Haka Nasr Abu Zayd Ya Yi Magana
هكذا تكلم نصر أبو زيد (الجزء الأول): من نص المصحف إلى خطابات القرآن
Nau'ikan
تتصدر المشهد؛ تعبيرا عن موقف الدين، مساندا للخطاب السياسي، وأن القتال شر لا بد منه:
كتب عليكم القتال وهو كره لكم (2/البقرة: 54).
حينما تغيرت بوصلة تحيزات الخطاب السياسي في السبعينيات والثمانينيات منقلبة على تحيزات الفترة السابقة عليها، داعية إلى الانفتاح الاقتصادي والرأسمالية الوطنية، والملكية الخاصة، وتشجيع القطاع الخاص، تحولت بوصلة الخطاب الديني وتحول فهم وتأويل الدين أيضا؛ لنكتشف أن القرآن تحدث عن التفاوت الطبقي بين الناس:
نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا (43/الزخرف: 32). وكلمة «درجات» تفسر على أنها الدرجات بالمعنى الاقتصادي/الاجتماعي؛ بمعنى التفاوت الطبقي. ويصبح الدين لا يتعارض مع الرأسمالية، ويتصدر الصورة ما نسب إلى النبي عليه السلام: «تسعة أعشار الرزق في التجارة». وحين اتجه النظام السياسي إلى التعاهد مع العدو، تتصدر المشهد:
وإن جنحوا للسلم فاجنح لها (8/الأنفال: 61). فيكون الخطاب الديني تابعا للخطاب السياسي وداعما للسياسة. وأيضا المعارضون السياسيون يستخدمون الدين وتفسيره وسيلة في صراعهم السياسي مع السلطة. إنه الصراع على نفس الأرضية، أرضية استخدام الدين وتوظيفه لأهداف سياسية سواء من جانب السلطة، أو من جانب معارضيها؛ لمجرد أهداف أيديولوجية.
2
في هذه اللحظة المعرفية وسياقها الثقافي السياسي الاجتماعي؛ كان دخول نصر أبو زيد إلى الجامعة وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وذلك عام ثمانية وستين من القرن الماضي، عام بعد الهزيمة الكبرى، وهو قد نشأ على الميل لفكرة الإخوان والتأثر بكتابات سيد قطب ومحمد قطب عن الرؤية الإسلامية للعالم، وعلى «مشاهد يوم القيامة في القرآن» و«التصوير الفني في القرآن». لكن أبو زيد كان على تواصل فكري مع مدرسة الشيخ أمين الخولي، في التفسير الأدبي للقرآن، وأيضا كان متبنيا لشعارات نظام يوليو عن العدالة الاجتماعية؛ فعايش أبو زيد عملية التحول في الخطاب الديني التي حدثت في المجتمع. من شعار، إلى آخر، ومن اتباع مفردات خطاب سياسي في الستينيات إلى مفردات خطاب آخر في السبعينيات. وكان السؤال عنده: لماذا حدث هذا التحول؟ وقضية العلاقة بين المفسر والنص، وما هو دور المفسر؟ وما دور النص في تشكيل معنى النص؟
لكن أبو زيد كان تحيزه واضحا للعدالة الاجتماعية، وإلى استقلال القرار الوطني، والانحياز إلى الفقراء. وإن كان ينتقد غياب الديمقراطية السياسية والحرية، في تجربة الستينيات، إلا أنه ضد التطبيع وضد السلام المنقوص مع العدو، وضد الانفتاح «السداح مداح»، وأيضا ضد الهجمة السلفية الآتية مع أموال البترول الخليجي وقيم الحياة القبلية الصحراوية. وكما أصبح الماضي وقراءة التراث الذي تم اختصاره في جوانب منه هي الأكثر فقرا من ناحية إسهامها في التقدم، كانت العودة عنده أيضا للتراث وللماضي؛ لمحاربة هذه الهجمة السلفية التي ازدادت انغلاقا بعد الهزيمة بأثر ضخ أموال البترول. في مواجهة هذه الهجمة المعتمدة على تراث أحمد بن حنبل وابن تيمية وتلميذه ابن القيم الجوزية، وجهود محمد بن عبد الوهاب دينيا، بصورتها السلفية التقليدية، وبشكلها السياسي في جماعات الإسلاميين، جماعات لتديين السياسة، والتي تحولت إلى جماعات العنف.
فكانت العودة لتراث المعتزلة الكلامي كمنظومة عقيدية من التراث تختلف عما هو قادم من تراث حنبلي، وما هو سائد من تراث أشعري. فكانت كتب المعتزلي القاضي عبد الجبار (359ه/969م-415ه/1025م) التي تم اكتشافها في اليمن في نهاية الأربعينيات. كان قد تم طباعتها منذ ما يقرب من عقد من الزمان حين بدأ نصر دراسته للماجستير، فاختار دراسة الفكر الاعتزالي بحيث يكون له قدم في البلاغة العربية، وقدم أخرى في الدراسات الإسلامية. فبحث دور المعتزلة في نشأة وتشكيل مفهوم المجاز، كمفهوم جذر في البلاغة، وكمفهوم محوري في تأويلات المعتزلة، يدرس ذلك من خلال علاقة المفسر بالنص، في السياق السياسي الاجتماعي الثقافي للعصر.
حاول أبو زيد التدليل على دور الصراعات السياسية والاجتماعية والدينية، بين فرق المسلمين، ودورها في نشأة الاعتزال، وقلل من دور التأثيرات الخارجية، ومن دور ما أثاره خطاب الاستشراق من دور الفلسفات اليونانية في هذه النشأة. فأدرك أبو زيد من خلال دراسته أهمية ودور استخدام مصطلح التأويل غير مصحوب بالصورة السلبية السائدة في عصرنا، الناظرة إلى التأويل على أنه خاضع لأهواء الفرد المؤول، وتفضيل التفسير على التأويل بدعوى أن التفسير موضوعي لا تتدخل فيه ذاتية المفسر، إلا أن أبو زيد أدرك أيضا أن التأويل والتفسير النفعي حسب رأي الفرد المسبق، ليس قاصرا على عصرنا لفساد الذمم كما هو سائد من تصور، بل إن القدماء أيضا فعلوا ذلك؛ فعلها المعتزلة في جعل النصوص تنطق بمبادئهم الفكرية المسبقة، وكذلك فعلها خصومهم فجعلوا النصوص تنطق بردودهم الفكرية على المعتزلة، ووجد صعوبة في تحليل رؤية المعتزلة في اللغة، فوجد تناثرا لهذه الرؤية نتيجة للطبيعة السجالية في طريقة كتابة المعتزلة كتبهم، كردود على أسئلة متصورة لخصومهم. وبدأ أبو زيد يتواصل مع قضية طبيعة القرآن والجدل الذي دار بين المعتزلة وخصومهم حولها، وكيف توقف الحوار حولها في القرون العشرة الماضية، وأدرك أهميتها ومحوريتها في تشكيل المفاهيم السائدة في الفكر الديني، وأيضا أهميتها في حالة الاستخدام النفعي للنصوص قديما وحديثا.
Shafi da ba'a sani ba