ثمن الكتابة
حنان قليل
كرامة
الطريق
الكوافير سوسو
لن تجديه يا ليلى
ليست عذراء
هيتروفس ... هيتروفس
الشيء الصعب
مجرد صورة
Shafi da ba'a sani ba
الدوسيه الضائع
ومات الحب
سوسن
فراغ
لا شيء
حينما أكون تافهة
قصة من حياة طبيبة
من أجل من؟
ثمن الكتابة
حنان قليل
Shafi da ba'a sani ba
كرامة
الطريق
الكوافير سوسو
لن تجديه يا ليلى
ليست عذراء
هيتروفس ... هيتروفس
الشيء الصعب
مجرد صورة
الدوسيه الضائع
ومات الحب
Shafi da ba'a sani ba
سوسن
فراغ
لا شيء
حينما أكون تافهة
قصة من حياة طبيبة
من أجل من؟
حنان قليل
حنان قليل
تأليف
نوال السعداوي
Shafi da ba'a sani ba
ثمن الكتابة
مقدمة قصيرة
لا أجيد كتابة المقدمات، يمكن أن أكتب قصة من ألف صفحة، ولا أستطيع كتابة مقدمة من نصف صفحة، أما رفيقة عمري فهي شخصية عصية على الفهم، تكتب في النوم كما تكتب وهي صاحية، لا تهتم بدورة الأرض حول نفسها، أو دورتها حول الشمس.
تضحك وتقول: نحن أحرار، ندور كما نشاء؛ حول أنفسنا، أو حول غيرنا، أو لا ندور.
لكن عقلي يدور، رغم مشيئتي، في النوم كما في اليقظة.
أصحو من النوم كل صباح على رنين الجرس، صوتها يأتيني من حيث تكون، في أي مكان فوق كوكب الأرض، هي تعشق السفر منذ كانت طفلة، لا تعود إلى الوطن حتى ترحل، مهما ابتعدت وطال الغياب، أراها أمام باب بيتي، بحقيبتها العتيقة بلون النبيذ الأحمر، حرقتها الشمس وأغرقتها الأمطار في الجنوب والشمال، أصبحت أقل حمرة مما كانت، وإن ظلت حمراء اللون، متينة العجلات قوية العضلات، أقل قوة بمرور الزمن، تجرها من خلفها وهي تجتاز المطارات والمحطات، تنزلق وراءها بخفة فوق الشوارع المرصوفة الناعمة، وتغوص بثقلها في الأزقة حيث الحفر والمطبات، مليئة بالكتب وملابسها وأوراقها، مقبضها متين لا ينخلع، يحمل اسمها، داخل قطعة من البلاستيك الأبيض بحجم كف اليد.
اسمها الثلاثي كان مسجلا في أقسام وزارة الداخلية والشئون الاجتماعية ومصلحة السجون وإدارات الرقابة على النشر والكتابة والمصنفات الفنية.
يحملق ضابط الشرطة بمطار القاهرة في اسمها الثلاثي، يتأمل صورتها في جواز سفرها، يبتسم في وجهها: حمدا لله ع السلامة يا أستاذة. يدق بالمطرقة على جواز سفرها فتدخل. وإن وصلت القائمة السوداء إليه قبل عودتها، يعتذر لها برقة ورثها عن أمه، يناولها كرسيا لتستريح وكوب ماء: آسف يا أستاذة، عندي أوامر لازم أنفذها. وإن كان عضوا بحزب الجهاد أو داعش أو حزب الحكومة، يكشر عن أنيابه مبرطما بصوت غليظ، ويحجزها مع حقيبتها في غرفة الحجر الصحي؛ حيث تلتقي بأنواع مختلفة من البشر، بعضهم مرضى بالجذام وإنفلونزا الخنازير، وبعضهم مصاب بالجنون أو الكفر، منهم الكوافير سوسو، كان شهيرا في الحي الراقي بجاردن سيتي، اكتسب ثقافة نادرة من الحلاقة للنساء والرجال، أصابعه ماهرة تدرك أفكارا مدهشة في الرءوس التي تغوص فيها، يأتي سكان الحي الراقي إلى محله الأنيق بشارع التنهدات، نساء ورجال من المثقفين أو الطبقة العليا، يؤمنون أن الإنسان تطور عبر ملايين السنين من فصيلة الثدييات على رأسها الشمبانزي الأم الكبرى، وأن الأرض كروية تدور حول الشمس وليس العكس، وأن الكون نشأ بالصدفة البحتة حين حدث الانفجار الكبير وانتشرت في الفضاء ذرات، تناثرت وتجمع بعضها لتكوين أول مادة أو أول كتلة مادية في الوجود.
وكان من زبائن الكوافير سوسو، أيضا، البوابون والطباخون في قصور الباشوات القدامى والجدد في جاردن سيتي، منهم الحاج منصور الشهير باسم طباخ الباشا؛ رجل سمين مملوء بالسمن البلدي والطعام الفاخر الذي يبتلعه سرا.
وبينما هو يترك رأسه بين يدي الكوافير سوسو، يحكي الحكايات القديمة عن المماليك والأتراك، كيف عاشوا في الأناضول، ولا بد أن يذكر الأسلاف من أجداده وعلى رأسهم جده الكبير، الذي حكى له وهو صغير أن الله خلق للثور قرنين؛ لأنه يحمل الأرض فوق قرن، وإن تعب من ثقلها حرك رأسه ونقلها إلى قرنه الثاني.
Shafi da ba'a sani ba
ويضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو، أمال الزلازل والبراكين والبرق والرعد بييجوا منين؟ - منين يا حاج منصور؟ - لما الثور يحرك الأرض على راسه من قرن لقرن يحدث البرق والرعد، والزلازل تهز الأرض.
يضحك الكوافير سوسو: مش معقول يا حاج منصور. - لا، معقول يا سوسو. - الكلام ده كان زمان قبل جاليليو. - جاليليو خواجة يهودي نصراني ما يعرفش ربنا. - لازم تعرف حاجة عن جاليليو يا حاج، اسمعني. - سامعك يا خويا. - جاليليو أمه ولدته في إيطاليا بعد العدرا مريم ما ولدت المسيح بألف وخمسميت سنة أو أكتر، وكانت إيطاليا وأوروبا كلها محكومة بالكنيسة وعايشة في الجهل والظلام، درس جاليليو الطب والهندسة والفلك، واكتشف أخطاء العلماء اللي قبله في اليونان، منهم أرسطو. - أرسطو كان مؤمن بربنا يا سوسو؟ - أرسطو كان مؤمن بالكنيسة يا حاج منصور وبينشر أفكارها في كتبه، واعتبرته الكنيسة الفيلسوف الأعظم وأغدقت عليه الأموال والمناصب، لكن جاليليو عمل منظار جديد واكتشف خطأ أرسطو، وإن الأرض بتدور حول نفسها وحول الشمس، غضبت منه الكنيسة واتهمته بالكفر والإلحاد والخيانة؛ لأنه بيعارض الكتاب المقدس وتعاليم الكنيسة ونظرية أرسطو عن إن الأرض ثابتة لا تتزعزع ولا تتحرك أبد الدهر، قدموا جاليليو للمحاكمة وأدانوه، ومات فقير مسكين معزول في بيته. - مين قال لك الكلام ده؟ - الباشا اللي باحلق له شنبه ودقنه. - الباشا بنفسه يا سوسو؟ - أيوة يا حاج منصور. - لازم كلامه صح مية المية، لكن أنا مش حاسس إن الأرض بتدور يا سوسو! - لأنها بتدور بسرعة كبيرة يا حاج، وانت جزء منها وبتدور معاها. - مش معقول يا سوسو. - مثلا وانت راكب جوة القطر يا حاج، لا يمكن تحس إنه بيجري بسرعة. - لكن القطر غير الأرض يا سوسو، ولا إيه؟ - إيه يا حاج!
وينفجر الكوافير والحاج منصور في الضحك.
تخرج هي، رفيقة العمر، تجر حقيبتها الحمراء ذات العجلات، من غرفة الحجر الصحي بالمطار بعد عدة ساعات، أو عدة أيام حسب مزاج الحكومة والمخابرات، ثوبها مكرمش وشعرها منكوش، نامت على الكرسي وإلى جوارها الحقيبة، تلمسها بيدها إن أفاقت في الظلمة فجأة، تخشى أن يسرقها أحد وهي غارقة في النوم، أو غائبة عن الوعي من شدة التعب، وفي أحد الصباحات، دون سابق إنذار، يأتي الضابط مبتسما، ويقول: مبروك يا أستاذة، صدر العفو الرئاسي عن بعض المعتقلين والمعتقلات بمناسبة العيد. - أي عيد؟
الأضحى الكبير ، أو العبور العظيم، أو شم النسيم في بداية الربيع، يصحو الناس في الصباح الباكر ليشموا البصل والرنجة والفسيخ، يتمشون على شاطئ النيل، الأغنياء منهم يشمون النسيم في المنتجعات الجديدة على شاطئ البحر الأبيض بالساحل الشمالي، أو في الغردقة وسواحل البحر الأحمر.
لكن يظل الفسيخ اللذيذ من نبروه، مع أصناف الطعام الفاخر ومعه البصل الأخضر والملانة والرنجة من ضرورات العيد، لإعادة الذاكرة الطفولية والخصوصية الثقافية وتاريخ الأجداد.
كنت أحب الفسيخ وهي لا تطيق رائحته، لا تزورني أبدا في المواسم، لا تحتفل بالأعياد، وعيد ميلادها لا تذكره، إن ذكرتها به تمط شفتها السفلى وتنهمك في الكتابة. - كم عمرك؟ - مش فاكرة. - مش معقولة انتي. - انتي اللي مش معقولة. - ازاي؟ - إيه يهمك من عمري؟ - عاوزة أعرف انتي عشتي كام سنة. - ليه؟ - مش عارفة. (انتهت المقدمة)
1
نوال السعداوي
القاهرة
Shafi da ba'a sani ba
22 مارس 2017
حنان قليل
كانت تجلس القرفصاء على بلاط الحمام البارد، وجسمها الضئيل الضامر ينتفض من البرد، وأسنانها تصطك ...
وأخذت تتلفت حولها في الحمام الواسع مذهولة! أهذا هو الحمام؟! لم تكن تتصور أنه يمكن أن يكون في العالم حمام بهذا الشكل؛ فإن الحمام الوحيد الذي رأته في حياتها هو حمام العمدة، وقد دخلته مرة واحدة صدفة، حينما كانت تلعب «المساكة» مع ابنة العمدة، وابنة شيخ الغفر، ودخلت لتختفي في حجرة في آخر الدوار، قالت عنها ابنة العمدة إنها الحمام، ورأت فيه طشتا كبيرا وزيرا، وفنطاسا ضخما في نهايته صنبور صغير، ولم تكن قد رأت صنبورا قط في حياتها، أو حماما، وكان كل ما رأته في دار أبيها طشتا وكوزا من الصفيح، تنقلهما أمها من قاعة إلى قاعة، كلما رغب فرد من أفراد البيت في الاستحمام، وكانت ترى أمها تضع في هذا الطشت نفسه الدقيق لتنخله، وفي موسم الحصاد ترى الطشت مملوءا بالشعير، وفي موسم «الذرة» مملوءا «بالذرة».
وتلفتت حولها في دهشة، ومسحت بطرف جلبابها عينيها الملتهبتين وأنفها، وأخذت تتأمل ذلك الشيء الأبيض اللامع، الذي يشبه الحوض الواسع، والذي لو ملئ بالماء لغرقت فيه، وتلك الصنابير الفضية الكبيرة التي تعلوه.
ورأت حوضا آخر صغيرا معلقا في الحائط، تعلوه أيضا صنابير كبيرة براقة، ورأت شيئا عجيبا أبيض، يشبه الكرسي وليس بكرسي، وشيئا آخر يشبه سلطانية الشوربة، ولكنه كبير الحجم جدا، يتسع لسلق جدي أو خروف.
وكفكفت دمعها وأخذت تتحسس بيديها السمراوين الخشنتين، أرض الحمام الملساء الناعمة، في مثل نعومة الصحن المصنوع من الخزف. - بت يا بهية ... يا بهية!
جاءها صوت رفيع حاد من خلال باب الحمام المغلق، فانتفضت لسماع اسمها، ووقفت مذعورة حائرة ... ماذا تفعل؟
أصبح الصوت الرفيع أكثر حدة، فارتجفت بهية وهي تمسك بأكرة الباب البراقة، تحاول أن تلويها لتفتح الباب، ولكن الأكرة أبت أن تتحرك فألصقت فمها بالباب، وقالت بأعلى صوتها، كما كانت تنادي على أمها في الحقل: ده أنا جوة في اللي اسمه إيه الحمام، مش عارفة أطلع.
ووقفت بهية مشدوهة حينما رأت أكرة الباب تتحرك وحدها ثم ينفتح الباب، ورأت أمامها امرأة بضة نظيفة، ثم رأت يد المرأة ترتفع إلى أعلى، ثم تهوي على وجهها النحيل في لطمة قوية! - انتي قاعدة جوة الحمام بتعملي إيه؟ مين قالك تدخلي هنا؟ - معلهش يا ستي، والنبي يا ستي، ربنا يخليكي يا ستي، مش انا والنبي، ده الراجل عبده اللي عندكم قال لي اقعدي هنا لغاية ما ستك تنادي عليكي.
Shafi da ba'a sani ba
وفهمت بهية منذ ذلك اليوم ما يجب في هذا البيت وما لا يجب، وما عليها أن تعمله وما لا تعمله، ما هو محلل وما هو محرم، وكان يعمل معها في البيت نفسه طباخ اسمه عبده، يبيت في حجرته فوق السطح، وفتاة أخرى كبيرة تبيت معها على دكة خشبية في أحد أركان المطبخ، وأنست بهية إلى خديجة، حتى راحت تروي لها كيف قتل والدها، وهما تتسليان بالحديث قبيل النوم، ولكن خديجة نفرت من الحديث؛ خشية أن يطلع لها عفريت القتيل، وفضلت أن تنام، وسرعان ما كان شخيرها يملأ المطبخ.
وظلت عينا بهية مفتوحتين لا يغلبهما النعاس، وراحت تفكر في أمها، وفي أختها الرضيعة زينب، وهمست لنفسها «يا ترى يا امه بتعملي إيه دي الوقت؟»
وعادت إليها صورة أبيها قبل مقتله بدقائق، وهو يمسك بيدها في السوق، ويضرب بعصاه الأرض في قوة وبأس.
ووقفت عند هذه الصورة لا تجرؤ على الاسترسال في ذكرياتها؛ فلقد بدأت تشعر بالخوف لو أنها استعادت صورة مقتله، وتكورت بجانب خديجة والتصقت بها؛ تريد أن تلتمس من دفئها بعض الطمأنينة والأمن، وأغمضت عينيها لتنام، لكن صورة أمها بثيابها السوداء المتربة وقامتها النحيلة وبشرتها الصفراء تجلس على عتبة الدار وفي حجرها أختها زينب، تمتص اللبن من ثديها الهزيل الضامر، ورأت نفسها تجلس إلى جوارها تنبش في التراب، وهي تحس آلام الجوع؛ إذ مضت أيام كثيرة لم تصب فيها إلا بعض كسرات من الخبز المقدد، وقطعة خيار مخللة عثرت عليها في قاع «الزلعة».
وانتبهت على رجل، أفندي يقف أمام أمها، ومعه نفوسة تاجرة الفراخ، ولم تفهم كل الكلام الذي كانوا يقولونه، ولكنها التقطت كلمة «بهية» من بين كلامهم، فأرهفت السمع لترى ماذا يمكن أن يكون لها من شأن في هذا الحديث الجاد مع هذا الأفندي النظيف.
وسمعت الأفندي يقول: هي سنها كام؟
فأجابت أمها: عشر سنين والنبي.
فقال الرجل: ياه! دي لسة صغيرة قوي!
فأجابت نفوسة: صغيرة إيه يا سي محمد! دي لهلوبة في الشغل تمسح وتغسل، وتحمل المحروسة الصغيرة، دي بكرة تعجبك وتبقى عال قوي، قومي يا بت يا بهية، قومي بوسي إيد سيدك.
وقامت بهية، إنها لا تستطيع إلا أن تطيع بعد أن رأت أمها تنكس رأسها دلالة على الموافقة.
Shafi da ba'a sani ba
وأخذها الأفندي معه، وقبل أن تمضي معه استدارت إلى أمها الجالسة على عتبة الدار، وفي حجرها أختها زينب قائلة: اقعدي بالعافية يا امه، خلي بالك من زينب.
وسمعت أمها تقول: الله يعافيكي يا بهية، خلي بالك من نفسك.
ورأتها تمسح عينيها وأنفها بكمها، فاستدارت مسرعة، وسارت في أثر الأفندي، وقلبها ينوء بثقل كبير. •••
وفتحت بهية عينيها في الصباح الباكر على صوت رفيع حاد يقول: بت يا بهية، إنتي لسة ما صحيتيش؟
فانتفضت بهية في فزع، وفتحت عينيها ، وحينما رأت المطبخ الواسع، وموقد الغاز، والثلاجة الكبيرة عرفت أنها في مصر، في بيت سيدها محمد أفندي الشهدي، وليس في دارها بقرية كفر خناش، وردت: حاضر يا ستي، أنا صاحية.
وانطلقت بهية إلى سيدتها، فوجدتها مضطجعة على سريرها الوثير، تحتضن طفلتها، وترضعها من ثدي بض سمين. - إنتي يا بت لسة نايمة؟ - لا يا ستي أنا صاحية من الصبح. - خدي اللفف دي اغسليها في الحمام، وانشريها في البلكونة، وبعدين تعالي بسرعة علشان تحملي نوسة. - حاضر يا ستي.
وفي لمح البصر طارت بهية لتفعل ما أمرتها به سيدتها، ثم حملت الطفلة الصغيرة على ذراعيها، ووقفت تهدهدها. - بس يا ستي نوسة بس، بس يا ستي نوسة بس، بس ...
وكفت الطفلة عن البكاء، وأخذت بهية تتأمل وجهها وعينيها وشفتيها، فرأت أنها تشبه أختها زينب شبها غريبا، وخيل لها أنها هي، فاحتضنتها بحنان وقوة إلى صدرها، وقبلتها.
ولم تكد ترفع وجهها عن الطفلة، حتى انتفضت على الصوت الرفيع الحاد يقول غاضبا: إنتي بتبوسيها يا بت يا بهية؟ عمى في عينك، إياك تاني مرة تبوسيها، وللا تقربي وشك من وشها كدة ... فاهمة؟
وقبل أن تنطق بهية بحرف أحست بيد تهوي على وجهها في صفعة قوية. - حاضر يا ستي، معلهش يا ستي، والنبي يا ستي حرمت.
Shafi da ba'a sani ba
وابتعدت اليد عنها فهدأت دقات قلبها، وانتظمت أنفاسها، وحملت الطفلة بين ذراعيها، وهي تحاول أن تبعد وجهها عنها بقدر ما تستطيع.
وتأملت وجه الطفلة مرة أخرى، فلم تر فيها أي شبه بينها وبين أختها زينب، ورأت في عيني الطفلة استعلاء وقسوة يشبهان الاستعلاء والقسوة في عيني أمها، وشعرت أنها تكره هذه الطفلة وتحقد عليها.
أهكذا يكون جزاؤها؟ إنها لم تفعل شيئا، لم تخطئ، لم تكسر كوبا أو طبقا، لقد قبلت الطفلة فحسب، وقبلتها لأنها تحبها وتحنو عليها، أهكذا يكون جزاء الحب والحنان؟
وأشاحت بوجهها بعيدا عن الطفلة، وأخذت تهدهدها بآلية ليست فيها عاطفة، وتذكرت أختها زينب، ترى من يهدهدها؟ كثيرا ما كانت تسمع بكاءها وهي نائمة على الأرض في صحن الدار ، وقد تعرى ردفاها، وغشي التراب أنفها وفمها، فتجري إليها، وتمسح وجهها، وتهدهدها وتقبلها، وترعاها حتى تعود أمها من الحقل.
ترى من يجري إليها الآن؟ ترى من يمسح لها التراب من فوق أنفها وفمها؟
ونظرت بهية إلى وجه الطفلة التي تحملها، وجه ناعم نظيف بلا تراب، وهي تهدهدها، وتلاعبها كلما همت بالبكاء، أليست أختها زينب مثل هذه الطفلة؟ ألا تستحق أختها هذا الحنان؟
ويصفعونها بعد كل ذلك لأن في قلبها حنانا!
وأحست بهية، طفلة العاشرة، بثورة عارمة تضطرم في أعماقها، ولم تشعر إلا وهي تضع الطفلة على السرير، وقد غمرها شعور بأنها لا تريد أن تحملها بين ذراعيها، ووقفت بجوار الطفلة كالتمثال تنظر إليها في كراهية!
وبكت الطفلة تريد أن تحمل.
وكانت أمها في الحمام، فنادت على بهية بأعلى صوتها: نوسة بتعيط ليه يا بت يا بهية؟
Shafi da ba'a sani ba
ولم ترد بهية، واقتربت من الطفلة، وأخذت تربت عليها لتكف عن البكاء، لكن الطفلة التي كانت قد تعودت أن تحمل ظلت تبكي وتصرخ، وجاءها الصوت الرفيع الحاد الغاضب: نوسة بتعيط ليه يا بت؟
واغتاظت بهية ... ممن؟ لم تكن تدري، أمن الأم القاسية، التي تناديها غاضبة، أم من الطفلة المدللة التي تريد أن تحمل؟ ولم تعرف تماما ماذا فعلت، لكنها رفعت يدها في الهواء وهوت بها على وجه الطفلة في لطمة قوية، ثم جرت إلى باب الشقة وفتحته، وانطلقت في الشارع تعدو.
ولم تهدأ بهية إلا بعد أن ابتعدت عن بيت سيدها كثيرا.
ورأت رجلا تبدو على ملامحه الطيبة، فسألته عن «الكافوري» الذي يمكن أن يوصلها إلى قرية كفر خناش، وكان الرجل طيبا فدلها على الطريق، وأعطاها بعض القروش.
وجلست بهية على أرض «الكافوري»؛ فقد أبى الكمساري أن يمنحها كرسيا لتجلس عليه؛ لأن القروش التي كانت معها لم تكف لتصرف بها نصف تذكرة، وتبرع لها الكمساري بحيز صغير من أرض العربة حتى تصل إلى قريتها.
ووقفت العربة في «كفر خناش».
وانتفضت بهية واقفة على قدميها، وقفزت من العربة، ووضعت ذيل جلبابها بين أسنانها، وأطلقت ساقيها للريح.
ووجدت باب الدار مفتوحا كعادته دائما، فاندفعت داخلة متلهفة، وقبل أن تصل إلى صحن الدار، سمعت صوت أختها زينب تبكي بحرقة، فجرت إليها، ورأتها كما كانت تراها دائما عارية الردفين، والتراب يغشى أنفها وشفتيها. - يا حبيبتي يا زينب!
وأخذتها بين ذراعيها، وراحت تغمر وجهها بالقبلات، وتنهدت بهية في سعادة؛ إنها تستطيع أن تحب زينب كما تريد، وتحنو عليها كما تريد، وتقبلها كما تريد، لن ينهرها أحد ولن تتلقى عن ذلك صفعات أو شتائم.
وضمت بهية أختها إلى صدرها أكثر وأكثر، وحينما رأت أمها تدخل من باب الدار قالت لها: ماهانتش علي زينب يا امه، قلت اجي اشيلها.
Shafi da ba'a sani ba
وأجابت أمها والدموع في عينيها: بركة يا بنتي اللي جيتي.
كرامة
كان عقلي مشلولا لا يريد أن يفكر، بل لا يستطيع أن يفكر حتى لو أراد ... وكانت نفسيتي منهارة مهلهلة، فتاتها هنا وهناك في ثنايا أعماقي الحالكة، فلا أهتدي إلى شيء منها.
ولم أكن أحس شيئا إلا قدمي المنهوكتين، وهما تنتقلان بلا وعي في خطوات ممزقة ضالة، وبعد أن همت في طرقات عديدة لا أكاد أتبينها، وجدتني فجأة أمام بابه؛ باب مكتبه، وقرأت اسمه على الرقعة النحاسية الصفراء فارتجفت، وهممت أن أستدير، وأعود من حيث أتيت، فلم أستطع، وقفت أحملق كالمعتوهة في حروف اسمه: «ضياء الدين توفيق» آه! إنه اسمه، إنه هو! إنه مكتبه! باب مكتبه نفسه الذي شهد خروجنا ودخولنا كل يوم لمدة خمس سنوات كاملة. وكثيرا ما كنا نقف أمام هذا الباب في الظلام، ويأخذني بين ذراعيه ويقبلني، وتتراءى لي الرقعة النحاسية وعليها اسمه، وكأنها تهتز من فرط السعادة والنشوة، وتتراقص حروف اسمه وتضيء بنور جميل، فأهمس له قائلة: ضياء ... أحبك! خمس سنوات كاملة، بأيامها ولياليها، أحببته، وعشت لحظات عمري معه سواء كنا معا أو فصلت بيننا آلاف الأميال، حينما كان يسافر، وكثيرا ما كان يسافر في بعثاته الصحفية.
ثم ... آه ... لعلني أنسى!
كان اليوم منذ سنتين، صباح اليوم الذي كنت أستلقي فيه على فراشي، وأتثاءب، وأستعيد في سعادة كلماته الرقيقة لي، وأتحسس موضع شفتيه الملتهبتين على وجهي، وأخذت أقلب صفحات جريدة الصباح في تكاسل لذيذ.
وفجأة خارت قواي، وتوقف قلبي عن ضرباته، وأخذت أذناي تصفران صفيرا عاليا جعلني صماء، واهتزت الكلمات السوداء المطبوعة أمام عيني، لكني استطعت أن أقرأها مرة ومرتين وثلاثا، وأنا لا أحس بنفسي، وكأنني في حلم.
وقرأت للمرة العشرين خبر زواجه وأنا لا أصدق، وظننته رجلا آخر يحمل اسمه، وجريت كالملسوعة إلى التليفون، وقالت لي شقيقته في سخرية لا تخلو من مزيج من الشفقة والتشفي: أيوة ... ضياء ... إنه في بيته يا «شوقية»، لقد تزوج، ألم تعرفي ذلك؟
وكانت بي بقية حياة، فاستطعت أن أرد عليها قائلة: أشكرك.
ولكن ما بالي أقف بعد سنتين من البعد عنه كالمعتوهة أمام باب مكتبه، لا أستطيع الدخول، ولا أستطيع العودة؟ آه ... ليت قلبي يتوقف الآن تماما، فأموت وأقع جثة هامدة هنا، حتى يتعثر بجثتي وهو خارج فيراني، ويرى ماذا فعل بي!
Shafi da ba'a sani ba
ووقفت أمام اللوحة النحاسية التي تحمل اسمه أفكر، ولا أفكر، وقلت لنفسي في جرأة الضعيف، الذي يريد أن يمنح نفسه بعض الشجاعة: فلأدخل ... ماذا سيحدث؟ هل ستنطبق السماء على الأرض؟! لن يحدث شيء، سوف يقابلني بفتور غاية ما في الأمر، أو سوف يقابلني بحرارة أكثر ما في الأمر، ولن يكون هناك فارق كبير عندي بين هذا وذاك؛ فلقد انتهى ضياء من حياتي، وخرج من نطاق آمالي وأحلامي.
لكني أريد أن أراه، أريد أن أنظر في عينيه، وليكن ما يكون؛ فهو الوحيد الذي أحبه، وهو الوحيد الذي يفهمني، وتذكرت كرامتي التي منعتني من لقائه طوال هاتين السنتين.
ولكن اليوم، بل هذه اللحظة، لا أستطيع أن أراه، ولا أرى دخلا للكرامة في ذلك؛ فأنا لا أريد أن أتزوجه، فهو رجل متزوج، وإن لم يكن متزوجا فلست أفكر في الزواج منه.
أنا لا أريد سوى أن أراه وأحادثه، ودفعت الباب برفق، واخترقت الدهليز الطويل الذي يقود إلى حجرته، ورأيت باب حجرته مغلقا فانتابني اليأس، لكن الأمل دفعني إلى أن أدفع بابه فانفتح ، وخفق قلبي بشدة كأنني مقدمة على عمل جلل، وليست مجرد زيارة قصيرة لدقائق.
ورأيته جالسا إلى مكتبه فاشتدت خفقات قلبي، ورفع رأسه من فوق الأوراق المتراكمة على مكتبه، ورآني، وظل برهة قصيرة محدقا في وأنا واقفة على عتبة الباب لا أستطيع أن أدخل ولا أن أخرج، كأنما شلت قدماي، ثم أفاق لنفسه، وسمعته يقول وهو يقف ويقبل نحوي باسما: أهلا شوقية، اتفضلي.
وتحركت نحوه في بطء، وأنا لا أدري تماما بكياني، واقتربنا من منتصف الحجرة، ولم يكن يفصلني عنه إلا خطوة واحدة، ورأيته يمد يده إلي، ورفعت يدي لأصافحه فأحسست بها ثقيلة كأنها نصف مشلولة، واستقرت يدي في يده برهة قصيرة، أحسست فيها بكل عواطفي القديمة تتقد فجأة، ولم أستطع ... وجدتني من حيث لا أدري بين ذراعيه وفي أحضانه، رأسي على صدره العريض، وشفتاه الدافئتان تلثمان كل جزء من وجهي وشعري ... ودموعي تبلل وجهي!
وأفقت لنفسي بعد لحظة ... آه ... ما هذا الذي فعلت؟ وسحبت نفسي منه شيئا فشيئا، وابتعدت عنه، وجلست على كرسي رأيته أمامي، وجلس هو إلى جواري، وقلت بعد فترة صمت في صوت ضعيف ممزق: ضياء، أنا آسفة لأنني أتيت إليك اليوم، لكني تلقيت صدمة ثانية من «رءوف»، و...
وقاطعني قائلا: رءوف؟ من هو رءوف؟ - رجل مثل كل الرجال، عرفته صدفة بعد أيام من قراءتي لخبر زواجك، وكنت يائسة مغضبة مصدومة، وكان رقيقا مهذبا لطيفا، ورحبت بصداقته ثم حبه، الحق أني لم أحبه يا ضياء، لكني كنت في حاجة إلى أحد، رجل أو امرأة؛ ليسري عني، ليحدثني، ليملأ الفراغ الذي خلفه فراقك في حياتي.
وكان رءوف رقيقا حنونا، وكنت في حاجة إلى الرقة والحنان، وأحبني، أو هكذا قال، ولم أنفذ إلى أعماقه لأعرف هل هو صادق أم كاذب، ماذا كان يهمني من أعماقه؟ فليكن ما يكون، كاذبا أو صادقا، فأنا لا أريد منه إلا أن يظهر لي الحب، أن يعاملني برفق، أن يحنو علي ساعة لقائي به وكفى، لا أريد أكثر من ذلك شيئا.
لقد علمتني صدمتي فيك أن أقنع باليسير، أن أكتفي بالظاهر ولا أنبش في الأعماق، بل أهرب منها حتى لا تصدمني حقيقة أخرى، وقلت لنفسي فلأحاول أن أعيش في سعادة كاذبة على أن أعيش في واقع صادق مؤلم.
Shafi da ba'a sani ba
ولكن لم أستطع يا ضياء، لم أستطع أن أغير نفسي طويلا، سرعان ما أفقت لنفسي، أو أفاق هو لنفسه، ولعله كان أيضا هاربا مثلي من صدمة، ويكتفي مني بظاهري ولا يبحث عن أعماقي، أو لعله كان يريد أن ينسى بي حبا قديما كما كنت أفعل، ومثل هذه الأشياء لا تدوم طويلا يا ضياء.
وكان ضياء يجلس إلى جواري، يستمع إلي وفي عينيه ألم بليغ، وأحسست بسعادة خفية حينما لمحت الألم في عينيه، لم أدر لماذا؟ لكني شعرت أنه كان يحس، وأنا أتكلم، أنه المسئول عما حدث وأنه سبب شقائي.
ضياء يتألم! ومن أجلي!
هذا هو ضياء كما عرفته، وكما أحببته، وهذه هي نظرة الألم في عينيه من أجلي لم تتغير ولم تتبدل، كأنه لم يصدمني أبدا، كأنه لم يهجرني أبدا، كأنه لم يتزوج امرأة غيري!
ولم أعاتبه، بل لم أفكر في أن أعاتبه، رغم أنني كنت أنوي ذلك في أول لقاء لي بعد زواجه، لكني نسيت أنه خان عهدي، أحسست من نظرة الألم في عينيه أنه إنسان صادق، أنه لا يستطيع أن يخدع أحدا، لا شك أنه أجبر على الزواج إجبارا، ولعل وراء ذلك سببا لا أعرفه!
وعاد إلي حبي القديم له دفعة واحدة، ورآه في عيني، فهو يفهم نظراتي، وقلت له: ضياء، إنك رجل فاضل، أفضل رجل عرفته، إنك إنسان نبيل، أنبل إنسان عرفته!
كيف قلت له ذلك؟ لم أدر!
أفضل رجل! أنبل رجل! كيف؟ هو الذي لفظني كالنواة، وتزوج امرأة غيري دون أن يطلعني على الخبر!
لم أعرف كيف قلت له ذلك، لكني أحسست في عينيه الصدق، والفضيلة، والنبل، وأحسست في لمسات يديه العاطفة الحقيقية، التي لا تعرف الزيف أو الكذب!
ومضى وقت الزيارة سريعا، ولم أشعر إلا وأنا أقف وأقول له: طيب يا ضياء ، أشكرك على حسن استقبالك لي، وأرجو لك حياة سعيدة.
Shafi da ba'a sani ba
ومددت له يدي لأنصرف، وظل ممسكا بها بعض الوقت، ثم قبلها أصبعا أصبعا، كما تعود أن يفعل طوال سني حبنا، وقال لي: شوقية، هل سأراك مرة ثانية؟ - طبعا. - متى؟ - قريبا جدا.
وهممت بأن أخطو نحو الباب، لكني تذكرت شيئا فجأة فقلت له: على فكرة، ما رأيك في الزواج بعد أن تزوجت؟ هل أنت راض عنه؟
ولم يرد بسرعة، ولم يبتسم كعادته، أخذ يفكر برهة قبل أن يجيب، وأحسست من تردده أنه يحاول أن يغير شيئا مما كان يريد أن يقوله، وأشفقت عليه من أن يقول ما يريد، وأشفقت على نفسي من سماع ما سيقوله، فقلت له بسرعة: لا تفكر كثيرا يا ضياء، فأنا لا أريد أن أسمع الرد أيا كان، سأحاول أن أراك مرة أخرى.
وخرجت مسرعة، خرجت أعدو كأنما ورائي شبح يطاردني، وواصلت عدوي حتى وصلت إلى بيتي، وجريت إلى حجرتي ألهث وأغلقتها على نفسي. آه ... ما هذا الذي فعلت؟
وتقلبت في فراشي، ثورة عارمة تجتاح نفسي، ليست ثورة على ضياء، وليست ثورة على رءوف، وليست ثورة على أحد، وإنما ثورة على نفسي، وسمعت كلمة تتردد في أعماقي: كرامة!
كرامة! تلك الكلمة التي ترن فجأة في أعماقي، وتحاسبني بلا رحمة ولا شفقة ... ضياء؟ مرة أخرى ضياء؟ تذهبين إليه! الرجل الذي خان عهدك؟! الرجل الذي أحبك خمس سنوات، ثم تزوج امرأة أخرى في يوم وليلة؟ ثم تتهاوين بين ذراعيه، وتذرفين الدموع بين يديه، وتقولين له أحبك، وتتركين له شفتيك مرة أخرى؟!
ثم تعترفين له بما كان بينك وبين رءوف؟
ما هذا الذي فعلت؟
وأحسست بضغط شديد في رأسي، كأنما يوشك أن ينفجر، وتقلبت في الفراش أبحث عن شيء من الراحة، ووضعت الوسادة على رأسي، وضغطت عليها بكل قوتي؛ لأوقف هذا السيل المتدفق من الأفكار، لكن رأسي ظل مشحونا مضغوطا.
وفجأة دق جرس التليفون، فرفعت السماعة إلى أذني في إعياء، وجاءني صوته نفسه؛ ضياء! الصوت الذي كان يحدثني كل يوم خمس سنوات متتالية، كيف أنساه؟! الصوت العميق الدافئ الحاني، الذي كان متهلفا دائما، كيف أنساه؟! قال بنفس صوته القديم: شوقية، أريد أن أقابلك الليلة، لقد خرجت مسرعة، فلم أقل لك كل ما أريد، هل أستطيع أن أراك الليلة؟
Shafi da ba'a sani ba
وسكت قليلا لأفكر، وكنت في حاجة إلى شيء يريحني من عذابي، ويخمد تلك الكلمة التي تتردد في أعماقي: كرامة! تلك الكلمة القوية الطاغية التي تسحقني سحقا: كرامة!
وأردت أن أخفف رأسي من ثقله، وقلبي من لوعته، فقلت له وأنا أستعين بكل ما في نفسي من شجاعة وقوة: إني آسفة يا ضياء، لا أستطيع أن أراك مرة أخرى!
ووضعت السماعة في مكانها، وعدت إلى فراشي خفيفة، كأنما فقدت نصف وزني، ووضعت رأسي على الوسادة، رأس هادئ مستقر، وبحثت عن تلك الكلمة الجبارة، التي ترن في أعماقي فلم أجدها، لا أدري أين اختبأت مني، وابتسمت لنفسي في زهو وانتصار وقلت: جبانة! جبانة تلك الكلمة التي اسمها كرامة!
الطريق
- لا أريد أن تحبني، أرجوك ... أنا لست فاضلة كما تظن.
قالت هذه الكلمات، وهي تجلس معه على شاطئ النيل، وتفصل بينهما مائدة صغيرة، عليها زجاجة بيرة مثلجة وكوبان فارغان، وطبق مشهيات «أورديفر» كبير.
ولم يرفع عينيه إليها، مد يده إلى زجاجة البيرة، وملأ الكوبين، ثم ناولها واحدا، وأخذ لنفسه الأخير، وقال وهو ينظر في عينيها، ويقرب كوبه من كوبها: «في صحتك ... وسعادتك.» وصمت قليلا ثم قال: سعادتنا!
وقربت «ليلى» الكوب من شفتيها وأخذت رشفة، وسرت البيرة المثلجة في جوفها الساخن فأنعشتها، وبددت شيئا من ذلك الوجوم الذي كان يملأ نفسها، والتفتت ناحية النيل وهامت نظراتها الشاردة على صفحته السوداء الرقيقة، وهي تمر بين صفين طويلين متقطعين من النور الأخضر الفاتح؛ صف فوقها ثابت واضح، وصف تحتها يهتز ويتعرج كلما هبت نسمة رقيقة، وتمطت، وتنفست، وابتسمت، ثم قالت: إنني أحب الليل.
قال وهو ينظر في عينيها: وأنا أحبك أنت!
وضحكت، ومالت برأسها إلى الوراء، وعاد يقول لها: أهكذا أصبح الحب عندك مهزلة؟
Shafi da ba'a sani ba
وضحكت مرة ثانية، حتى دمعت عيناها، وكساهما بريق شديد جعلهما يشعان في الليل كفصين من الماس.
وشاركها الضحك، وهو يقاوم في نفسه رغبة، لو أطاعها لقام من مكانه، وذهب إليها، حيث تجلس وأخذ رأسها الصغير بين يديه، وقبل كل جزء في وجهها، حتى عينيها. وبعد فترة صمت طويلة قالت له، وهي تثبت فصيها الماسيين في مكر: وماذا أصبح الحب عندك بعد حياتك العريضة المليئة بالتجارب؟
وشردت نظراته بعيدا في الليل، وهو يداعب شفته السفلى بأسنانه، وتعبث أصابعه الطويلة بشعر رأسه القصير، ثم قال بعد فترة وهو ينظر إليها نظرة عميقة جادة نفذت إلى أعماقها: أصبح كل شيء. - تعني أنني كل شيء لك الآن؟ - بكل تأكيد. - إذن فأنت تعرض علي الزواج. - بكل تأكيد. - هل أنت جاد؟ - كل الجد. - أنت رجل جريء جدا. - لماذا؟ إن معظم الرجال يتزوجون! - إن الرجل الغبي هو الذي يتزوج، والرجل الذكي يتزوج في لحظة غباء!
وضحك، وفرد جسمه الطويل في استرخاء، وأسند رأسه إلى ظهر الكرسي، ثم قال بعد فترة صمت قصيرة، وهو معلق بصره إلى السماء: ماذا كنت تقصدين بأنك لست فاضلة؟ - أنني لست فاضلة. - ماذا تعنين؟ - إنني لا أومن بالحب. إن الحب هو الفضيلة الوحيدة في هذه الحياة، ولكن الرجل والمرأة لا يلتقيان أبدا عند هذه الفضيلة. - كيف؟ - المرأة التي تؤمن بالحب تقابل رجلا لا يؤمن بالحب. وحينما يؤمن الرجل بالحب يقابل امرأة لا تؤمن بالحب. - لماذا؟ - لأن المرأة تبدأ الطريق وهي مؤمنة بالحب، ثم تفقد هذه الفضيلة في نهاية الطريق، والرجل بالعكس، يبدأ بلا فضيلة، ثم يجدها في نهاية الطريق. - وكيف يكون اللقاء بينهما إذن؟
وتوقفت أناملها عن دق المائدة، وحولت عينيها عن السماء إلى الماء، وظلت تنظر في البحر الغارق في الظلام فترة، ثم قالت: حينما تقابل امرأة في أول الطريق رجلا في نهاية الطريق، يصبح الاثنان واحدا ويتزوجان. وحينما تقابل امرأة في نهاية الطريق رجلا في أول الطريق، يبقى الاثنان اثنين، وقد يتزوجان وقد لا يتزوجان. وحينما تقابل امرأة في أول الطريق رجلا في أول الطريق، يصبح الاثنان ثلاثة ولا يتزوجان. - وحينما تقابل امرأة في نهاية الطريق رجلا في نهاية الطريق أيضا ماذا يفعلان؟
وسكتت لتفكر، وثبتت عينيها على كوب البيرة المثلجة، وقد تكثفت عليه قطرات صغيرة من الماء، وأمسكت الكوب، وأخذت رشفة، ثم نظرت إليه، وابتسمت، ثم قالت: يشربان البيرة فقط!
وطافت نظراته على صفحة النيل الهادئة، وقال وهو يمسك ذقنه بيده: وما طول هذا الطريق؟ - ليس له طول ثابت، قد يكون سنة واحدة، وقد يكون عشرين سنة، وقد يكون العمر كله!
ونظر إليها في مكر وقال: وكم كان طول طريقك؟ - ست سنوات. وأنت؟ - لا أعرف، إنني لست فاضلا بعد!
وضحكت في مرح، وشاركها الضحك، ورفع كل منهما كوبه إلى فمه.
ثم قالت وما زالت الابتسامة تضيء وجهها: إذن فقد سبقتك. - إنني أحب المرأة التي تسبقني. - حتى ولو كانت غير فاضلة؟ - إنني أحب المرأة التي تقول عن نفسها إنها ليست فاضلة! - ولكني لا أقول فحسب، إنني فعلا كذلك. - هذه الصراحة تعجبني. - ولكنها ليست صراحة، إنها الحقيقة المرة! - ولماذا مرة؟! إنني أحس في هذه اللحظة أنك أفضل نساء العالم! - أوه! عجيب هذا المخلوق الذي اسمه رجل! حينما تقول له المرأة إنها فاضلة لا يصدقها أيضا! - لأن المرأة تقول دائما عكس ما بها. - لكني لا أشارك النساء هذه الصفة، أقسم لك إنني لست فاضلة، أرجوك صدقني! - لا أستطيع أن أصدقك! - لماذا؟ - إن امرأة مثلك لا يمكن إلا أن تكون فاضلة! - بل لأن الحقيقة إذا صدرت من صاحبها لا يصدقها الناس.
Shafi da ba'a sani ba
ووضع سيجارتين بين شفتيه، وأشعلهما وناولها إحداهما، وأخذ كل منهما ينفث دخانه في الهواء صامتا شاردا، ثم مزق السكون صوته العميق الهادئ: ماذا قلت؟ - عن أي شيء؟ - عن الزواج. - أي زواج؟ - زواجنا! - ولماذا تريد أن تتزوجني؟ - لأنني أحبك! - وهل الحب عندك يعني الزواج؟
واعتدل على كرسيه وارتسمت على وجهه أمارات الجد الصارم وقال: لا، لا، لا، الحب شيء ضخم جدا، والزواج شيء تافه جدا، ولكن لا غنى للشيء الضخم عن الشيء التافه، الحب بلا زواج يعيش، يعيش بقوة، ويموت بقوة ، شهادة وفاة واحدة تقضي عليه، ولكن الحب مع الزواج لا يموت، شهادة ميلاد واحدة تضمن له الحياة أبدا. - تقصد الولد؟! - إنه سر الحياة! - لم يعد سرا ما دمت قد بحت به.
وضحكا، وقال وهو ينظر إلى أسنانها: إنني أحب ضحكتك، كأنما أرى فيها الدنيا بشمسها وقمرها، وهوائها، ومائها، ونهارها، وليلها، ودفئها وبردها. إنك تعبرين عن الحياة تعبيرا صادقا، بهذه الضحكة الطبيعية السهلة، إنني أحب الحياة حينما تضحكين. - بدأت أظن أنك ستنظم شعرا في يوم ما! - ربما! - إذن فأنت تغريني على عدم قبول الزواج. - لماذا؟ - لأن الشاعر يقع في حب كل النساء ما عدا زوجته. - الشاعر فقط؟
وضحكت، ومالت برأسها إلى الوراء، وأخذ يدها من فوق المائدة، وقربها من شفتيه، وقبلها ثم قال: هل وافقت؟ - هل وافقت أنت؟ - على أي شيء؟ - على نقائصي؟ - كل منا له نقائصه. - ولكني لا أومن بالحب.
ونظرت إليه وسحبت يدها من يده، ثم قالت: ولكني قد أمل الحياة معك؛ فأنا بطبعي سريعة الملل. - لن تملي معي الحياة أبدا. - إنك مغرور جدا. - لست مغرورا، ولكنها الحقيقة التي لا يصدقها الناس إذا صدرت من صاحبها.
وضحكت، ثم قالت وهي تثبت فصيها الماسيين في عينيه: بل إنها الكذبة التي أصدقها، أو التي أريد أن أصدقها.
وضحكا، وأخذ يديها الصغيرتين في يديه، وقبلهما، وقال لها في صوته العميق الدافئ: يا زوجتي العزيزة ...
ونظرت إليه في دهشة، وقالت: بهذه السرعة؟!
قال وهو ينهض واقفا: أي سرعة؟!
لقد ضيعنا وقتا طويلا في الطريق!
Shafi da ba'a sani ba
الكوافير سوسو
كانت أصابعه الخشنة بعظامها العريضة البارزة، وجلدها الأسمر الجاف، تبدو نشازا بين خصلات الشعر الذهبي الناعم، تجمع بعضها وتفرق بعضها، تلف بعضها وتفك بعضها، تنتقل في سهولة ويسر بحركات فنية خفيفة، رغم شكلها الغليظ الثقيل، الذي يوحي للرائي، أنها لم تخلق لتمسك مشطا أو دبوسا، وإنما لتقبض على فأس أو ساطور.
والشعر الذهبي بينها طيع مستكين، ينهدل تارة وينتصب تارة، يتفرق ويتجمع، وينثني وينفرد ... حتى يتخذ في النهاية شكلا أخيرا، وكأنه أصبح شعرا غير الشعر، فيه تموجات جديدة، بعضها يذهب إلى اليسار وبعضها ينحرف إلى اليمين، فيه خصلة بيضاء، وخصلة رمادية، وخصلة كستنائية.
وتتقلص الأصابع الغليظة متكورة محترسة تسويه من بعيد، وتتحسس الشعرات الرفيعة النافرة، تضمها إلى أخواتها وتعيد بلمساتها الخفيفة، نظرة واثنتين وثلاثا على الشكل الأخير، مرة من بعيد، ومرة من قريب، من اليمين ومن الشمال ومن الخلف ومن الأمام، حتى تطمئن اطمئنانا كاملا، فترتخي عضلاتها وتبعد مستريحة راضية هانئة.
كانت هذه الأصابع الغليظة هي كل شيء في حياة سعيد أو سوسو، كما كتب على لافتة محله، وكما تناديه الأصوات الرفيعة الناعمة، يفكر بأصابعه، وينظر بأصابعه، ويشتم بأصابعه، ويعيش بأصابعه ...
لكنه اليوم بدأ يحس أن له رأسا فوق عنقه، تثقله أفكار كثيرة.
سوسو!
أخذ الاسم يدق في رأسه كمطرقة حادة، بينما راحت أصابعه السميكة تسبح في رشاقة، بين خصلات الشعر الناعم.
سوسو!
وقلب شفتيه امتعاضا، وهو يراجع اسمه بينه وبين نفسه، ما الذي جعله يسمي نفسه سوسو؟!
Shafi da ba'a sani ba
ونظر إلى المرآة فرأى صدره يغطيه شعر أسود كثيف، وتأمل قامته الطويلة العريضة، وهبطت نظراته إلى يديه، فرأى أصابعه الغليظة، وهي تنتقل بغير وعي بين خصلات الشعر. غريبة! كيف سمى نفسه سوسو؟! أو سمح لنفسه أن يسمي هذه الجثة الضخمة المغطاة بالشعر سوسو؟! لماذا لم يسم نفسه طرزان أو ضرغاما، أو أي اسم من تلك الأسماء المذكرة الخشنة، التي تليق برجولته، وتجبر الناس على احترامها؟
نظر إلى المرآة ثانية، يتفقد نفسه؛ ليكتشف أي شيء فيها يشبه سوسو.
ولم يجد شيئا إلا ذلك القميص المشجر، الذي يبدو شاذا على صدره العريض المشعر.
وأحس بالدماء تغلي في رأسه، وود لو خلع هذا القميص أو مزقه، وشطب اسم سوسو من اللافتة. - أوه! حاسب شوية يا سوسو، المكوة لسعتني!
صاحت صاحبة الشعر الأسود الداكن، بعد أن مست المكوة في يد سوسو الثائرة طرف أذنها.
لسعة خفيفة، أصابت جسمها بشيء من الانتشاء، فعادت تتأوه من جديد، وهي تنظر إلى سوسو نظرة نداء مكتوم صارخ، وقالت في ميوعة أنثوية: أوه! مش تحاسب علي يا سوسو !
ولم يرد عليها سوسو، لم يجد في نفسه رغبة للرد على هذا النداء المكتوم، كما كان يفعل دائما، ويقول لها في ميوعة مذكرة: بعد الشر عنك، انشالله يا مدام أنا اللي أتلسع!
ويتعمد أن يلسعها مرة أخرى لسعة خفيفة، لتنتفض على كرسيها، وتنتشي أكثر وأكثر وتتأوه أكثر وأكثر.
كان يعلم أن أنوثتها الصائحة في المجتمع المحروم، في حاجة إلى شيء من هذه الأشياء الصغيرة؛ لسعة خفيفة بالمكوة، قرصة في الذراع، نظرة اشتهاء خفيفة، شدة شعر مقصودة.
هذه الأشياء الصغيرة المباحة في المجتمع، التي تنفس بها النساء عن ضغط غرائزهن، أشياء صغيرة لا يطلق عنها المجتمع الإشاعات، ويرضاها الأزواج كل الرضا، ما دامت الزوجة ستصفف شعرها كما تفعل كل النساء. إن المجتمع لا يرضى عن الشذوذ أيا كان، حتى ولو كان شذوذا فاضلا، ويرضى عن المعتاد حتى ولو كان خاطئا.
Shafi da ba'a sani ba