن شاء الله تعالى [قصور] ذلك.
وإن كان الثاني، فإما أن يكون عبارة عن التلفظ بالشهادتين فقط، وهو مذهب الكرامية. أو عن جميع أفعال الجوارح من الطاعات بأسرها فرضا ونفلا، وهو مذهب الخوارج وقدماء المعتزلة والغلاة والقاضي عبد الجبار. أو عن جميعها من الواجبات وترك المحظورات (4) دون النوافل، وهو مذهب أبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم وأكثر معتزلة البصرة.
وإن كان الثالث، فهو: إما أن يكون عبارة عن أفعال القلوب مع جميع أفعال الجوارح من الطاعات، وهو قول المحدثين وجمع من السلف كابن مجاهد وغيره فإنهم قالوا: إن الإيمان تصديق بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان.
وإما أن يكون عبارة عن التصديق مع كلمتي الشهادة، ونسب إلى طائفة منهم أبو حنيفة.
أو يكون عبارة عن التصديق بالقلب مع الاقرار باللسان، وهو مذهب المحقق نصير الدين الطوسي رحمه الله في تجريده، فهذه سبعة مذاهب ذكرت
Shafi 54
في الشرح الجديد للتجريد (1) وغيره.
واعلم أن مفهوم الإيمان على المذهب (2) الأول يكون تخصيصا للمعنى اللغوي وأما على المذاهب (3) الباقية فهو منقول، والتخصيص خير من النقل.
وهنا بحث وهو: إن القائلين بأن الأيمان عبارة عن فعل الطاعات، كقدماء المعتزلة والعلاف (4) والخوارج، لا ريب أنهم يوجبون اعتقاد مسائل الأصول، وحينئذ فما الفرق بينهم وبين القائلين بأنه عبارة عن أفعال القلوب والجوارح؟
ويمكن الجواب بأن اعتقاد المعارف شرط عند الأولين وشطر عند الآخرين المقالة الأولى في بيان حجج هذه المذاهب وما يرد عليها وما يذكر في دفعها (5) اعلم أن المحقق الطوسي رحمه الله ذكر في قواعد العقايد أن أصول الإيمان عند الشيعة ثلاثة: التصديق بوحدانية الله تعالى في ذاته تعالى، والعدل في أفعاله، والتصديق بنبوة الأنبياء عليهم السلام، والتصديق بإمامة الأئمة المعصومين من بعد الأنبياء عليهم السلام.
وقال أهل السنة: إن الإيمان هو التصديق بالله تعالى: وبكون النبي صلى الله عليه وآله صادقا، والتصديق بالأحكام التي يعلم يقينا أنه صلى الله عليه وآله حكم بها دون ما فيه اختلاف
Shafi 55
واشتباه.
والكفر يقابل الإيمان، والذنب يقابل العمل الصالح، وينقسم إلى كبائر وصغائر. ويستحق المؤمن بالاجماع الخلود في الجنة، ويستحق الكافر الخلود في العقاب (1) انتهى.
وذكر في الشرح الجديد للتجريد أن الإيمان في الشرع عند الأشاعرة هو التصديق للرسول فيما علم مجيئه به ضرورة، فتفصيلا فيما علم تفصيلا، وإجمالا فيما علم إجمالا، فهو في الشرع تصديق خاص (2) انتهى.
فهؤلاء اتفقوا على أن حقيقة الإيمان هي التصديق فقط، وإن اختلفوا في المقدار المصدق به، والكلام هاهنا في مقامين:
الأول: في أن التصديق الذي هو الإيمان المراد به اليقين (3) الجازم الثابت، كما يظهر من كلام من حكينا عنه.
الثاني: في أن الأعمال ليست جزءا من حقيقة الإيمان الحقيقي، بل هي جزء من الإيمان الكمالي.
أما الدليل على الأول فآيات بينات:
منها: قوله تعالى " إن الظن لا يغني من الحق شيئا " (4) والإيمان حق للنص والاجماع، فلا يكفي في حصوله وتحققه الظن.
ومنها: " إن يتبعون إلا الظن " (0) " إن هم إلا يظنون " (6) " إن بعض الظن إثم " (7)
Shafi 56
فهذه [الآيات] قد اشتركت في التوبيخ على اتباع الظن، والإيمان لا يوبخ من حصل له بالاجماع، فلا يكون ظنا.
ومنها: قوله " إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا " (1) فنفى عنهم الريب، فيكون الثابت هو اليقين.
إن قلت: هذه الآية الكريمة لا تدل على المدعى بل على خلافه، وهو عدم اعتبار اليقين في الإيمان، وذلك أنها إنما دلت على حصر الإيمان فيما عدا الشك، فيصدق الإيمان على الظن قلت: الظن في معرض الريب، لأن النقيض مجوز فيه ويقوى بأدنى تشكيك، فصاحبه لا يخلو من ريب، حيث أنه دائما يجوز النقيض، على أن الريب قد يطلق على ما هو أعم من الشك، يقال: لا ارتاب في كذا. ويريد أنه منه على يقين، وهذا شائع ذائع.
ومن السنة المطهرة قوله عليه السلام: " يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلبي على دينك " فلو لم يكن ثبات القلب شرطا في الإيمان لما طلبه عليه السلام، والثبات هو الجزم والمطابقة، والظن لا ثبات فيه، إذ يجوز ارتفاعه.
وفيه منع كون الثبات شرطا في تحقيق الإيمان، ويجوز (2) أن يكون عليه السلام طلبه لكونه الفرد الأكمل، وهو لا نزاع فيه.
ومن جملة الدلائل على ذلك أيضا الإجماع، حيث ادعى بعضهم أنه يجب معرفة الله تعالى التي لا يتحقق الإيمان بها إلا بالدليل إجماعا من العلماء كافة، والدليل ما أفاد العلم والظن لا يفيده، وفي صحة دعوى الإجماع بحث، لوقوع الخلاف في جواز التقليد في المعارف الأصولية، كما سنذكره إن شاء الله تعالى.
Shafi 57
واعلم أن جميع ما ذكرناه من الأدلة لا يفيد شئ منه العلم، بأن الجزم والثبات معتبر في التصديق الذي هو الإيمان، إنما يفيد الظن باعتبارهما، لأن الآيات قابلة للتأويل وغيرها كذلك، مع كونها من الآحاد.
ومن الآيات أيضا قوله تعالى " فاعلم أنه لا إله إلا الله " (1).
واعترض على هذا الدليل بأنه أخص من المدعى، فإنه إنما يدل على اعتبار اليقين في بعض المعارف، وهو التوحيد دون غيره، والمدعى اعتبار اليقين في كل ما التصديق به شرط في تحقق الإيمان، كالعدل والنبوة والمعاد وغيرها.
وأجيب بأنه لا قائل بالفرق، فإن كل من اعتبر اليقين اعتبره في الجميع، ومن لم يعتبره لم يعتبره في شئ منها.
واعلم أن ما ذكرناه على ما تقدم واردها هنا أيضا، واعترض أيضا بأن الآية الكريمة خطاب للرسول صلى الله عليه وآله، فهي إنما تدل على وجوب العلم عليه وحده دون غيره.
وأجيب بأن ذلك ليس من خصوصياته صلى الله عليه وآله بالاجماع، وقد دل دليل وجوب التأسي به على وجوب اتباعه، فيجب على باقي المكلفين تحصيل العلم بالعقائد الأصولية.
وأيضا أورد أنه إنما يفيد الوجوب لو ثبت أن الأمر للوجوب، وفيه منع لاحتماله (2) غيره، وكذا يتوقف على كون المراد من العلم هاهنا القطعي، وهو غير معلوم، إذ يحتمل أن يراد به الظن الغالب، وهو يحصل بالتقليد، وبالجملة فهو دليل ظني
Shafi 58
[اعتبار اليقين في المعارف] وحيث انجر البحث إلى ذكر الدلائل على اعتبار اليقين في الإيمان، فلنذكر نبذة مما ذكره علماء الأصول من الأدلة على كون المعرفة واجبة بالدليل، وأن التقليد غير كاف فيها، إذ بذلك يعلم اعتبار الدليل في الإيمان دون التقليد.
اعلم أن العلماء أطبقوا على وجوب معرفة الله تعالى بالنظر، وأنها لا تحصل بالتقليد إلا من شذ منهم، كعبد الله بن الحسن العنبري (1) والحشوية (2) والتعليمية، حيث ذهبوا إلى جواز التقليد في العقائد الأصولية، كوجود الصانع وما يجب له ويمتنع، والنبوة، والعدل وغيرها، بل ذهب إلى وجوبه.
لكن اختلف القائلون بوجوب المعرفة في أنه عقلي أو سمعي، فالإمامية والمعتزلة على الأول، والأشعرية على الثاني، ولا غرض لنا هنا ببيان ذلك، بل ببيان أصل الوجوب المتفق عليه.
من ذلك: إن لله تعالى على عبده نعما ظاهرة وباطنة (3) لا تحصى، يعلم ذلك كل عاقل، ويعلم أنها ليست منه ولا من مخلوق مثله.
ويعلم أيضا أنه إذا لم يعترف بإنعام ذلك المنعم ولم يذعن بكونه هو المنعم لا غيره
Shafi 59
ولم يسع في تحصيل مرضاته ذمه العقلاء، ورأوا سلب تلك النعم عنه حسنا، وحينئذ فيحكم ضرورة العقل بوجوب شكر ذلك المنعم.
ومن المعلوم أن شكره على وجه يليق بكمال ذاته يتوقف على معرفته، وهي لا تحصل بالظنيات كالتقليد وغيره، لاحتمال كذب المخبر وخطأ الأمارة، فلا بد من النظر المفيد للعلم.
وهذا الدليل إنما يستقيم على قاعدة الحسن والقبح، والأشاعرة ينكرون ذلك، لكنه كما يدل على وجوب المعرفة بالدليل، يدل أيضا على كون الوجوب عقليا.
واعترض أيضا بأنه مبني على وجوب ما لا يتم الواجب المطلق إلا به، وفيه أيضا منوع للأشاعرة.
ومن ذلك أن الأمة اجتمعت على وجوب المعرفة، والتقليد وما في حكمه لا يوجب العلم، إذ لو أوجبه لزم اجتماع الضدين في مثل تقليد من يعتقد حدوث العالم ويعتقد قدمه.
وقد اعترض على هذا بمنع الإجماع، كيف؟ والمخالف معروف، بل عورض بوقوع الإجماع على خلافه، وذلك لتقرير النبي صلى الله عليه وآله وأصحابه العوام على إيمانهم وهم الأكثرون في كل عصر، مع عدم الاستفسار عن الدلائل الدالة على الصانع وصفاته، مع أنهم كانوا لا يعلمونها، وإنما كانوا مقرين باللسان ومقلدين في المعارف ولو كانت المعرفة واجبة لما جاز تقريرهم على ذلك مع الحكم بإيمانهم.
وأجيب عن هذا: بأنهم كانوا يعلمون الأدلة إجمالا، كدليل الأعرابي حيث قال: البعرة تدل على البعير، وأثر الأقدام على المسير، أفسماء (1) ذات أبراج وأرض ذات فجاج لا تدلان على اللطيف الخبير، فلذا أقروا ولم يسألوا عن اعتقاداتهم، أو أنهم كان يقبل منهم ذلك للتمرين، ثم يبين لهم ما يجب عليهم من
Shafi 60
- المعارف بعد حين.
ومن ذلك: الإجماع أنه لا يجوز تقليد غير المحق، وإنما يعلم المحق من غيره بالنظر في أن ما يقوله حق أم لا، وحينئذ فلا يجوز له التقليد إلا بعد النظر والاستدلال، وإذا صار مستدلا امتنع كونه مقلدا، فامتنع التقليد في المعارف الإلهية.
ونقض ذلك بلزوم مثله في الشرعيات، فإنه لا يجوز تقليد المفتي إلا إذا كانت فتياه عن دليل شرعي، فإن اكتفى في الاطلاع على ذلك بالظن وإن كان مخطئا في نفس الأمر لحط ذلك عنه فليجز مثله في مسائل الأصول.
وأجيب بالفرق، بأن الخطأ في مسائل الأصول يقتضي الكفر بخلافه في الفروع، فساغ في الثانية ما لم يسغ في الأولى.
احتج من أوجب التقليد في مسائل الأصول بأن العلم بأن الله غير ممكن، لأن المكلف به إن لم يكن عالما به تعالى امتنع (1) أن يكون عالما بأمره، وحال امتناع كونه عالما بأمره يمتنع كونه مأمورا من قبله، وإلا لزم تكليف ما لا يطاق (2) وإن كان عالما به استحال أيضا أمره بالعلم به، لاستحالة تحصيل الحاصل.
والجواب عن ذلك على قواعد الإمامية والمعتزلة ظاهر، فإن وجوب النظر والمعرفة عندهم عقلي لا سمعي. نعم يلزم ذلك على قواعد الأشاعرة، إذ الوجوب عندهم سمعي.
أقول: ويجاب أيضا معارضة، بأن هذا الدليل كما يدل على امتناع العلم بالمعارف الأصولية، يدل على امتناع التقليد فيها أيضا، فينسد باب المعرفة بالله تعالى، وكل من يرجع إليه في التقليد لا بد وأن يكون عالما بالمسائل الأصولية
Shafi 61
ليصح تقليده.
ثم يجري الدليل فيه، فيقال: علم هذا الشخص بالله تعالى غير ممكن، لأنه حين كلف به إن لم يكن عالما به تعالى استحال أن يكون عالما بأمره بالمقدمات (1) وكل ما أجابوا به فهو جوابنا، ولا مخلص لهم إلا أن يعترفوا بأن وجوب المعرفة عقلي، فيبطل ما ادعوه من أن العلم بالله تعالى غير ممكن، أو سمعي فكذلك.
فإن قيل: ربما حصل العلم لبعض الناس بتصفية النفس أو إلهام إلى غير ذلك فيقلده الباقون.
قلنا: هذا أيضا يبطل قولكم إن العلم بالله تعالى غير ممكن، نعم ما ذكروه يصلح أن يكون دليلا على امتناع المعرفة بالسمع، فيكون حجة على الأشاعرة، لا دليلا على وجوب التقليد.
واحتجوا أيضا بأن النهي عن النظر قد ورد في قوله تعالى " ما يجادل في آيات الله إلا الذين كفروا (2) " والنظر يفتح باب الجدال فيحرم.
ولأنه صلى الله عليه وآله رأى الصحابة يتكلمون في مسألة القدر، فنهى عن الكلام فيها وقال: إنما هلك من كان قبلكم بخوضهم في هذا، ولقوله عليه السلام " عليكم بدين العجائز " والمراد ترك النظر، فلو كان واجبا لم يكن منهيا عنه.
وأجيب عن الأول: أن المراد الجدال بالباطل، كما في قوله تعالى " وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق (3) " لا الجدال بالحق، لقوله تعالى " وجادلهم بالتي
Shafi 62
هي أحسن (1) " والأمر بذلك يدل على أن الجدال مطلقا ليس منهيا عنه.
وعن الثاني: بأن نهيهم عن الكلام في مسألة القدر على تقدير تسليمه لا يدل على النهي عن مطلق النظر، بل عنه في مسألة القدر، كيف؟ وقد ورد الإنكار على تارك النظر، في قوله تعالى " أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله (2) " وقد أثنى على فاعله في قوله تعالى " ويتفكرون في خلق السماوات والأرض (3) " على أن نهيهم عن الخوض في القدر لعله لكونه أمرا غيبيا وبحرا عميقا، كما أشار إليه علي عليه السلام بقوله " بحر عميق فلا تلجه (4) ".
بل كان مراد النبي صلى الله عليه وآله التفويض في مثل ذلك إلى الله تعالى، لأن ذلك ليس من الأصول التي يجب اعتقادها، والبحث عنها مفصلة.
وهاهنا جواب آخر عنهما معا، وهو أن النهي في الآية والحديث مع قطع النظر عما ذكرناه إنما يدل على النهي عن الجدال الذي لا يكون إلا عن متعدد، بخلاف النظر فإنه يكون من واحد، فهو نصب الدليل على غير المدعى.
وعن الثالث بالمنع من صحة نسبته إلى النبي صلى الله عليه وآله، فإن بعضهم ذكر أنه من مصنوعات سفيان الثوري، فإنه روي أن عمر بن عبد الله المعتزلي قال: أن بين الكفر والإيمان منزلة بين منزلتين (5)، فقالت عجوز، قال الله تعالى " هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن " (6) فلم يجعل من عبادة إلا الكافر المؤمن،
Shafi 63
فسمع سفيان كلامها، فقال: عليكم بدين العجائز.
على أنه لو سلم فالمراد به التفويض إلى الله تعالى في قضائه وحكمه والانقياد له في أمره ونهيه.
واحتج من جوز التقليد: بأنه لو وجب النظر في المعارف الإلهية لوجد من الصحابة، إذ هم أولى به من غيرهم لم يوجد، وإلا لنقل كما نقل عنهم النظر والمناظرة في المسائل الفقهية، فحيث لم ينقل لم يقع فلم يجب.
وأجيب: بالتزام كونهم أولى به لكنهم نظروا، وإلا لزم نسبتهم إلى الجهل بمعرفة الله تعالى، وكون الواحد منا أفضل منهم، وهو باطل إجماعا، وإذا كانوا عالمين وليس بالضرورة فهو بالنظر والاستدلال.
وأما أنه لم ينقل النظر والمناظرة، فلاتفاقهم على العقائد الحقة، لوضوح الأمر عندهم، حيث كانوا ينقلون عقائدهم عن من لا ينطق عن الهوى، فلم يحتاجوا إلى كثرة البحث والنظر.
بخلاف الأخلاف بعدهم، فإنهم لما كثرت شبه الضالين، واختلفت أنظار طالبي اليقين، لتفاوت أذهانهم في إصابة الحق، احتاجوا إلى النظر والمناظرة، ليدفعوا بذلك شبه المضلين ويقفوا على اليقين.
أما المسائل الفروع، فإنها لما كانت أمورا ظنية، اجتهادية خفية، لكثرة تعارض الأمارات فيها، وقع بينهم الخلاف فيها، والمناظرة والتخطئة لبعضهم من بعض فلذا نقل.
واحتجوا أيضا: بأن النظر مظنة الوقوع في الشبهات والتورط في الضلالات بخلاف التقليد فإنه أبعد عن ذلك، وأقرب إلى السلامة، فيكون أولى، ولأن الأصول أغمض أدلة من الفروع وأخفى، فإذا جاز التقليد في الأسهل جاز في الأصعب بطريق أولى، ولأنهما سواء في التكليف بهما، فإذا جاز في الفروع
Shafi 64
فليجز في الأصول.
وأجيب عن الأول: بأن اعتقاد المعتقد إن كان عن تقليد، لزم إما التسلسل، أو الانتهاء إلى من يعتقد عن نظر، لانتفاء الضرورة، فيلزم ما ذكرتم من المحذور مع زيادة، وهي احتمال كذب المخبر، بخلاف الناظر مع نفسه، فإنه لا يكابر نفسه فيما أدى إليه نظره.
على أنه لو اتفق الانتهاء إلى من اتفق له العلم بغير النظر كتصفية الباطن كما ذهب إليه بعضهم، أو بالإلهام، أو بخلق العلم فيه ضرورة، فهو إنما يكون لأفراد نادرة، لأنه على خلاف العادة، فلا يتيسر لكل أحد الوصول إليه مشافهة بل بالوسائط، فيكثر احتمال الكذب، بخلاف الناظر فإنه لا يكابر نفسه، ولأنه أقرب إلى الوقوع في الصواب.
إن قلت: ما ذكرت من الجواب إنما يدل على كون النظر أولى من التقليد، ولا يدل على عدم جوازه، فجواز التقليد باق (1) لم يندفع، على أن ما ذكرته من احتمال الكذب جار في الفروع، فلو منع من التقليد فيها لمنع في الأصول (2).
قلت: متى سلمت الأولوية وجب العمل بها، وإلا لزم العمل بالمرجوح مع تيسر العمل بالراجح، وهو باطل بالاجماع، لا سيما في الاعتقاديات.
وأما الجواب عن العلاوة، فلأنه لما كان الطريق إلى العمل بالفروع إنما هو النقل ساغ لنا التقليد فيها، ولم يقدح احتمال كذب المخبر، وإلا لا نسد باب العمل فيها (3)، بخلاف الاعتقادات فإن الطريق إليها بالنظر ميسر، فاعتبر قدح الاحتمال في التقليد فيها.
Shafi 65
وأما احتمال الخطأ في النظر، فإنه وإن أمكن إلا أنه نادر جهدا بالقياس إلى الخطأ في النقل، فكان النظر أرجح، وقد بينا أن العمل بالأرجح واجب.
وأجيب عن الثاني: أولا بالمنع من كونها أغمض أدلة، بل الأمر بالعكس لتوقف الشرعيات على العقليات عملا وعلما.
وثانيا بالمنع من الملازمة، فإن كونها أغمض أدلة لا يستلزم جواز التقليد فيها فضلا عن كونه أولى، لأن المطلوب فيها اليقين، بخلاف الشرعيات، فإن المطلوب فيها الظن اتفاقا.
ومن هذا ظهر الجواب عن الثالث.
واحتجوا أيضا: بأن هذه العلوم إنما تحصل بعد الممارسة الكثيرة والبحث الطويل، وأكثر الصحابة لم يمارسوا شيئا منها، فكان اعتقادهم عن تقليد.
وأجيب: بأنهم لمشاهدتهم المعجزات وقوة معارفهم بكثرة البينات من صاحب الوحي عليه السلام لم يحتاجوا في تيقن تلك المعارف إلى بحث (1) كثير في طلب الأدلة عليها.
أقول: ومما يبطل به مذهب القائلين بالتقليد أنه إما أن يفيد العلم أو لا، فإن أفاده لزم اجتماع الضدين فيما لو قلد واحدا في قدم العالم وآخر في حدوثه، وهو ظاهر. وإن لم يفده وجب ترجيح النظر عليه، إذ من المعلوم ضرورة أن النظر الصحيح يفيد العلم، فإذا ترجح النظر عليه وجب اعتباره وترك المرجوح إجماعا.
وأقول: مما يدل على اعتبار اليقين في الإيمان أن الأمة فيه على قولين: قول باعتبار اليقين فيما يتحقق به الإيمان. وقول بالاكتفاء بالتقليد أو ما في حكمه فإذا انتفى الثاني بما ذكرناه من الأدلة ثبت الأول.
وأقول: أيضا مما يصلح شاهدا على ذلك قوله تعالى " قالت الأعراب آمنا
Shafi 66
قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم (1) " فنفى ما زعموه إيمانا، وهو التصديق القولي، بل ما سوى التصديق الجازم، حيث لم يثبت لهم من الإيمان إلا ما دخل القلب.
ولا ريب أن ما دخل القلب يحصل به الاطمئنان، ولا اطمئنان في الظن وشبهه لتجويز النقيض معه، فيكون الثبات والجزم معتبرا في الإيمان.
فإن قلت: قوله تعالى حكاية عن إبراهيم " أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي (2) " يدل على أن الجزم والثبات غير معتبر في الإيمان، وإلا لما أخبر عليه السلام عن نفسه بالإيمان، بقوله " بلى " مع أن قوله " ولكن ليطمئن قلبي " يدل على أنه لم يكن مطمئنا فلم يكن جازما.
قلت: يمكن الجواب بأنه عليه السلام طلب العلم بطريق المشاهدة، ليكون العلم بإحياء الموتى حاصلا له من طريق الأبصار (3) والمشاهدة، ويكون المراد من اطمئنان قلبه عليه السلام استقراره وعدم طلبه لشئ آخر بعد المشاهدة، مع كونه موقنا بإحياء الموتى قبل المشاهدة. أيضا وليس المراد أنه لم يكن متيقنا قبل الإرائة، فلم يكن مطمئنا ليلزم تحقق الإيمان مع الظن فقط.
وأيضا إنما طلب عليه السلام كيفية الإحياء، فخوطب بالاستفهام التقريري على (0) الإيمان بالكيف الذي هو نفس الإحياء، لأن التصديق به مقدم على التصديق بالكيفية فأجاب عليه السلام بلى آمنت بقدرة الله تعالى على الإحياء، لكني أريد الاطلاع
Shafi 67
على كيفية الأحياء، ليطمئن قلبي بمعرفة تلك الكيفية الغريبة، البديعة، ولا ريب أن الجهل بمعرفة تلك الكيفية لا يضر بالإيمان، ولا يتوقف على معرفتها.
وأما سؤال الله سبحانه عن ذلك مع كونه عالما بالسرائر، فهو من قبيل خطاب المحب لحبيبه.
إن قلت: فما الجواب أيضا عن قوله تعالى " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " (1) فإنه يفهم من الآية الكريمة وصف الكافر المشرك بالإيمان حال شركه، إذ الجملة الاسمية حالية، فضلا عن الاكتفاء بالظن وما في حكمه في الإيمان، وهو ينافي اعتبار اليقين.
قلت: لا، فإن الآية الكريمة إنما دلت على (2) إخباره تعالى عنهم بالإيمان بالصانع والتصديق بوجوده، لكنهم لم يوحدوه في حالة تصديقهم به، بل اعتقدوا له شريكا تعالى الله عما يشركون.
وحينئذ فيجوز كونهم جازمين بوجود الصانع تعالى مع كونهم غير موحدين، فإن التوحيد مطلب آخر، فكفر هم كان كذلك (3)، فلم يتحقق لهم الإيمان الشرعي، بل الإيمان جزء (4) منه، وهو غير كاف.
على أنه يجوز أن يكون المراد من الإيمان المنسوب إليهم في الآية الكريمة التصديق اللغوي، وقد بينا سابقا أنه أعم من الشرعي، وليس النزاع فيه بل في الشرعي.
ويكون المعنى والله أعلم: وما يؤمن أكثرهم بلسانه إلا وهو مشرك بقلبه، أي:
Shafi 68