هذا صوت أمه الحبيب .. رباه .. لقد لفه الليل وهو لا يدري.
وقام من جلسته متثاقلا، وسار ببطء إلى الداخل، وبادرته أمه قائلة: هل حدثك أنور؟
فقال: نعم. - ما رأيك؟ - اختيار جميل يا أماه، سأذهب غدا لمقابلة جارنا وطلب يد ابنته الجميلة لابننا النابه.
فقالت بحنان: لم يبق إلا أنت.
ولازم الصمت هذه المرة.
من يعلم؟ .. ليس الذي يلقى الآن بأشد قساوة مما لقي في ماضيه، وما هذه بأول كارثة يمتحن بها قلبه الكبير، وقد علمته الحياة فضيلة الصبر كما علمته حقيقة أجل؛ هي أنه يستطيع أن يسعد وهو يحقق السعادة للآخرين.
مفترق الطرق
زماننا عاثر الحظ أو نحن به عاثرو الحظ؛ فأينما تول وجهك تسمع تنهد شكوى أو تر تجهم كدر. ولن تعدم قائلا إن هذا الزمان أضيق رزقا وأنضب حياء وأفسد خلقا وأقل سعادة وأنسا من الزمان الماضي، ويجوز أن نكون لزماننا ظالمين، وأننا نتحامل عليه لا لعيب اختص به دون غيره من الأزمنة، ولكن تبرما بقساوة الحياة وفرارا من جفاف الواقع ولياذا بظلام الماضي الذي يشبه ظلام المستقبل؛ بعث أمل وطب آلام. ومهما يكن من هذا السخط فما من شك في أن جلال أفندي رغيب كان على حق في شكواه التي يرددها بغير انقطاع. كان مراجع حسابات في وزارة المعارف وفي السادسة والأربعين من عمره، وقد وسع الله في إحدى زينتي الحياة الدنيا وقتر عليه في الأخرى؛ فرزق ستة أبناء يسعون ما بين حجر الأم والسنة الرابعة الثانوية. وأما مرتبه فسبعة عشر جنيها، فناء بأثقال العيش ومتاعب الحياة، وقصمت ظهره المصاريف المدرسية. وكان كثيرا ما يقول متبرما حانقا كلما آن موعد قسط أو اقتراب موسم من المواسم: «رجل مثلي؛ أب لستة ذكور؛ اثنين في المدرسة الثانوية، واثنين في المدرسة الابتدائية، وواحد في المدرسة الأولية، وواحد في البيت، غير زوجة وأم، ولا تراه الوزارة حقيقا بإعفاء واحد من أبنائه من المصاريف، فمتى إذن تجوز المجانية .. ولمن تجوز؟» وكان كغالبية أهل هذا البلد يائسا من العدالة قانطا من الخير، يعتقد اعتقادا كالإيمان الراسخ أنهما لا يصيبان إلا المجدودين من ذوي القربى والأصهار والأصدقاء، فرأى أن ليس أمامه سوى الكفاح الشاق، ومعاناة الشدة عاما بعد عام، والتصبر على مرارة الحياة.
ولبث على حاله لا يطمع في رجاء حتى تولى وزارة المعارف معالي حامد بك شامل، فطرق أذنيه اسم الوزير الجديد، وجذبت عينيه صورته المنشورة في الصحف، فومض في أفقه المظلم بارق أمل جديد، وانتعشت نفسه برجاء لا عهد له به، وقال لنفسه: «ينبغي أن أقابله .. وأن أشكو إليه .. هل يرفض رجائي؟ .. لا أظن.» وقصد يوما إلى سكرتير الوزير وكتب حاجته على ورقة ليوصلها إليه، فمضى الشاب بها وتركه في حالة من القلق والإشفاق لا توصف، وعاد مسرعا يقول لجلال أفندي: معالي الباشا مشغول جدا اليوم، فلتتفضل بالمجيء ضحى الغد.
فعاد إلى حجرته مسرعا واجدا متألما، وكان ألف طول مدة خدمته خيلاء الرؤساء وانتهاز المديرين، ولكن انشغال الوزير آلمه أكثر من أي شيء، وجعل يتساءل: ترى هل يذكرني؟ .. ولم يكن شيء ليصده عن هذا الباب، فذهب ضحى الغد كما قال له السكرتير، وانتظر طويلا حتى قال له الشاب: تفضل.
Shafi da ba'a sani ba