Hanin Ila Kharafa
الحنين إلى الخرافة: فصول في العلم الزائف
Nau'ikan
الحياة سلسلة من المقايضات، فلكل فائدة تحصل ثمة دائما كلفة ما، إذا زدنا من سرعتنا - مثلا - في معظم مهامنا، فنحن نخسر الدقة في الأغلب، وإذا زدنا الدقة فلا بد من أن نبطئ، وإذا توسع عمل تجاري ناجح فثمة احتمال بأن يعاني انحدارا في تلقائية وسهولة الدخول على رئيسه، وهما أمران قد يكونان سببا كبيرا لنجاحه الأول، وقد أنعم على بني الإنسان بذكاء غير مسبوق، غير أن البيولوجيين ينبئوننا أن ولوج الأدمغة الكبيرة المسئولة عن هذا الذكاء عبر قناة الولادة الضيقة يستلزم أن نولد على نحو مبتسر وأن نعاني بالتالي فترة أطول من المعتاد
12
من الرضاعة وقلة الحيلة.
وتظهر المقايضات أيضا في أحكام الحياة اليومية واستدلالاتها؛ فنحن حين نتخذ أحكامنا وقراراتنا نستخدم لذلك قواعد واستراتيجيات غير صورية تبسط لنا المشكلات الصعبة تبسيطا جوهريا وتتيح لنا حلها دون جهد وعناء زائدين. هذه الاستراتيجيات ناجعة في الأغلب الأعم، إلا أن فائدة التبسيط تأتي على حساب الدقة وتورثنا أحيانا أخطاء منهجية.
من ذلك أن لدينا قاعدة تبسيطية تقول لنا: إن العلل تماثل معلولاتها؛ فالمعلولات الكبيرة لا بد أن تكون لها علل كبيرة، وللمعلولات المعقدة علل معقدة، وهكذا ينطوي هذا الافتراض على بعض الحق ويسهل علينا الاستدلال العلي بأن يحصر لنا عدد العلل التي علينا أن نضعها بالاعتبار، ولكن ليست جميع العلل تماثل معلولاتها؛ فالفيروسات الدقيقة قد تسبب أوبئة هائلة. ومن شأن التعويل الزائد على هذا الافتراض أن يدفع الناس إلى إغفال علاقات علية هامة وأن يرتئوا علاقات لا وجود لها. هكذا نرى أن نفس المبدأ الذي يتيح لنا اتخاذ أحكام بسهولة واضحة ونجاح كبير هو أيضا مسئول عن بعض أخطائنا المنهجية.
هذه المقايضة بين المزايا والنقائص تتجلى في أوضح صورة في التأثير الكبير الذي تحدثه توقعاتنا وتصوراتنا واعتقاداتنا المسبقة على تأويلنا للمعلومات الجديدة، فحين يكون الناس بصدد فحص الأدلة المتصلة باعتقاد ما فإنهم يجنحون إلى رؤية ما يتوقعون رؤيته، واستنتاج ما يتوقعون استنتاجه. إن المعلومات التي تتسق مع اعتقاداتنا المسبقة تنال منا القبول بادي الرأي، أما الأدلة المضادة لها فنحن نتناولها بالتمحيص النقدي ونسقطها من حسابنا، وهكذا لا تؤتي المعلومات الجديدة أثرها فينا ولا تفعل فعلها كما ينبغي لها، ولا تؤثر متضمناتها على اعتقادنا كما يجب. (2-1) التحيز الملائم والتحيز غير الملائم
مثل هذا التعامل المتفاوت مع المعلومات الجديدة يصدم أغلب الناس للوهلة الأولى بوصفه غير مبرر وضارا أحيانا، ويستدعي في الذهن صور الأشخاص المتزمتين - على سبيل المثال - الذين لا يعبئون بالخصائص الفردية المميزة لشخص ما بالقياس إلى تنميط معين إثني أو جنوسي أو مهني غير صائب، ويستدعي في الذهن أمثلة من أشخاص أو جماعات تتمسك تمسكا أعمى بدوجما عتيقة الزي. إن الميل إلى تقييم الأدلة بطريقة متحيزة قد تكون له عواقب وخيمة، وهو يقدم السند لكثير جدا من الاعتقادات الخاطئة وغير الدقيقة، على أن مسألة الحياد الذي يجب أن نتحلى به في تقييم المعلومات التي تؤيد أو تفند تصوراتنا المسبقة هي مسألة أدق وأعقد مما يظن معظم الناس.
هي مسألة معقدة لأن من غير الملائم وغير الرشيد أن يمضي المرء في الحياة يروز جميع الوقائع على السواء ويعيد النظر في اعتقاداته من جديد كلما واجهته واقعة مضادة، فالحق أنه إذا كان اعتقاد ما قد لقي تدعيما طوال حياة المرء فمن الوجيه تماما أن يشك في أي ملاحظة أو تقرير يشكك في هذا الاعتقاد، وأن يقبل من فوره أي دليل يؤيد صدقه. لقد كان تشكك العلماء في تقارير الاندماج النووي البارد تشككا وجيها تماما؛ لأنه كان شكا قائما على أساس نظري صلب يحدد ما هو ممكن من الأحداث وما هو غير ممكن. وكل منا له كل الحق في أن ينظر شزرا إلى دعاوى الأطباق الطائرة والطفو في الهواء والعلاجات المعجزية للسرطان. إن الأحداث التي تتحدى المعارف التي تأسست على نطاق عريض ومرت باختبار الزمن ينبغي التعامل معها بحذر، أما الأحداث التي تنسجم مع المعرفة القائمة فيمكن تقبلها بصدر أرحب.
غير أننا يجب أن نفرق بين الارتيابية المشروعة والانغلاق الذهني المقيت، بين تشكك العلماء في الاندماج البارد وتشكك رجال الدين في دعوى جاليليو بدوران الأرض ومركزية الشمس؛ ذلك أن رافضي الاندماج البارد حاولوا تكرار الظاهرة في مختبراتهم الخاصة، أما نقاد جاليليو فرفضوا النظر في البيانات ذات الصلة. كما أن الأساس الذي تقوم عليه اعتقاداتنا المسبقة يضطلع بدور كبير في تبرير الشك في المعارف الجديدة المخالفة؛ فالظواهر التي حظيت بتعزيز كبير ومتواتر وطويل الأمد - مثل تأثير الجاذبية - ينبغي ألا نتخلى عنها ببساطة أو نعدلها لدى أول حفنة من الوقائع المضادة، أما أشكال التنميط العرقي والجنوسي والمهني فهي على النقيض التام من ذلك؛ لأنها ترتكز في الغالب على أدلة هزيلة أو لا وجود لها على الإطلاق، ولنا من ثم أن نسارع بتعديلها أو التخلي عنها.
يبدو أن الإنصاف في تقييم الأدلة مسألة معقدة، وأن التحيز ليس شيئا سيئا على طول المدى؛ فالحق أن قدرا معينا من التحيز هو شيء ضروري للغاية! انظر مثلا هذا العنوان الصحفي:
Shafi da ba'a sani ba