وكتب إليه في رسالة أخرى: «معذرة أيها الصديق عن تأخير غير مقصود، والحق ماذا أقول لك؛ فالحياة الجميلة هي هي .. لقاء فأحاديث، فمداعبات، فتقبيل وعناق، فوداع ولقاء. إنها غدت مجنونة بي، وكلما مرت ساعة اشتد بها الجزع وتكاد تنطق جوارحها؛ أن اذهب إلى والدي وخاطبه في حبنا لأكون لك طول العمر.
إنها أمنية طبيعية، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.»
ثم كتب إليه بعد حين: «قومت الألفة تلعثم الحياء، وصيرت التلميح تصريحا، وأمست عائدة تلح علي أن أكلم أباها لتتخذ علاقتنا الصيغة الشرعية المقدسة، وكانت حياتي تكون السعادة نفسها لولا هذه المنغصات.
والحق أني أجد بين يديها سعادة صافية جعلتني شديد العطف عليها، وبعثت في الضمير ألما مبرحا. وإنه ليسوءني ما أبيت لها من نية الغدر والهجر؛ لأني في الحقيقة لم أر فيها أكثر من ملهاة ممتعة أسكن إليها في هذا المنفى القصي. وما أشبه غرامي هذا بغرام الرحالة الجواب؛ تتعدد وعوده تعدد ما يجوبه من البلدان. وما يثير النفس يا صديقي أني أول أمس على أثر عودتي من لقائها، جلست إلى مكتبي شاردا أقلب بعض الكتب، فما راعني إلا ديوان شوقي تنشق صفحاته عن صورة حفظتها فيه وكدت أنساها، هي صورة خطيبتي بوجهها الصبيح الجميل وقد سطر على ظهرها بخط جميل «تذكار الوفاء»؛ فكأنه سوط عذاب ألهبني نارا، ألا فليغفر الله ما تقدم من ذنبي وما تأخر أيتها الحبيبة! والحق لقد اضطرب فؤادي، وألقيت على الصورة نظرة ذعر سريعة ثم أخفيتها عن عيني أو أخفيت عيني عنها؛ لأنه وقع في نفسي أنها تعلم بخبيئتي، وأنها تصوب نحوي نظرة لا تعيش أمامها الخيانة.»
وكتب إليه في رسالة أخرى يقول: «لست فتي عصريا كما كنت أعتقد؛ ولو أني كنت كذلك لما هالني الغدر، ولأكبرت على نفسي الخيانة، ولسهل علي اصطناع الوداد للفتيات اصطناع تحيات الصباح والمساء؛ ولهذا تجدني معذبا موزع القلب؛ فلا أنا بالراضي على نفسي لأني نكثت ميثاق خطيبتي، ولا أنا بالسعيد بما ألقى من حب عائدة الذي رماني تفانيها في هاوية من الندم.
ولا يخفى عليك أن الملل عرف طريقه إلى نفسي، وأني بت منه في سقام، وقد كان ذلك مقدورا، ولكن ما الذي عجل به؟! .. لعله ذكرى خطيبتي، أو لعله أني أقبلت على عائدة إقبال منهوم جائع فامتصصت حلاوتها، أو ربما كان ذلك لأن جمالها طلاء لا يخفى من ورائه شخصية ذات بهاء وجلال.»
ثم كتب: «أمسى اللقاء غير ذي متعة؛ لأني من ناحية بت أعاني من السأم وإرهاق الضمير، ومن ناحية أخرى فالفتاة تصر على مخاطبتي في شأن الزواج، ولا تكاد تصبر عن هذا الموضوع؛ فرمت بي في الحرج والحيرة، وينتهي موعد اللقاء ونحن لم نفرغ من الجدل العقيم والتضييق السقيم والاعتذار والتهرب المفضوحين.»
وأخيرا كتب إليه يقول: «لأول مرة أخلف الميعاد، وإني لأعذر نفسي وأغبطها، وأرجو أن تفهم الفتاة أن هذا مني إعلان بالقطيعة، ولم يكن من هذا بد بعد أن بلغنا في علاقتنا موضوعا ينبغي أن يتقرر فيه المصير، فإما إلى يمين وإما إلى شمال، وما كان ينبغي لي أن أختار من جديد، وما أحببت ذلك قط؛ فإن خطيبتي تنتظر أوبتي بفارغ الصبر، وهي أكرم على نفسي من هذه الفتاة التافهة الثرثارة التي لم يميزها الله إلا بمظاهر الجمال المبتذل لا يلبث أن يتبخر أثره في الهواء. ومهما يكن من أمر فلن ينقضي أسبوع حتى تكون الآنسة عائدة في طريقها إلى حيث ألقت.» •••
قرأ جميع هذه الرسائل - رسائل صديقه وقاتله - بإمعان شديد.
وكانت تتسلط على نفسه في ذلك الوقت عاطفتان؛ عاطفة حزن عميق وشعور حاد بالخيبة والغيرة وانهيار الأمل جعلته لا يذوق لذة في اليقظة ولا راحة في السهاد، وعاطفة تشف وانتقام أن تنتهي بها الخيانة إلى مثل ما انتهت به الحال من خيبة أمل وانهيار صرح سعادة.
Shafi da ba'a sani ba