Hallaj
الحسين بن منصور الحلاج: شهيد التصوف الإسلامي (٢٤٤–٣٠٩ﻫ)
Nau'ikan
بين يدي الكتاب
شعاع على التاريخ
عصره وحياته
الحلاج وأدب السلوك الصوفي
الزعيم الثائر
محاكمات الحلاج
سر المأساة!
مغوثات الحلاج بين السحر والكرامة
الحلاج والحب الإلهي
مقام الفناء الصوفي وشبهات الاتحاد والحلول
Shafi da ba'a sani ba
الحلاج والحقيقة المحمدية ووحدة الأديان
عقيدته التوحيدية
الحلاج بين أنصاره وخصومه
الروح الخالد
بين يدي الكتاب
شعاع على التاريخ
عصره وحياته
الحلاج وأدب السلوك الصوفي
الزعيم الثائر
محاكمات الحلاج
Shafi da ba'a sani ba
سر المأساة!
مغوثات الحلاج بين السحر والكرامة
الحلاج والحب الإلهي
مقام الفناء الصوفي وشبهات الاتحاد والحلول
الحلاج والحقيقة المحمدية ووحدة الأديان
عقيدته التوحيدية
الحلاج بين أنصاره وخصومه
الروح الخالد
الحسين بن منصور الحلاج
الحسين بن منصور الحلاج
Shafi da ba'a sani ba
شهيد التصوف الإسلامي (244-309ه)
تأليف
طه عبد الباقي سرور
بين يدي الكتاب
كان الحلاج، نبأ عظيما، في أفق التصوف الإسلامي، ولا يزال الناس يتساءلون عن النبأ العظيم، الذين هم فيه مختلفون.
هبط به خصومه إلى هاوية السحر والشطح الآثم المتطلع إلى فناء وخلود عن طريق الاتحاد والحلول!
وارتفع به محبوه، إلى أفق البهاء المقدس، وإلى معارج البطولة الخارقة للناموس!
فالحلاج عند شعراء ما وراء النهر، بطل ملحمة الخلود الكبرى، ورائد الحب الإلهي، الذي صعد على معارج الشوق والوجد، إلى سدرة النور السني، حيث يغشى هناك القلب ما يغشى من أذواق وهبات، ومعرفة وتجليات.
والحلاج في أقلام رجال الاستشراق، يربطه خط نفسي مضيء بالمسيح عليه السلام، إنه الشهيد الولي الرباني، الذي تطلع إلى ميلاد كلمات الله المباركة في قلبه.
أما رواة التاريخ الصوفي، فقد دندنوا طويلا، حول كراماته وآياته، وتحدثوا فأطالوا الحديث، عن عجائب مصرعه، وما اقترن به من خوارق، ثم ذهب ببعضهم الخيال، فنسجوا قصة روحية فاتنة، تدور حول جثته التي أحرقت بعد صلبها، ثم ألقي في دجلة برمادها، فأصبحت كل جرعة، من ماء هذا الرماد المبارك، تنجب شيخا من شيوخ الصوفية في بغداد، وتصوغ قطبا من أقطاب المعرفة في العراق!
Shafi da ba'a sani ba
لقد أسرف خصوم الحلاج في بغضه وتجريحه، وأسرفت الخلافة العباسية في اضطهاده وتعذيبه، وأسرفت إسرافا جنونيا وحشيا فيما أعدت من عذاب غليظ عنيف ليوم مصرعه، وفيما أقامت من ستار حديدي لحجب سيرته عن الحياة، وفيما اصطنعت لتشويه تراثه في التاريخ.
فأسرف أنصاره أيضا في حبه وتقديسه، وفي الحديث عن أسراره ونفحاته وعلومه وعجائبه؟!
ومن ثم انطلق الخيال الأسطوري التاريخي، يوشي هذه الصورة العجيبة المتناقضة، ويريق عليها مزيدا من الجمال، ومزيدا من الغموض!
ثم أخذ ينسج حولها مشاهد ملونة متنافرة، تتعاقب وتتواكب، حافلة بأروع ما في الدنيا من عظمة الروح والإيمان حينا، وبأقسى ما في قاموس الضلال من إلحاد ومروق أحيانا.
وبعد مرور قرابة ألف عام على المأساة الحلاجية، لا يزال النبأ العظيم يتساءل فيه الناس وهم مختلفون!
ولقد فتنت بسيرة الحلاج كما فتن بها غيري، وصاحبته طويلا في تقلباته ومعارجه، وناجيته وذهبت معه في انطلاقاته، وتحسست ما في عواطفه وقلبه، وحاولت أن أدنو من شوقه ووجده، وثورته وتفكيره، وأن أجد الخط الروحي الخفي، الذي يربط ما بين المتناقضات التي تزخر بها حياة رجل يذيبه ويحرقه الوجد الملح العنيف، فينطلق في الفلوات والمقابر والآفاق، مذهولا مأخوذا، حتى يتذوق في نشوة رياضاته مقاما من مقامات القرب، ويرى نورا من أنوار الأنس والقدس، ويغرق في بهاء القرب، وأنوار الأنس، ويسبح ويسبح في معارج حبه، حتى يذهل عن نفسه، وعن وجوده، وعن كل ما يحيط به، فلا يرى في الكون الفسيح، إلا وجه الله القريب الحبيب، الذي يذوب أمام سبحات أنواره، كل شيء، فلا يبقى إلا هو، ذو الجلال والإكرام، الأول والآخر، والظاهر والباطن.
وهو مع هذا الوجد المحرق، وبعد هذا الفناء المذهل، يطيل التأمل والتفكر، في واقع الأمة الإسلامية، فيرى انحرافها عن رسالتها، وابتعادها عن عبادتها، فيطلق صيحة الثورة على الخلافة المنحرفة، وينشر الدعوة، ويعد العدة، لإقامة حكومة الأقطاب الروحانيين، التي يسوس أمرها الأولياء والأبدال، والتي تحيل الكون إلى محاريب للصلاة والتأمل، وذكر الله.
ولقد عانيت من قبل تجربة الدراسات الصوفية، وأعلم ما تحتاجه من جهد، وما يصاحبها من إرهاق، فهي لا تزال بكرا لم تمهد سبلها، ولم تعبد طرقها.
وأشهد أننى لم أجد رهقا ونصبا، في دراسة صوفية، كما وجدت في دراسة الحلاج، فقد تمزق تاريخه، وتبعثرت آثاره!
وأشهد أيضا أنني لم أجد متاعا للقلب، وأنسا للنفس، وزادا للتفكير، كما وجدت في هذه الدراسة.
Shafi da ba'a sani ba
وللحلاج سحر في كلماته، وسحر في حياته، إنه من الشخصيات التي تملك قوة الإيحاء، وقدرة الاستهواء؛ ولهذا فسواء كنت معه، أو كنت عليه، فلا تملك نفسك، من أن تحبه وتهواه.
ولقد حاولت جاهدا، أن لا تتأثر هذه الدراسة بهذا السحر، وأن تنطلق إلى هدفها، مجردة من كل عاطفة، إلا عاطفة البحث عن الحقيقة، الحقيقة المجردة لذاتها.
وبعد: فهذا هو الكتاب الأول الذي يصدر عن الحلاج في لغة الضاد، نقدم فيه للعالم الإسلامي، صورة حية، من صور الحياة الروحية، في أزهى عصورها، ونصور فيه حياة رجل من أئمة هذه الحياة الروحية، بل لعله نسيج وحده في هذه الحياة الغنية برجالها وأقطابها.
فإن أوفى الكتاب بعهده، فقدم الوجه الصحيح، للرجل الذي تساءل الناس عن نبئه واختلفوا في أمره، فنسجد لله شكرا، على ما هدى وألهم.
وإن عجز الكتاب عن الوفاء بعهده، فحسبه أنه محاولة أخلصت وجهها لله.
طه عبد الباقي سرور
القاهرة، 1380ه / 1961م
شعاع على التاريخ
... بأية حماسة وحمية وجدانية قامر هذا العاشق الجسور برأسه كيما يظفر بجوهرة الجمال الإلهي!
فريد الدين العطار
Shafi da ba'a sani ba
منذ أكثر من ألف عام، تركز سمع الدنيا وبصرها، على الخاتمة الفاجعة، لأعجب صراع شهده تاريخ الفكر، وتاريخ الحياة الروحية في الإسلام.
وتساءل الناس عن النبأ العظيم، وهم في غمرة ذاهلة من هول ما يترامى إليهم من همسات وأحداث، لقد غامرت الخلافة العباسية وقامرت بوجودها ومكانتها فألقت من أعلى مآذن بغداد برماد جثة رجل ... عذب، وصلب، وحرق، في مشاهد مسرحية وحشية، لا تمت إلى الإنسانية، أو الآدمية، بسبب أو نسب.
وحملت أجنحة الهواء ذرات الرماد الشهيد إلى الآفاق، ومن ثم بدأ تاريخ عجيب رائع، ونبتت حياة سامقة شامخة، فقد تحولت كل ذرة من ذرات هذا الرماد، إلى مئذنة ومنبر، يتلى عليهما في مسمع الدنيا ووجدانها وضميرها قصة هذا الشهيد، وحياة هذا المصلوب!
ويا لها من قصة! ويا لها من حياة، أراق عليها الخلود فتنته وبريقه، وأكسبها الاستشهاد سحره ونوره، وأضفى عليها الحب الإلهي جلاله وعطره، ومنحها مقام الفناء، بقاء يعجز كل فناء!
ومنذ أكثر من ألف عام، وقصة هذا الشهيد، تعيش متلألئة مشرقة متجددة في قلوب الناس وعواطفهم، وتحيا مقنعة مبهمة ملهمة، في عقول المفكرين وأقلامهم! أشبه ما تكون باللحن الذي اهتزت أنغامه وتشابكت أوتاره، ولكنه مع هذا، نغم فاتن شجي، غني ثري بالإلهام والخيال والأحلام.
وتحولت القضية والمأساة إلى أسطورة مجنحة، ترتاد الآفاق المتناقضة، وتمشي مع الخيال الأسطوري إلى القمم العالية السامقة، المجللة بالضباب والسحاب، فتزداد إبهاما وغموضا، كما تزداد سحرا وبريقا.
يقول المؤرخ الفرنسي مويزو: «إن التاريخ هو ذاكرة البشرية، ولكنها ذاكرة قد تضعف حينا، وقد تصطنع الضعف أحيانا.»
ولقد كانت تلك الذاكرة، أضعف ما تكون، أو فرض عليها أن تكون أضعف ما تكون، وهي تقدم للناس عبر القرون، تاريخ الحلاج، ورسالة الحلاج.
لقد زيفت ذاكرة التاريخ عن عمد خبيث، وعن تدبير هادف، واصطنعت صورا خادعة مضللة زائفة، لأعظم حقبة في تاريخ المعرفة الصوفية، ولأخطر رجل في تاريخ الحياة الروحية.
ولقد عرفت جميع اللغات، حياة الحلاج ومأساته، وامتلأت حقائب التاريخ العالمي، بألوان من الأساطير، حول فلسفته الروحية، وتعددت في التراث الإنساني، صور حبه ومجاهداته القلبية، وسبحاته الوجدية، ولكنها صور وشاها الخيال، واعتنى فيها المصورون بالتلوين والظلال، عناية طمست الحقائق، وغيرت وجهها، وشوهت لونها، وانحرفت بها، عن جوهرها ورسالتها.
Shafi da ba'a sani ba
ولقد تحاشى مؤرخو الحياة الروحية في الإسلام هذه المأساة وسرها وما يدور حولها، تحاشاها القدامى تحت ظلال صيحات الرعب والهول التي أطلقها العباسيون، مدمدمة حول الحلاج وتاريخه، وحول من يلوذ به، أو يترنم بلحونه وأهدافه، حتى إن السراج الطوسي - وهو معاصر للحلاج أو يكاد، وهو أكبر المؤرخين للحياة الروحية، وسير أعلامها ورجالها - أهملها وتجاهلها، مع جلالها ومكانتها.
وحتى إنه ليستشهد في كتابه العظيم «اللمع» في أكثر من خمسين موضعا بكلمات الحلاج في المعرفة والتصوف، دون أن يذكر اسمه، بل يصطنع تعبيرا عجيبا، فيقول: قال بعضهم! أو قال القائل!
وكذلك صنع المؤرخ الصوفي، العلامة الكلاباذي في كتابه «التعرف» فهو يروي كلمات الحلاج التي ترسم آفاق التصوف، وتحدد مناهجه، دون أن يذكر اسمه، بل يصوغ تعبيرا بديعا هادفا بقوله «قال أحد الكبراء!»
وجاءت كتب الطبقات الصوفية، فتحدثت في إسهاب، وفي إسراف عن كل ما يتعلق بالتصوف ورجاله، وقادته وأعلامه، ثم مرت سريعة خفيفة، بسيرة الحلاج، أو حومت حولها، في حذر مصطنع، وتجاهل متعمد.
ثم جاء المحدثون من أصحاب الأقلام، فوقفوا حيارى ذاهلين أمام المأساة الحلاجية، أو العقدة الحلاجية، فقد زيفت تلك المأساة تزييفا فنيا رائعا، فتقنعت أحداثها بالغموض، واشتبكت صورها بالأهواء، وتضاربت فيها الأقوال، وامتلأت آفاقها بالأساطير والخيال.
فقد اشترك الجهاز العباسي العالمي بكل قواه، وبكل عملائه، من علماء وفقهاء وشعراء وكتاب، في هذا التزييف الذي لم يعرف له التاريخ مثيلا.
وجاء رجال التاريخ الإسلامي، وجلهم من الحنابلة المتزمتين فألقوا بكل ما في صدورهم، من موجدة، ومن حقد على التصوف الإسلامي، على رأس الحلاج وتاريخه ورسالته.
وعجزت كل هذه الخصومات، وكل هذه الأباطيل والأساطير، عن أن تطفئ شعاع هذا الروح الكبير، وظل شعاعه الروحي يومض في أفق الحياة ومضات تترك آثارها ولمساتها في القلوب والعقول، وفي الضمير الإنساني، والوجدان البشري.
والتاريخ كما يقول العلامة سبنسر: «لا يموت»، فإن حقائقه وإن توارت في زحام الأغراض، وصيحات الأقزام، تستعصي أبدا على الفناء.
ومن هذه الحقائق المتناثرة، التي أثقلت كواهلها أكداس هائلة من التزييف والتلفيق، نحاول أن نقيم حياة، وأن نعرض هذه الحياة، بكل ما أبدعت وابتكرت على الناس، وأن نجعلها على جبين الشمس واضحة سافرة.
Shafi da ba'a sani ba
والحلاج شخصية غنية خصبة ملهمة، شخصية تفتح أبوابا للتفكير، ومسرحا للخيال، ومجالا للعاطفة، شخصية تعددت جوانبها، واتسعت آفاقها، واحتشدت فيها جميع الانفعالات النفسية والوجدانية، والإلهامات الروحية والقلبية، والرياضات العقلية والجسدية.
كما تمثلت في وقائعها كافة العناصر التي تصنع بطولات التاريخ ومعجزاته، بكل ما في البطولة من عزة وسموق وعظمة واستشهاد ونضال وفداء وقوة.
وفي إطار هذه الشخصية الشامخة، نعاصر حقبة حاسمة في التاريخ الإسلامي، الفكري والحضاري، فنرى الصراع المشبوب الأوار، بين المعتزلة والحنابلة، والشيعة والقرامطة، والفقهاء والصوفية.
ونشهد حياة القصور العالية، وما فيها من إسراف وترف، وشهوات وغوايات ومؤامرات، وكيف تتشابك العواطف بالأحداث، لتجعل من خلفاء العباسيين الذين دانت لهم الأرض، ألعوبة في أيدي العبيد والنساء، وأشباه العبيد والنساء.
ونرى العالم الإسلامي، وهو يتمزق بعد وحدة، وتنتابه انتفاضات فكرية وثورية، واقتصادية وثقافية.
ونطالع الحياة الروحية، في أزهى عصورها، وأنبل صورها، عصر النجوم المتلألئة، عصر المدارس الصوفية الكبرى، التي دفعت بمناهجها في المعرفة والسلوك، إلى ساحات الفكر الإسلامي، وأطلقت في جو عاصفة الجدل والحوار، والخصومات المذهبية الجامحة، أطلقت كلمات جذابة حلوة، لها إغراء ورنين وبريق، كلمات الحب، والوجد، والشوق، والأنس في الحضرة الربانية، والساحة القدسية.
وما تلهم هذه الكلمات النورانية، من أدب النفس، وسمو الحس، وطهارة القلب، ونبل الخلق، وتصعيد الأعمال كافة إلى الله سبحانه، وإفاضة المعنى الروحي على كل شيء في الوجود، وما يترقرق حول هذه المعاني، من أشواق ورياضات، وأذواق وإلهامات.
وفي قلب هذا الخضم، بانفعالاته المتوترة الحية، وبأفكاره المتدفقة المحلقة، وبأحداثه الثائرة المضطربة، وبترفه وشهواته الجامحة، برزت شخصية الحلاج لتحدث في الدنيا دويا، وتحدث في الجماهير سحرا، وتلقي على كل شيء مسته حياة وحرارة وانفعالا.
كان الحلاج عبقرية من تلك العبقريات الاستهوائية، التي يعرفها التاريخ في لحظاته الحاسمة.
وبلغ من عظمة هذه الشخصية؛ أنها غدت النبأ العظيم في آفاق التصوف والمعرفة، كما كانت النبأ العظيم في آفاق الإصلاح والثورة.
Shafi da ba'a sani ba
كان الحلاج يملك قوة روحية عالية، من تلك القوى التي يفيضها الله على من يشاء من عباده، وكانت تلك القوى الروحية تمنحه فيما تمنح، القدرة الموحية المؤثرة الصانعة في عواطف الناس وقلوبهم وأحاسيسهم، وتضفي عليه طاقة تلهم الآمال الكبار، لكل من يلوذ به، أو يدنو منه، بل لقد شهد أمناء أتقياء، بأنه كان يؤثر بروحانيته العجيبة، في الجماد والنبات والحيوان.
ومن هنا توهم أعداؤه فيه السحر والشعوذة، وتوهم أحبابه فيه القدرة الخارقة على صنع المعجزات ، حتى لقد نسبوا إليه، إحياء الموتى، وبعث من في القبور!
ويحدثنا شيخ الصوفية الأكبر محيي الدين بن عربي في الباب الثالث والستين وأربعمائة من كتابه «الفتوحات المكية»: «إن الحلاج كان يدخل بيتا عنده يسميه بيت العظمة، فكان إذا دخله ملأه كله بذاته بأعين الناظرين، حتى إن بعض الناس ممن لا يعرف تطورات أحوال هذا المقام، نسبه إلى علم السيميا، لجهله بأحوال الفقراء في تطوراتهم.
ولما دخلوا عليه ليأخذوه للصلب، كان في ذلك البيت، فما قدر أحد أن يخرجه من ذلك البيت؛ لأن الباب يضيق عنه فجاء الجنيد، وقال له: سلم لله تعالى، واخرج لما اقتضاه وقدره، فرجع إلى حالته المعهودة. فخرج فصلبوه.»
ويقول صاحب «الفهرست»:
1 «حرك الحلاج يده يوما فانتثر على قوم مسك، وحرك مرة أخرى يده، فنثر دراهم.»
ويقول العلامة البغدادي:
2 «ووقع له عند الناس قبول عظيم، حتى حسده جميع من في وقته.»
ويهتف خلصاؤه وتلاميذه يوم صلبه: «لم يمت الحلاج بل ارتفع إلى السماء، وسيعود!»
لقد عجز الموت في أبشع صوره، وأقسى ألوانه، أن ينتزع الهالة الكبرى، التي تحيط بتلك الشخصية الضخمة الرائعة.
Shafi da ba'a sani ba
ويمشي سحر الحلاج وجلاله، وتأثيره القوي الغلاب، إلى رجال الاستشراق، فيتحدثون عنه كبطل أسطوري، من رجال الغنوص الشرقي
3
وكشخصية مكررة من شخصية المسيح عليه السلام جاء ليعيد مأساة جبل الجلجلة
4
وليكرر فكرة الفداء، فداء البشرية من الخطيئة الأولى.
ولكن هل حشدت الخلافة العباسية كل قواها لقتال الحلاج، وأعدت كل ما تملك من وسائل الجبروت الوحشي، والعنف البربري في عذابه ومحاكمته وصلبه، من أجل مواجيده وألحانه في الحب الإلهي، ومن أجل إلهاماته وفتوحاته، في مقامات الغناء الصوفي، وعجائبه وقدرته على الإيحاء والإلهام، وصنع الكرامات والمعجزات؟!
يقول المؤرخ الكبير صاحب «الفهرست»: «لقد كان الحلاج جسورا على السلاطين، يروم انقلاب الدول.»
5
ويروي لنا إمام الحرمين الجويني: «إن الحلاج كان يريد قلب الدولة، والتعرض لإفساد المملكة.»
ويقول المستشرق نيكلسون في كتابه «الصوفية في الإسلام»: «إن قتل الحلاج أملته دوافع سياسية لا تعرف الرحمة.»
Shafi da ba'a sani ba
ويقول العلامة جولدزيهر في كتابه «محاضرات عن الإسلام»: «لقد أثرت صيحة الحلاج الصوفية - معرفة الله - تأثيرا عميق الأثر، في الحياة العلمية الإسلامية.»
ثم يقول: «لقد أخذ الحلاج يتدخل في حياة المجتمع الإسلامي تدخلا شديد الوطأة.»
ويقول العلامة المستشرق ماسنيون:
6 «كان الحلاج يحرك الجماهير، وينادي بالإصلاح، ويبشر بفكرة الحكومة المثالية التي تقيم الشريعة على نغمات المحبة والعبادة الخالصة لله.»
وإذن فصيحة الحلاج الصوفية الإصلاحية، ودعوته إلى إقامة حكومة ربانية مثالية، هي سر المأساة الكبرى، أو إحدى أسرار تلك المأساة الكبرى.
ومأساة الحلاج، كونتها عناصر تاريخية ونفسية وخلقية، وفي طليعة تلك العناصر، الرهبة التي استشعرها العباسيون من القوى الصوفية النامية، التي أخذت تهيمن على العراق في القرن الثالث الهجري.
يقول العلامة ابن الأثير بعد أن شرح الموقف في الإمبراطورية العباسية والصراع الناشب بين الفرق والطوائف:
7 «ولكن فرقة واحدة بقيت بعيدة عن التعصب، ألا وهي فرقة الصوفية، فقد كانوا يمتازون بسلامة الفكر والعفة والأخلاق الحميدة، كما كان أفق تفكيرهم أوسع بكثير من غيرهم فأكسبهم هذا حب كثير من الناس، وأخذ نفوذهم يزداد ويقوى، وهرع كثير من الناس إلى حظيرتهم بعد أن رأوا جور الزمان وقسوته، وكثرت مجالس الصوفية وأقبل الناس عليها.»
تلك هي مكانة التصوف في العراق خلال تلك الحقبة من التاريخ، لقد غدا أتباعه، القوة الحية النامية في المحيط الممزق المضطرب.
وكان في بغداد، عمالقة من الأئمة الروحانيين، وزعماء من القادة الصوفيين ... كان هناك أبو القاسم الجنيد، والشبلي، وسهل التستري، وعمر المكي، والسري السقطي، وغيرهم من الأقطاب الكبار.
Shafi da ba'a sani ba
ولكن الحلاج، كان أقواهم شخصية، وأوسعهم نفوذا، وألصقهم بالجماهير، وأكثرهم قدرة على حمل راية الكفاح والنضال.
كان الحلاج يحمل روح ثائر، وقلب قطب، وعقل زعيم، وروح محب عابد، وكان يؤمن بالتصوف القرآني الإيجابي؛ الذي يسهم في الأحداث ويوجهها، ويترك طابعه عليها.
وكان يبشر عن عقيدة ثابتة لا تتزلزل، بحكومة الأقطاب الروحانيين، كما كان يؤمن بأثر الصلاة والعبادة ومحبة الله، في إصلاح المجتمع، والارتفاع بالجماهير إلى أفق أنبل وأعلى.
ومن هنا كان الحلاج في نظر الخلافة العباسية، هو الزعيم الصوفي الذي يهدد سلطانها ونفوذها ، ويؤلب الجماهير ضد مظاهر الترف والإسراف والشهوات العالية الصوت في محافلها وقصورها.
يقول الإصطخري: «إن كثيرا من علية القوم في بغداد رأوا في الحلاج، أنه هو الرئيس القطب المنقذ.
وفي طليعة من آمن به من الوزراء: علي بن عيسى، وحمد القنائي، والدولابي، ونعمان، ومحمد بن عبد الحميد.
ومن الأمراء: الحسين بن حمدان، ونصر القشوري. ومن ولاة الأمصار: أبو بكر الماذرائي، ونجح الطولوني. ومن دهاقين فارس وأشراف الهاشميين: أبو بكر الربعي، وأحمد بن عباس الزينبي.»
ثم يقول: «وكانت له معهم مراسلات مما هيأ لهم الهداية، وهيأ له الخوض في السياسة، وواجبات الوزراء.»
وتلك الصورة التي رسمها لنا الإصطخري تدل دلالة كبرى على مدى الأثر الكبير، والنفوذ الواسع، الذي ظفر به الحلاج، في الدوائر العليا للخلافة العباسية.
يقول ماسنيون: «لقد طالب الحلاج بإصلاح الإدارة الحكومية في جرأة غير مسبوقة، ونادى بإقامة حكومة إسلامية حقا، ووزارة كما يقول: تحكم بالحق والعدل بين الناس، وهاجم عمال الخراج، وطالب كما يقول: بخلافة تشعر بمسئوليتها أمام الله جل جلاله، مما يجعل الله يرضى عن قيام المسلمين بفروض دينهم، من صلاة وحج وصيام.»
Shafi da ba'a sani ba
تلك بعض الومضات التي تومئ إلى بعض جوانب الرسالة التي نهض بها الحلاج، والتي سنعرض لها بالتفصيل والبيان.
ولن يضير الحلاج، أن النجاح لم يكتب لرسالته، وأنه قدم حياته فداء لتلك الرسالة، فقد يكون الاستشهاد في سبيل الفكرة والعقيدة أسمى ألوان النجاح، وأعلى ضروب النصر.
أو كما يقول ابن أبي الخير في ملحمته الحلاجية: «إن الموت على مصلب الحلاج ميزة الأبطال.»
ويقول حافظ الشيرازي، شاعر التصوف الإسلامي، في إحدى قصائده: «إن تصلبني الليلة، فإن دمي يخط على الأرض - أنا الحق. مثل منصور الحلاج.»
ولما أراد جلال الدين الرومي، عبقري الشعر الفارسي الصوفي، أن يصعد بفريد الدين العطار، في معارج الحب الإلهي. وفي مجالات البطولة الخالدة قال: «إن روح الحلاج تجلت في العطار.»
ثم عقب بقوله: «لقد بلغ الحلاج قمة الكمال والبطولة، كالنسر في طرفة عين.»
لقد كانت تضحية الحلاج هي سر خلوده، فقد صعد الحلاج بتلك البطولة الفدائية إلى قمة الكمال كالنسر الجبار الجناح، وغدا في قلوب المتصوفة وعقولهم، محجة ومنارة ترشد إلى المثل الأعلى في إشراقاته وإلهاماته.
وأصبح الحلاج بهذا الاستشهاد الأسطوري الملهم الأكبر لمواجيد الشعراء وألحانهم وأغانيهم في الأفق الصوفي.
فهو في الشعر التركي، الولي الأكبر، وهو لدى الهنود: شهيد الحق. وهو الملهم الأول لعباقرة الشعراء الفارسيين العالميين، حافظ الشيرازي، وجلال الدين الرومي، وفريد الدين العطار.
وامتد إلهامه عبر القرون، فنشأت الفرق الصوفية الكبرى، على وقع نغماته ودعواته، وهدى تفكيره وآدابه، حتى إن البكتاشية التي هيمنت على تركيا وألبانيا، قرونا عديدة، ترجع في أصولها إلى الحلاجية.
Shafi da ba'a sani ba
يقول الدكتور عبد الوهاب عزام:
8 «فكان عند الصوفية ولا سيما صوفية العجم والهند، كالمسيح عند النصارى، واتخذوا كلماته شعارا ودثارا، وأشادوا بذكره، وجعلوه مثلا للصوفي الفاني في الله.»
ويقول المستشرق ماسنيون:
9 «إن أقوال الحلاج ترسم له حياة بعد موته، ذات طابع حضاري عميق، وأكثر صدقا من الناحية الاجتماعية، من الشهرة الأدبية التي نالتها نماذج، مثل الإسكندر أو قيصر لدينا في الغرب.»
ثم يقول: «كان الحلاج، نموذج الولي الذي مجده الشعب التركي المجاهد الذي أقبل على الإسلام في أعقاب مصرع الحلاج.»
ويتحدث فريد الدين العطار عن مدن العشق السبع، ثم يقول: «الحلاج ذلك الشهيد العالمي، الذي قدم للدنيا صورة الولاية الكبرى، وقد بلغت أوجها في تضحية حربية، مليئة بالرجولة، مليئة بالإلهام.»
ويستعرض ماسنيون الامتداد الروحي للحلاج. فيقول: إن دم الحلاج يعتبر بذرة روحية تضمن استمرار الإلهام لمحبيه. ثم يقول: «والحلاج يدعى في الدعوات الشخصية، خصوصا في بلاد الترك لوقف بكاء الأطفال الصغار، ولا يزال قبره التذكاري الخالي من رفاته الذي أقيم له في بغداد كعبة الزائرين.
والمزمار الرئيسي في الحفلات الموسيقية الروحية عند المولوية يدعى باسمه - نادي منصور.»
لقد كان الحلاج دائما يقول في دعواته: «يا معين الفناء علي أعني على الفناء.»
وسواء كان يقصد فناء الحب، أو فناء الامتداد الروحي، فقد استجاب الله الدعاء، فاستعصى الحلاج على الفناء، وحلق خالدا في آفاق الشهداء ، وستبقى قطرات دمه بذرة روحية، تضيف في كل يوم إلى التصوف الإسلامي قوة ونماء.
Shafi da ba'a sani ba
وذلك خلود من ظفر بجوهرة الحب الإلهي، واستشهد في سبيلها.
عصره وحياته
الفرس والتصوف
يقول عبقري الفكر الإسلامي، العلامة الفيلسوف البيروني: «العلم شجرة أصلها بمكة، وثمرها بفارس، وهي كلمة من الكلمات التي تلقي بالأضواء على التاريخ.»
لقد كان فجر البعث القرآني بأم القرى، وعلى قيثارة الوحي، تفتحت مشاعر العرب للهدى، فحملوا كلمات الله إلى آفاق الدنيا، يخرجون الناس من الظلمات إلى النور، ويهدون الإنسانية صراطا مستقيما.
وتسلم الفرس من العرب تراث الوحي غضا مشرقا، بكل ما فيه من نور وقوة، وإلهام وحياة.
وتفجرت فارس عيونا، وتفتحت آفاقا، وربت فيها الثقافة الإسلامية وتلألأت، وأينع ثمرها، وآتت أكلها، وانبعثت قواها، مبدعة وصانعة، لأكبر نهضة ثقافية عرفها التاريخ، حتى رأينا عجبا، وشهدنا إعجازا، ففي كل قرية، عباقرة كبار، وفي كل أفق، نجوم وأقمار، وفي كل مكان أئمة عمالقة، يبدعون ويبتكرون وينشئون، ومن هنا جاء الخبر المأثور: «لو كان العلم بالثريا، لناله رجل من فارس.»
وأبناء فارس - كما يقول ابن النديم - مشبوبو القلب والعاطفة والخيال، فيهم استجابة فطرية، للمعارف الروحية، والأذواق الوجدانية. ومن ثم وجد التصوف الإسلامي، في أرض فارس أفقه ومجالاته، والينابيع التي تمده بالزكاء والنماء، والقلوب التي تتفتح له وتقتات به ... وكما يقول المستشرق ماسنيون:
1 «أصبحت فارس الملهمة، المركز الأكبر للتصوف الإسلامي، الذي يوافق فطرتها وملكاتها.»
ويحدثنا الدكتور عبد الوهاب عزام عن أثر شعراء فارس في تشكيل الحياة الروحية وتعميقها في الإسلام
Shafi da ba'a sani ba
2
فيقول: «وبلغ شعراء فارس في هذه السبيل غاية لم يدركها شعراء أمة أخرى، فأخرجوا المعاني الظاهرة والخفية، والجليلة والدقيقة، في صور شتى معجبة مطربة، وقد فتح عليهم في هذا فتح عظيم، فكان شعرهم فيضا تضيق به الأبيات والقوافي والصحف والكتب، حتى ليقف القارئ حائرا، كيف تجلت لهم هذه المعاني، وكيف استطاعوا أن يشققوا المعنى الواحد إلى معان شتى، ثم يخرجوا كل واحد منها، في صور شتى عجيبة، كأنها أزهار المرج ونباته تزدحم في العين ألوانها وأشكالها ، وماؤها واحد، وترابها واحد.» ثم يقول: «... لقد تحول الشعر الفارسي كله، إلى شعر صوفي، فلا يخلو شاعر فارسي من نزعة صوفية تظهر في شعره، لشد ما سيطر شعراء الصوفية على الشعر الفارسي.»
وبقيام الدولة العباسية، انتقل النفوذ السياسي، والثقل المادي، وترف الحضارة ونعيمها وجلالها إلى فارس، فغدت محور الحياة الإسلامية السياسية والعلمية، بل غدت فارس أفقا عالميا تتشابك فيه وتتصارع التيارات الفكرية والقلبية، وتلتقي فيها وجها لوجه ثقافات الأمم شرقية وغربية.
ويصف لنا المؤرخ الكبير ياقوت المكتبات العلمية العامة بمدينة مرو، إحدى مدن فارس التي لا تبلغ مرتبة العواصم، فيقول:
3 «يوجد بها عشر خزائن للكتب لم أر في الدنيا مثلها، منها خزانتان في الجامع. إحداهما يقال لها العزيزية، وفيها اثنا عشر ألف مجلد للناس كافة، وكانت سهلة التناول لمن يريد. ولا يفارق منزلي مائتا مجلد، وأكثرها بدون رهن. ثم يقول: وأنساني حبها كل بلد، وألهاني عن الصحب والولد، وأكثر فوائد كتبي من تلك الخزائن.»
ويصف الإمام الجويني أرض فارس فيقول: «مطلع السعادة والمبرات، وموضع المراد والخيرات، ومنبع العلماء، ومجتمع الفضلاء، ومرتع العظماء.»
أما ابن خلكان، فيحدثنا في كتابه «وفيات الأعيان» عن فارس حديثا يحلق على أجنحة حبها وتقديرها، حتى يصفها بأنها الجنة التي وعد بها المتقون، فيها متاع الأعين والعقول، أو كما يقول: «إنها أنموذج الجنة بلا مين، فيها ما تشتهي الأنفس، وتلذ الأعين، وتزكو به القلوب والعقول.»
وفي جو تلك الحضارة العلمية الشامخة، وفي عنفوان هذا الترف الثقافي والحضاري، كان قلب فارس، يخفق بالتصوف سلوكا ومعرفة، وكان أبناء فارس ينظرون إلى التصوف نظرة الإجلال والإكبار والتقديس، ويجدون في مناهجه القلبية والروحية، صدى لما يضطرب في أعماقهم من أشواق وأذواق، وما يتلألأ في معارفهم من إشراقات وإلهامات. بل يرون في التصوف وجه القرآن وعلومه وأنواره، وأسرار هذه العلوم والأنوار، ويرون فيه فوق هذا وذاك، مجالا ومسرحا للقلوب المتعلقة بعرش ربها، القلوب التي تقتات بذكره وحبه، وتتلقى من إلهامه وفيضه.
فجر التصوف وضحاه
ومع مكانة التصوف الكبرى في الفكر الإسلامي، وما قدمه للحياة الإسلامية في شتى مراحلها، من مناهج في المعرفة والأخلاق، والسلوك الاجتماعي، وما أفاض على الثقافة الإسلامية من معان مشرقة عالية، في كل ما يتصل بالروح والقلب، وصلة الإنسان بخالقه، وسيره إلى محبته ورضوانه، وما أبدع في هذا السير من أحوال ومقامات وأذواق ومشاهدات وإلهامات، أسهمت في تعميق المعاني القرآنية واتساعها وشمولها، كما أسهمت في تكوين تلك الحياة الروحية التي أصبحت من أكبر العناوين المتلألئة في جبين الدعوة الإسلامية، وفي أفق رسالتها العالمية.
Shafi da ba'a sani ba
مع هذه المكانة الضخمة. لا تزال الأقلام قلقة مضطربة، وهي تتناول نشأة التصوف وتدرجه وأثره في التاريخ الإسلامي.
وسر هذا الاضطراب أن كتب الطبقات الصوفية، لم تضع منهجا علميا لتاريخ الحياة الروحية في الإسلام؛ فقد اعتبرت أئمة الصحابة جميعا من رجال الطبقات الصوفية، ومن ثم، اعتبرت بداية الإسلام، هي بداية التصوف!
وجاء رجال التاريخ الإسلامي، وجلهم من الحنابلة الذين خاصموا منهج التصوف في المعرفة والسلوك، فلم تتجه أقلامهم إلى تدوين تلك الحياة الخصبة المثمرة، بل ألقوا عليها ستارا، ولم يرجوا لها وقارا!
ثم جاء رجال الاستشراق في عصرنا، فبذلوا جهودا ضخمة في دراسة التصوف الإسلامي، ورجاله وتراثه.
ولكن هذه الجهود الضخمة، شابها وشوه من جلالها، عقدة نفسية، تحملها أقلامهم، وتستقر في أعماق قلوبهم، وتدفعهم دفعا إلى تصوير التصوف الإسلامي، في أثواب مستعارة من الملل والنحل الروحية، شرقية وغربية، وتدفعهم دفعا إلى تحميل الكلمات والآراء أكبر مما تطيق، وأوسع مما تحتمل، ليضفوا على التصوف الإسلامي، صورا غنوصية غامضة، من صور الغنوص الشرقي، الذي يستهوي رجال الاستشراق، وشعوب رجال الاستشراق.
وتابعهم وجرى في ساحتهم فريق كبير من كتابنا، بحكم التلمذة لهم حينا، وبحكم التشدق بآراء مفكرين أوروبيين أحيانا، وبحكم جهلهم بالإسلام والتصوف أولا وقبل كل شيء.
ولسنا هنا بصدد التأريخ لهذه الحياة، وإنما نحاول أن نرسم خطوطا لها في نموها وتطورها، تعيننا على تفهم منهج الحلاج الروحي، وصلة هذا المنهج الحلاجي، بالإسلام والتصوف، أو مجانبته لهما.
لقد وجد الروح الصوفي مع الإسلام منذ يومه الأول، وليس معنى هذا ، أن الأذواق والمواجيد ، القلبية والروحية، والمناهج الصوفية سلوكا ومعرفة، كانت واضحة جلية، في أيام الإسلام الأولى، وفي حياة أئمة الصحابة رضوان الله عليهم، ففي هذا الزعم إسراف ومجانبة للحقائق.
ولكننا لو تأملنا في آيات القرآن المحكمة، وفي حياة الرسول الطاهرة، وسير صحابته المشرقة، نجد البذور الأولى، للسلوك الصوفي، وللمعرفة الروحية، مبينة متلألئة.
وليس التصوف بدعا في هذا، فكل منهج من مناهج المعرفة في الإسلام انبثق كما انبثق التصوف من روح القرآن، وجوهر رسالته، وبدأ كما بدأ التصوف مع الإسلام، ثم نما وتطور ومشى مع خطو الحياة، وسنة الله.
Shafi da ba'a sani ba
فإننا مثلا نستطيع أن نقول مع الفقهاء: إن الفقه نشأ مع الإسلام، وليس معنى هذا القول أن التفريعات الفقهية، والاستنباطات والمصطلحات الفنية، كانت في صدر الإسلام، وفي الكتاب والسنة، وإنما كانت هناك البذور الأولى، والمادة الأولى، التي نمت وتطورت ومشت مع الحياة.
كان التصوف موجودا في صدر الإسلام بروحه وهديه، وآدابه وخلقه، وترفعه وزهده، وعباداته وطاعاته، وذكره ومناجاته، كان موجودا بجوهره لا بمصطلحاته، وقائما بكلياته لا بجزئياته.
كان التصوف في صدر الإسلام هو هذا الروح الديني المهيمن المسيطر على حياة المسلمين كافة، الموجه لحركاتهم وسكناتهم، الصاعد بأعمالهم ونواياهم، إلى خالقهم ومولاهم.
كان هذه الرقابة الحية اليقظة التي أقامها كل مسلم في أعماقه، ليراقب ما توسوس به نفسه، وما يصطرع في قلبه، وما يتواثب في نفسه، وما يخفي صدره، وما تطرف به عينه.
كان هذا الترفع الشامخ عن شهوات الدنيا وزخرفها، والإعراض عن بريقها وفتنتها، والزهد في ترفها ومظاهرها، والتسامي بكل ما فيها إلى وجه الله، حتى يظفر بحبه ورضاه، وقربه وهداه؛ لأن الدنيا لا تزن عنده جناح بعوضة، ولأن الآخرة خير وأبقى.
ثم مشت الحياة بالمسلمين، وفتحت عليهم الدنيا، وابتعدت مسامعهم عن نغمات الوحي، وتفرقت قلوبهم عن الميثاق والعهد، وانحلت العزائم، وفترت الهمم، وتسارع الناس إلى المال والجاه، ولهو الحياة، ونشأت الفتن، واختصموا على الملك، وتصارعوا وتباغضوا، وتشعبت بهم السبل.
ونشأت تبعا لذلك، حركات مضادة، ورسالات مجاهدة، صمدت في وجه العاصفة. ويحدثنا تاريخ النصف الثاني من القرن الأول للهجرة، عن وعاظ ومرشدين، وقفوا على أسوار القرآن، ومعالم السنة، ينذرون الناس ويدعونهم إلى ربهم ودينهم، تميزهم شجاعة نفسية عالية، أعانتهم على مواجهة الجبروت والاستبداد الذي بدأت طلائعه في أفق الحياة الإسلامية.
وبجوارهم رأينا طائفة من الزهاد، الذين وقفوا في وجه فتنة الترف والإسراف، وأخذوا يديرون لحونهم وأحاديثهم، حول فضائل النفس، وآداب الحس، وتزكية الجوارح، والزهد في الدنيا، وهوان أمرها، وزوال نعيمها، وضلال شهواتها.
ثم رأينا العباد المتبتلين، الذين انقطعوا إلى طاعة الله، وعبادته وذكره، وأحالوا الكون إلى محاريب للصلاة والمناجاة، ومنابر للتحدث عن نعم الله، وعن عظمته وجلاله، والأنوار التي يفيضها على الساجدين المتطهرين.
ومن هؤلاء وهؤلاء، تكون الرعيل الأول، من الصفوة الربانيين، الذين عرفوا في التاريخ باسم الصوفية، أو كما يقول ابن خلدون: «اختص المقبلون بأنفاسهم على الله باسم الصوفية.»
Shafi da ba'a sani ba
ثم ابتدأت تتكون لهذه الطائفة ثقافة إيمانية، لها لونها وطابعها وخصائصها الفنية.
ثقافة تدور حول ذكر الله وإلهاماته، ومجاهدة النفس، وما ينبثق من هذه المجاهدة، من آداب السلوك، ومقامات السير، ويتوج كل هذا الصلة بالله سبحانه، وما يترقرق حول هذه الصلة، من أذواق ولحون، ومواجيد وأشواق، ثم ثمرة هذا كله، وهو المعرفة الباطنية، وما تفيض هذه المعرفة من علوم وأنوار.
ومن ثم بدأت الحياة الروحية، تنفصل عن الحياة العامة، وتستقل بمناهجها ومعارفها، وابتدأ الصوفية يصطنعون، كلمات تحدد أذواقهم، وتعبر عن شعورهم، وأخذ أفق هذه الكلمات يتسع لمعان متعددة، وكانت كل كلمة تضاف إلى التصوف، تفتح أفقا جديدا، وتكون نبعا متدفقا، وتتناولها ألسنة الصوفية، فتفتقها وتبتدع لها صورا وألوانا وأذواقا.
ثم أخذوا يكونون لهم فلسفة في الأخلاق، وفي السلوك، وفي العبادة، وأخذوا يجردون الأسباب من قوتها، ويرجعون كل شيء إلى الله سبحانه، فأكسبهم ذلك عزة خلقية، وسعادة روحية، قوامها الرضا بقضاء الله وقدره، واليقين بأن لا سلطان لقوة من قوى الأرض على مصائرهم وحياتهم، أو كما يقول إبراهيم بن أدهم: «نحن في لذة لو عرفها الملوك لقاتلونا عليها بالسيف.»
كما أفاضت عليهم الثقة بالله والتوكل عليه ، شجاعة نفسية، وقوة إيمانية، لا تسامقها قوة ولا شجاعة، يقول إسحاق بن إبراهيم السرخسي: «سمعت ذا النون المصري، وفي يده الغل، وفي رجليه القيد، وهو يساق إلى المطبق، والناس في بغداد يبكون حوله، وهو يقول: هذا من مواهب الله تعالى، ومن عطاياه، وكل فعله عذب حسن طيب.»
تلك الشجاعة الصوفية الشامخة التي ستبلغ ذروتها في البطل الشهيد الحلاج، حينما صمد للمأساة صمودا لا يطاوله في التاريخ صمود.
هذه خلاصة سريعة للمعارف الصوفية، في القرن الثاني للهجرة، ثم جاء القرن الثالث، فبدأ معه العصر الذهبي للتصوف، أو عصر النضوج العلمي للحياة الروحية.
تطور المعارف الصوفية في القرن الثالث الهجري
وفي مطلع هذا العصر، أخذت معاني الحب الإلهي، الذي سمعنا جرسه لأول مرة في ألحان رابعة العدوية ومواجيدها، أخذت معاني هذا الحب تتسع، وتتلون بها المقامات والأحوال، وأخذت كلمات الأنس والبسط، والرجاء والخوف، واليقين والمشاهدة، تشيع وتؤتي ثمارها، وتدرجت على أجنحة الحب ومعارجه حتى وصلت بالصوفية إلى مقام الفناء، وهو أخطر مقامات التصوف وأبعدها أثرا في تاريخه.
والفناء هو غاية الصوفية، ففيه يشربون رحيق الحب الأعلى، وينعمون فيه بمتع ولذائذ روحية تنسيهم دنياهم وأخراهم ووجودهم، وكل شيء سوى المحبوب.
Shafi da ba'a sani ba